الخميس، 27 مايو 2010

مصر - صورة إيجابية

صحيفة الوطن الكويتية الثلاثاء 11 جمادى الأولى 1431 – 25 مايو 2010
مبدعون مسكوت عليهم
فهمي هويدي – المقال الأسبوعي
حينما سدت الطواويس الأفق، فإننا لم نر مثابرة النمل ولا إبداعاته، تماما كما أن احباطات السلطة حجبت عنا اشراقات المجتمع.
(1)
أتحدث عن الحراك الصامت الذي لم يتوقف في عمق المجتمع المصري. لا اقصد الحراك السياسي الذي يناطح السلطة ويدعو إلى التغيير (رغم أن للسياسات طواويسها، أيضا)، لكني أتحدث عن أناس لم ينتظروا شيئا من السلطة ومارسوا بأنفسهم عملية التغيير في الواقع فيما قدروا عليه. لم يكترثوا بالطوارئ التي استهدفت تشديد القبضة على المجتمع وإطلاق يد السلطة لتتحكم في مصيره وتعبث به.لكنهم من جانبهم بادروا إلى إعلان «طوارئ» من نوع آخر، لهدف أشرف وأنبل. ذلك أنهم استنهضوا همتهم واختاروا مفاصلة أهل الأهواء والأضواء، وانصرفوا إلى صناعة أحلامهم بأيديهم. لم ينتظروا خبراً في صحف الصباح، ولا صورة على شاشة التلفزيون، ولا شيئا من جوائز الدولة وعطاياها التي تتقاسمها شلل المنتفعين والمهللين.
أتحدث عن أولئك النفر من الشرفاء المجهولين، الذين اختاروا أن يعيشوا مع الفقراء ويأخذوا بأيديهم، تاركين طواويس المدينة يسبحون في أضوائها فرحين بما أوتوا. أولئك الذين ظلوا مهجوسين بالغرس والزرع دون أن ينتظروا من أحد جزاء ولا شكورا. تركوا للطواويس التيه والمجد، وقعدوا بعيدا في الظل ينسجون الحلم ويبنون في هدوء، متخذين من مثابرة النمل وتواضعه نموذجا ومثلا أعلا.
(2)
في صنعاء سمعت لأول مرة اسم الدكتور محمد غنيم ومركز الكلى الذي إقامة في مدينة المنصورة. شعرت بالخجل والاعتزاز عندما حدثني عنهما بانبهار شديد صديق كان شقيقا لأحد مرضاه. إذ لم يخطر على بالي أن يكون في مصر صرح طبي بالتميز الذي سمعت به.
وطوال السنوات العشر الأخيرة ظللت أتابع أداء الرجل الذي وقف وراء ذلك العمل الكبير. وكان أكثر ما قدرته فيه، فضلا عن مكانته العلمية الرفيعة، عزوفه عن الأضواء وحرصه على إن يؤدي رسالته الجليلة في صمت. ولا اعرف كيف قاوم ذلك العالِم الزاهد فتنة الشهرة والثراء التي استسلم لها ولهث وراءها غيره، وكيف إنه قرر أن يقيم صرحه الطبي في قلب الدلتا بعيدا عن جاذبية القاهرة وإغراءاتها.
كذلك سمعت في الفترة ذاتها باسم «لجنة الإغاثة» في نقابة الأطباء، مرة في السودان وأخرى في البوسنة وثالثة في أذربيجان.وعلى الرغم من أن اسمها ليس مألوفا في مصر، سواء لان القائمين عليها آثروا إثبات الحضور في ارض الواقع بأكثر من حضورهم في وسائل الإعلام، أو لان أكثر نشاطها موجه إلى الخارج، فإنني وجدت في أداء تلك اللجنة نموذجا آخر للذين نذروا أنفسهم للتفاني في إغاثة الفقراء والملهوفين وتوظيف المعرفة في الخدمة المباشرة للناس.
أما الذي فعله الدكتور مجدي يعقوب فقد كان مدهشا حقا.إذ فاجأنا ذلك الجراح النابه الذي هاجر من مصر وذاع صيته في انجلترا، حتى منحته الملكة لقب «سير»، بأنه قرر إقامة مركز لجراحة القلب في أقصى صعيد مصر. وكأنه حين اختار أسوان فانه أراد أن يعمل في ابعد نقطة عن أضواء القاهرة، وان يعطي لغيره درساً عملياً في الوفاء والمسؤولية. أن بعضا من هؤلاء النابهين المهاجرين يأتون إلى مصر للسياحة حينا، ولإعطائنا النصائح والمواعظ حينا آخر، وللظهور في برامج التلفزيون وحضور الحفلات والمنتديات في حين ثالثة. لكن الدكتور مجدي يعقوب عزف عن كل ذلك. وبدا كأنه نسيج وحده.فلم يكتف بإقامة الصرح الطبي، فحسب، ولكن النموذج النبيل الذي قدمه، شجع آخرين من العلماء المصريين المهاجرين على الانضمام إليه، والإسهام فيما يقدمه المركز من خدمات. علمت أن المركز يجري 600 عملية قلب مفتوح بالمجان سنوياً. منها 300 عملية للأطفال (لاحظ أن العملية في الظروف العادية تتكلف عدة ألوف من الجنيهات). ذلك بالإضافة إلى دوره في البحوث والتدريس وتقديم الخدمات الصحية المتميزة لمرضى القلب في مصر والدول العربية والإفريقية. إذ خلال الأشهر الماضية أجرى المركز 240 عملية جراحية مجانية، 50%منها للأطفال من مختلف محافظات مصر، وبعض الدول الأخرى.علمت أيضا أن المركز استضاف فريقا طبيا مصريا- كنديا، أجرى خبراؤه 70 عملية جراحية. ولا يزال يؤدي رسالته النبيلة قانعا بالصمت وراضيا بالظل.
(3)
في الأسبوع الماضي عادت الابتسامات إلى وجوه أهالي قرية كفر العرب بمحافظة دمياط، التي كان الحزن قد خيم عليها خلال السنوات الأخيرة، بعدما ضاقت عليهم أبواب الرزق، وبدا كان الدنيا اسودت في وجوههم. ذلك أن أهالي القرية التي اشتهرت بتربية الماشية وتصنيع الأجبان أدركوا أن أسعار الأعلاف زادت بحيث تجاوزت حدود احتمالهم. فما كان من المربيين إلا أن اتجهوا إلى التخلص من قطعان الماشية بالذبح. وأدى ذلك إلى إغلاق نصف مصانع منتجات الألبان في القرية. لكن أزمتهم بدأت في الحل بعدما نجح بعض الباحثين في تصنيع علف جديد للماشية بجودة عالية، من البواقي الزراعية في القرية التي كانت تحرق أو تُلقى كمهملات في كل موسم.
هذا الجهد وراءه قصة غريبة ومدهشة أيضا، أبطالها مجموعة من الباحثين المغمورين الذين اختاروا منذ سنوات أن يحاربوا الفقر في معاقله، وبأيدي الفقراء أنفسهم، فشمروا عن سواعدهم واستخدموا معارفهم العملية وخبراتهم لحفر مسار جديد للتفكير والتطبيق، وبدؤوا رحلتهم منذ نحو عشرين عاما. صحيح أنهم لم يغيروا شيئا في أوضاع المجتمع المصري، لكنهم زرعوا «فسائل» للأمل في بعض أنحاء مصر، والتزموا بنهج النمل في التحرك والبناء.  
الفكرة المحورية في مشروعهم كالتالي: أن مصر بلد زراعي في الأساس، وريفها هو الأكثر معاناة من الفقر والتخلف والبطالة، والزراعة لها مخلفاتها التي تهمل وتحرق وتتحول إلى نقمة أحيانا، على الرغم من أنها تشكل ثروة لمن يعرف قيمتها.ولأنهم يعرفون جيدا قيمة تلك الثروة، فقد اتجهوا إلى تصنيع البواقي الزراعية، منطلقين من أنها تمثل شريانا للإنعاش الاقتصادي في مصر الأخرى.
في دراستهم المرجعية وجدوا أن البواقي الزراعية في مصر تقدر سنوياً بحوالي 72مليون طن كأحطاب (حطب الذرة والقطن) أو عروش (بنجر السكر والطماطم والبطاطس) أو قشر (القمح والأرز)- وللعلم فان مصاص القصب وحده يقدر بحوالي 30 مليون طن. أضف إلى ذلك أن الفلاحين يلجئون عادة إلى تشوين تلك البواقي في حواف الحقول تمهيدا للتخلص منها، بما يقتطع من الرقعة الزراعية نحو 88 ألف فدان، كان من الممكن أن تزرع قمحا. هؤلاء الباحثون المغمورون، الذين لم تعرف لهم أسماء ولم تر لهم صور، يجوبون أرجاء «مصر الأخرى» منذ بداية التسعينيات، باحثين عن الكيفية التي يمكن بها إحياء الموات في القرى الفقيرة، بحيث يتحول أهلها من قاعدين خاملين إلى منتجين، ومن يائسين إلى فاعلين.
في عام 1993 أقاموا معرضا لتصنيع ألواح خشب «الكونتر» من جريد النخيل. ونجحوا في إقناع سكان القرى الغنية بالنخيل بان الجريد الذي يجفف ويحرق يمكن أن يكون خامة لصناعة تدر عليهم دخلا طيبا، وتغنى عن استيراد خشب الكونتر من الخارج. وحين نجحت تجاربهم وظهرت ألواح الخشب الكونتر إلى النور، فأنهم حصلوا على شهادات بجودة المنتج من معهد بحوث الأخشاب في ميونيخ، وحصلوا على جائزة من مؤتمر المواد الذي انعقد في ماسترخت بهولندا عام 1997. وأقاموا معرضا لمشروعات منتجات المشربية (الارابيسك أو الخرط العربي) في كل من محافظتي الوادي الجديد والفيوم.
أيضا في عام 2006 نجحوا في استخدام حطب القطن كمادة صناعية. واستطاعوا تشغيل احد مصانع الإسكندرية للخشب الحبيبي بذلك الحطب، بديلا لأخشاب الكازوارينا التي أشرفت كمياتها المتاحة على النضوب. من ثم، فبدلا من الحرق المكشوف للحطب المسبب للسحابة السوداء، فان ذلك الحطب أصبح له سعر وفائدة.
في عام 1998 نفذوا مشروعا لاستخدام نواتج تقليم أشجار الفاكهة بديلا للأخشاب المستوردة.ووظفوا في ذلك أخشاب 7 أنواع من الفاكهة وصنعوا منها أخشابا تنافس خواص خشب الزان الذي تستورده مصر بما قيمته 4 مليارات جنيه سنوياً.
في عام 2006 قاموا بتجربة ناجحة أخرى.ذهبوا إلى بلدة شماس بمرسى مطروح، التي تعد واحدة من أفقر عشر قرى في مصر، ووجدوا أن التين فيها بلا ثمن لكثرته، ولاحظوا أن الفائض منه يلقى في الشوارع، فرتبوا لبعض سيدات القرية بالتعاون مع كلية الزراعة بجامعة الإسكندرية، كيف يمكن أن يتحول التين إلى مربى. واستطاعت ثلاث سيدات تصنيع 15 طن مربى في شهرين، حققت المواصفات العالمية في الغذاء.
ذلك كله لم يشعر أو يسمع به احد.لكن فريق النمل الذي يقوده الدكتور حامد الموصلي الأستاذ غير المتفرغ بهندسة عين شمس لم يتوقف عن السفر مع مساعديه إلى قرى الفقراء ومحاولة استخراج الأمل من البؤس واليأس.وهم يحلمون بنشر فكرة تصنيع البواقي الزراعية (البيو فيبرز) التي تستثمر تلك الثروة المجهولة في العديد من الصناعات المهمة التي تشكل نقلة مهمة ليس فقط في حياة القرى الفقيرة، ولكن أيضا في مسار النهوض بالمجتمع وتطوره.
(4)
اكتشفت أن الجمعية الشرعية في مصر تقف على رأس جيوش النمل التي ما برحت تبنى في صمت منذ مائة عام. ونبهني إلى ذلك أن القائمين عليها أقاموا احتفالا متواضعا بهذه المناسبة في مقرهم بالقاهرة، تجاهلته وسائل الإعلام، ونشرت وقائعه مجلتهم «التباين» في عددها الشهري الأخير. وآثار انتباهي في أنشطة الجمعية حجم الدور التنموي الذي تقوم به، جنبا إلى جنب مع دورها الدعوي التقليدي. بدا ذلك الدور التنموي مفاجئا ومدهشا. فهم يكفلون 560 ألف يتيم في مصر، وينفذون من أموال الزكاة مشروعا للمراكز الطبية المتخصصة، التي لا تعالج الفقراء فحسب، ولكن غير القادرين أيضا، بغير تمييز بين المسلمين والمسيحيين. (جلسة الكيماوي الواحدة لمرضى السرطان تتكلف 5 آلاف جنيه). وتقدم خدماتها يوميا لمائة مريض بالعلاج الإشعاعي و30 مريضا بالكيماوي. والاخيرون يكلفون الجمعية ما يجاوز 5 ملايين جنيه كل شهر.
ومن خلال لجنة الإغاثة بنقابة الأطباء، فأنهم أوصلوا المعونات إلى العديد من دول إفريقيا وآسيا. في ذات الوقت فأنهم يكفلون عشرة آلاف طالب وافد، فيقدمون لهم رواتب شهرية إلى جانب الإقامة الكاملة والرعاية الصحية، ويعلمونهم العربية. وقد حصل 50 واحدا منهم على شهادة الدكتوراه. قائمة العطاء طويلة. فلديهم مشروع لتنمية رؤوس الماعز، التي يتم توزيعها على الفقراء والمعدمين (لديهم 82 وحدة تستوعب الواحدة 215 رأسا). كما أنشأت الجمعية 50 محطة لمياه الشرب، تكلفت الواحدة 150 ألف جنيه، وتغذي 12 ألف نسمة.
 لست أشك في أن مصر تحفل بمثل هؤلاء البنائين العظام الذين لم ينتظروا منا تشجيعيا ولا تصفيقا، فمن واجبنا أن نسجل أسماءهم بحروف من نور، وان نقول لهم شكرا، ليس فقط لما يعملونه، ولكن أيضا لأنهم ذكرونا بأنه لا يزال فينا خير كثير، يمنحنا شعاع أمل وسط الظلمة التي نغرق فيها.
...................
فهمي هويدي