الاثنين، 17 أكتوبر 2016

صفحات مشرقة من تاريخ السنة - الفصل الثالث



الفصل الثالث
حفظ السُّنَّة قبل التدوين

حالة العرب قبل الإسلام والاستعداد الفطري للحفظ:
كانت الحقبة التي سبقت بعثة النبي حقبة حائرة ضالة، وحالة نقص في كل عقيدة، فتشوفت النفوس إلى من ينتشلها من ظلمات الحيرة، وينقذها من أحضان الجهل والوحشية والفوضى في العلاقات والمعاملات والعبادات، فكان من رحمة الله بهم أن بعث فيهم رسولاً منهم، يعرفونه حق المعرفة فالتف حوله الصحابة يتلقون منه السنة مع القرآن الكريم، ويشاركون في تطبيق ما يتعلمونه منه ويحفظونه، لأنه يتعلق بعقائدهم، وعباداتهم، ومناسكهم، وبيوعهم، ومعاملاتهم، وفي أحوالهم الشخصية، وفي آدابهم وكل مظاهر حياتهم.
وقد أشتهر العرب بصفات طيبة وخصال محمودة كثيرة، كالمروءة والكرم والوفاء بالعهد، ونجد الملهوف، إلى جانب سعة حافظتهم التي كانت سجلاً لتاريخهم، وأشعارهم وأنسابهم، ما لم يتوفر في أمة أخرى.
ولسنا هنا بصدد تعداد الخصال أو الحديث عنها، إنما الذي يعنينا هنا بعض هذه الخصال، التي كان لها دور في حفظ السنة وتدوينها، مثل: الصدق، والأمانة، وصفاء الذهن، ونشاط الذاكرة، وقوة ملكة الحفظ إجادة ضبط الألفاظ في الأداء.
فكان الصحابة – رضوان الله عليهم – صادقين في حبهم للرسول والإيمان بما جاء به، مخلصي الدين لله، أمناء في حفظ القرآن والسنة، ضباطي أدائهما كما تلقوهما من النبي .
وكان حبهم للنبي يفوق حبهم لآبائهم وأبنائهم، بعد أن رأوا فيه النور والرحمة التي انتشلتهم من ظلمات الجهل والحيرة والظلم، هذا الحب حول جميع قواهم الفطرية وفضائلهم الخلقية للمحافظة على الإسلام ونشرة، فبذلوا نفوسهم للذود عن حياض الإسلام، وفَدَوا الرسول بأرواحهم وأموالهم، وأقبلوا على ما جاءهم به من القرآن يحفظونه، وعلى ما حدث به من السنة، فجمعوه في صدروهم وطبقوه في جميع أحوالهم.

الدعوة إلى التعلم والتعليم:
لقد نزل الوحي على رسول الله أول ما نزل بآيات تأمر الإنسان بالتعلم وتطالبه بالقراءة، قال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق – 1].
كما حض على سؤال العلماء فقال: }فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ{ [النحل – 43].
وأوجب نشر العلم وبيان أحكامه فقال: }وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ{ [آل عمران – 187]. فامتثل الرسول للأمر الإلهي، وبين منزلة العلم، فقال: (من يرد الله به خيراً يفقهه بالدين)([1]).
وحث طالب العلم الشرعي الذي يحتاجه كل مسلم ليقيم أمور دينه، وحض صحابته على تفهم أمور دينهم، وأمرهم أن يسألوا عما يجهلونه، أن الغاية من العلم أن ينتفع به أصحابه وينفعوا به غيرهم، فلا فائدة من علم مكتوب أو فقه محبوس في صدور العلماء، لا ينال الناس منه شيئاً، لذلك أمر بنشر العلم وحرم كتمانه، فقال: (نضر الله أمرأً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه)([2]). والحديث مشهور وطرقة كثيرة، وبألفاظ متقاربة.
ولم يترك رسول الله طريقة من طرق التبليغ والإعلام في ذلك العصر إلا واستعملها في سبيل تبليغ الإسلام، كيف لا وهـــو الناهي عن كتمان العلم قال: (من سئل عن علم فكتمه أُلجم بلجام من نار يوم القيامة)([3]).
وقد بين عليه الصلاة والسلام – منزلة معلم الناس الخير، وحث على احترام العلماء، وبين فضلهم فقال: (العلماء ورثة الأنبياء)([4]).
منهجه في التعليم:
في بداية الدعوة اتخذ الرسول دار الأرقم مقراً له ولأصحابه، يلتفون حوله، يتذاكرون كتاب الله، وذلك حين كانت الدعوة سرية، ثم أصبح منزله في مكة معهد المسلمين الذي يتلقون فيه القرآن الكريم، وبعد الهجرة أصبح المسجد هو المكان المعهود للعلم إلى جانب العبادة.
إضافة إلى ذلك، كان للنبي مجالسه العلمية الكثيرة التي يتخول أصحابه بالموعظة، كما كان يخاطب الحاضرين بما يدركونه فيفهم البدوي الجافي بما يناسب جفاءه وقسوته، ويفهم الحضري بما يلائم حياته وبيئته، وكان يراعي تفاوت المدارك والقدرات، ويخاطب القوم بلغتهم ولهجتهم وإذا تكلم تكلم ثلاثاً لكي يفهم عنه، وكان كلامه فصلاً يحفظه السامع.
وكان إذا سئل عما لا يعلم يسكت منتظراً الوحي من الله بذلك، وربما طرح المسألة على أصحابه ليختبر ما عندهم من العلم، وليشحذ أذهانهم للفهم. وكان إذا سئل عن مسألة أجاب، عنها وأفاض في مسائل أخرى مناسبة للمقام، أولها صلة بالجواب، فيفيد السائل والحاضرين.

كيف تلقى الصحابة العلم الشرعي:
كان الصحابة - رضوان الله عليهم - يتعلمون من النبي القرآن الكريم آيات معدودات يفهمون معناها، ويتعلمون فقهها ويطبقونه على أنفسهم ثم يحفظون غيرها، وفي ذلك يقول أبو عبدالرحمن السلمي: (حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن كعثمان بن عفان وعبدالله بن مسعود وغيرهما – أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي عشرة آيات لم يتجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل. قالوا فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً)([5]).
وكان بعض يقيم عند الرسول يتعلم أحكام الإسلام وعباداته، ثم يعود إلى أهله وقومه يعلمهم ويفقههم، ومن هذا ما أخرجه البخاري عن مالك بن الحويرث، أنه قال: (أتينا إلى النبي ونحن شبية([6]) متقاربون، فأقمنا عنده عشرين يوماً وليلة، وكان رسول الله رحيماً رفيقاً، فلما ظن أنا قد اشتهينا أهلنا – أو قد اشتقنا – سألنا عمن تركنا بعدنا؟ فأخبرناه. قال: أرجعوا إلى أهليكم، فأقيموا فيهم، وعلموهم، وَمُرُوُهُمْ، وذكر أشياء أحفظها أو لا أحفظها، وصلوا كما رأيتموني أصلي، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم)([7]).

حرص الصحابة على تلقي العلم ومُدارسته:
كان الصحابة - رضوان الله عليهم - يحرصون على حضور مجالس رسول الله حرصاً شديداً إلى جانب قيامهم بأعمالهم المعاشية، إذ لم يكن الصحابة سواء في حضور مجالسه العلمية، فكان منهم من يلازمه ولا يتخلف عنه في الحضر ولا في السفر، كأبي بكر وأبي هريرة - رضي الله عنهما - ومنهم من كان يتخلف عنه في بعض الأوقات لقضاء مصالحه، أو الخروج في سرية، فإذا حضروا سألوا وطلبوا ما فاتهم سماعة من أقرانهم.
وأحياناً كان الصحابة يتناوبون الحضور إلى تلك المجالس إذا ما تعذر حضورهم، فيتفق اثنان على تناوب الحضور إلى تلك المجالس، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد قال: (كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد، وهي من عوالي المدينة وكنا نتناوب النزول على رسول الله، ينزل يوماً وأنزل يوماً فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك ...)([8]).
ويقول البراء بن عازب الأوسي رضي الله عنه (ما كل حديث سمعناه من رسول الله، كان يحدثنا أصحابنا، وكنا مشتغلين في رعاية الإبل، وأصحاب رسول الله كانوا يطلبون ما يفوتهم سماعه من رسول الله فيسمعونه من أٌقرانهم، وممن هو أحفظ منهم، وكانوا يشددون على من يسمعون منه)([9]).
وقال أبو هريرة رضي الله عنه (جزأت الليل ثلاث أجزاء: ثلثاً أصلي وثلثاً أنام وثلثاً أذاكر فيه حديث رسول الله)([10]).
وقال أنس بن مالك رضي الله عنه (كنا نكون عند النبي فنسمع منه الحديث، فإذا قمنا تذاكرناه فيما بيننا حتى نحفظه)([11]).

تعليم النساء:
لم تكن مجالسه قاصرة على الرجال بل كان الكثير من النساء يحضرن المسجد، ويستمعن إلى حديثه الشريف، كما كن يخرجن جميعهن - إلى صلاة العيد فالنبي كان - بعد أن يلقي خطبته في الصفوف الأمامية للرجال - ينتقل إلى صفوف النساء يتحدث إليهن ويعلمنهن.
ولم يكن ذلك كافياً فقد حرص النساء على سماع حديث رسول الله كبيراً، فجاءه وفد منهن يطلبن منه أن يخصص لهن يوماً يعلمهن فيه دون الرجال، فاستجاب لهن، ومن ذلك ما أخرجه البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قـال: (قالت النساء للنبي: غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوماً من نفسك، فوعدهن يوماً لقيهن فيه، فوعظهن وأمرهن فكان فيما قال لهن: ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من ولدها إلا كان لها حجاباً من النار. فقالت امرأة: واثنين؟ فقال: واثنين)([12]).
ولم تكتف المرأة بهذه المجالس العلمية، لأن الأمور التي كانت تطرأ عليها متجددة وملحة، وبعضها لا يحتمل الانتظار إلى اليوم المخصص لهن، فكانت المرأة - أحياناً - تأتي منزل رسول الله لتسأل فتحصل على الإجابة دون أن يحول الحياء بينها وبين طلب العلم.
أما من كانت يغلب عليها الحياء، فكانت تجعل إحدى أمهات المؤمنين وسيطاً بينها وبين رسول الله ، تستوضح لها عن جواب سؤالها.

خلاصة:
طالما أنه لم يكن في أصحاب النبي من يحسن الكتابة إلا نفر قليل، فكان اعتمادهم في تلقي الحديث عنه هو استعدادهم للحفظ فلا شك أن الصحابة كانوا يستظهرون آيات القرآن ويتدارسونها فيما بينهم، في بيوتهم وحوانيتهم([13])، في المدينة وفي البيداء([14])، ليثبتوا ما سمعوا من رسول الله وهو الحديث، فحفظ حديث رسول الله كان متمشياً جنباً إلى جنب مع حفظ القرآن الكريم. ومن الأيام الأولى لظهور الإسلام، كان المسلمون قلة يجتمعون في دار الأرقم بن عبد مناف، مما يثبت أن المسلمين كانوا يتلقون تعاليم الإسلام، ويقرؤون القرآن في بيوتهم، ويتفقهون في الدين، ويحفظون السنة، وإن كان نصيب كل صحابي منهم يختلف عن نصيب الآخر، فمنهم المُكثِر، ومنهم المُقل، ومنهم المتوسط.
وهكذا كان الصحابة رضي الله عنهم يتلقون الحديث عن النبي إما بطريق المشافهة، وإما بطريق المشاهدة لأفعاله وتقريراته، وإما بطريق السماع ممن سمع منه أو شاهد أفعاله وتقريراته، لأنهم لم يكونوا جميعاً يحضرون كل مجالسه.


([1]) أخرجه البخاري في كتاب "العلم"، باب "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين" ـ ح 71.  ومسلم في كتاب "الزكاة" ـ ح 98 ـ ( 1037) نحوه.
([2]) أخرجه أبو داود في كتاب "العلم"، باب "الحث على طلب العلم"، ح 3641. والترمذي في كتاب "العلم"، باب "ما جاء في فضل الفقه على العبادة"، ح 2687. وابن ماجه في المقدمة، باب "فضل العلماء والحث على طلب العلم"، ح 223.
([3]) أخرجه أحمد في "المسند": 2/263.
([4]) أخرجه أبو داود في كتاب "العلم"، باب "الحث على طلب العلم"، ح 3641. والترمذي في كتاب "العلم"، باب "ما جاء في فضل الفقه على العبادة"، ح 2687. وابن ماجه في المقدمة، باب "فضل العلماء والحث على طلب العلم"، ح 223.
([5]) السنة قبل التدوين: 58.
([6]) شبية: جمع شاب. فتح الباري: 2/170.
([7]) أخرجه البخاري في كتاب "الأذان"، باب "الأذان للمسافر"، ح 631.  ومسلم في كتاب "المساجد"، و "مواضع الصلاة"، ح 92 ـ ( 674).
([8]) أخرجه البخاري في كتاب "العلم"، باب "التناوب في العلم"، ح 89.
([9]) السنة قبل التدوين: 58 ـ 59.
([10]) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: 2/ 464.
([11]) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: 1/236.
([12]) أخرجه البخاري في كتاب "العلم باب هل يجعل للنساء يوماً على حدة في العلم"، ح 101. ومسلم في كتاب "البر والصلة والآداب"، ح 152 - ( 2633) بنحوه.
([13]) الحانوت: الدكان للتجارة. أنظر "الهادي" و "المعجم الوجيز".
([14]) البيداء: الصحراء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق