الأربعاء، 15 يوليو 2009

آداب الزفاف - الجزء الأول

آداب الزفاف في السنة المطهرة

تأليف العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني

مقدمة

حمداً لله، وصلاةً وسلاماً على نبيه وآله وصحبه ومن والاه، وعلى كل من اهتدى بهداه.

أما بعد: فقد كان الباعث على تأليف هذه الرسالة وإخراجها للناس لأول مرة، تحقيق رغبة أخينا في الله تبارك وتعالى الأستاذ عبد الرحمن الباني، فإنه - جزاه الله خيرا - اقترح تأليفها بمناسبة بنائه على زوجه، ففعلت، ثم قام هو بطبعها على نفقته، ووزعها مجانا في حفلة زفافه، مكان ما جرى الناس عليه من توزيع السكاكر والحلويات وغيرها، مما لا يبقى أثره ولا يدوم نفعه، فكان ذلك منه سنة حسنة، من حسناته الكثيرة - إن شاء الله - ما أحوج المسلمين إلى الاقتداء به فيها، والسير على منوالها.

ثم لما نفدت نسخ الطبعة الأولى، وكان من تمام الاستفادة منها، تعميم نشرها على الناس في مختلف الأقطار والأمصار، رأى كثيرون إعادة طبعها، وألحوا علي بالطلب، فاستجبت لذلك، وتفرغت له بعض الوقت، فأضفت إليها زيادات كثيرة، فاتني إيرادها في الطبعة الأولى بسبب السرعة التي تم بها تأليفها وإخراجها.

وقد رأيت أن أوسع الكلام في بعض المسائل الهامة التي أساء بعض الناس فهمها في هذا العصر أو قبله، فبينت - ما استطعت - خطأهم فيها، وبعدهم عن الصواب فيما قالوه حولها، وذلك بالحجة والبرهان، ليكون القارئ الكريم على بينة من أمره، وبصيرة من دينه، فلا يتأثر بشبهات الشاكين، وجدال المبطلين، وقلة السالكين، في زمن أصبح المتمسك فيه بالسنة غريباً في بني دينه المحاولين التمسك به، فكيف هو في المخالفين له، الصادين عنه؟

أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا من عباده القليل الذين قال فيهم نبيه صلى الله عليه وسلم: إن الإسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ. فطوبى للغرباء.

وأقدم بين يدي الرسالة الكلمة الهامة التي كان العلامة الشيخ محب الدين الخطيب تفضل بكتابتها وطبعها في مقدمة الطبعة الأولى، لما فيها من فوائد ومواعظ، وهي في رأيي تمهيد قوي لنساء هذا العصر لكي يتيسر لهن العمل بما جاء في هذه الرسالة مما لم يألفنه، بل ولم يسمعن به من قبل، فاللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، إنك سميع مجيب.

مقدمة الطبعة الأولى

بقلم فضيلة الشيخ محب الدين الخطيب

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، ولا رب لهم غيره، ولا يطاع في السر والعلن سواه، وصلى الله على معلم الناس الخير محمد هادي الإنسانية إلى سنة الحق، وعلى آله وصحبه وسلم.

وبعد فإن جماهير المسلمين لا يزالون في مثل عقول الأطفال يلهيهم ما يلهي الأطفال، ويصرفهم عن مناهج الخير وأهداف الحق كل ما يصرف الأطفال من ألاعيب وتوافه وأوهام، حتى يتحروا سنة الإسلام في الاعتدال، وهدايته في التحرر من كل ما استعبدوا له من الملاهي والسفاسف والزخارف والشهوات، وحينئذ يرجعون إلى ربهم، فيحفظ لهم عقولهم، ويبارك لهم في أوقاتهم وأعمالهم وجهودهم، ويدخر لهم ثروتهم وأسباب قوتهم، فيستعملونها فيما ينفعهم، ويكون به عزهم، ويعلو به سلطانهم.

وتحري سنة الإسلام في الاعتدال، والانتفاع بهدايته في التحرر من السفاسف التي صار المسلمون مستعبدين لها منذ أكثر من ألف سنة، يتوقف على أمرين:

أحدهما: إخلاص العلماء العاملين الذين يبينون للأمة سنن دينها في كل ناحية من النواحي التي تتناولها رسالة الإسلام.

والثاني: ازدياد عدد المسلمين الذين يوطنون أنفسهم في ترديد ذلك البيان العلمي بالعمل به، حتى يتلقاه عنهم بالقدوة من لا يتيسر لهم تلقيه بالدرس والتعلم.

وهذه الرسالة اللطيفة نموذج لناحية من النواحي التي تناولتها رسالة الإسلام بالسنن الصحيحة عن معلم الناس الخير صلى الله عليه وسلم، في حفلات الزفاف وآدابه وولائمه، وهي الناحية التي أسرف فيها المسلمون بالبعد عن سنن الإسلام، حتى أوغلوا لا في الجاهلية الأولى التي امتازت - في هذه الناحية - بفطرة العروبة وتحررها من بذخ المترفين، بل في الجاهلية الطارئة التي تشبهت فيها كل طبقة بالطبقة التي سبقتها إلى النار، حتى أصبحت أعباء الزواج وتكاليفه فوق طاقة الناس، فكادوا ينصرفون عنه - وهو في نفسه من سنة الإسلام - لأنهم انصرفوا فيه عن سنن الإسلام، فأوقعهم ذلك في شر أنواع الجاهلية.

وبعد أن تهيأت لهذه الرسالة المناسبة التي عينت موضوعها، تهيأ لها مؤلف من دعاة السنة الذين وقفوا حياتهم على العمل لإحيائها، وهو أخونا بالغيب الشيخ أبو عبد الرحمن محمد ناصر نوح نجاتي الألباني، فوضع بين أيدي المسلمين النصوص الصحيحة والحسنة من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في آداب الزفاف، وحبذا لو كان قد اتسع له الوقت وواتته الأسباب، فاستقصى كل ما ورد من ذلك في الحياة الزوجية، وآداب البيت، وما ينبغي أن تكون عليه الأسرة الإسلامية. ولكن ظهور الهلال في ليلته الأولى، قد يشعر بما يليه من مطالع صفحات القمر حتى يكون بدرا كاملاً.

وكما تهيأ لهذه الرسالة موضوعها والمؤلف الذي يستوفيه، تهيأ لها كذلك المسلم الأول والمسلمة الأولى اللذان آليا أن يكونا قدوة للمسلمين في الاعتدال والتحرر من عبودية السفاسف والملاهي وتوافه العادات، عندما استخارا الله، فخار لهما أن يبنيا البيت المسلم الطاهر، والأسرة الإسلامية المتحررة من تقاليد الجاهلية الأجنبية عنا، والطارئة علينا. فأرجو الله عز وجل أن يأخذ بيد أخي المؤمن المجاهد الأستاذ السيد عبد الرحمن الباني في جميع مراحل حياته، حتى يحقق له آماله، ملتزماً سنة الإسلام في ذلك ما استطاع.

وأختم هذه الكلمة بأن أضرب لعروسه المسلمة الفاضلة مثلاً من تاريخ نساء العروبة والإسلام، ينبغي لكل مسلمة أن تجعله نصب عينيها، لتكون من الخالدات إن شاء الله.

إن فاطمة بنت أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان كان لأبيها - يوم تزوجت - السلطان الأعظم على الشام والعراق والحجاز واليمن وإيران والسند وقفقاسيا والقرم وما وراء النهر إلى نجارا وجنوة شرقا، وعلى مصر والسودان وليبيا وتونس والجزائر والمغرب الأقصى وإسبانيا غربا. ولم تكن فاطمة هذه بنت الخليفة الأعظم وحسب، بل كانت كذلك أخت أربعة من فحول خلفاء الإسلام، وهم: الوليد بن عبد الملك، وسليمان بن عبد الملك، ويزيد بن عبد الملك، وهشام بن عبد الملك، وكانت فيما بين ذلك زوجة أعظم خليفة عرفه الإسلام بعد خلفاء الصدر الأول، وهو أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز.

وهذه السيدة التي كانت بنت خليفة، وزوجة خليفة، وأخت أربعة من الخلفاء، خرجت من بيت أبيها إلى بيت زوجها يوم زفت إليه وهي مثقلة بأثمن ما تملكه امرأة على وجه الأرض من الحلي والمجوهرات، ويقال: إن من هذه الحلي قرطي مارية اللذين اشتهرا في التاريخ، وتغنى بهما الشعراء، وكانا وحدهما يساويان كنزاً. ومن فضول القول أن أشير إلى أن عروس عمر بن عبد العزيز كانت في بيت أبيها تعيش في نعمة لا تعلوا عليها عيشة امرأة أخرى في الدنيا لذلك العهد، ولو أنها استمرت في بيت زوجها تعيش كما كانت تعيش قبل ذلك لتملأ كرشها في كل يوم وفي كل ساعة بأدسم المأكولات وأندرها وأغلاها، وتنعم نفسها بكل أنواع النعيم الذي عرفه البشر، لاستطاعت ذلك. إلا أني لا أذيع مجهولا بين الناس إن قلت: إن عيشة البذخ والترف قد تضرها في صحتها من حيث يتمتع بالعافية المعتدلون، وقد تكسبها هذه العيشة الحقد والحسد والكراهية من أهل الفاقة والمعدمين، زد على ذلك أن العيشة مهما اختلفت ألوانها تكون مع الاعتياد مألوفة ومملولة، والذين بلغوا من النعيم أقصاه يصطدمون بالفاقة عندما تطلب أنفسهم ما وراء ذلك، فلا يجدونه، بينما المعتدلون يعلمون أن في متناول أيديهم وراء الذي هم فيه، وأنهم يجدونه متى شاؤوا، غير أنهم اختاروا التحرر منه ومن سائر الكماليات، ليكونوا أرفع منها، وليكونوا غير مستعبدين لشهواتها، ولذلك اختار الخليفة الأعظم عمر بن عبد العزيز - في الوقت الذي كان فيه أعظم ملوك الأرض - أن تكون نفقة بيته بضعة دراهم في اليوم، ورضيت بذلك زوجة الخليفة التي كانت بنت خليفة وأخت أربعة من الخلفاء، فكانت مغتبطة بذلك لأنها تذوقت لذة القناعة، وتمتعت بحلاوة الاعتدال، فصارت هذه اللذة وهذه الحلاوة أطيب لها وأرضى لنفسها من كل ما كانت تعرفه قبل ذلك من صنوف البذخ وألوان الترف. بل اقترح عليها زوجها أن تترفع عن عقلية الطفولة فتخرج عن هذه الألاعيب والسفاسف التي كانت تبهرج بها أذنيها وعنقها وشعرها ومعصميها مما لا يسمن ولا يغني من جوع، ولو بيع لأشبع ثمنه بطون شعب برجاله ونسائه وأطفاله، فاستجابت له، واستراحت من أثقال الحلي والمجوهرات واللآلئ والدرر التي حملتها معها من بيت أبيها، فبعثت بذلك كله إلى بيت مال المسلمين. وتوفي عقب ذلك أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز ولم يخلف لزوجته وأولاده شيئا، فجاءها أمين بيت المال، وقال لها: إن مجوهراتك يا سيدتي لا تزال كما هي، وإني اعتبرتها أمانة لك، وحفظتها لهذا اليوم، وقد جئت أستأذنك في إحضارها. فأجابته بأنها وهبتها لبيت مال المسلمين طاعة لأمير المؤمنين، ثم قالت: "وما كنت لأطيعه حياً وأعصيه ميتاً". وأبت أن تسترد من مالها الحلال الموروث ما يساوي الملايين الكثيرة، في الوقت الذي كانت محتاجة فيه إلى دريهمات، وبذلك كتب الله لها الخلود، وها نحن نتحدث عن شرف معدنها، ورفيع منزلتها بعد عصور وعصور، رحمها الله، وأعلى مقامهما في جنات النعيم.

إن أهنأ العيش هو العيش المعتدل في كل شيء، وكل عيش مهما خشن أو نعم، إذا اعتاده أهله ألفوه وارتاحوا إليه، والسعادة هي الرضا، والحر هو الذي يتحرر من كل ما يستطيع الاستغناء عنه، وذلك هو الغنى بالمعنى الإسلامي والمعنى الإنساني، جعلنا الله من أهله.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله القائل في محكم كتابه: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة) [الروم - 21]. والصلاة والسلام على نبيه محمد الذي ورد عنه فيما ثبت من حديثه: "تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة".

وبعد فإن لمن تزوج وأراد الدخول بأهله آداباً في الإسلام، قد ذهل عنها، أو جهلها أكثر الناس، حتى المتعبدين منهم، فأحببت أن أضع في بيانها هذه الرسالة المفيدة بمناسبة زفاف أحد الأحبة، إعانة له ولغيره من الأخوة المؤمنين، على القيام بما شرعه سيد المرسلين عن رب العالمين، وعقبتها بالتنبيه على بعض الأمور التي تهم كل متزوج، وقد ابتلي بها كثير من الزوجات. اسأل الله تعالى أن ينفع بها، وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، إنه هو البر الرحيم.

وليعلم أن آداب الزفاف كثيرة، وإنما يعنيني منها في هذه العجالة ما ثبت منها في السنة المحمدية، مما لا مجال لإنكارها من حيث إسنادها، أو محاولة التشكيك فيها من جهة مبناها حتى يكون القائم بها على بصيرة من دينه، وثقة من أمره، وإني لأرجو أن يختم الله له بالسعادة، جزاء افتتاحه حياته الزوجة بمتابعة السنة، وأن يجعله من عباده الذين وصفهم بأن من قولهم: (ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما). [الفرقان - 74]. والعاقبة للمتقين كما قال رب العالمين: (إن المتقين في ظلال وعيون. وفواكه مما يشتهون. كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون. إنا كذلك نجزي المحسنين) [المرسلات: 41 - 44].

وهاك تلك الآداب:

1 - ملاطفة الزوجة عند البناء بها:

يستحب له إذا دخل على زوجته أن يلاطفها، كأن يقدم إليها شيئا من الشراب ونحوه لحديث أسماء بنت يزيد بن السكن، قالت:

إني قينت [أي زينت] عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جئته فدعوته لجلوتها [أي للنظر إليها مجلوة مكشوفة] فجاء، فجلس إلى جنبها، فأتي بعس [أي قدح كبير] لبن، فشرب، ثم ناولها النبي صلى الله عليه وسلم فخفضت رأسها واستحيت، قالت أسماء: فانتهرتها، وقلت لها: خذي من يد النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: فأخذت، فشربت شيئاً، ثم قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أعطي تربك [أي صديقتك]، قالت أسماء: فقلت: يا رسول الله بل خذه فاشرب منه ثم ناولنيه من يدك، فأخذه فشرب منه ثم ناولنيه، قالت: فجلست، ثم وضعته على ركبتي، ثم طفقت أديره وأتبعه بشفتي لأصيب منه شرب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال لنسوة عندي: ناوليهن، فقلن: لا نشتهيه. فقال صلى الله عليه وسلم: لا تجمعن جوعاً وكذبا.

2 - وضع اليد على رأس الزوجة والدعاء لها:

وينبغي أن يضع يده على مقدمة رأسها عند البناء بها أو قبل ذلك، وأن يسمي الله تبارك وتعالى، ويدعو بالبركة، ويقول ما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم:

"إذا تزوج أحدكم امرأة، أو اشترى خادماً، فليأخذ بناصيتها [أي منبت الشعر ف مقدمة الرأس]، وليسم الله عز وجل، وليدع بالبركة، وليقل: اللهم إني أسألك من خيرها وخير ما جبلتها عليه [أي خلقتها وطبعتها عليه]، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه. وإذا اشترى بعيرا فليأخذ بذروه سنامه، وليقل مثل ذلك ]".

قلت: وفي الحديث دليل على أن الله خالق الخير والشر، خلافا لمن يقول - من المعتزلة وغيرهم - بأن الشر ليس من خلقه تبارك وتعالى، وليس في كون الله خالقا للشر ما ينافي كماله تعالى، بل هو من كماله تبارك وتعالى. وتفصيل ذلك في المطولات، ومن أحسنها كتاب "شفاء العليل في القضاء والقدر والتعليل"، لابن القيم، فليراجعه من شاء. وهل يشرع هذا الدعاء في شراء مثل السيارة؟ وجوابي: نعم، لما يرجى من خيرها، ويخشى من شرها.

3 - صلاة الزوجين معا:

ويستحب لهما أن يصليا ركعتين معاً، لأنه منقول عن السلف. وفيه أثران:

الأول: عن أبي سعيد مولى أبي أسيد قال: "تزوجت وأنا مملوك، فدعوت نفراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم ابن مسعود وأبو ذر وحذيفة، قال: وأقيمت الصلاة، قال: فذهب أبو ذر ليتقدم، فقالوا: إليك قال: أو كذلك؟ قالوا: نعم، قال: فتقدمت بهم وأنا عبد مملوك، وعلموني فقالوا: إذا دخل عليك أهلك فصل ركعتين، ثم سل الله من خير ما دخل عليك، وتعوذ به من شره، ثم شأنك وشأن أهلك".

قلت: يشيرون بذلك إلى أن الزائر لا يؤم المزور في بيته إلا أن يأذن له، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ولا يؤم الرجل في بيته ولا في سلطانه".

الثاني: عن شقيق قال: "جاء رجل يقال له: أبو حريز، فقال: إني تزوجت جارية شابة [بكراً]، وإني أخاف أن تفركني [أي تبغضني]، فقال عبد الله [يعني ابن مسعود] إن الإلف من الله، والفرك من الشيطان، يريد أن يكره إليكم ما أحل الله لكم فإذا أتتك فأمرها أن تصلي وراءك ركعتين.

زاد في رواية أخرى عن ابن مسعود: "وقل: اللهم بارك لي في أهلي، وبارك لهم في، اللهم اجمع بيننا ما جمعت بخير وفرق بيننا إذا فرقت إلى خير".

فعن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخلت المرأة على زوجها يقوم الرجل، فتقوم من خلفه فيصليان ركعتين، ويقول: اللهم بارك لي في أهلي، وبارك لأهلي في، اللهم ارزقهم مني، وارزقني منهم، اللهم اجمع بيننا ما جمعت في خير، وفرق بيننا إذا فرقت في خير".

وروى عبد الرزاق عن ابن جريج قال: حدثت أن سلمان الفارسي تزوج امرأة، فلما دخل عليها وقف على بابها، فإذا هو بالبيت مستور، فقال: ما أدري أمحموم بيتكم أم تحولت الكعبة إلى (كندة) والله لا أدخله حتى تهتك أستاره. فلما هتكوها ... دخل ... ثم عمد إلى أهله، فوضع يده على رأسها ... فقال: هل أنت مطيعتي رحمك الله؟ قالت: قد جلست مجلس من يطاع، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي: "إن تزوجت يوماً فليكن أول ما تلتقيان عليه من طاعة الله"، فقومي فلتصل ركعتين، فما سمعتني أدعو فأمني، فصليا ركعتين، وأمنت، فبات عندها، فلما أصبح، جاءه أصحابه، فانتحاه رجل من القوم، فقال: كيف وجدت أهلك؟ فأعرض عنه، ثم الثاني، ثم الثالث، فلما رأى ذلك صرف وجهه إلى القوم وقال: رحمكم الله ، فيما المسألة عما غيبت الجدران والحجب والأستار؟ بحسب امرئ أن يسأل عما ظهر، إن أخبر أو لم يخبر.

4 - ما يقول حين يجامعها:

وينبغي أن يقول حين يأتي أهله: "بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا".

قال صلى الله عليه وسلم: "فإن قضى الله بينما ولدا لم يضره الشيطان أبدا".

5 - كيف يأتيها:

ويجوز له أن يأتيها في قبلها من أي جهة شاء، من خلفها أو من أمامها، لقول الله تبارك وتعالى: (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم)، أي: كيف شئتم مقبلة ومدبرة، وفي ذلك أحاديث أكتفي باثنين منها:

الأول عن جابر رضي الله عنه قال: "كانت اليهود تقول إذا أتى الرجل امرأته من دبرها في قبلها كان الولد أحول فنزلت: (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مقبلة ومدبرة إذا كان ذلك في الفرج".

الثاني: عن ابن عباس، قال: "كان هذا الحي من الأنصار وهم أهل وثن، مع هذا الحي من يهود، وهم أهل كتاب، وكانوا يرون لهم فضلا عليهم في العلم، فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم، وكان من أمر أهل الكتاب أن لا يأتوا النساء إلا على حرف [أي على جانب]، وذلك أستر ما تكون المرأة، فكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم، وكان هذا الحي من قريش يشرحون النساء شرحا منكرا، ويتلذذون منهن مقبلات ومدبرات ومستلقيات فلما قدم المهاجرون المدينة، تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار، فذهب يصنع بها ذلك، فأنكرته عليه، وقالت : إنما كنا نؤتى على حرف، فاصنع ذلك وإلا فاجتنبني، حتى شرى [أي عظم وتفاقم] أمرها، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم). أي: مقبلات ومدبرات ومستلقيات، يعني بذلك موضع الولد [أي الفرج].

6 - تحريم الدبر:

ويحرم عليه أن يأتيها في دبرها لمفهوم الآية السابقة: (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم)، [والفرج هو موضع الحرث – أي الإنبات – أما الدبر فليس كذلك].

وعن سعيد بن يسار قال: قلت لابن عمر: إنا نشتري الجواري فنحمض لهن، قال: وما التحميض؟ قلت: نأتيهن في أدبارهن، قال: أف أو يفعل ذلك مسلم؟!

قلت: وهو نص صريح من ابن عمر في إنكاره أشد الإنكار إتيان النساء في الدبر، فما أورده السيوطي في "أسباب النزول" وغيره في غيره مما ينافي هذا النص خطأ عليه قطعاً فلا يلتفت إليه.

وفيه أحاديث أخرى:

الأول: عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: "لما قدم المهاجرون المدينة على الأنصار تزوجوا من نسائهم، وكان المهاجرون يجبون [أي ينكبون على الأرض]، وكانت الأنصار لا تجبي، فأراد رجل من المهاجرين امرأته على ذلك، فأبت عليه حتى تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: فأتته، فاستحيت أن تسأله، فسألته أم سلمة، فنزلت: (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم) وقال: لا إلا في صمام واحد [أي مسلك واحد – والصمام ما تسد به الفرجة، فسمي الفرج به]".

الثاني: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: "جاء عمر بن الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هلكت. قال: وما الذي أهلكك؟ قال: حولت رحلي الليلة [كنى برحله عن زوجته، أراد بها غشيانها في قبلها من جهة ظهرها، لأن المجماع يعلو المرأة ويركبها مما يلي وجهها، فحيث ركبها من جهة ظهرها كنا عنه بتحويل رحله]، فلم يرد عليه شيئا، فأوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم)، يقول: أقبل وأدبر، واتقل [دع وأهجر] الدبر والحيضة".

الثالث: عن خزيمة بن ثابت رضي الله عنه: "أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن إتيان النساء في أدبارهن، أو إتيان الرجل امرأته في دبرها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حلال. فلما ولى الرجل دعاه، أو أمر به فدعي، فقال: كيف قلت؟ في أي الخربتين، أو في الخرزتين، أو في أي الخصفتين [يعني في أي الثقبين – والألفاظ الثلاثة بمعنى واحد]؟ أمن دبرها في قبلها؟ فنعم، أم من دبرها في دبرها؟ فلا، فإن الله لا يستحي من الحق، لا تأتوا النساء في أدبارهن".

الرابع: "لا ينظر الله إلى رجل يأتي امرأته في دبرها".

الخامس: "ملعون من يأتي النساء في محاشهن [يعني: أدبارهن]".

السادس: "من أتى حائضاً، أو امرأة في دبرها، أو كاهناً فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد".

وروى النسائي ، وابن بطة في "الإبانة" عن طاوس قال: "سئل ابن عباس عن الذي يأتي امرأته في دبرها؟ فقال: هذا يسألني عن الكفر؟

وقال الذهبي في "سير أعلام النبلاء": "قد تيقنا بطرق لا محيد عنها نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن أدبار النساء وجزمنا بتحريمه، ولي في ذلك مصنف كبير".

قلت: فلا تغتر بعد هذا بقول الشيخ جمال الدين القاسمي في "تفسيره": "إنها ضعيفة" لأنها دعوى من غير مختص بهذا العلم أولاً، وخلاف ما يقتضيه البحث العلمي، وشهادة الأئمة.

7 - الوضوء بين الجماعين:

وإذا أتاها في المحل المشروع، ثم أراد أن يعود إليها توضأ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتى أحدكم أهله، ثم أراد أن يعود، فليتوضأ [بينهما وضوءاً]. وفي رواية: وضوءه للصلاة، فإنه أنشط في العود".

8 - الغسل أفضل:

لكن الغسل أفضل من الوضوء لحديث أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف ذات يوم على نسائه، يغتسل عند هذه وعند هذه، قال: فقلت له: يا رسول الله ألا تجعله غسلاً واحداً؟ قال: هذا أزكى وأطيب وأطهر".

9 - اغتسال الزوجين معا:

ويجوز لهما أن يغتسلا معاً في مكان واحد، ولو رأى منه ورأت منه، وفيه أحاديث:

الأول: عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كنت اغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء بيني وبينه واحد [تختلف أيدينا فيه]، فيبادرني حتى أقول: دع لي، دع لي، قالت: وهما جنبان".

الثاني: عن معاوية بن حيدة قال: "قلت: يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: "احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك". قال: قلت: يا رسول الله إذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: إن استطعت أن لا يرينها أحد، فلا يرينها. قال: فقلت: يا رسول الله إذا كان أحدنا خالياً؟ قال: الله أحق أن يستحيى منه من الناس".

والحديث ترجم له النسائي بـ "نظر المرأة إلى عورة زوجها" ، وعلقه البخاري في صحيحه في "باب من اغتسل عرياناً وحده في الخلوة، ومن تستر فالستر افضل"، ثم ساق حديث أبي هريرة في اغتسال كل من موسى وأيوب عليهما السلام في الخلاء عريانين، فأشار في إلى أن قوله في الحديث: "الله أحق أن يستحيى منه" محمول على ما هو الأفضل والأكمل، وليس على ظاهره المفيد للوجوب، قال المناوي: "وقد حمله الشافعية على الندب، وممن وافقهم ابن جريج، فأول الخبر في "الآثار" على الندب، قال: لأن الله تعالى لا يغيب عنه شيء من خلقه عراة أو غير عراة".

10 - توضؤ الجنب قبل النوم:

ولا ينامان جنبين إلا إذا توضأ، وفيه أحاديث:

الأول: عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن [يأكل أو] ينام وهو جنب غسل فرجه، وتوضأ وضوءه للصلاة".

الثاني: عن ابن عمر رضي الله عنهما: "أن عمر قال: يا رسول الله أينام أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم إذا توضأ". وفي رواية: "توضأ واغسل ذكرك، ثم نم". وفي رواية: "نعم، ليتوضأ ثم لينم حتى يغتسل إذا شاء". وفي أخرى: "نعم، ويتوضأ إن شاء".

وهي تدل على عدم وجوب هذا الوضوء، وهو مذهب جمهور العلماء، وإذا كان كذلك فبالأولى أن لا يجب هذا على الوضوء على غير الجنب.

الثالث: عن عمار بن ياسر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثالثة لا تقربهم الملائكة: جيفة الكافر، والمتضمخ بالخلوق [أي المتلطخ بـ "الخلوق" "وهو طيب مركب من الزعفران وغيره من أنواع الطيب، وإنما نهي عنه لأنه من طيب النساء] والجنب إلا أن يتوضأ".

11 - حكم هذا الوضوء:

وليس ذلك على الوجوب، وإنما للاستحباب المؤكد، لحديث عمر أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أينام أحدنا وهو جنب ؟ فقال: "نعم، ويتوضأ إن شاء".

ويؤيده حديث عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام وهو جنب من غير أن يمس ماء" [حتى يقوم بعد ذلك فيغتسل]. "فإن استيقظ من آخر الليل ، فإن كان له في أهله حاجة عاودهم ثم اغتسل".

وروى ابن أبي شيبة بسند حسن عن ابن عباس قال: "إذا جامع الرجل ثم أراد أن يعود فلا بأس أن يؤخر الغسل".

وعن سعيد بن المسيب قال: "إن شاء الجنب نام قبل أن يتوضأ".

وسنده صحيح، وهو مذهب الجمهور. وفي رواية عنها: "كان يبيت جنبا فيأتيه بلال، فيؤذنه بالصلاة، فيقوم فيغتسل، فأنظر إلى تحدر الماء من رأسه، ثم يخرج فأسمع صوته في صلاة الفجر، ثم يظل صائما. قال مطرف: فقلت لعامر: في رمضان؟ قال: نعم، سواء رمضان أو غيره".

12 - تيمم الجنب بدل الوضوء:

ويجوز لهما التيمم بدل الوضوء أحيانا لحديث عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أجنب فأراد أن ينام توضأ، أو تيمم".

13 - اغتساله قبل النوم أفضل:

واغتسالهما أفضل، لحديث عبد الله بن قيس قال: " سألت عائشة قلت: كيف كان صلى الله عليه وسلم يصنع في الجنابة؟ أكان يغتسل قبل أن ينام، أم ينام قبل أن يغتسل؟ قالت: كل ذلك قد كان يفعل، ربما اغتسل فنام، وربما توضأ فنام، قلت : الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة".

14 - تحريم إتيان الحائض:

ويحرم عليه أن يأتيها في حيضها [ولا خلاف بين أهل العلم في تحريم وطء الحائض، وهو معلوم من ضرورة الدين] لقوله تبارك وتعالى : ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين.

والأذى هو شيء تتأذى به المرأة. وفسره القرطبي وغيره برائحة دم الحيض. قال السيد رشيد رضا رحمه الله: "أخذه على ظاهره مقرر في الطب، فلا حاجة إلى العدول عنه"، ويعني به الضرر الجسماني، قال: "لأن غشيانهن سبب للأذى والضرر، وإذا سلم الرجل من هذا الأذى، فلا تكاد تسلم منه المرأة، لأن الغشيان يزعج أعضاء النسل فيها إلى ما ليست مستعدة له، ولا قادرة عليه لاشتغالها بوظيفة طبيعية أخرى، وهي إفراز الدم المعروف".

وفيه أحاديث:

الأول: من قوله صلى الله عليه وسلم: "من أتى حائضاً، أو امرأة في دبرها، أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد".

الثاني: عن أنس بن مالك قال: "إن اليهود كانت إذا حاضت منهم المرأة أخرجوها من البيت، ولم يؤاكلوها، ولم يشاربوها، ولم يجامعوها [أي لم يخالطوها] في البيت، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله تعالى ذكره ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض إلى آخر الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جامعوهن في البيوت، واصنعوا كل شيء غير النكاح، فقالت اليهود: ما يريد هذا الرجل ألا يدع شيئا من أمرنا إلا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالا يا رسول الله إن اليهود تقول كذا وكذا، أفلا ننكحهن في المحيض؟ فتمعر [أي تغير] وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أن قد وجد [غضب] عليهما، فخرجا، فاستقبلتهما هدية من لبن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث في آثارهما فسقاهما، فظننا أنه لم يجد عليهما".

15 - كفارة من جامع الحائض:

من غلبته نفسه فأتى الحائض قبل أن تطهر من حيضها، فعليه أن يتصدق بنصف جنيه ذهب إنكليزي تقريبا أو ربعها، لحديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض، قال: "يتصدق بدينار أو نصف دينار".

16 - ما يحل له من الحائض:

ويجوز له أن يتمتع بما دون الفرج من الحائض، وفيه أحاديث:

الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: "... اصنعوا كل شيء إلا النكاح [أي الجماع]".

الثاني: عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر إحدانا إذا كانت حائضا أن تتزر، ثم يضاجعها زوجها، وقالت مرة: يباشرها".

الثالث: عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم: "كان إذا أراد من الحائض شيئا ألقى على فرجها ثوبا [ثم صنع ما أراد]".

17 - متى يجوز إتيانها إذا طهرت:

فإذا طهرت من حيضها، وانقطع الدم عنها، جاز له وطؤها بعد أن تغسل موضع الدم منها فقط، أو تتوضأ أو تغتسل، أي ذلك فعلت، جاز له إتيانها ( 2 ) ، لقوله تبارك وتعالى في الآية السابقة: (فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين).

18 - جواز العزل:

ويجوز له أن يعزل عنها ماءه [والعزل هو النزع بعد الإيلاج لينزل خارج الفرج]، وفيه أحاديث:

الأول: عن جابر رضي الله عنه قال: "كنا نعزل والقرآن ينزل". وفي رواية: "كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك نبي الله صلى الله عليه وسلم، فلم ينهنا".

الثاني: عن أبي سعيد الخدري قال: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي وليدة [يعني جارية]، وأنا أعزل عنها، وأنا أريد ما يريد الرجل، وإن اليهود زعموا: [أن الموءودة الصغرى العزل)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [كذبت يهود، كذبت يهود]، لو أراد الله أن يخلقه لم تستطع أن تصرفه".

الثالث: عن جابر أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي جارية هي خادمنا وسانيتنا [أي تسقي لنا النخل]، وأنا أطوف عليها، وأنا أكره أن تحمل [أي أجامعها وأكره حملها مني بولد]، فقال: "اعزل عنها إن شئت، فإنه سيأتيها ما قدر لها"، فلبث الرجل، ثم أتاه فقال: إن الجارية قد حبلت فقال: "قد أخبرتك أنه سيأتيها ما قدر لها".

19 - الأولى ترك العزل:

ولكن تركه أولى لأمور:

الأول: أن فيه إدخال ضرر على المرأة لما فيه من تفويت لذتها، فإن وافقت عليه ففيه ما يأتي، وهو:

الثاني: أنه يفوت بعض مقاصد النكاح، وهو تكثير نسل أمة نبينا صلى الله عليه وسلم، وذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم ".

أي: أغالب بكم الأمم السابقة في الكثرة، وهو تعليل للأمر بتزوج الولود الودود، وإنما أتى بقيدين لأن الودود إذا لم تكن ولودا لا يرغب الرجل فيها، والولود غير الودود لا تحصل المقصود.

ولذلك وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بالوأد الخفي حين سألوه عن العزل، فقال: "ذلك الوأد الخفي".

ولهذا أشار صلى الله عليه وسلم إلى أن الأولى تركه في حديث أبي سعيد الخدري أيضا، قال: "ذكر العزل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: ولم يفعل ذلك أحدكم؟ - ولم يقل: فلا يفعل ذلك أحدكم - فإنه ليست نفس مخلوقة إلا الله خالقها. وفي رواية: فقال: وإنكم لتفعلون، وإنكم لتفعلون، وإنكم لتفعلون؟

20 - ما ينويان بالنكاح:

وينبغي لهما أن ينويا بنكاحمها إعفاف نفسيهما، وإحصانهما من الوقوع فيما حرم الله عليهما، فإنه تكتب مباضعتهما صدقة لهما، لحديث أبي ذر رضي الله عنه: "أن ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، قال: أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون؟ إن بكل تسبيحة صدقة، [وبكل تكبير صدقة، وبكل تهليلة صدقة، وبكل تحميدة صدقة]، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليها فيها وزر؟ قالوا: بلى، قال: فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له [فيها] أجر. [وذكر أشياء: صدقة، صدقة، ثم قال: ويجزئ من هذا كله ركعتا الضحى].

"وظاهر الحديث أن الوطء صدقة وإن لم ينو شيئا".

قلت: لعل هذا عند كل وقاع، وإلا فالذي أراه أنه لا بد من النية عند عقده عليها. والله أعلم.

21 - ما يفعل صبيحة بنائه:

ويستحب له صبيحة بنائه بأهله أن يأتي أقاربه الذين أتوه في داره، ويسلم عليهم، ويدعو لهم، وأن يقابلوه بالمثل لحديث أنس رضي الله عنه قال: "أولم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ بنى بزينب، فأشبع المسلمين خبزاً ولحماً، ثم خرج إلى أمهات المؤمنين فسلم عليهن، ودعا لهن، وسلمن عليه ودعون له، فكان يفعل ذلك صبيحة بنائه".

22 - وجوب اتخاذ الحمام في الدار:

ويجب عليهما أن يتخذا حماماً في دارهما، ولا يسمح لها أن تدخل حمام السوق، فإن ذلك حرام، وفيه أحاديث:

الأول: عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل حليلته الحمام، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بمئزر، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر".

الثاني: عن أم الدرداء قالت: "خرجت من الحمام، فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: من أين يا أم الدرداء؟ قالت: من الحمام، فقال: والذي نفسي بيده، ما من امرأة تضع ثيابها في غير بيت أحد من أمهاتها، إلا وهي هاتكة كل ستر بينها وبين الرحمن".

الثالث: عن أبي المليح قال: "دخل نسوة من أهل الشام على عائشة رضي الله عنها، فقالت: ممن أنتن؟ قلن: من أهل الشام، قالت: لعلكن من الكورة التي تدخل نساؤها الحمام؟ قلن: نعم، قالت: أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من امرأة تخلع ثيابها في غير بيتها إلا هتكت ما بينها وبين الله تعالى".

23 - تحريم نشر أسرار الاستمتاع:

ويحرم على كل منهما أن ينشر الأسرار المتعلقة بالوقاع، وفيه حديثان:

الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: "إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته، وتفضي إليه، ثم ينشر سرها".

أي: يصل إليها بالمباشرة والمجامعة، ومنه قوله تعالى: (وقد أفضى بعضكم إلى بعض).

الثاني : عن أسماء بنت يزيد أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرجال والنساء قعود، فقال: "لعل رجلا يقول ما يفعل بأهله، ولعل امرأة تخبر بما فعلت مع زوجها ؟ فأرم القوم [أي: فسكتوا ولم يجيبوا]، فقلت: إي والله يا رسول الله إنهن ليفعلن، وإنهم ليفعلون. قال: "فلا تفعلوا، فإنما ذلك مثل الشيطان لقي شيطانة في طريق، فغشيها والناس ينظرون".

24 - وجوب الوليمة:

ولا بد له من عمل وليمة بعد الدخول لأمر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف بها، ولحديث بريدة ابن الحصيب، قال: "لما خطب علي فاطمة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه لا بد للعرس (وفي رواية للعروس) من وليمة".

25 - السنة في الوليمة:

وينبغي أن يلاحظ فيها أمورا:

الأول: أن تكون ثلاثة أيام عقب الدخول، لأنه هو المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم، فعن أنس رضي الله عنه قال: "بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة، فأرسلني فدعوت رجالا على الطعام".

وعنه قال: "تزوج النبي صلى الله عليه وسلم صفية، وجعل عتقها صداقها، وجعل الوليمة ثلاثة أيام".

الثاني: أن يدعو الصالحين إليها، فقراء كانوا أو أغنياء، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي".

الثالث: أن يولم بشاة أو أكثر إن وجد سعة. "أولم ولو بشاة".

26 - جواز الوليمة بغير لحم:

ويجوز أن تؤدى الوليمة بأي طعام تيسر، ولم لم يكن فيه لحم، لحديث أنس رضي الله عنه قال: "أقام النبي صلى الله عليه وسلم بين خيبر والمدينة ثلاث ليال يبني عليه بصفية، فدعوت المسلمين إلى وليمته، وما كان فيها من خبز ولا لحم، وما كان فيها إلا أن أمر بالأنطاع [بساط من الجلد المدبوغ] فبسطت، وجيء بالأنطاع فوضعت فيها، فألقي عليها التمر والأقط والسمن [فشبع الناس]".

27 - مشاركة الأغنياء بمالهم في الوليمة:

ويستحب أن يشارك ذوو الفضل والسعة في إعدادها لحديث أنس في قصة زواجه صلى الله عليه وسلم بصفية قال: "حتى إذا كان بالطريق جهزتها له أم سليم، فأهدتها له من الليل، فأصبح النبي صلى الله عليه وسلم عروسا فقال: من كان عنده شيء فليجئ به، (وفي رواية: من كان عنده فضل زاد فليأتنا به)، قال: وبسط نطعا، فجعل الرجل يجئ بالأقط، وجعل الرجل يجيء بالتمر، وجعل الرجل يجيء بالسمن، فحاسوا حيسا [فجعلوا يأكلون من ذلك الحيس ويشربون من حياض إلى جنبهم من ماء السماء]، فكانت وليمة رسول الله صلى الله عليه وسلم".

28 - تحريم تخصيص الأغنياء بالدعوة:

ولا يجوز أن يخص بالدعوة الأغنياء دون الفقراء لقوله صلى الله عليه وسلم: "شر الطعام طعام الوليمة، يدعى لها الأغنياء، ويمنعها المساكين، ومن لم يجب الدعوة فقط عصى الله ورسوله".

29 - وجوب إجابة الدعوة:

ويجب على من دعي إليها أن يحضرها، وفيها حديثان:

الأول: "فكوا العاني [الأسير، أي اعتقوه من أيدي العدو بمال أو غيره]، وأجيبوا الداعي، وعودوا المريض".

الثاني: "إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها [عرسا كان أو نحوه]، ومن لم يجب الدعوة، فقد عصى الله ورسوله".

30 - الإجابة ولو كان صائماً:

وينبغي أن يجيب ولو كان صائماً، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب، فإن كان مفطرا فليطعم، وإن كان صائما فليصل [يعني: الدعاء].

31 - الإفطار من أجل الداعي:

وله أن يفطر إذا كان متطوعا في صيامه، ولا سيما إذا ألح عليه الداعي، وفيه أحاديث:

الأول: "إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب، فإن شاء طعم، وإن شاء ترك".

الثاني: "الصائم المتطوع أمير نفسه، إن شاء صام، وإن شاء أفطر".

الثالث: حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: هل عندكم شيء؟ فقلت: لا. قال: فإني صائم. ثم مر بي بعد ذلك اليوم وقد أهدي إلي حيس، فخبأت له منه، وكان يحب الحيس، قالت: يا رسول الله إنه أهدي لنا حيس فخبأت لك منه. قال: أدنيه أما إني قد أصبحت وأنا صائم. فأكل منه، ثم قال: إنما مثل صوم المتطوع مثل الرجل يخرج من ماله الصدقة، فإن شاء أمضاها، وإن شاء حبسها".

32 - لا يجب قضاء يوم النفل:

ولا يجب عليه قضاء ذلك اليوم، وفيه حديثان:

الأول: عن أبي سعيد الخدري قال: "صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً، فأتاني هو وأصحابه، فلما وضع الطعام قال رجل من القوم: إني صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعاكم أخوكم وتكلف لكم، ثم قال له: أفطر وصم مكانه يوما إن شئت".

الثاني : عن أبي جحيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين سلمان وبين أبي الدرداء، قال: فجاءه سلمان يزوره، فإذا أم الدرداء متبذلة [أي تاركة لثياب الزينة]، فقال: ما شأنك يا أم الدرداء؟ قالت: إن أخاك أبا الدرداء يقوم الليل ويصوم النهار، وليس له في شيء من الدنيا حاجة، فجاء أبو الدرداء فرحب به، وقرب إليه طعاما، فقال له سلمان: أطعم، قال: إني صائم، قال: أقسمت عليك لتفطرنه، ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل معه، ثم بات عنده، فلما كان من الليل أراد أبو الدرداء أن يقوم، فمنه سلمان وقال له: يا أبا الدرداء إن لجسدك عليك حقا، ولربك عليك حقا، [ولضيفك عليك حقا]، ولأهلك عليك حقا، صم، وأفطر، وصل، وائت أهلك، وأعط كل ذي حق حقه، فلما كان في وجه الصبح، قال: قم الآن إن شئت، قال : فقاما فتوضأ، ثم ركعا، ثم خرجا إلى الصلاة، فدنا أبو الدرداء ليخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي أمره سلمان، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا الدرداء إن لجسدك عليك حقا ، مثل ما قال سلمان". وفي رواية: صدق سلمان.

33 - ترك حضور الدعوة التي فيها معصية:

ولا يجوز حضور الدعوة إذا اشتملت على معصية، إلا أن يقصد إنكارها ومحاولة إزالتها، فإن أزيلت وإلا وجب الرجوع، وفيه أحاديث:

الأول: عن علي قال: "صنعت طعاما فدعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء فرأى في البيت تصاوير، فرجع [قال: فقلت: يا رسول الله ما أرجعك بأبي أنت وأمي؟ قال: إن في البيت سترا فيه تصاوير، وإن الملائكة لا تدخل بيتا فيه تصاوير".

الثاني: عن عائشة أنها اشترت نمرقة [أي: وسادة] فيها تصاوير، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على الباب، فلم يدخل، فعرفت في وجهه الكراهية، فقلت: يا رسول الله أتوب إلى الله وإلى رسوله، ماذا أذنبت؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ما بال هذه النمرقة؟ فقلت: اشتريتها لك لتقعد عليها وتوسدها، فقال صلى الله عليه وسلم: "إن أصحاب هذه الصور (وفي رواية: إن الذين يعملون هذه التصاوير) يعذبون يوم القيامة ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم، وإن البيت الذي فيه [مثل هذه] الصور لا تدخله الملائكة [قالت: فما دخل حتى أخرجتها]".

الثالث: قال: صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعدن على مائدة يدار عليها بالخمر".

وعلى ما ذكرنا جرى عليه عمل السلف الصالح رضي الله عنهم، والأمثلة على ذلك كثيرة جدا، فأقتصر على ما يحضرني الآن منها:

أ- عن أسلم - مولى عمر - أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قدم الشام، فصنع له [طعاماً] رجل من النصارى، فقال لعمر: إني أحب أن تجيئني وتكرمني أنت وأصحابك - وهو رجل من عظماء الشام - فقال له عمر رضي الله عنه: "إنا لا ندخل كنائسكم من أجل الصور التي فيها".

واعلم أن في قول عمر دليلا واضحا على خطأ ما يفعله بعض المشايخ من الحضور في الكنائس الممتلئة بالصور والتماثيل استجابة منهم لرغبة بعض المسؤولين أو غيرهم.

ب- عن أبي مسعود - عقبة بن عمرو - أن رجلا صنع له طعاما، فدعاه، فقال: أفي البيت صورة؟ قال: نعم، فأبى أن يدخل حتى كسر الصورة ثم دخل.

ج- قال الإمام الأوزاعي: "ا ندخل وليمة فيها طبل ولا معزاف".

34 - ما يستحب لمن حضر الدعوة:

ويستحب لمن حضر الدعوة أمران :

الأول : أن يدعو لصاحبها بعد الفراغ بما جاء عنه صلى الله عليه وسلم وهو أنواع:

أ - عن عبد الله بن بسر أن أباه صنع للنبي صلى الله عليه وسلم طعاما، فدعاه، فأجابه، فلما فرغ من طعامه قال: "اللهم اغفر لهم، وارحمهم، وبارك لهم فيما رزقتهم".

ب - عن المقداد بن الأسود قال: قدمت أنا وصاحبان لي على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأصابنا جوع شديد، فتعرضنا للناس، فلم يضيفنا أحد، فانطلق بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله وعنده أربع أعنز، فقال لي: يا مقداد جزئ ألبانها بيننا أرباعا، فكنت أجزئه بيننا أرباعا، [فيشرب كل إنسان نصيبه، ونرفع لرسول الله صلى الله عليه وسلم نصيبه]، فاحتبس رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فحدثت نفسي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أتى بعض الأنصار، فأكل حتى شبع، وشرب حتى روي، فلو شربت نصيبه، فلم أزل كذلك حتى قمت إلى نصيبه فشربته، ثم غطيت القدح، فلما فرغت أخذني ما قدم وما حدث، فقلت: يجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم جائعا ولا يجد شيئا، فتسجيت [أي تغطيت. يعني: يريد أن ينام] قال: وعلي شملة من صوف كلما رفعت على رأسي خرجت قدماي، وإذا أرسلت على قدمي خرج رأسي، قال: وجعل لا يجيئني النوم، وجعلت أحدث نفسي، قال: وأما صاحباي فناما، فبينا أنا كذلك إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلم تسليمة يسمع اليقظان، ولا يوقظ النائم، [ثم أتى المسجد فصلى]، ثم أتى القدح فكشفه، فلم ير شيئا، فقال: "اللهم أطعم من أطعمني، واسق من سقاني"، واغتنمت الدعوة، فعمدت إلى الشملة فشددتها علي، فقمت إلى الشفرة [السكين] فأخذتها، ثم أتيت الأعنز، فجعلت أجتسها [أمسها بيدي] أيها اسمن [فأذبح لرسول الله صلى الله عليه وسلم]، فلا تمر يدي على ضرع واحدة إلا وجدتها حافلا [أي: ممتلئاً لبن]، فعمدت إلى إناء لآل محمد ما كانوا يطمعون أن يحلبوا فيه، فحلبت حتى ملأت القدح، ثم أتيت [به] رسول الله صلى الله عليه وسلم، [فقال: أما شربتم شرابكم الليلة يا مقداد؟ قال: فقلت: اشرب يا رسول الله فرفع رأسه إلي، فقال: بعض سوآتك يا مقداد، ما الخبر؟ قلت: اشرب ثم الخبر، فشرب حتى روي، ثم ناولني فشربت، فلما عرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد روي وأصابتني دعوته، ضحكت، حتى ألقيت إلى الأرض، فقال: ما الخبر؟ فأخبرته، فقال: هذه بركة نزلت من السماء، فهلا أعلمتني حتى نسقي صاحبينا؟ فقلت: [والذي بعثك بالحق]، إذا أصابتني وإياك البركة، فما أبالي من أخطأت".

الثاني: عن أنس أو غيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزور الأنصار، فإذا جاء إلى دور الأنصار جاء صبيان الأنصار يدورون حوله، فيدعوا لهم، ويمسح رؤوسهم ويسلم عليهم، فأتى إلى باب سعد بن عبادة فاستأذن على سعد فقال: السلام عليكم ورحمة الله فقال سعد: وعليك السلام ورحمة الله، ولم يسمع النبي صلى الله عليه وسلم حتى سلم ثلاثا، ورد عليه سعد ثلاثا، ولم يسمعه، [وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يزيد فوق ثلاث تسليمات ، فإن أذن له، وإلا انصرف]، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم، واتبعه سعد، فقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما سلمت تسليمة إلا هي بأذني، ولقد رددت عليك ولم أسمعك، أحببت أن أستكثر من سلامك ومن البركة، [فادخل يا رسول الله]، ثم أدخله البيت، فقرب له زبيبا، فأكل نبي الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغ قال: "أكل طعامكم الأبرار، وصلت عليكم الملائكة، وأفطر عندكم الصائمون".

الأمر الثاني: الدعاء له ولزوجه بالخير والبركة، وفيه أحاديث:

الأول: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "هلك أبي، وترك سبع بنات أو تسع بنات، فتزوجت امرأة ثيبا، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: تزوجت يا جابر؟ فقلت: نعم، فقال: أبكرا أم ثيبا، قلت: بل ثيبا، قال: فهلا جارية تلاعبها وتلاعبك، وتضاحكها وتضاحكك؟ فقلت له: إن عبد الله هلك وترك [تسع أو سبع] بنات، وإني كرهت أن أجيئهن بمثلهن، فتزوجت امرأة تقوم عليهن وتصلحهن، فقال: "بارك الله لك"، أو قال لي خيرا.

الثاني: عن بريدة رضي الله عنه قال: قال نفر من الأنصار لعلي: عندك فاطمة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم عليه، فقال: ما حاجة ابن أبي طالب؟ فقال : يا رسول الله ذكرت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: مرحبا وأهلا، لم يزد عليهما، فخرج علي بن أبي طالب على أولئك الرهط من الأنصار ينتظرونه، قالوا: ما وراءك؟ قال: ما أدري غير أنه قال لي: مرحبا وأهلا، فقالوا: يكفيك من رسول الله صلى الله عليه وسلم إحداهما، أعطاك الأهل والمرحب، فلما كان بعد ذلك، بعدما زوجه قال: يا علي إنه لا بد للعروس من وليمة، فقال سعد: عندي كبش، وجمع له رهط من الأنصار أصوعا من ذرة، فلما كانت ليلة البناء، قال: لا تحدث شيئا حتى تلقاني، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء فتوضأ فيه، ثم أفرغه على علي، فقال: "اللهم بارك فيهما، وبارك لهما في بنائهما".

الثالث: عن عائشة رضي الله عنها قالت: "تزوجني النبي صلى الله عليه وسلم، فأتتني أمي، فأدخلتني الدار، فإذا نسوة من الأنصار في البيت، فقلن: "على الخير والبركة، وعلى خير طائر". [وطائر الإنسان: نصيبه]

الخامس: عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفأ الإنسان إذا تزوج قال: "بارك الله لك، وبارك الله عليك، وجمع بينكما في (وفي رواية: على) خير".

وإذا رفأ الإنسان: معناه دعا له في موضع قولهم: "بالرفاه والبنين"، وكانت كلمة تقولها أهل الجاهلية، فورد النهي عنها.

35 - بالرفاء والبنين تهنئة الجاهلية:

ولا يقول: (بالرفاء والبنين) كما يفعل الذين لا يعلمون، فإنه من عمل الجاهلية، وقد نهي عنه في أحاديث، منها: عن الحسن أن عقيل بن أبي طالب تزوج امرأة من جشم، فدخل عليه القوم، فقالوا: بالرفاء والبنين، فقال: لا تفعلوا ذلك [فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك]، قالوا: فما نقول يا أبا زيد؟ قال: قولوا: بارك الله لكم، وبارك عليكم، إنا كذلك كنا نؤمر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق