الاثنين، 17 أكتوبر 2016

صفحات مشرقة من تاريخ السنة - الفصل الخامس



الفصل الخامس
مدارس الحديث

اتسعت الدولة الإسلامية بعد وفاة النبي أتساعاً عظيماً على يد أصحابه، تحقيقاً لوعد الله الذي لا يتخلف: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً}
[النور – 55]، فقد تم فتح الشام والعراق ومصر وفارس وغيرها على أيديهم، رضوان الله عليهم.
فكان أثر هذه الفتوح أن دخل كثير من أهلها الإسلام، وتعطشت نفوسهم إلى تعلم أحكامه، فكان لزاماً على خلفاء المسلمين أن يبعثوا إليهم من يعلمهم من أصحاب رسول الله أحكام دينهم، لأنهم حملة هذا الدين بعد الني صلى الله عليه وسلم.
وبنزول الصحابة في تلك البلدان المختلفة، أصبحت الأقاليم والأمصار الإسلامية مراكز إشعاع علمي، ومعاهد لتعليم القرآن والحديث، إذ كان يقبل عليهم طلاب العلم فيغترفون من بحارهم الفياضة، ويحفظون عنهم ما حفظوه عن رسول الله، حتى تخرج على أيديهم في كل قطر طبقة من التابعين، كانوا فيما بعد حماة السنة ورواة الحديث، وكانت المساجد في الغالب هي دور العلم ومعاهد الحديث([1]).
ويجدر بنا أن نذكر لمحة موجزة عن أهم تلك المراكز العلمية.
 المدينــة المنــورة:
كانت المدينة المنورة مهاجر الرسول وأصحابه، وبها حدّث النبي أكثر حديثه، لأن أكثر التشريع كان فيها، وكانت المواطن الأول للصحابة ومركز الخلافة الراشدة. وكذلك نرى في المدينة الصحابة الذين رسخوا في العلم، وكانت لهم مكانة عظيمة في الحديث، وقد أشتهر منهم: أبو هريرة، وأم المؤمنين عائشة، وعبد الله بن عمرو، وتخرج على يد هؤلاء كبار التابعين كسعيد بن المسبب، وعروة بن الزبير، وسالم بن عبد الله وغيرهم.
مكـــة المكرمـــة:
لما فتح النبي مكة خلف بها معاذ بن جبل يعلم أهلها الحلال والحرام، ويفقههم في الدين، ويقرئهم القرآن الكريم، ثم تزعم دار الحديث بمكة عبد الله بن عباس، وتخرج على أيدي الصحابة تابعون أجلاء، من أشهرهم: مجاهد بن جبر، وعكرمة مولى ابن عباس، وعطاء ابن أبي رباح وغيرهم.
وقد تميزت دار الحديث بمكة المكرمة عن غيرها من المدارس العلمية بالمؤتمر العلمي السنوي: وهو موسم الحج، حيث يلتقي فيه حملة العلم وطلبته من كل الأقطار الإسلامية، يحملون معهم الكثير من العلم النبوي.
الكوفــة:
كانت الكوفة والبصرة قاعدتي الفتح الإسلامي في خراسان، وفارس، والهند، لذلك نزلها عدد كبير جداً من الصحابة، من أشهرهم: على بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وسعد بن أبي وقاس، وسعيد ابن زيد وغيرهم كثير.
وقد كان لعبد الله بن مسعود أثر كبير في نشوء هذا المركز العلمي، وتميزه، وذلك لطول مكثه ـ رضي الله عنه ـ في الكوفة، ولطول باعه في العلم، فعقد هو وباقي الصحابة مجالس العلم وحلقاته، علموا وفقهوا طلبة العلم، فتخرج على أيديهم كثير من العلماء: من أشهرهم عامر بن شرحبيل الشعبي، وإبراهيم النخعي، والأسود النخعي، وعبيدة السلماني، وغيرهم.
البصـــرة:
نزل البصرة العديد من الصحابة، منهم أنس بن مالك، وكان إمامها في الحديث، وأبو موسى الأشعري، وعبدالله بن عباس ـ وكان والياً عليها من قبل علي لفترة قصيرة ـ وأشهر من تخرج من هذه المدرسة الحسن البصري، ومحمد بن سيرين، وأيوب السختياني، وقتادة بن دعامة السدوسي وغيرهم. وكان لهذه المدرسة حركة علمية لا تخفي على أحد، استمرت زمناً طويلاً.
الشـــام:
لما فتح المسلمون الشام في عهد عمر بن الخطاب دخل كثير من أهلها في الإسلام، فاحتاج أهلها إلى من يعلمهم القرآن وفقه الدين، فأرسل عمر إليهم معاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، وأبا الدرداء الذين توزعوا في بلاد الشام، ثم أرسل إليهم عبد الرحمن بن غُنْم، ولم يكن التعليم قاصراً على هؤلاء، فقد تواجد غيرهم من الصحابة في الشام كبلال بن رباح.
وقد تخرج على أيدي هؤلاء الصحابة في تلك المدرسة الكبيرة كبار علماء الشام من التابعين، كأبي إدريس الخولاني، وقبيصة بن ذؤيب، ومكحول بن أبي مسلم الشامي، ورجاء بن حيوة، وغيرهم. وقد تضاعف نشاط الحركة العلمية في هذه المدرسة أيام الخلافة الأموية.
مصــــر:
فتح المسلمون مصر في عهد عمر بن الخطاب، وولَّى عليها عمرو ابن العاص، ومن أبرز علمائه عبد الله بن عمرو بن العاص، الذي كان من المكثرين في الرواية عن رسول الله ، فقد كان يدون الحديث بين يديه.
كما نزل مصر من الصحابة عقبة بن عامر الجهني، وخارجة بن حذافة، وعبد الله بن الحارث بن جزء، وتخرج على أيدي هؤلاء: يزيد ابن أبي حبيب، وأبو الخير مرثد بن عبد الله اليزني وغيرهم.
كما أن مدارس الحديث تتابعت في الانتشار والازدهار في باقي الديار الإسلامية، كاليمن، والمغرب، والأندلس، وخراسان، وغيرها من بلاد الإسلام.


([1]) الحديث والمحدثون، 100 ـ 101.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق