الأحد، 22 مايو 2016

تفسير القرآن الكريم - الجامع لأحكام القرآن - للقرطبي - الربع الثاني من سورة البقرة




قوله تعالى:
{إِنّ اللّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمّا الّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنّهُ الْحَقّ مِن رّبّهِمْ وَأَمّا الّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللّهُ بِهَـَذَا مَثَلاً يُضِلّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلّ بِهِ إِلاّ الْفَاسِقِينَ}.

قوله تعالى: {إِنّ اللّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً} قال ابن عباس في رواية أبي صالح: لمّا ضرب الله سبحانه هذين المثلين للمنافقين: يعني {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} وقوله: {أَوْ كَصَيّبٍ مّنَ السّمَاءِ} قالوا: الله أجلّ وأعْلَى من أن يضرب الأمثال فأنزل الله هذه الآية. وفي رواية عطاء عن ابن عباس قال: لما ذكر الله آلهة المشركين فقال: {وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذّبَابُ شَيْئاً لاّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ} (الحج: 73) وذكر كَيْدَ الاَلهَة فجعله كَبَيْت العنكبوت, قالوا: أرأيتَ حيث ذكر الله الذباب والعنكبوت فيما أنزل من القرآن على محمد, أيّ شيء يصنع؟ فأنزل الله الآية. وقال الحسن وقتادة: لما ذكر الله الذباب والعنكبوت في كتابه وضربَ للمشركين به المَثل, ضحكت اليهود وقالوا: ما يشبه هذا كلام الله فأنزل الله الآية.
و{يَسْتَحْى} أصله يَسْتَحْيُ, عينه ولامه حَرْفا علة اُعِلت اللام منه بأن استثقلت الضمة على الياء فسكنت. واسم الفاعل على هذا: مستحى, والجمع مُسْتَحْيُون ومُسْتَحْيِين. وقرأ ابن مُحَيْصِن «يستحِى» بكسر الحاء وياء واحدة ساكنة ورُوي عن ابن كَثِير, وهي لغة تميم وبكر ابن وائل نُقلت فيها حركة الياء الأولى إلى الحاء فسكنت, ثم استثقلت الضمة على الثانية فسكنت, فحذفت إحداهما للالتقاء واسم الفاعل مُسْتَحٍ, والجمع مستحون ومستحين. قاله الجوهري. واختلف المتأوّلون في معنى «يستحي» في هذه الآية فقيل: "لا يخشى" ورجّحه الطبري وفي التنزيل: {وَتَخْشَى النّاسَ وَاللّهُ أَحَقّ أَن تَخْشَاهُ} (الأحزاب: 37) بمعنى تستحي. وقال غيره: "لا يترك". وقيل: "لا يمتنع". وأصل الاستحياء الانقباض عن الشيء والامتناع منه خوفاً من مواقعة القبيح وهذا مُحال على الله تعالى. وفي صحيح مسلم عن أمْ سَلَمة رضي الله عنها قالت: جاءت أمّ سُليم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله, إن الله لا يستحي من الحق». المعنى لا يأمر بالحياء فيه, ولا يمتنع من ذكره.
قوله تعالى: {أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مّا} «يضرب» معناه يبيّن, و«أن» مع الفعل في موضع نصب بتقدير حذف من. «مَثَلاً» منصوب بيضرب.
«بَعُوضةً» في نصبها أربعة أوجه:
الأول: تكون «ما» زائدة, و «بعوضةً» بدلاً من قوله: «مَثَلاً».
الثاني: تكون «ما» نكرة في موضع نصب على البدل من قوله: «مَثَلاً» و«بعوضةً» نعت لما فوصفت «ما» بالجنس المنكّر لإبهامها لأنها بمعنى قليل. قاله الفَرّاء والزجاج وثَعْلب.
الثالث: نصبت على تقدير إسقاط الجارّ, المعنى أن يضرب مثلاً ما بين بعوضة فحذفت «بين» وأعربت بعوضة بإعرابها والفاء بمعنى إلى, أي إلى ما فوقها. وهذا قول الكسائي والفرّاء أيضاً وأنشد أبو العباس:
يا أحْسَنَ الناسِ ما قَرْناً إلى قَدَمٍ ولا حِبالَ مُحِبّ واصلٍ تَصِلُ
أراد ما بين قَرْن, فلما أسقط «بين» نصب.
الرابع: أن يكون «يضرب» بمعنى يجعل, فتكون «بعوضةً» المفعول الثاني. وقرأ الضحاك وإبراهيم بن أبي عَبْلَة ورُؤبة بن العَجّاج «بعوضةٌ» بالرفع, وهي لغة تميم. قال أبو الفتح: ووجه ذلك أن «ما» اسم بمنزلة الذي, و«بعوضةٌ» رفع على إضمار المبتدأ, التقدير: لا يستحي أن يضرب الذي هو بعوضة مثلاً فحذف العائد على الموصول وهو مبتدأ. ومثله قراءة بعضهم: «تَمَاماً عَلَى الّذِي أحْسَنُ» أي على الذي هو أحسن. وحكى سيبويه: ما أنا بالذي قائل لك شيئاً أي هو قائل. قال النحاس: والحذف في «ما» أقبح منه في «الذي» لأن «الذي» إنما له وجه واحد والاسم معه أطول. ويقال: إن معنى ضربت له مثلاً, مَثلت له مَثَلاً. وهذه الأبنية على ضربٍ واحد, وعلى مثال واحد ونوع واحد والضّرْبُ النّوْع. والبَعُوضة: فَعُولة من بَعَض إذا قطع اللحم يقال: بَضَع وبَعضَ بمعنىً, وقد بعّضته تبعيضاً, أي جَزّأته فتبعّض. والبَعُوض: البَقّ, الواحدة بعوضة سُمّيت بذلك لصغرها. قاله الجوهري وغيره.
قوله تعالى: {فَمَا فَوْقَهَا} قد تقدّم أن الفاء بمعنى إلى, ومن جعل «ما» الأولى صلة زائدة فـ «ما» الثانية عطف عليها. وقال الكسائي وأبو عبيدة وغيرهما: معنى «فما فوقها» ـ والله أعلم ـ ما دونها أي إنها فوقها في الصغر. قال الكسائي: وهذا كقولك في الكلام: أتراه قصيراً؟ فيقول القائل: أو فوق ذلك أي هو أقصر مما ترى. وقال قتادة وابن جُريج: المعنى في الكِبَر. والضمير في «أنّه» عائد على المَثَل أي إن المَثَل حق. والحق خلاف الباطل. والحق: واحد الحقوق. والحَقّة (بفتح الحاء) أخص منه يقال: هذه حَقّتي, أي حَقّي.
قوله تعالى: {وَأَمّا الّذِينَ كَفَرُواْ} لغة بني تميم وبني عامر في «أمّا» أيْمَا, يبدلون من إحدى الميمين ياء كراهية التضعيف وعلى هذا يُنْشد بيتُ عمر بن أبي ربيعة:
رأت رجلاً أيْما إذا الشمس عارضتْ فيَ ضْحَى وأيْما بالعشِيّ فَيخْصَرُ
قوله تعالى: {فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللّهُ بِهَـَذَا مَثَلاً} اختلف النحويون في «ماذا», فقيل: هي بمنزلة اسم واحد بمعنى أي شيء أراد الله فيكون في موضع نصب بـ «أراد». قال ابن كَيْسان: وهو الجيّد. وقيل: «ما» اسم تام في موضع رفع بالابتداء و «ذا» بمعنى الذي وهو خبر الابتداء, ويكون التقدير: ما الذي أراده الله بهذا مثلاً. ومعنى كلامهم هذا: الإنكار بلفظ الاستفهام. و «مَثَلاً» منصوب على القطع التقدير: أراد مثلاً قاله ثَعْلَب. وقال ابن كَيْسان: هو منصوب على التمييز الذي وقع موقع الحال.
قوله تعالى: {يُضِلّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا} قيل: هو من قول الكافرين أي ما مراد الله بهذا المَثل الذي يفرّق به الناس إلى ضلالة وإلى هُدًى. وقيل: بل هو خبر من الله عز وجل, وهو أشبه لأنهم يقرّون بالهُدَى أنه من عنده فالمعنى: قل يضل الله به كثيراً ويهدي به كثيراً أي يوفّق ويَخْذِل وعليه فيكون فيه ردّ على من تقدّم ذكرهم من المعتزلة وغيرهم في قولهم: إن الله لا يخلق الضلال ولا الهدى. قالوا: ومعنى «يُضِلّ بِهِ كَثِيراً» التسمية هنا, أي يسميه ضالاً كما يقال: فسّقت فلاناً, يعني سَمّيته فاسقا لأن الله تعالى لا يُضل أحداً. هذا طريقهم في الإضلال, وهو خلاف أقاويل المفسرين, وهو غير محتمل في اللغة لأنه يقال: ضَلّله إذا سمّاه ضالاّ ولا يقال: أضله إذا سماه ضالاً ولكن معناه ما ذكره المفسرون أهلُ التأويل من الحق أنه يخذل به كثيراً من الناس مجازاة لكفرهم. ولا خلاف أن قوله:
{وَمَا يُضِلّ بِهِ إِلاّ الْفَاسِقِينَ} أنه من قول الله تعالى. و«الفاسقين» نصب بوقوع الفعل عليهم, والتقدير: وما يُضل به أحداً إلا الفاسقين الذين سبق في علمه أنه لا يهديهم. ولا يجوز أن تنصبهم على الاستثناء لأن الاستثناء لا يكون إلا بعد تمام الكلام. وقال نَوْف البِكالِيّ: قال عزيز فيما يناجي ربّه عز وجلّ: إلهي تخلق خلقاً فتُضل من تشاء وتهدي من تشاء. قال فقيل: يا عزيز أعرض عن هذا! لتُعْرِضنّ عن هذا أو لأمْحُونك من النبوّة, إني لا اُسأل عما أفعل وهم يُسألون. والضلال أصله الهلاك يقال منه: ضلّ الماءُ في اللبن إذا استهلك ومنه قوله تعالى: {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرْضِ} (السجدة: 10) وقد تقدّم في الفاتحة. والفِسْق أصله في كلام العرب الخروج عن الشيء يقال فَسَقتِ الرّطَبة إذا خرجت عن قشرها والفأرة من جُحْرها. والفُوَيْسِقة: الفأرة وفي الحديث: «خمسٌ فواسِقُ يُقْتَلْنَ في الحِلّ والحَرَم الحيّة والغراب الأبقعُ والفأرة والكلب العَقُور والحُدَيّا». روته عائشة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم, أخرجه مسلم. وفي رواية «العقرب» مكان «الحية». فأطلق صلى الله عليه وسلم عليها اسم الفسق لأذّيتها على ما يأتي بيانه في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. وفَسَق الرجل يَفْسِقُ أيضاً ـ عن الأخفش ـ فسْقاً وفُسوقاً أي فَجَر. فأمّا قوله تعالى: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ} (الكهف: 50) فمعناه خرج. وزعم ابن الأعرابي أنه لم يسمع قط في كلام الجاهلية ولا في شعرهم فاسق. قال: وهذا عجب, وهو كلام عربيّ حكاه عنه ابن فارس والجوهري.
قلت: وقد ذكر أبو بكر الأنباري في كتاب «الزاهر» له لما تكلم على معنى الفسق قول الشاعر:
يَذْهَبْنَ في نَجْدٍ وغَوْراً غائراً فواسقاً عن قَصْدها جَوائرا
والفِسّيق: الدائم الفسق. ويقال في النداء: يا فُسَقُ ويا خُبَثُ, يريد: يأيها الفاسق, ويأيها الخبيث. والفِسْق في عُرْف الاستعمال الشرعي: الخروج من طاعة الله عز وجل, فقد يقع على من خرج بكُفْر وعلى من خرج بعصيان.

قوله تعالى:
{الّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولَـَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}.
 فيه سبع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {الّذِينَ} «الّذين» في موضع نصب على النّعت للفاسقين, وإن شئت جعلته في موضع رفع على أنه خبر ابتداء محذوف أي هم الذين. وقد تقدّم.
الثانية: قوله تعالى: {يَنقُضُونَ} النّقض: إفساد ما أبرمته من بناء أو حبل أو عهد. والنّقاضة. ما نُقض من حبل الشّعر. والمُناقضة في القول: أن تتكلم بما تناقض معناه. والنّقِيضة في الشّعر: ما يُنْقَض به. والنّقْض به. والنّقْض: المنقوض. واختلف الناس في تعيين هذا العهد فقيل: هو الذي أخذه الله على بني آدم حين استخرجهم من ظهره. وقيل: هو وصية الله تعالى إلى خلقه, وأمْرُه إيّاهم بما أمرهم به من طاعته, ونَهْيُه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه على ألسنة رسله ونقضهم ذلك ترك العمل به. وقيل: بل نَصْب الأدلة على وحدانيّته بالسموات والأرض وسائر الصنعة هو بمنزلة العهد ونقضهم ترك النظر في ذلك. وقيل: هو ما عهده إلى من أوتي الكتاب أن يبينوا نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ولا يكتموا أمره. فالآية على هذا في أهل الكتاب. قال أبو إسحاق الزجاج: عهده جل وعز ما أخذه على النبّيين ومن اتبعهم ألا يكفروا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم. ودليل ذلك: {وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النّبِيّيْنَ} إلى قوله تعالى: {وَأَخَذْتُمْ عَلَىَ ذَلِكُمْ إِصْرِي} (آل عمران: 81) أي عهدي.
قلت: وظاهر ما قبلُ وما بعدُ يدّل على أنها في الكفار. فهذه خمسة أقوال والقول الثاني يجمعها.
الثالثة: قوله تعالى: {مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ} الميثاق: العهد المؤكّد باليمين مِفعال من الوثاقة والمعاهدة, وهي الشدّة في العقد والربط ونحوه. والجمع المواثيق على الأصل لأن أصل مِيثاق مِوْثاق, صارت الواو ياء لانكسار ما قبلها ـ والمياثق والمياثيق أيضاً وأنشد ابن الأعرابي:
حِمىً لا يُحَلّ الدهرَ إلا بإذننا ولا نسأل الأقوامَ عَهْدَ المياثِقِ
والمَوْثق: المِيثاق. والمواثقة: المعاهدة ومنه قوله تعالى: {وَمِيثَاقَهُ الّذِي وَاثَقَكُم بِهِ}
الرابعة: قوله تعالى: {وَيَقْطَعُونَ} القطع معروف, والمصدر ـ في الرّحِم ـ القطيعة يقال: قَطَع رَحِمه قَطِيعة فهو رجل قُطَعٌ وقُطَعَة مثال هُمَزة. وقَطَعت الحبل قطعاً. وقَطَعت النهر قُطُوعا. وَقَطَعتِ الطيرُ قُطوعا وقُطَاعاً وقِطَاعاً إذا خرجت من بلد إلى بلد. وأصاب الناسَ قُطْعَةٌ: إذا قَلّت مياههم. ورجل به قُطْعٌ: أي انبهار.
الخامسة: قوله تعالى: {مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ} «ما» في موضع نصب بـ «يَقْطَعُون». و«أنْ» إن شئت كانت بدلاً من «ما» وإن شئت من الهاء في «به» وهو أحسن. ويجوز أن يكون لئلا يوصل أي كراهة أن يوصل. واختلف ما الشيء الذي أمَر بوصله؟ فقيل: صلة الأرحام. وقيل: أمر أن يوصل القول بالعمل فقطعوا بينهما بأن قالوا ولم يعملوا. وقيل: الإشارة إلى دين الله وعبادته في الأرض, وإقامة شرائعه وحفظ حدوده. فهي عامة في كل ما أمر الله تعالى به أن يوصل. هذا قول الجمهور والرّحِم جزء من هذا.
السادسة: قوله تعالى: {وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ} أي يعبدون غير الله تعالى ويجورون في الأفعال, إذ هي بحسب شهواتهم وهذا غاية الفساد.
{أُولَـَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} ابتداء وخبر. و«هم» زائدة ويجوز أن تكون «هم» ابتداء ثانٍ, «الخاسرون» خبره, والثاني وخبره خبر الأوّل كما تقدّم. والخاسر: الذي نقص نفسه حَظّها من الفلاح والفَوْز. والخُسْران: النقصان, كان في ميزان أو غيره قال جَرير:
إن سَلِيطاً في الخَسَار إنّهُ أولادُ قَومٍ خُلِقوا أقِنّهْ
يعني بالخَسَار ما ينقص من حظوظهم وشرفهم. قال الجوهري: وَخَسرت الشيء (بالفتح) وأخسرته نقصته. والخَسَار والخَسَارة والخَيْسَرَى: الضلال والهلاك. فقيل للهالك: خاسر لأنه خسر نفسه وأهله يوم القيامة ومُنع منزله من الجنة.
السابعة: في هذه الآية دليل على أن الوفاء بالعهد والتزامه وكل عهدٍ جائز ألزمه المرء نفسه فلا يحل له نقضه سواء أكان بين مسلم أم غيره لذمّ الله تعالى مَن نقض عهده. وقد قال: {أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} (المائدة: 1) وقد قال لنبيّه عليه السلام: {وَإِمّا تَخَافَنّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىَ سَوَآءٍ} (الأنفال: 58) فنهاه عن الغَدْر, وذلك لا يكون إلا بنقض العهد على ما يأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.

 قوله تعالى:
{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمّ يُمِيتُكُمْ ثُمّ يُحْيِيكُمْ ثُمّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
«كيف» سؤال عن الحال, وهي اسم في موضع نصب بـ «تَكْفُرُونَ», وهي مبنيّة على الفتح وكان سبيلها أن تكون ساكنة لأن فيها معنى الاستفهام الذي معناه التعجب فأشبهت الحروف, واختير لها الفتح لخفته أي هؤلاء ممن يجب أن يتعجّب منهم حين كفروا وقد ثبتت عليهم الحجة.
فإن قيل: كيف يجوز أن يكون هذا الخطاب لأهل الكتاب وهم لم يكفروا بالله؟ فالجواب ما سبق من أنهم لما لم يثبتوا أمر محمد عليه السلام ولم يصدّقوه فيما جاء به فقد أشركوا لأنهم لم يقرّوا بأن القرآن من عند الله. ومن زعم أن القرآن كلام البشر فقد أشرك بالله وصار ناقضاً للعهد. وقيل: «كيف» لفظه لفظ الاستفهام وليس به, بل هو تقرير وتوبيخ أي كيف تكفرون نعمه عليكم وقدرته هذه! قال الواسطيّ: وبّخهم بهذا غاية التوبيخ لأن المَوَات والجماد لا ينازع صانعه في شيء, وإنما المنازعة من الهياكل الروحانية.
قوله تعالى: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً} هذه الواو واو الحال, وقد مضمرة. قال الزجاج: التقدير وقد كنتم, ثم حذفت قد. وقال الفرّاء: «أمواتاً» خبر «كنتم».
{لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لّقُضِيَ الأمْرُ ثُمّ لاَ يُنظَرُونَ} هذا وقف التمام كذا قال أبو حاتم. ثم قال: {ثُمّ يُحْيِيكُمْ}. واختلف أهل التأويل في ترتيب هاتين الموتتين والحياتين, وكم من مَوْتة وحياة للإنسان؟ فقال ابن عباس وابن مسعود: أي كنتم أمواتاً معدومين قبل أن تُخلقوا فأحياكم ـ أي خلقكم ـ ثم يميتكم عند انقضاء آجالكم, ثم يحييكم يوم القيامة. قال ابن عطية: وهذا القول هو المراد بالآية, وهو الذي لا مَحِيد للكفار عنه لإقرارهم بهما وإذا أذعنتْ نفوس الكفار لكونهم أمواتاً معدومين, ثم للإحياء في الدنيا, ثم للإماتة فيها قَوِي عليهم لزوم الإحياء الاَخر وجاء جحدهم له دعوى لا حجة عليها. قال غيره: والحياة التي تكون في القبر على هذا التأويل في حكم حياة الدنيا. وقيل: لم يعتدّ بها كما لم يعتدّ بموت من أماته في الدنيا ثم أحياه في الدنيا. وقيل: كنتم أمواتاً في ظهر آدم, ثم أخرجكم من ظهره كالذرّ, ثم يميتكم موت الدنيا ثم يبعثكم. وقيل {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً}: ـ أي نُطَفاً ـ في أصلاب الرجال وأرحام النساء, ثم نقلكم من الأرحام فأحياكم, ثم يميتكم بعد هذه الحياة, ثم يحييكم في القبر للمسألة, ثم يميتكم في القبر, ثم يحييكم حياة النشر إلى الحشر وهي الحياة التي ليس بعدها موت.
قلت: فعلى هذا التأويل هي ثلاث موتات, وثلاث إحياءات. وكونهم موتى في ظهر آدم, وإخراجهم من ظهره والشهادة عليهم غير كونهم نُطَفاً في أصلاب الرجال وأرحام النساء فعلى هذا تجيء أربع موتات وأربع إحياءات. وقد قيل: إن الله تعالى أوجدهم قبل خلق آدم عليه السلام كالهباء ثم أماتهم فيكون على هذا خمس موتات, وخمس إحياءات. وموتة سادسة للعصاة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إذا دخلوا النار لحديث أبي سعيد الخُدْرِيّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمّا أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يَحيْون ولكنْ ناسٌ أصابتهم النارُ بذنوبهم ـ أو قال بخطاياهم ـ فأماتهم الله إماتةً حتى إذا كانوا فَحْماً أذِن في الشفاعة فجيء بهم ضَبَائِرَ ضَبَائِرَ فَبُثّوا على أنهار الجنة ثم قيل يأهل الجنة أفيضوا عليهم فَيَنْبُتُون نباتَ الحِبة تكون في حَمِيل السّيْل». فقال رجل من القوم: كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان بالبادية. أخرجه مسلم.
قلت: فقوله «فأماتهم الله» حقيقة في الموت لأنه أكّده بالمصدر, وذلك تكريماً لهم. وقيل: يجوز أنْ يكون «أماتهم» عبارة عن تغييبهم عن آلامها بالنوم, ولا يكون ذلك موتاً على الحقيقة والأوّل أصح. وقد أجمع النحويون على أنك إذا أكدت الفعل بالمصدر لم يكن مجازاً, وإنما هو على الحقيقة ومثله: {وَكَلّمَ اللّهُ مُوسَىَ تَكْلِيماً} (النساء: 164) على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وقيل: المعنى وكنتم أمواتاً بالخمول فأحياكم بأن ذُكِرتم وشُرّفتم بهذا الدّين والنبيّ الذي جاءكم, ثم يميتكم فيموت ذِكْرُكم, ثم يحييكم للبعث.
قوله تعالى: {ثُمّ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي إلى عذابه مرجعكم لكفركم. وقيل: إلى الحياة وإلى المسألة كما قال تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوّلَ خَلْقٍ نّعِيدُهُ} (الأنبياء: 104) فإعادتهم كابتدائهم فهو رجوع. و «تُرْجَعُونَ» قراءة الجماعة. ويحيى بن يَعْمر وابن أبي إسحاق ومجاهد وابن مُحَيْصِن وسلام بن يعقوب يفتحون حرف المضارعة ويكسرون الجيم حيث وقعت.

 قوله تعالى:
{هُوَ الّذِي خَلَقَ لَكُمْ مّا فِي الأرْضِ جَمِيعاً ثُمّ اسْتَوَىَ إِلَى السّمَاءِ فَسَوّاهُنّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
        قوله تعالى: {هُوَ الّذِي خَلَقَ لَكُمْ مّا فِي الأرْضِ جَمِيعاً} فيه عشر مسائل:
الأولى: {خَلَقَ} معناه اخترع وأوْجَد بعد العَدَم. وقد يقال في الإنسان: «خَلَق» عند إنشائه شيئاً ومنه قول الشاعر:
مَن كان يَخْلُق ما يقول فحِيلَتي فيه قَلِيلَهْ
وقد تقدّم هذا المعنى. وقال ابن كَيْسان: {خَلَقَ لَكُمْ} أي من أجلكم. وقيل: المعنى أن جميع ما في الأرض مُنْعَم به عليكم فهو لكم. وقيل: إنه دليل على التوحيد والاعتبار.
قلت: وهذا هو الصحيح على ما نبيّنه. ويجوز أن يكون عنى به ما هم إليه محتاجون من جميع الأشياء.
الثانية: استدل من قال إن أصل الأشياء التي يُنتفع بها الإباحة بهذه الآية وما كان مثلها ـ كقوله: {وَسَخّرَ لَكُمْ مّا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعاً مّنْهُ} (الجاثية: 13) الآية ـ حتى يقوم الدليل على الحظر. وعَضَدُوا هذا بأن قالوا: إن المآكل الشهية خُلِقت مع إمكان ألا تُخلق فلم تُخلق عبثاً فلا بُدّ لها من منفعة. وتلك المنفعة لا يصح رجوعها إلى الله تعالى لاستغنائه بذاته, فهي راجعة إلينا. ومنفعتنا إمّا في نيل لذّتها, أو في اجتنابها لنُختبَر بذلك, أو في اعتبارنا بها. ولا يحصل شيء من تلك الأمور إلا بذوقها فلزم أن تكون مباحة. وهذا فاسد لأنّا لا نسلّم لزوم العبث من خلقها إلا لمنفعة, بل خلقها كذلك لأنه لا يجب عليه أصل المنفعة, بل هو الموجب. ولا نسلّم حصر المنفعة فيما ذكروه, ولا حصول بعض تلك المنافع إلا بالذوق, بل قد يُستدلّ على الطعوم بأمور اُخَر كما هو معروف عند الطبائعيين. ثم هو معارَض بما يخاف أن تكون سموماً مهلكة, ومعارضون بشبهات أصحاب الحظر. وتوقّف آخرون وقالوا: ما مِن فعل لا ندرك منه حُسْناً ولا قُبْحاً إلا ويمكن أن يكون حَسَناً في نفسه ولا مُعيّن قبل ورود الشرع, فتعيّن الوقف إلى ورود الشرع. وهذه الأقاويل الثلاثة للمعتزلة. وقد أطلق الشيخ أبو الحسن وأصحابُه وأكثرُ المالكية والصّيرفِيّ في هذه المسألة القول بالوقف. ومعناه عندهم أن لا حكم فيها في تلك الحال, وأن للشرع إذا جاء أن يحكم بما شاء, وأن العقل لا يحكم بوجوبٍ ولا غيره, وإنما حَظّه تَعَرّف الأمور على ما هي عليه. قال ابن عطية: وحكى ابن فُورَك عن ابن الصائغ أنه قال: لم يَخْلُ العقل قطّ من السمع, ولا نازلة إلا وفيها سَمْع, أوْلها تعلّق به, أو لها حالٌ تُستصحَب. قال: فينبغي أن يُعتمد على هذا, ويغني عن النظر في حظر وإباحة ووقف.
الثالثة: الصحيح في معنى قوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مّا فِي الأرْضِ} الاعتبار. يدلّ عليه ما قبله وما بعده من نصب العِبَر: الإحياء والإماتة والخلق والاستواء إلى السماء وتسويتها أي الذي قَدَر على إحيائكم وخَلْقِكم وخلقِ السّموات والأرض, لا تبعد منه القدرة على الإعادة.
فإن قيل: إن معنى «لكم» الانتفاع أي لتنتفعوا بجميع ذلك قلنا: المراد بالانتفاع الاعتبار لمَا ذكرنا. فإن قيل: وأي اعتبار في العقارب والحيّات قلنا: قد يتذكّر الإنسان ببعض ما يرى من المؤذيات ما أعدّ الله للكفار في النار من العقوبات فيكون سبباً للإيمان وترك المعاصي وذلك أعظم الاعتبار. قال ابن العربيّ: وليس في الإخبار بهذه القدرة عن هذه الجملة ما يقتضي حظراً ولا إباحةً ولا وقفاً وإنما جاء ذكر هذه الآية في معرض الدلالة والتنبيه ليستدل بها على وحدانيته.
وقال أرباب المعاني في قوله: {خَلَقَ لَكُمْ مّا فِي الأرْضِ جَمِيعاً} لتتقَوّوْا به على طاعته, لا لتصرفوه في وجوه معصيته. وقال أبو عثمان: وَهَبَ لك الكلّ وسخّره لك لتستدلّ به على سَعة جُوده, وتَسْكُن إلى ما ضمن لك من جزيل عطائه في المعاد, ولا تستكثر كثير بِرّه على قليل عملك فقد ابتدأك بعظيم النّعم قبل العمل وهو التوحيد.
الرابعة: روى زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يُعْطِيَه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما عندي شيء ولكن ابتع عليّ فإذا جاء شيء قضينا» فقال له عمر: هذا أعطيت إذا كان عندك فما كلفك الله ما لا تقدر. فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قول عمر فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالا. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم, وعُرف السرور في وجهه لقول الأنصاري. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بذلك أمرت». قال علماؤنا رحمة الله عليهم: فخوف الإقلال من سوء الظن بالله لأن الله تعالى خلق الأرض بما فيها لولد آدم وقال في تنزيله: {خَلَقَ لَكُمْ مّا فِي الأرْضِ جَمِيعاً} (البقرة: 29), {وَسَخّرَ لَكُمْ مّا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعاً مّنْهُ} (الجاثية: 13). فهذه الأشياء كلها مسخّرة للآدمي قَطْعاً لعذره وحجة عليه, ليكون له عبداً كما خلقه عبداً فإذا كان العبد حسن الظن بالله لم يخف الإقلال لأنه يخلف عليه كما قال تعالى: {وَمَآ أَنفَقْتُمْ مّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ} (سبأ: 39) وقال: {فَإِنّ رَبّي غَنِيّ كَرِيمٌ} (النمل: 40), وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: «سَبقتْ رحمتي غضبي يا بن آدم أنْفِق اُنْفِق عليك يَمينُ الله ملأى سَحّا لاَ يغيضها شيءٌ الليلَ والنهارَ». وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من يوم يُصبح العبادُ فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما اللّهُمّ أعْطِ مُنْفقاً خَلَفاً ويقول الاَخر اللّهُمّ أعْط مُمْسكاً تَلَفاً». وكذا في المساء عند الغروب يناديان أيضاً وهذا كله صحيح رواه الأئمة والحمد لله. فمن استنار صدره, وعلم غني ربّه وكرمه أنفق ولم يخف الإقلال وكذلك من ماتت شهواته عن الدنيا واجتزأ باليسير من القوت المقيم لمهجته, وانقطعت مشيئته لنفسه فهذا يعطي من يُسره وعسره ولا يخاف إقلالاً. وإنما يخاف الإقلال من له مشيئة في الأشياء فإذا أعطى اليوم وله غدا مشيئة في شيء خاف ألا يصيب غدا, فيضيّق عليه الأمر في نفقة اليوم لمخافة إقلاله. روى مسلم عن أسماء بنت أبي بكر قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انْفَحِي أو انْضَحِي أو أنفقي ولا تُحصِي فيُحصِيَ الله عليكِ ولا تُوعِي فيُوعِي الله عليك». وروى النسائي عن عائشة قالت: دخل عليّ سائل مرة وعندي رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأمرت له بشيء ثم دعوت به فنظرت إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما تريدين ألا يدخل بيتك شيء ولا يخرج إلا بعلمك» قلت: نعم قال: «مَهْلاً يا عائشة لا تُحْصي فيُحصي الله عزّ وجلّ عليك».
الخامسة: قوله تعالى: {ثُمّ اسْتَوَىَ} «ثم» لترتيب الإخبار لا لترتيب الأمر في نفسه. والاستواء في اللغة: الارتفاع والعلوّ على الشيء قال الله تعالى: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} (المؤمنون: 28), وقال {لِتَسْتَوُواْ عَلَىَ ظُهُورِهِ} (الزخرف: 13), وقال الشاعر:
فأوردتهم ماء بفَيْفاء قَفرة وقد حلّق النجم اليمانيّ فاستوى
أي ارتفع وعلا, واستوت الشمس على رأسي واستوت الطير على قِمّة رأسي, بمعنى علا. وهذه الآية من المشكلات, والناس فيها وفيما شاكلها على ثلاثة أوجه, قال بعضهم: نقرؤها ونؤمن بها ولا نفسرها وذهب إليه كثير من الأئمة, وهذا كما روي عن مالك رحمه الله أن رجلاً سأله عن قوله تعالى: {الرّحْمَـَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىَ} (طه: 5) قال مالك: الاستواء غير مجهول, والكيف غير معقول, والإيمان به واجب, والسؤال عنه بدعة, وأراك رجل سَوْء! أخرجوه. وقال بعضهم: نقرؤها ونفسّرها على ما يحتمله ظاهر اللغة. وهذا قول المشبّهة. وقال بعضهم: نقرؤها ونتأوّلها ونُحيل حَمْلها على ظاهرها. وقال الفرّاء في قوله عزّ وجلّ: {ثُمّ اسْتَوَىَ إِلَى السّمَاءِ فَسَوّاهُنّ} قال: الاستواء في كلام العرب على وجهين, أحدهما: أن يَسْتَوِي الرجل وينتهي شبابه وقوته, أو يستوي عن اعوجاج. فهذان وجهان. ووجه ثالث أن تقول: كان فلان مقبلاً على فلان ثم استوى عليّ وإليّ يشاتمني. على معنى أقبل إليّ وعليّ. فهذا معنى قوله: {ثُمّ اسْتَوَىَ إِلَى السّمَاءِ} والله أعلم. قال وقد قال ابن عباس: ثم استوى إلى السماء صعِد. وهذا كقولك: كان قاعداً فاستوى قائماً, وكان قائماً فاستوى قاعداً وكل ذلك في كلام العرب جائز. وقال البيهقي أبو بكر أحمد بن عليّ بن الحسين: قوله: «استوى» بمعنى أقبل صحيح, لأن الإقبال هو القصد إلى خلق السماء والقصد هو الإرادة, وذلك جائز في صفات الله تعالى. ولفظة «ثم» تتعلق بالخلق لا بالإرادة. وأما ما حكي عن ابن عباس فإنما أخذه عن تفسير الكلبيّ, والكلبيّ ضعيف. وقال سفيان بن عُيينة وابن كَيسان في قوله: {ثُمّ اسْتَوَىَ إِلَى السّمَاءِ}: قصد إليها, أي بخلقه واختراعه, فهذا قول. وقيل: على دون تكييف ولا تحديد واختاره الطبري. ويُذكر عن أبي العالية الرّياحيّ في هذه الآية أنه يقال: استوى بمعنى أنه ارتفع. قال البيهقي: ومراده من ذلك ـ والله أعلم ـ ارتفاع أمره, وهو بخار الماء الذي وقع منه خلق السماء. وقيل: إن المستوى الدخان. وقال ابن عطية: وهذا يأباه وصف الكلام. وقيل: المعنى استولى كما قال الشاعر:
قد اسْتَوَى بِشْرٌ على العِراق      مِن غيرِ سَيْفٍ ودَمٍ مُهْراق
قال ابن عطية: وهذا إنما يجيء في قوله تعالى: {أَأَنتُمْ أَشَدّ خَلْقاً أَمِ السّمَاءُ بَنَاهَا}.
قلت: قد تقدّم في قول الفرّاء عليّ وإليّ بمعنىً. وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في سورة «الأعراف» إن شاء الله تعالى. والقاعدة في هذه الآية ونحوها منع الحركة والنقلة.
السادسة: يظهر من هذه الآية أنه سبحانه خلق الأرض قبل السماء وكذلك في «حم السجدة». وقال في النازعات: {أَأَنتُمْ أَشَدّ خَلْقاً أَمِ السّمَاءُ بَنَاهَا} (النازعات: 27) فوصف خلقها ثم قال: {وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} (النازعات: 30). فكأن السماء على هذا خلقت قبل الأرض وقال تعالى: {الْحَمْدُ للّهِ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ} (الأنعام: 1) وهذا قول قتادة: إن السماء خلقت أوّلاً حكاه عنه الطبريّ. وقال مجاهد وغيره من المفسرين: إنه تعالى أيبس الماء الذي كان عرشه عليه, فجعله أرضاً وثار منه دخان فارتفع فجعله سماء فصار خلق الأرض قبل خلق السماء, ثم قصد أمره إلى السماء فسوّاهنّ سبع سموات, ثم دحا الأرض بعد ذلك, وكانت إذ خلقها غير مَدْحُوّة.
قلت: وقول قتادة يخرج على وجه صحيح إن شاء الله تعالى, وهو أن الله تعالى خلق أوّلاً دخان السماء ثم خلق الأرض, ثم استوى إلى السماء وهي دخان فسوّاها, ثم دحا الأرض بعد ذلك.
ومما يدل على أن الدخان خلق أوّلاً قبل الأرض ما رواه السّدّي عن أبي مالك, وعن أبي صالح عن ابن عباس, وعن مُرّة الهَمْدانيّ عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله عزّ وجلّ: {هُوَ الّذِي خَلَقَ لَكُمْ مّا فِي الأرْضِ جَمِيعاً ثُمّ اسْتَوَىَ إِلَى السّمَاءِ فَسَوّاهُنّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} قال: إن الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء ولم يخلق شيئاً قبل الماء فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخاناً فارتفع فوق الماء, فسَما عليه, فسمّاه سماء ثم أيبس الماء فجعله أرضاً واحدة, ثم فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين, في الأوحد والاثنين. فجعل الأرض على حُوت ـ والحُوت هو النّون الذي ذكر الله تبارك وتعالى في القرآن بقوله: {نَ وَالْقَلَمِ} والحوت في الماء و (الماء) على صَفاة, والصفاة على ظهر ملَك, والملَك على الصخرة, والصخرة في الريح ـ وهي الصخرة التي ذكر لقمان: ليست في السماء ولا في الأرض فتحرّك الحوت فاضطرب فتزلزلت الأرض فأرسل عليها الجبال فقرّت فالجبال تفخر على الأرض, وذلك قوله تعالى: {وَأَلْقَىَ فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} (النحل: 15) وخلق الجبال فيها, وأقوات أهلها وشجرها, وما ينبغي لها في يومين, في الثلاثاء والأربعاء, وذلك حين يقول: {قُلْ أَإِنّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِيَ أَرْبَعَةِ أَيّامٍ سَوَآءً لّلسّائِلِينَ} (فصلت: 9 ـ 10) يقول: من سأل فهكذا الأمر, {ثُمّ اسْتَوَىَ إِلَى السّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} (فصلت: 12) وكان ذلك الدخان من تنفّس الماء حين تنفّس فجعلها سماء واحدة, ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين, في الخميس والجمعة وإنما سُمّي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض, {وَأَوْحَىَ فِي كُلّ سَمَاءٍ} (فصلت: 12) قال: خلق في كل سماء خَلْقها من الملائكة والخلق الذي فيها من البحار وجبال البَرَد وما لا يُعلم ثم زَيّن السماء الدنيا بالكواكب, فجعلها زِينة وحِفْظاً تحفظ من الشياطين. فلما فرغ من خلق ما أحب استوى على العرش قال فذلك حين يقول: {خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتّةِ أَيّامٍ} (الحديد: 4) (الأعراف: 54) ويقول: {كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا} (الأنبياء: 30) وذكر القصة في خلق آدم عليه السلام على ما يأتي بيانه في هذه السورة إن شاء الله تعالى. وروى وَكِيع عن الأعمش عن أبي ظَبْيان عن ابن عباس قال: إن أوّل ما خلق الله عز وجل من شيء «القلم» فقال له اكتب. فقال: يا ربّ وما أكتب؟ قال: اكتب القَدَر. فجرى بما هو كائن من ذلك اليوم إلى قيام الساعة. قال: ثم خلق النّونَ فدحا الأرض عليها, فارتفع بخار الماء ففتق منه السموات واضطرب النّونُ فمادت الأرض فاُثبت بالجبال فإن الجبال تَفْخَر على الأرض إلى يوم القيامة. ففي هذه الرواية خلق الأرض قبل ارتفاع بخار الماء الذي هو الدخان خلاف الرواية الأولى. والرواية الأولى عنه وعن غيره أوْلَى لقوله تعالى: {وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} (النازعات: 30) والله أعلم بما فعل فقد اختلفت فيه الأقاويل, وليس للاجتهاد فيه مدخل.
وذكر أبو نعيم عن كعب الأحبار أن إبليس تغلغل إلى الحُوت الذي على ظهره الأرض كلها, فألقى في قلبه, فقال: هل تدري ما على ظهرك يا لوثيا من الأمم والشجر والدواب والناس والجبال! لو نفضتَهم ألقيتَهم عن ظهرك أجمع. قال: فهمّ لوثيا بفعل ذلك فبعث الله دابة فدخلت في منخره فعجّ إلى الله منها فخرجت. قال كعب: والذي نفسي بيده, إنه لينظر إليها بين يديه وتنظر إليه إن هم بشيء من ذلك عادت حيث كانت.
السابعة: أصل خلق الأشياء كلّها من الماء لما رواه ابن ماجة في سننه, وأبو حاتم البُسْتِيّ في صحيح مسنده عن أبي هريرة قال: قلت: يا رسول الله, إذا رأيتك طابت نفسي وقرّت عيني, أنبِئْني عن كل شيء. قال: «كل شيء خُلق من الماء» فقلت: أخبرني عن شيء إذا عملتُ به دخلتُ الجنة. قال: «أطعِم الطعام وأفِش السّلام وصِلِ الأرحام وقُم الليل والناسُ نيام تدخل الجنة بسلام». قال أبو حاتم قولُ أبي هريرة: «أنبِئْني عن كل شيء» أراد به عن كل شيء خُلق من الماء. والدليل على صحة هذا جواب المصطفى عليه السلام إياه حيث قال: «كل شيء خلق من الماء» وإن لم يكن مخلوقاً. وروى سعيد بن جُبير عن ابن عباس أنه كان يحدّث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أوّل شيء خلقه الله القَلم وأمره فكتب كلّ شيء يكون». ويروى ذلك أيضاً عن عُبَادة بن الصّامت مرفوعاً. قال البيهقي: وإنما أراد ـ والله أعلم ـ أوّل شيء خلقه بعد خلق الماء والريح والعرش «القلم». وذلك بين في حديث عِمران بن حُصين «ثم خلق السموات والأرض». وذكر عبد الرزاق بن عمر بن حبيب المكي عن حُميد بن قيس الأعرج عن طاوس قال: جاء رجل إلى عبد اللّه بن عمرو بن العاص فسأله: مِمّ خُلق الخلق؟ قال: من الماء والنور والظلمة والريح والتراب. قال الرجل: فمِمّ خُلق هؤلاء؟ قال: لا أدري. قال: ثم أتى الرجل عبد اللّه بن الزبير فسأله فقال مثل قول عبد اللّه بن عمرو. قال: فأتى الرجلُ عبدَ اللّه بن عباس فسأله فقال: مِمّ خُلق الخلق؟ قال: من الماء والنور والظلمة والريح والتراب. قال الرجل: فمِمّ خلق هؤلاء؟ فتلا عبد اللّه بن عباس: {وَسَخّرَ لَكُمْ مّا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعاً مّنْهُ} (الجاثية: 13) فقال الرجل: ما كان ليأتي بهذا إلا رجل من أهل بيت النبيّ صلى الله عليه وسلم. قال البيهقي: أراد أن مصدر الجميع منه, أي من خلقه وإبداعه واختراعه. خلق الماء أوّلاً, أو الماء وما شاء من خلقه, لا عن أصل ولا على مثال سبق, ثم جعله أصلاً لما خلق بعدُ فهو المبدع وهو البارىء لا إلَه غيره ولا خالق سواه, سبحانه جلّ وعزّ.
الثامنة: قوله تعالى: {فَسَوّاهُنّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} ذكر تعالى أن السموات سبع. ولم يأت للأرض في التنزيل عدد صريح لا يحتمل التأويل إلا قوله تعالى: {وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنّ} (الطلاق: 12) وقد اختلف فيه فقيل: ومن الأرض مثلهن أي في العدد لأن الكيفية والصفة مختلفة بالمشاهدة والأخبار فتعيّن العدد. وقيل: {وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنّ} (الطلاق: 12) أي في غلظهن وما بينهنّ. وقيل: هي سبع إلا أنه لم يفتق بعضها من بعض قاله الدّاوُدِي. والصحيح الأوّل وأنها سبع كالسموات سبع. روى مسلم عن سعيد بن زيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أخذ شبراً من الأرض ظُلْماً طُوّقه إلى سبع أرضين». وعن عائشة رضي الله عنها مثله, إلا أن فيه «من» بدل «إلى». ومن حديث أبي هريرة: «لا يأخذ أحدٌ شبراً من الأرض بغير حقّه إلا طَوّقه الله إلى سبع أرضين (يوم القيامة)». وروى النسائي عن أبي سعيد الخُدْرِي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال موسى عليه السلام: يا ربّ علّمني شيئاً أذكرك به وأدعوك به قال يا موسى قل لا إلَه إلا الله قال موسى يا ربّ كل عبادك يقول هذا قال قل لا إلَه إلا الله قال لا إلَه إلا أنت إنما أريد شيئاً تخصّني به قال يا موسى: لو أنّ السموات السّبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كِفّة ولا إلَه إلا الله في كِفّة مالت بهنّ لا إلَه إلا الله». وروى الترمذيّ عن أبي هريرة قال: بينما نبيّ الله صلى الله عليه وسلم جالس وأصحابه إذ أتى عليهم سحاب فقال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم: «هل تدرون ما هذا» فقالوا: الله ورسوله أعلم قال: «هذا العَنان هذه روايا الأرض يسوقه الله إلى قوم لا يشكرونه ولا يدْعونه ـ قال ـ هل تدرون ما فوقكم» قالوا: الله ورسوله أعلم قال: «فإنها الرّقيع سقفٌ محفوظ ومَوْج مكفوف ـ ثم قال ـ هل تدرون كم بينكم وبينها» قالوا: الله ورسوله أعلم قال: «بينكم وبينها (مسيرة) خمسمائة عام ـ ثم قال: ـ هل تدرون ما فوق ذلك» قالوا: الله ورسوله أعلم قال: «(فإن فوق ذلك) سماءين بُعْدُ ما بينهما (مسيرة) خمسمائة سنة» ثم قال كذلك حتى عدّ سبع سموات ما بين كل سماءين ما بين السماء والأرض. ثم قال: «هل تدرون ما فوق ذلك» قالوا: الله ورسوله أعلم قال «فإن فوق ذلك العرش وبينه وبين السماء بُعْدُ ما بين السماءين ـ ثم قال: ـ هل تدرون ما الذي تحتكم» قالوا: الله ورسوله أعلم قال: «فإنها الأرض ـ ثم قال: ـ هل تدرون ما تحت ذلك» قالوا: الله ورسوله أعلم قال: «فإن تحتها الأرض الأخرى بينهما مسيرة خمسمائة سنة» حتى عدّ سبع أرضين, بين كل أرضين مسيرة خمسمائة سنة ثم قال: «والذي نفس محمد بيده لو أنكم دُليتم بحبل إلى الأرض السّفلى لهبط على الله ـ ثم قرأ ـ {هُوَ الأوّلُ وَالاَخِرُ وَالظّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. قال أبو عيسى: قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية تدل على أنه أراد: لهبط على عِلْم الله وقدرته وسلطانه (علم الله وقدرته وسلطانه) في كل مكان وهو على عرشه كما وصف نفسه في كتابه. قال: هذا حديث غريب, والحسن لم يسمع من أبي هريرة. والاَثار بأن الأرضين سبع كثيرة وفيما ذكرنا كفاية. وقد روى أبو الضّحى ـ واسمه مسلم ـ عن ابن عباس أنه قال: {اللّهُ الّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنّ} قال: سبع أرضين في كل أرض نبيّ كنبيّكم, وآدم كآدم, ونوح كنوح, وإبراهيم كإبراهيم, وعيسى كعيسى. قال البيهقي: إسناد هذا عن ابن عباس صحيح, وهو شاذّ بمرّة لا أعلم لأبي الضّحَا عليه دليلا والله أعلم.
التاسعة: قوله تعالى: {هُوَ الّذِي خَلَقَ لَكُمْ مّا فِي الأرْضِ} ابتداء وخبر. «ما» في موضع نصب. {جَمِيعاً} عند سيبويه نصب على الحال. {ثُمّ اسْتَوَىَ} أهل نَجْد يُميلون ليدّلوا على أنه من ذوات الياء, وأهل الحجاز يفخّمون. {سَبْعَ} منصوب على البدل من الهاء والنون أي فسوّى سبع سموات. ويجوز أن يكون مفعولا على تقدير يسوّي بينهنّ سبع سموات كما قال الله جل وعز: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً} أي من قومه قاله النحاس. وقال الأخفش: انتصب على الحال. {وَهُوَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ابتداء وخبر. والأصل في «هو» تحريك الهاء, والإسكان استخفاف.
والسماء تكون واحدة مؤنّثة مثل عَنان, وتذكيرها شاذّ وتكون جمعا لسماوة في قول الأخفش, وسماءة في قول الزجاج, وجمع الجمع سماوات وسماءات. فجاء «سوّاهنّ» إما على أن السماء جمع وإمّا على أنها مفرد اسم جنس. ومعنى سواهنّ سوّى سطوحهنّ بالإملاس. وقيل: جعلهنّ سواء.
 العاشرة: قوله تعالى: {وَهُوَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي بما خلق, وهو خالق كل شيء فوجب أن يكون عالماً بكل شيء وقد قال: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} (الملك: 14) فهو العالم والعليم بجميع المعلومات بعلم قديم أزلي واحد قائم بذاته ووافقنا المعتزلة على العالمية دون العلمية. وقالت الجَهْمِيّة: عالم بلا علم قائم لا في محل, تعالى الله عن قول أهل الزّيْغ والضلالات والردّ على هؤلاء في كتب الديانات. وقد وصف نفسه سبحانه بالعلم فقال: {بِاللّهِ إِنّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (النساء: 166), وقال: {فَاعْلَمُوَاْ أَنّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ} (هود: 14), وقال: {فَلَنَقُصّنّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ} (الأعراف: 7), وقال:{وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَىَ وَلاَ تَضَعُ إِلاّ بِعِلْمِهِ} (فاطر: 11), وقال: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاّ هُوَ} (الأنعام: 59) الآية. وسندلّ على ثبوت علمه وسائر صفاته في هذه السورة عند قوله: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة: 185) إن شاء الله تعالى. وقرأ الكسائي وقالُون عن نافع بإسكان الهاء مِن: هو وهي, إذا كان قبلها فاء أو واو أو لام أو ثُمّ وكذلك فعل أبو عمرو إلا مع ثُمّ. وزاد أبو عَوْن عن الحُلْوانيّ عن قالُون إسكان الهاء من {أنْ يُمِلّ هُوَ}, والباقون بالتحريك.

قوله تعالى:
{وَإِذْ قَالَ رَبّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ قَالَ إِنّيَ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}
قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً} فيه سبع عشرة مسألة:
الأولى: قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ} إذ وإذا حرفَا توقيت فإذ للماضي, وإذا للمستقبل وقد توضع إحداهما موضع الأخرى. وقل المُبَرّد: إذا جاء «إذ» مع مستقبل كان معناه ماضياً نحو قوله: {وَإذْ يَمْكُرُ بِكَ} {وَإذْ تَقُولُ لِلّذِي أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ} معناه إذْ مكروا, وإذ قلت. وإذا جاء «إذا» مع الماضي كان معناه مستقبلاً كقوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَتِ الطّامّةُ} (النازعات: 34) {فَإِذَا جَاءَتِ الصّاخّةُ } (عبس: 33) و {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ } (النصر: 1) أي يجيء. وقال مَعْمَر بن المُثَنّى أبو عبيدة: «إذ» زائدة والتقدير: وقال ربك واستشهد بقول الأسْوَد بن يَعْفُر:
فإذا وذلك لا مَهاةَ لذِكرهِ   والدهر يُعْقب صالحاً بفسادِ
وأنكر هذا القول الزجاجُ والنحاس وجميع المفسرين. قال النحاس: وهذا خطأ لأن «إذ» اسم وهي ظرف زمان ليس مما تزاد. وقال الزجاج: هذا اجتزام من أبي عبيدة ذكر الله عز وجل خلق الناس وغيرهم فالتقدير وابتدأ خلقكم إذ قال فكان هذا من المحذوف الذي دل عليه الكلام, كما قال:
فإن المنية مَن يخشها      فسوف تصادفه أينما
يريد أينما ذهب. ويحتمل أن تكون متعلقة بفعل مقدّر تقديره واذكر إذ قال. وقيل: هو مردود إلى قوله تعالى: {اعْبُدُوا رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ} فالمعنى الذي خلقكم إذ قال ربك للملائكة. وقول الله تعالى وخطابه للملائكة متقرّر قديم في اوزل بشرط وجودهم وفهمهم. وهكذا الباب كله في أوامر الله تعالى ونواهيه ومخاطباته. وهذا مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري, وهو الذي ارتضاه أبو المعالي. وقد أتينا عليه في كتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى وصفات الله العلي.
والرب: المالك والسيّد والمصلح والجابر وقد تقدّم بيانه.
الثانية: قوله تعالى: {لِلْمَلاَئِكَةِ} الملائكة واحدها مَلَك. قال ابن كَيْسان وغيره: وزن مَلَك فَعَل من الملك. وقال أبو عبيدة هو مفعل من لأكَ إذا أرسل. والألُوكة وَالمَاْلَكة والمَاْلُكة: الرسالة قال لَبِيد:
وغلامٍ أرسلَتْهُ أمّه بألُوكٍ فبذلْنا ما سألْ
وقال آخر:
بلِغِ النّعمانَ عنّي مَاْلُكاً إنني قد طال حبسي وانتظارِي
ويقال: ألِكْنِي أي أرسلني فأصله هذا مَاْلَك, الهمزة فاء الفعل فإنهم قلبوها إلى عينه فقالوا: مَلأك, ثم سهّلوه فقالوا مَلَك. وقيل أصله مَلأك من مَلَك يملِك, نحو شمأل من شَمَل فالهمزة زائدة عن ابن كَيْسان أيضاً وقد تأتي في الشعر على الأصل قال الشاعر:
فلستَ لإنْسِيّ ولكن لَملأك        تَنزّلَ من جَوّ السماء يَصوبُ
وقال النّضر بن شُمَيل: لا اشتقاق للملك عند العرب. والهاء في الملائكة تأكيد لتأنيث الجمع ومثله الصّلادمة. والصّلادم: الخيل الشّداد, واحدها صِلْدِم. وقيل: هي للمبالغة, كعلاّمة ونسّابة. وقال أرباب المعاني: خاطب الله الملائكة لا للمشورة ولكن لاستخراج ما فيهم من رؤية الحركات والعبادة والتسبيح والتقديس, ثم ردّهم إلى قيمتهم فقال عز وجل: {اسْجُدُواْ لاَدَمَ}.
الثالثة: قوله تعالى: {إِنّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً} «جاعل» هنا بمعنى خالق ذكره الطبري عن أبي رَوْق, ويقضي بذلك تعدّيها إلى مفعول واحد, وقد تقدّم. والأرض قيل: إنها ملكة. روى ابن سابط عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «دُحِيَت الأرض من مكة» ولذلك سُمّيت أمّ القرى, «قال: وقبر نوح وهود وصالح وشعيب بين زمزم والرّكن والمقام», و «خليفة» يكون بمعنى فاعل أي يخلف من كان قبله من الملائكة في الأرض, أو من كان قبله من غير الملائكة على ما رُويَ. ويجوز أن يكون «خليفة» بمعنى مفعول أي مخلف كما يقال ذبيحة بمعنى مفعولة. والخَلَف (بالتحريك) من الصالحين, وبتسكينها من الطالحين هذا هو المعروف, وسيأتي له مزيد بيان في «الأعراف» إن شاء الله. و «خليفة» بالفاء قراءة الجماعة إلا ما رُوِيَ عن زيد بن عليّ فإنه قرأ «خليقة» بالقاف. والمعنى بالخليفة هنا ـ في قول ابن مسعود وابن عباس وجميع أهل التأويل ـ آدم عليه السلام, وهو خليفة الله في إمضاء أحكامه وأوامره لأنه أوّل رسول إلى الأرض كما في حديث أبي ذَرّ, قال: قلت: يا رسول الله أنبيّا كان مرسَلاً؟ قال: «نعم» الحديث. ويقال: لمن كان رسولا ولم يكن في الأرض أحد؟ فيقال: كان رسولاً إلى ولده, وكانوا أربعين ولداً في عشرين بطناً في كل بطن ذكر وأنثى, وتوالدوا حتى كثروا كما قال الله تعالى: {خَلَقَكُمْ مّن نّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} (النساء: 1). وأنزل عليهم تحريم الميتةِ والدّمِ ولحمِ الخنزير. وعاش تسعمائة وثلاثين سنة هكذا ذكر أهل التوراة. ورُوي عن وهب بن مُنَبّه أنه عاش ألف سنة, والله أعلم.
الرابعة: هذه الآية أصلٌ في نَصْب إمامٍ وخليفة يُسْمَع له ويطاع لتجتمع به الكلمة, وتنفذ به أحكام الخليفة. ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة ولا بين الأئمة إلا ما رُوي عن الأصَمّ حيث كان عن الشريعة أصَمّ, وكذلك كل من قال بقوله واتبعه على رأيه ومذهبه, قال: إنها غير واجبة في الدين بل يسوغ ذلك, وأن الأمة متى أقاموا حجهم وجهادهم, وتناصفوا فيما بينهم, وبذلوا الحق من أنفسهم, وقسموا الغنائم والفَيء والصدقات على أهلها, وأقاموا الحدود على مَن وجبت عليه, أجزأهم ذلك, ولا يجب عليهم أن ينصبوا إماماً يتولّى ذلك. ودليلُنا قولُ الله تعالى: {إِنّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً}, وقوله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ} (صَ: 26), وقال: {وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنّهُمْ فِي الأرْضِ} (النور: 55) أي يجعل منهم خلفاء, إلى غير ذلك من الاَي.
وأجمعت الصحابة على تقديم الصدّيق بعد اختلافٍ وقع بين المهاجرين والأنصار في سَقِيفة بني ساعدة في التعيين, حتى قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير فدفعهم أبو بكر وعمر والمهاجرون عن ذلك, وقالوا لهم: إن العرب لا تدين إلا لهذا الحيّ من قريش, ورووا لهم الخبر في ذلك, فرجعوا وأطاعوا لقريش. فلو كان فرض الإمامة غير واجب لا في قريش ولا في غيرهم لما ساغت هذه المناظرة والمحاورة عليها, ولقال قائل: إنها ليست بواجبة لا في قريش ولا في غيرهم, فما لتنازعكم وجه ولا فائدة في أمر ليس بواجب. ثم إن الصدّيق رضي الله عنه لما حضرته الوفاة عهد إلى عمر في الإمامة, ولم يقل له أحد هذا أمر غير واجب علينا ولا عليك فدلّ على وجوبها وأنها ركن من أركان الدّين الذي به قوام المسلمين, والحمد لله رب العالمين.
وقالت الرافضة: يجب نصبه عقلاً, وإن السمع إنما ورد على جهة التأكيد لقضية العقل فأما معرفة الإمام فإن ذلك مدرَك من جهة السمع دون العقل. وهذا فاسد لأن العقل لا يوجب ولا يحظر ولا يُقبّح ولا يُحسّن وإذا كان كذلك ثبت أنها واجبة من جهة الشرع لا من جهة العقل, وهذا واضح.
 فإن قيل وهي:
الخامسة: إذا سُلّم أن طريق وجوب الإمامة السمع, فخبّرونا هل يجب من جهة السمع بالنص على الإمام من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم, أم من جهة اختيار أهل الحَلّ والعَقد له, أم بكمال خصال الأئمة فيه, ودعاؤه مع ذلك إلى نفسه كاف فيه.
فالجواب أن يقال: اختلف الناس في هذا الباب, فذهبت الإمامية وغيرها إلى أن الطريق الذي يُعرف به الإمام هو النص من الرسول عليه السلام ولا مدخل للاختيار فيه. وعندنا: النظر طريق إلى معرفة الإمام, وإجماع أهل الاجتهاد طريق أيضاً إليه وهؤلاء الذين قالوا لا طريق إليه إلا النص بَنَوْه على أصلهم أن القياس والرأي والاجتهاد باطل لا يُعرف به شيء أصلاً, وأبطلوا القياس أصلاً وفرعاً. ثم اختلفوا على ثلاث فرق: فرقة تدّعي النص على أبي بكر, وفرق تدّعي النص على العباس, وفرقة تدّعي النص على عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهم. والدليل على فقد النص وعدمه على إمام بعينه هو أنه صلى الله عليه وسلم لو فرض على الأمة طاعةً إمام بعينه بحيث لا يجوز العدول عنه إلى غيره لعلم ذلك لاستحالة تكليف الأمة بأسرها طاعة الله في غير معيّن, ولا سبيل لهم إلى العلم بذلك التكليف وإذا وجب العلم به لم يَخْل ذلك العلم من أن يكون طريقه أدلّة العقول أو الخبر, وليس في العقل ما يدل على ثبوت الإمامة لشخص معيّن, وكذلك ليس في الحبر ما يوجب العلم بثبوت إمام معيّن لأن ذلك الخبر إما أن يكون تواتراً أوجب العلم ضرورةً أو استدلالاً, أو يكون من أخبار الاَحاد ولا يجوز أن يكون طريقه التواتر الموجب للعلم ضرورةً أو دلالة, إذ لو كان كذلك لكان كل مكلّف يجد من نفسه العلم بوجوب الطاعة لذلك المعيّن وأن ذلك من دين الله عليه, كما أن كل مكلّف علم أن من دين الله الواجب عليه خمس صلوات, وصوم رمضان, وحج البيت ونحوها ولا أحد يعلم ذلك من نفسه ضرورة, فبطلت هذه الدعوى, وبطل أن يكون معلوماً بأخبار الاَحاد لاستحالة وقوع العلم به. وأيضاً فإنه لو وجب المصير إلى نقل النص على الإمام بأيّ وجه كان, وجب إثبات إمامة أبي بكر والعباس لأن لكل واحد منهما قوماً ينقلون النّص صريحاً في إمامته وإذا بطل إثبات الثلاثة بالنص في وقت واحد ـ على ما يأتي بيانه ـ كذلك الواحد, إذ ليس أحد الفِرق أوْلى بالنص من الاَخر. وإذا بطل ثبوت النّص لعدم الطريق الموصل إليه ثبت الاختيار والاجتهاد. فإن تعسّف متعسّف وادّعى التواتر والعلم الضروري بالنصّ فينبغي أن يقابَلوا على الفَور بنقيض دعواهم في النّص على أبي بكر وبأخبار في ذلك كثيرة تقوم أيضاً في جملتها مقام النص ثم لا شك في تصميم مَن عدا الإماميّة على نفي النّص وهم الخلق الكثير والجمّ الكثير والجمّ الغفير. والعلم الضروري لا يجتمع على نفسه من ينحطّ عن معشار أعداد مخالفي الإمامية ولو جاز ردّ الضروري في ذلك لجاز أن ينكر طائفة بَغداد والصين الأقصى وغيرهما.
السادسة: في ردّ الأحاديث التي احتجّ بها الإمامية في النّص على عليّ رضي الله عنه, وأن الأمة كفَرت بهذا النّص وارتدّت, وخالفت أمر الرسول عناداً منها قوله عليه السلام: «مَن كنتُ مولاه فعليّ مولاه اللّهُمّ والِ من والاه وعادِ مَن عاداه». قالوا: والمَوْلى في اللغة بمعنى أوْلَى فلما قال «فعليّ مولاه» بفاء التعقيب عُلم أن المراد بقوله «مولى» أنه أحق وأوْلى. فوجب أن يكون أراد بذلك الإمامة وأنه مفترض الطاعة وقوله عليه السلام لعليّ: «أنت مِنّي بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبيّ بعدي». قالوا: ومنزلة هارون معروفة, وهو أنه كان مشاركاً في النبوّة ولم يكن ذلك لعليّ, وكان أخاً له ولم يكن ذلك لعلي, وكان خليفة فعُلِم أن المراد به الخلافة, إلى غير ذلك مما احتجوا به على ما يأتي ذكره في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
والجواب عن الحديث الأوّل: أنه ليس بمتواتر, وقد اختلِف في صحته, وقد طعن فيه أبو داود السّجستاني وأبو حاتم الرازيّ, واستدلا على بطلانه بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «مُزَيْنَةُ وجُهَيْنَةُ وغِفَارُ وأسْلَمُ مواليّ دون الناس كلهم ليس لهم مَوْلًى دون الله ورسوله». قالوا: فلو كان قد قال: «مَن كنتُ مولاه فعليّ مولاه» لكان أحد الخبرين كذباً.
جواب ثان: وهو أن الخبر وإن كان صحيحاً رواه ثِقةٌ عن ثِقَة فليس فيه ما يدل على إمامته, وإنما على فضيلته, وذلك أن المولى بمعنى الوليّ, فيكون معنى الخبر: مَن كنت وَلِيّه فعليّ وَلِيّه قال الله تعالى: {فَإِنّ اللّهَ هُوَ مَوْلاَهُ} (التحريم: 4) أي وَلِيّه. وكان المقصود من الخبر أن يعلم الناس أن ظاهر عليّ كباطنه, وذلك فضيلة عظيمة لعليّ.
جواب ثالث: وهو أن هذا الخبر ورَد على سبب, وذلك أن أسامة وعليّا اختصما, فقال عليّ لأسامة: أنت مولاي. فقال: لستُ مولاك, بل أنا مَوْلَى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فذكر للنبيّ صلى الله عليه وسلم, فقالَ «مَن كنُت مولاه فعليّ مولاه».
جواب رابع: وهو أن علّيا عليه السلام لما قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم في قصة الإفْك في عائشة رضي الله عنها: النساء سواها كثير. شقّ ذلك عليها, فوجد أهل النفاق مجالاً فطعنوا عليه وأظهروا البراءة منه فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا المقال ردّاً لقولهم, وتكذيباً لهم فيما يقدموا عليه من البراءة منه والطعن فيه ولهذا ما روي عن جماعة من الصحابة أنهم قالوا: ما كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ببغضهم لعليّ عليه السلام. وأما الحديث الثاني فلا خلاف أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يُرِد بمنزلة هارون من موسى بالخلافة بعده, ولا خلاف أن هارون مات قبل موسى عليهما السلام ـ على ما يأتي من بيان وفاتيهما في سورة «المائدة» ـ وما كان خليفةً بعده وإنما كان الخليفة يوشع بن نون فلو أراد بقوله: «أنت مِنّي بمنزلة هارون من موسى» الخلافة لقال: أنت مني بمنزلة يوشع من موسى, فلما لم يقل هذا دلّ على أنه لم يُرد هذا, وإنما أراد أني استخلفتك على أهلي في حياتي وغيبوبتي عن أهلي, كما كان هارون خليفةَ موسى على قومه لمّا خرج إلى مناجاة ربّه. وقد قيل: إن هذا الحديث خرج على سبب, وهو أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى غَزْوة تَبُوك استخلف عليّا عليه السلام في المدينة على أهله وقومه فأرجف به أهل النفاق وقالوا: إنما خلفه بُغْضاً وقِلًى له, فخرج عليّ فلحق بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وقال له: إن المنافقين قالوا كذا وكذا! فقال: «كذبوا بل خلفتك كما خلف موسى هارون». وقال: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى». وإذا ثبت أنه أراد الاستخلاف على زعمهم فقد شارك عليّا في هذه الفضيلة غيره لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم استخلف في كل غَزاةٍ غزاها رجلاً من أصحابه, منهم: ابن أمّ مَكْتُوم, ومحمد بن مَسْلَمة وغيرهما من أصحابه, على أن مدار هذا الخبر على سعد بن أبي وَقّاص وهو خبرُ واحدٍ. وروى في مقابلته لأبي بكر وعمر ما هو أولى منه. ورُوي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما أنفذ معاذ بن جبل إلى اليمن قيل له: ألا تنفذ أبا بكر وعمر؟ فقال: «إنهما لا غنى بي عنهما إن منزلتهما مني بمنزلة السمع والبصر من الرأس». وقال: «هما وزيراي في أهل الأرض». ورُوي عنه عليه السلام أنه قال: «أبو بكر وعمر منّي بمنزلة هارون من موسى». وهذا الخبر ورد ابتداء, وخبر عليّ ورد على سبب, فوجب أن يكون أبو بكر أوْلى منه بالإمامة, والله أعلم.
السابعة: واختلف فيما يكون به الإمام إمامًا وذلك ثلاث طرق, أحدها: النص, وقد تقدّم الخلاف فيه, وقال فيه أيضاً الحنابلة وجماعة من أصحاب الحديث والحسن البصري وبكر ابن أخت عبد الواحد وأصحابه وطائفة من الخوارج. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم نصّ على أبي بكر بالإشارة وأبو بكر على عمر. فإذا نص المستخلف على واحد معين كما فعل الصدّيق, أو على جماعة كما فعل عمر, وهو الطريق الثاني ويكون التخيير إليهم في تعيين واحد منهم كما فعل الصحابة رضي الله عنهم (في تعيين عثمان بن عفان رضي الله عنه). الطريق الثالث: إجماع أهل الحلّ والعَقْد وذلك أن الجماعة في مصرٍ من أمصار المسلمين إذا مات إمامهم ولم يكن لهم إمام ولا استخلف فأقام أهل ذلك المصر الذي هو حضرة الإمام وموضعه إماماً لأنفسهم اجتمعوا عليه ورَضُوه فإن كل مَن خلفَهم وأمامَهم من المسلمين في الاَفاق يلزمهم الدخول في طاعة ذلك الإمام إذا لم يكن الإمام معلناً بالفسق والفساد لأنها دعوة محيطة بهم تجب إجابتها ولا يسع أحد التخلف عنها لما في إقامة إمامين من اختلاف الكلمة وفساد ذات البَيْن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث لا يِغل عليهنّ قلبُ مؤمنٍ إخلاصُ العمل لله ولزومُ الجماعة ومناصحةُ ولاةِ الأمر فإن دعوة المسلمين من ورائهم محيطة».
الثامنة: فإنْ عَقَدها واحد من أهل الحَلّ والعَقْد فذلك ثابت ويلزم الغير فعله, خلافاً لبعض الناس حيث قال: لا تنعقد إلا بجماعة من أهل الحلّ والعقد ودليلنا أن عمر رضي الله عنه عقد البَيعة لأبي بكر ولم يُنكر أحد من الصحابة ذلك ولأنه عَقْد فوجب ألا يفتقر إلى عدد يعقدونه كسائر العقود. قال الإمام أبو المعالي: من انعقدت له الإمامة بعقد واحد فقد لزمت, ولا يجوز خلعه من غير حَدَث وتغيّر أمر قال: وهذا مُجْمعٌ عليه.
التاسعة: فإن تغلب مَن له أهليّة الإمامة وأخذها بالقهر والغَلَبة فقد قيل إن ذلك يكون طريقاً رابعاً وقد سُئل سهل بن عبد اللّه التّسْتَرِي: ما يجب علينا لمن غلب على بلادنا وهو إمام؟ قال: تجيبه وتؤدّي إليه ما يطالبك من حقه, ولا تنكر فعاله ولا تفرّ منه, وإذا ائتمنك على سِرّ من أمر الدّين لم تُفْشه. وقال ابن خُوَيْزِ مَنْداد: ولو وثب على الأمر من يصلح له من غير مشورة ولا اختيار وبايع له الناس تمّت له البَيْعة, والله أعلم.
العاشرة: واختلف في الشهادة على عقد الإمامة قال بعض أصحابنا: إنه لا يفتقر إلى الشهود لأن الشهادة لا تثبت إلا بسمع قاطع, وليس ها هنا سمع قاطع يدل على إثبات الشهادة. ومنهم من قال: يفتقر إلى شهود فمن قال بهذا احتج بأن قال: لو لم تعقد فيه الشهادة أدّى إلى أن يدّعي كل مدّع أنه عُقد له سرّا, ويؤدي إلى الهَرْج والفتنة, فوجب أن تكون الشهادة معتبرة ويكفي فيها شاهدان, خلافاً للجُبّائي حيث قال باعتبار أربعة شهود وعاقد ومعقود له لأن عمر حيث جعلها شُورَى في ستة دلّ على ذلك. ودليلنا أنه لا خلاف بيننا وبينه أن شهادة الاثنين معتبرة, وما زاد مختلَف فيه ولم يدل عليه الدليل فيجب ألا يعتبر.
الحادية عشرة: في شرائط الإمام وهي أحد عشر:
الأوّل: أن يكون من صميم قريش, لقوله صلى الله عليه وسلم: «الأئمة من قريش». وقد اختلف في هذا.
الثاني: أن يكون ممن يصلح أن يكون قاضياً من قضاة المسلمين مجتهداً لا يحتاج إلى غيره في الاستفتاء في الحوادث وهذا مُتّفَق عليه.
الثالث: أن يكون ذا خبرة ورأي حصِيف بأمر الحرب وتدبير الجيوش وسدّ الثّغُور وحماية البيضة ورَدْع الأمة والانتقام من الظالم والأخذ للمظلوم.
الرابع: أن يكون ممن لا تلحقه رِقّة في إقامة الحدود ولا فزع من ضرب الرقاب ولا قطع الأبشار. والدليل على هذا كله إجماع الصحابة رضي الله عنهم لأنه لا خلاف بينهم أنه لا بدّ من أن يكون ذلك كله مجتمعاً فيه ولأنه هو الذي يولي القضاة والحكام, وله أن يباشر الفصل والحكم, ويتفحص أمور خلفائه وقضاته ولن يصلح لذلك كله إلا من كان عالماً بذلك كله قيّماً به. والله أعلم.
الخامس: أن يكون حُرّا ولا خفاء باشتراط حرية الإمام وإسلامه وهو السادس.
السابع: أن يكون ذكراً, سليم الأعضاء وهو الثامن. وأجمعوا على أن المرأة لا يجوز أن تكون إماماً وإن اختلفوا في جواز كونها قاضية فيما تجوز شهادتها فيه.
التاسع والعاشر: أن يكون بالغاً عاقلاً ولا خلاف في ذلك.
الحادي عشر: أن يكون عدلاً لأنه لا خلاف بين الأمة أنه لا يجوز أن تعقد الإمامة لفاسق ويجب أن يكون من أفضلهم في العلم لقوله عليه السلام: «أئمتكم شفعاؤكم فانظروا بمن تستشفعون». وفي التنزيل في وصف طالوت: {إِنّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} (البقرة: 247) فبدأ بالعلم ثم ذكر ما يدلّ على القوّة وسلامة الأعضاء. وقوله: «اصطفاه» معناه اختاره وهذا يدل على شرط النسب. وليس من شرطه أن يكون معصوماً من الزلل والخطأ, ولا عالماً بالغيب, ولا أفرس الأمة ولا أشجعهم, ولا أن يكون من بني هاشم فقط دون غيرهم من قريش فإن الإجماع قد انعقد على إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وليسوا من بني هاشم.
الثانية عشرة: يجوز نصب المفضول مع وجود الفاضل خوف الفتنة وألا يستقيم أمر الأمة وذلك أن الإمام إنما نصب لدفع العدوّ وحماية البيضة وسدّ الخلل واستخراج الحقوق وإقامة الحدود وجباية الأموال لبيت المال وقسمتها على أهلها. فإذا خِيف بإقامة الأفضل الهرج والفساد وتعطيل الأمور التي لأجلها ينصب الإمام كان ذلك عذراً ظاهراً في العدول عن الفاضل إلى المفضول ويدل على ذلك أيضاً علم عمر وسائر الأمة وقت الشّورَى بأن الستة فيهم فاضل ومفضول, وقد أجاز العقد لكل واحد منهم إذا أدّى المصلحة إلى ذلك واجتمعت كلمتهم عليه من غير إنكار أحد عليهم والله أعلم.
الثالثة عشرة: الإمام إذا نُصِب ثم فَسَق بعد انبرام العقد فقال الجمهور: إنه تنفسخ إمامته ويُخلع بالفسق الظاهر المعلوم لأنه قد ثبت أن الإمام إنما يقام لإقامة الحدود واستيفاء الحقوق وحفظ أموال الأيتام والمجانين والنظر في أمورهم إلى غير ذلك مما تقدّم ذكره وما فيه من الفسق يُقعده عن القيام بهذه الأمور والنهوض بها. فلو جوّزنا أن يكون فاسقاً أدّى إلى إبطال ما أقيم له, وكذلك هذا مثله. وقال آخرون: لا ينخلع إلا بالكفر أو بترك إقامة الصلاة أو الترك إلى دعائها أو شيء من الشريعة لقوله عليه السلام في حديث عُبادة: «وألا نُنازِع الأمر أهله (قال) إلا أن تروْا كُفْراً بَواحاً عندكم من الله فيه برهان» وفي حديث عَوف بن مالك: «لا ما أقاموا فيكم الصلاة» الحديث. أخرجهما مسلم. وعن أم سَلَمة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنه يُستعمَل عليكم أمراءُ فتَعرِفون وتُنكِرون فمن كَره فقد بَرِئ ومَن أنكر فقد سلِم ولكن مَن رَضِيَ وتابع ـ قالوا: يا رسول الله ألاَ نقاتلهم؟ قال: ـ لا ما صَلّوْا». أي من كره بقلبه وأنكر بقلبه. أخرجه أيضاً مسلم.
الرابعة عشرة: ويجب عليه أن يخلع نفسه إذا وجد في نفسه نقصاً يؤثّر في الإمامة. فأما إذا لم يجد نقصا فهل له أن يعزل نفسه ويعقد لغيره؟ اختلف الناس فيه, فمنهم من قال: ليس له أن يفعل ذلك وإن فعل لم تنخلع إمامته. ومنهم من قال: له أن يفعل ذلك. والدليل على أن الإمام إذا عزل نفسه انعزل قول أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه: أقيلوني أقيلوني. وقول الصحابة: لا نقيلك ولا نستقيلك, قدّمك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا فمن ذا يؤخرك! رضِيك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا فلا نرضاك! فلو لم يكن له أن يفعل ذلك لأنكرت الصحابة ذلك عليه ولقالت له: ليس لك أن تقول هذا, وليس لك أن تفعله. فلما أقرّته الصحابة على ذلك علم أن للإمام أن يفعل ذلك ولأن الإمام ناظر للغير فيجب أن يكون حكمه حكم الحاكم, والوكيل إذا عزل نفسه. فإن الإمام هو وكيل الأمة ونائب عنها, ولما اتفق على أن الوكيل والحاكم وجميع من ناب عن غيره في شيء له أن يعزل نفسه, كذلك الإمام يجب أن يكون مثله. والله أعلم.
الخامسة عشرة: إذا انعقدت الإمامة باتفاق أهل الحَلّ والعَقْد أو بواحد على ما تقدّم وجب على الناس كافّةً مبايعته على السمع والطاعة, وإقامة كتاب الله وسُنّة رسوله صلى الله عليه وسلم. ومن تأبّى عن البَيعة لعُذْر عُذِر, ومن تأبّى لغير عذر جُبر وقُهر لئلا تفترق كلمة المسلمين. وإذا بويع لخليفتين فالخليفة الأوّل وقُتل الاَخر واختلف في قتله هل هو محسوس أو معنًى فيكن عزله قتلَه ومَوْته. والأوّل أظهر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الاَخر منهما». رواه أبو سعيد الخُدْرِيّ أخرجه مسلم. وفي حديث عبد اللّه بن عمرو عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه سمعه يقول: «ومن بايع إماما فأعطاه صفقةَ يدِه وثمرة قلبه فلْيُعطِه إن استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الاَخر». رواه مسلم أيضاً ومن حديث عَرْفجةً: «فاضربوه بالسيف كائناً من كان». وهذا أدلّ دليل على منع إقامة إمامين ولأن ذلك يؤدّي إلى النفاق والمخالفة والشقاق وحدوث الفتن وزوال النعم لكن إن تباعدت الأقطار وتباينت كالأندلس وخراسان جاز ذلك على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
السادسة عشرة: لو خرج خارجيّ على إمام معروف العدالة وجب على الناس جهاده فإن كان الإمام فاسقاً والخارجيّ مظهر للعدل لم ينبغ للناس أن يسرعوا إلى نصرة الخارجيّ حتى يتبيّن أمره فيما يظهر من العدل, أو تتفق كلمة الجماعة على خلع الأوّل, وذلك أن من طلب مثل هذا الأمر أظهر من نفسه الصلاح حتى إذا تمكّن رجع إلى عادته من خلاف ما أظهر.
السابعة عشرة: فأما إقامة إمامين أو ثلاثة في عصر واحد وبلد واحد فلا يجوز إجماعاً لما ذكرنا. قال الإمام أبو المعالي: ذهب أصحابنا إلى منع عقد الإمامة لشخصين في طرفي العالَم ثم قالوا: لو اتفق عقد الإمامة لشخصين نُزّل ذلك منزلة تزويجِ وَلِيّيْن امرأة واحدة من زوجين من غير أن يشعر أحدهما بعقد الاَخر. قال: والذي عندي فيه أن عقد الإمامة لشخصين في صُقع واحد متضايق الخِطط والمخاليف غير جائزٍ وقد حصل الإجماع عليه. فأما إذا بَعُد المَدَى وتخلّل بين الإمامين شُسوع النّوَى فللاحتمال في ذلك مجال وهو خارج عن القواطع. وكان الأستاذ أبو إسحاق يجوّز ذلك في إقليمين متباعدين غاية التباعد لئلا تتعطل حقوق الناس وأحكامهم. وذهبت الكَرّامة إلى جواز نَصْب إمامين من غير تفصيل ويلزمهم إجازة ذلك في بلد واحد, وصاروا إلى أن عليّا ومعاوية كانا إمامين. قالوا: وإذا كان اثنين في بلَدين أو ناحيتين كان كل واحد منهما أقوم بما في يديه وأضبط لما يليه ولأنه لما جاز بعثة نبيّيْن في عصر واحد ولم يؤدّ ذلك إلى إبطال النبوّة كانت الإمامة أوْلَى, ولا يؤدي ذلك إلى إبطال الإمامة. والجواب أن ذلك جائز لولا منع الشرع منه لقوله: «فاقتلوا الاَخر منهما» ولأن الاُمّة عليه. وأما معاوية فلم يدّع الإمامة لنفسه وإنما ادّعى ولاية الشام بتولية مَن قبله من الأئمة. ومما يدلّ على هذا إجماع الأمة في عصرهما على أن الإمام أحدهما ولا قال أحدهما إني إمام ومخالفي إمام. فإن قالوا: العقل لا يحيل ذلك وليس في السمع ما يمنع منه. أقوى السمْعِ الإجماعُ, وقد وُجد على المنع.
قوله تعالى: {قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} قد علمنا قطعاً أن الملائكة لا تعلم إلا ما أعْلِمت ولا تَسبِق القول, وذلك عام في جميع الملائكة لأن قوله: {لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ} (الأنبياء: 27) خرج على جهة المدح لهم, فكيف قالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} ؟ فقيل: المعنى أنهم لما سمعوا لفظ خليفة فهموا أن في بني آدم من يفسد إذ الخليفة المقصود منه الإصلاح وترك الفساد, لكن عمّموا الحكم على الجميع بالمعصية فبيّن الربّ تعالى أن فيهم من يفسد ومن لا يفسد فقال تطييباً لقلوبهم: {إِنّيَ أَعْلَمُ} وحقّق ذلك بأن علّم آدم الأسماء, وكشف لهم عن مكنون علمه. وقيل: إن الملائكة قد رأت وعلمت ما كان من إفساد الجن وسفكهم الدماء. وذلك لأن الأرض كان فيها الجن قبل خلق آدم فأفسدوا وسفكوا الدماء, فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة فقتلهم وألحقهم بالبحار ورؤوس الجبال, فمن حينئذ دخلته العِزّة. فجاء قولهم: «أتَجْعَلُ فِيهَا» على جهة الاستفهام المحض: هل هذا الخليفة على طريقة من تقدّم من الجن أم لا؟ قاله أحمد بن يحيى ثعلب. وقال ابن زيد وغيره: إن الله تعالى أعلمهم أن الخليفة سيكون من ذرّيته قوم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء فقالوا لذلك هذه المقالة, إمّا على طريق التعجب من استخلاف الله من يعصيه أو مِن عِصيان الله من يستخلفه في أرضه ويُنعم عليه بذلك, وإمّا على طريق الاستعظام والإكبار للفصلين جميعاً: الاستخلاف والعصيان. وقال قتادة: كان الله أعلمهم أنه إذا جعل في الأرض خلقاً أفسدوا وسفكوا الدماء, فسألوا حين قال تعالى: {إِنّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً} أهو الذي أعلمهم أم غيره.
وهذا قول حَسَن, رواه عبد الرزاق قال: أخبرنا مَعْمَر عن قتادة في قوله: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} قال: كان الله أعلمهم أنه إذا كان في الأرض خلق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء, فلذلك قالوا: «أتجعل فيها مَن يفسد فيها». وفي الكلام حذف على مذهبه والمعنى إني جاعل في الأرض خليفة يفعل كذا ويفعل كذا, فقالوا: أتجعل فيها الذي أعلمتناه أم غيره؟ والقول الأوّل أيضاً حسن جداً لأن فيه استخراج العلم واستنباطه من مقتضى الألفاظ وذلك لا يكون إلا من العلماء وما بين القولين حسن, فتأمّله. وقد قيل: إن سؤاله تعالى للملائكة بقوله: «كيف تركتم عبادي» ـ على ما ثبت في صحيح مسلم وغيره ـ إنما هو على جهة التوبيخ لمن قال: أتجعل فيها, وإظهار لما سبق في معلومه إذ قال لهم: {إِنّيَ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}.
قوله: {مَن يُفْسِدُ فِيهَا} «مَن» في موضع نصب على المفعول بتجعل والمفعول الثاني يقوم مقامه «فيها». «يُفسد» على اللفظ, ويجوز في غير القرآن يفسدون على المعنى. وفي التنزيل: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إلَيْكَ» على اللفظ, «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ» على المعنى. {وَيَسْفِكُ} عطف عليه, ويجوز فيه الوجهان. وروى أسيد عن الأعرج أنه قرأ «ويَسْفِكَ الدّماءَ» بالنصب, يجعله جواب الاستفهام بالواو, كما قال:
ألم أكُ جارَكم وتكونَ بيني        وبينكُم المودّةُ والإخاءُ
والسّفْكُ: الصّب. سفكت الدم أسْفِكه سَفْكاً: صببته, وكذلك الدمع حكاه ابن فارس والجوهري. والسفّاك: السفاح, وهو القادر على الكلام. قال المهدويّ: ولا يستعمل السفك إلا في الدم, وقد يستعمل في نثر الكلام يقال سفك الكلام إذا نثره. وواحد الدماء دَمٌ, محذوف اللام. وقيل: أصله دَمْيٌ. وقيل: دَمَيّ, ولا يكون اسم على حرفين إلا وقد حُذف منه, والمحذوف منه ياء وقد نُطق به على الأصل قال الشاعر:
فلو أنّا على حجر ذُبِحنا   جَرَى الدّميان بالخبر اليقين
قوله تعالى: {وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ} أن ننزّهك عمّا لا يليق بصفاتك. والتسبيح في كلامهم التنزيه من السوء على وجه التعظيم ومنه قول أعْشَى بني ثَعْلبة:
أقول لمّا جاءني فَخْرُه     سبحانَ من عَلْقَمَةَ الفاخرِ
أي براءة من عَلْقَمة. وروى طلحة بن عبيد اللّه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير سبحان الله فقال: «هو تنزيه الله عزّ وجلّ عن كل سوء». وهو مشتق من السّبح وهو الجَرْي والذهاب قال الله تعالى: {إِنّ لَكَ فِي النّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً} (المزمل: 7) فالمسبّح جارٍ في تنزيه الله تعالى وتبرئته من السّوء. وقد تقدّم الكلام في «نحن», ولا يجوز إدغام النون لئلا يلتقي ساكنان.
مسألة: واختلف أهل التأويل في تسبيح الملائكة, فقال ابن مسعود وابن عباس: تسبيحهم صلاتهم ومنه قول الله تعالى: {فَلَوْلاَ أَنّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبّحِينَ} (الصافات: 143) أي المُصَلّين. وقيل: تسبيحهم رفع الصوت بالذكر, قاله المفضّل واستشهد بقول جرير:
قَبَحَ الإلَهُ وجوهَ تَغْلِبَ كلّما        سَبَح الحجيج وكَبّرُوا إهلالاَ
وقال قتادة: تسبيحهم: سبحان الله على عُرفه في اللغة, وهو الصحيح لما رواه أبو ذَرّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أيّ الكلام أفضل؟ قال: «ما اصطفى الله لملائكته (أو لعباده) سبحان الله وبحمده». أخرجه مسلم. وعن عبد الرحمن بن قُرْط: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة اُسْرِيَ به سمع تسبيحاً في السموات العلا: سبحان العليّ الأعلى سبحانه وتعالى ذكره البيهقي.
قوله تعالى: {بِحَمْدِكَ} أي وبحمدك نخلطِ التسبيح بالحمد ونصله به. والحمد: الثناء, وقد تقدّم. ويحتمل أن يكون قولهم: «بحمدك» اعتراضاً بين الكلامين كأنهم قالوا: ونحن نسبح ونقدّس, ثم اعترضوا على جهة التسليم أي وأنت المحمود في الهداية إلى ذلك. والله أعلم.
قوله تعالى: {وَنُقَدّسُ لَكَ} أي نعظّمك ونطهّر ذكرك عما لا يليق بك مما نسبك إليه الملحدون قاله مجاهد وأبو صالح وغيرهما. وقال الضحاك وغيره: المعنى نطهّر أنفسنا لك ابتغاء مرضاتك. وقال قوم منهم قتادة: {نقدس لك} معناه نصلّي. والتقديس: الصلاة. قال ابن عطية: وهذا ضعيف.
قلت: بل معناه صحيح فإن الصلاة تشتمل على التعظيم والتقديس والتسبيح, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده: «سُبّوح قُدّوس ربّ الملائكة والرّوح». روته عائشة أخرجه مسلم. وبناء «قدس» كيفما تصرّف فإن معناه التطهير ومنه قوله تعالى: {ادْخُلُوا الأرْضَ المُقَدّسَةَ} (المائدة: 21) أي المطهّرة. وقال: {الْمَلِكُ الْقُدّوسُ} (الحشر: 23) يعني الطاهر ومثله: {بِالْوَادِ الْمُقَدّسِ طُوًى} (طه: 12) وبيت المَقْدِس سُمّيَ به لأنه المكان الذي يُتقدّس فيه من الذنوب أي يتطهّر ومنه قيل للسّطْل: قَدَس لأنه يُتوضأ فيه ويُتطهّر ومنه القادوس. وفي الحديث: «لا قُدّسَتْ أمّةٌ لا يؤخذ لضعيفها مِن قَوِيّها». يريد لا طهّرها الله أخرجه ابن ماجه في سُنَنه. فالقُدْس: الطّهْر من غير خلاف وقال الشاعر:
فأدْرَكْنَه يأخُذْنَ بالسّاق والنّسَاك  ما شَبْرَقَ الولدانُ ثَوْبَ المُقَدّس
أي المطهّر. فالصلاة طُهرةٌ للعبد من الذّنوب, والمُصَلّي يدخلها على أكمل الأحوال لكونها أفضل الأعمال, والله أعلم.
قوله تعالى: {إِنّيَ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} «أعلم» فيه تأويلان قيل: إنه فعل مستقبل. وقيل: إنه اسم بمعنى فاعل كما يقال: الله أكبر, بمعنى كبير وكما قال:
لعَمْرُكَ ما أدري وإنّي لأوْجَلُ  على أيّنا تعدُو المنيّة أوّلُ
فعلى أنه فعل تكون «ما» في موضع نصب بأعلم, ويجوز إدغام الميم في الميم. وإن جعلته اسماً بمعنى عالم تكون «ما» في موضع خفض بالإضافة. قال ابن عطية: ولا يصح فيه الصرف بإجماع من النحاة, وإنما الخلاف في «أفعل» إذا سُمّيَ به وكان نكرة, فسيبويه والخليل لا يَصْرِفانه, والأخفش يَصْرِفه. قال المهدَوِيّ: يجوز أن تقدّر التنوين في «أعلم» إذا قدّرته بمعنى عالم, وتنصب «ما» به فيكون مثل حَوّاجّ بيتَ الله. قال الجوهري: ونِسوةٌ حواجّ بيتِ الله, بالإضافة إذا كنّ قد حَجَجْن, وإن لم يكنّ حججن قلت: حواجّ بيتَ الله, فتنصب البيت لأنك تريد التنوين في حواجّ.
قوله تعالى: {مَا لاَ تَعْلَمُونَ} اختلف علماء التأويل في المراد بقوله تعالى: «مَا لاَ تَعْلَمُونَ». فقال ابن عباس: كان إبليس ـ لعنه الله ـ قد أعجب ودخله الكبر لما جعله خازن السماء وشرفه, فاعتقد أن ذلك لمزِيّة له فاستخف الكفر والمعصية في جانب آدم عليه السلام. وقال الملائكة: {وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ} وهي لا تعلم أن في نفس إبليس خلاف ذلك فقال الله تعالى لهم: {إِنّيَ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }. وقال قتادة لما قالت الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا} وقد علم الله أن فيمن يستخلق في الأرض أنبياء وفضلاء وأهل طاعة قال لهم «إنّي أعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ».
قلت: ويحتمل أن يكون المعنى إني أعلم ما لا تعلمون مما كان ومما يكون ومما هو كائن فهو عام.

قوله تعالى:
{وَعَلّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلّهَا ثُمّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَـَؤُلآءِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (31(.
 فيه سبع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَعَلّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلّهَا} «عَلّم» معناه عَرّف. وتعليمه هنا إلهام علمه ضرورةً. ويحتمِل أن يكون بواسطة مَلَك وهو جبريل عليه السلام على ما يأتي. وقرئ: «وعُلّم» غير مسمّى الفاعل. والأوّل أظهر  على ما يأتي. وقرئ: قال علماء الصوفية: عَلِمها بتعليم الحق إيّاه وحَفِظها بحفظه عليه ونسى ما عهد إليه لأن وكَلَه فيه إلى نفسه فقال: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىَ ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} (طه: 115). وقال ابن عطاء: لو لم يُكشف لاَدم علم تلك الأسماء لكان أعجز من الملائكة في الإخبار عنها. وهذا واضح.
وآدم عليه السلام يُكْنَى أبا البشر. وقيل: أبا محمد كني بمحمد خاتم الأنبياء صلوات الله عليهم, قاله السّهَيْلِيّ. وقيل: كُنيته في الجنة أبو محمد, وفي الأرض أبو البشر. وأصله بهمزتين لأنه أفعل إلا أنهم ليّنُوا الثانية, فإذا احتجت إلى تحريكها جعلتها واواً فقلت: أوادِم في الجمع لأنه ليس لها أصل في الياء معروف, فجعلت الغالب عليها الواو عن الأخفش.
واختلف في اشتقاقه فقيل: هو مشتق من أدَمة الأرض وأديمها وهو وجهها, فسمّي بما خلق منه قاله ابن عباس. وقيل. إنه مشتق من الأدْمَة وهي السّمْرة. واختلفوا في الاُدْمَة, فزعم الضحاك أنها السّمْرة وزعم النّضْر أنها البياض, وأن آدم عليه السلام كان أبيض مأخوذ من قولهم: ناقة أدْماءُ, إذا كانت بيضاء. وعلى هذا الاشتقاق جمعه اُدْمٌ وأوادم كحُمْر وأحامر, ولا ينصرف بوجه. وعلى أنه مشتق من الأدمة جمع آدمون ويلزم قائلو هذه المقالة صرفه.
قلت: الصحيح أنه مشتق من أديم الأرض. قال سعيد بن جُبير: إنما سُمّيَ آدم لأنه خلق من أدِيم الأرض, وإنما سُمّيَ إنساناً لأنه نَسِي ذكره ابن سعد في الطبقات. وروى السّدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مُرّة الهمدانِيّ عن ابن مسعود في قصة خلق آدم عليه السلام قال: فبعث الله جبريل عليه السلام إلى الأرض ليأتيه بطين منها فقالت الأرض: أعوذ بالله منك أن تنقص مني أو تَشِينني فرجع ولم يأخذ وقال: يا ربّ إنها عاذت بك فأعذتها. فبعث ميكائيل فعاذت منه فأعاذها, فرجع فقال كما قال جبريل فبعث ملك الموت فعاذت منه فقال: وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره. فأخذ من وجه الأرض وخلط, ولم يأخذ من مكان واحد, وأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء, فلذلك خرج بنو آدم مختلفين ـ ولذلك سمي آدم لأنه أخذ من أديم الأرض ـ فصعِد به, فقال الله تعالى له: «أمَا رَحِمت الأرض حين تضرّعت إليك» فقال: رأيت أمرك أوجب من قولها. فقال: «أنت تصلح لقبض أرواح ولده» فبلّ التراب حتى عاد طينًا لازبًا اللاّزب: هو الذي يلتصق بعضه ببعض, ثم تُرك حتى أنتن فذلك حيث يقول: {مّنْ حَمَإٍ مّسْنُونٍ} (الحجر: 26) قال: مُنتِن. ثم قال للملائكة: {إِنّي خَالِقٌ بَشَراً مّن طِينٍ فَإِذَا سَوّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} (صَ: 72). فخلقه الله بيده ليكلا يتكبّر إبليس عنه. يقول: أتتكبّر عمّا خلقتُ بيدي ولم أتكبّر أنا عنه! فخلقه بشراً فكان جسداً من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة, فمرّت به الملائكة ففزِعوا منه لما رأوْه وكان أشدّهم منه فزعاً إبليس فكان يمرّ به فيضربه فيصوّت الجسد كما يصوّت الفَخّار تكون له صَلْصة فذلك حين يقول: {مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخّارِ} (الرحمن: 14). ويقول لأمرٍ مَا خلقت!. ودخل من فمه وخرج من دبره فقال إبليس للملائكة: لا ترهبوا من هذا فإنه أجوف ولئن سُلّطت عليه لأهلكنّه. ويقال: إنه كان إذا مرّ عليه مع الملائكة يقول: أرأيتم هذا الذي لم تروْا من الخلائق يشبهه إن فُضّل عليكم وأمرتم بطاعته ما أنتم فاعلون! قالوا: نطيع أمر ربّنا فأسرّ إبليس في نفسه لئن فُضّل عليّ فلا أطيعه, ولئن فُضّلتُ عليه لأهلكنّه فلما بلغ الحين الذي أريد أن ينفخ فيه الروح قال للملائكة: إذا نفخت فيه من روحي فاسجدوا له فلما نفخ فيه الروح فدخل الروح في رأسه عَطَس فقالت له الملائكة: قل الحمد لله فقال الله له: رحمك ربك فلما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة, فلما دخل في جوفه اشتهى الطعام فوثب قبل أن يبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة, فذلك حين يقول: {خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} (الأنبياء: 37) {فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاّ إِبْلِيسَ أَبَىَ أَن يَكُونَ مَعَ السّاجِدِينَ} (الحجر: 30 ـ 31) وذكر القصة. وروى الترمذيّ عن أبي موسى الأشْعَرِيّ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله عز وجل خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأر فجاء بنو آدم على قدر الأرض فجاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك والسّهْل والحَزْن والخبث والطيّب». قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. أدِيم: جمع أدَم قال الشاعر:
الناسُ أخيافٌ وشَتّى في الشّيَمْ  وكلّهم يجمعهم وَجه الأدَمْ
فآدم مشتق من الأديم والأدَم لا من الأدْمة والله أعلم. ويحتمل أن يكون منهما جميعاً. وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في خلق آدم في «الأنعام» وغيرها إن شاء الله تعالى.
و «آدم» لا ينصرف. قال أبو جعفر النحاس: «آدم لا ينصرف في المعرفة بإجماع النحويين لأنه على أفْعَل وهو معرفة, ولا يمتنع شيء من الصرف عند البصريين إلا لعلّتين. فإن نكّرته ولم يكن نعتاً لم يَصرفه الخليل وسيبويه, وصرفه الأخفش سعيد لأنه كان نعتاً وهو على وزن الفعل, فإذا لم يكن نعتاً صَرَفه. قال أبو إسحاق الزجاج: القول قول سيبويه, ولا يفرّق بين النعت وغيره لأنه هو ذاك بعينه».
الثانية: قوله تعالى: {الأسْمَاءَ كُلّهَا} «الأسماء» هنا بمعنى العبارات, فإن الاسم قد يطلق ويراد به المسمّى كقولك: زيد قائم, والأسد شجاع. وقد يراد به التسمية ذاتها كقولك: أسد ثلاثة أحرف ففي الأوّل يقال: الاسم هو المسمّى بمعنى يراد به المسمى, وفي الثاني لا يراد به المسمّى وقد يجري اسم في اللغة مجرى ذات العبارة وهو الأكثر من استعمالها ومنه قوله تعالى: {وَعَلّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلّهَا} على أشهر التأويلات ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إن لله تسعًة وتسعين اسماً». ويجرِي مجرى الذات, يقال: ذاتٌ ونفسٌ وعينٌ واسمٌ بمعنًى وعلى هذا حمل أكثر أهل العلم قوله تعالى: {سَبّحِ اسْمَ رَبّكَ الأعْلَىَ} (الأعلى: 1) {تَبَارَكَ اسْمُ رَبّكَ} (الرحمن: 78) {إِنْ هِيَ إِلاّ أَسْمَاءٌ سَمّيْتُمُوهَا} (النجم: 23).
الثالثة: واختلف أهل التأويل في معنى الأسماء التي علّمها لاَدم عليه السلام فقال ابن عباس وعِكرمة وقتادة ومجاهد وابن جُبير: علّمه أسماء جميع الأشياء كلها جليلها وحقيرها. وروى عاصم بن كليب عن سعد مولى الحسن بن عليّ قال: كنت جالساً عند ابن عباس فذكروا اسم الاَنِيَة واسم السّوْط قال ابن عباس: «وعلّم آدم الأسماء كلها».
قلت: وقد روي هذا المعنى مرفوعاً على ما يأتي وهو الذي يقتضيه لفظ «كلها» إذ هو اسم موضوع للإحاطة والعموم وفي البخاريّ من حديث أنس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ويجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون لو استشفعنا إلى ربّنا فيأتون آدم فيقولون أنت أبو الناس خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كلّ شيء» الحديث. قال ابن خُوَيْزِ مَنْدَاد: في هذه الآية دليل على أن اللغة مأخوذة توقيفاً, وأن الله تعالى علّمها آدم عليه السلام جملةً وتفصيلا. وكذلك قال ابن عباس: علّمه أسماء كل شيء حتى الجَفْنة والمِحْلَب.
وروى شَيْبان عن قتادة قال: علم آدم من الأسماء أسماء خلقه ما لم يعلم الملائكة, وسمّى كل شيء باسمه وأنْحَى منفعة كل شيء إلى جنسه. قال النحاس: وهذا أحسن ما روي في هذا. والمعنى علّمه أسماء الأجناس وعرّفه منافعها, هذا كذا, وهو يصلح لكذا. وقال الطبريّ: علّمه أسماء الملائكة وذرّيته واختار هذا ورجّحه بقوله: {ثُمّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ}. وقال ابن زيد: علّمه أسماء ذرّيته كلهم. وقال الربيع بن خُثيم: أسماء الملائكة خاصة. وقال القُتَبيّ: أسماء ما خلق في الأرض. وقيل: أسماء الأجناس والأنواع.
قلت: القول الأوّل أصحّ, لما ذكرناه آنفاً ولِمَا نبيّنه إن شاء الله تعالى.
الرابعة: واختلف المتأوّلون أيضاً هل عرض على الملائكة أسماء الأشخاص أو الأسماء دون الأشخاص فقال ابن مسعود وغيره: عرض الأشخاص لقوله تعالى: «عَرَضَهُمْ» وقوله: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَـَؤُلآءِ}. وتقول العرب: عَرَضْتُ الشيء فأعْرَض أي أظهرته فظهر. ومنه: عَرَضْتُ الشيء للبيع. وفي الحديث. «إنه عَرَضهم أمثال الذر». وقال ابن عباس وغيره: عرض الأسماء. وفي حرف ابن مسعود: «عرضهنّ» فأعاد على الأسماء دون الأشخاص لأن الهاء والنون أخصّ بالمؤنث. وفي حرف اُبَيّ: «عرضها». مجاهد: أصحاب الأسماء. فمن قال في الأسماء. إنها التسميات فاستقام على قراءة اُبَيّ «عرضها». وتقول في قراءة من قرأ «عرضهم»: إن لفظ الأسماء يدلّ على أشخاص فلذلك ساغ أن يقال للأسماء: «عرضهم». وقال في «هؤلاء» المراد بالإشارة: إلى أشخاص الأسماء, لكن وإن كانت غائبة فقد حضر ما هو منها بسببٍ وذلك أسماؤها. قال ابن عطية: والذي يظهر أن الله تعالى علّم آدم الأسماء وعرضهنّ عليه مع تلك الأجناس بأشخاصها, ثم عرض تلك على الملائكة وسألهم عن تسمياتها التي قد تعلمها, ثم إن آدم قال لهم: هذا اسمه كذا, وهذا اسمه كذا. وقال الماوَرْدِيّ: وكان الأصح توجّه العرض إلى المسمّين. ثم في زمن عرضهم قولان: أحدهما أنه عرضهم بعد أن خلقهم. الثاني: أنه صوّرهم لقلوب الملائكة ثم عرضهم.
الخامسة: واختلف في أوّل من تكلم باللسان العربيّ فرُوِيَ عن كَعب الأحبار: أن أوّلَ مَن وضع الكتاب العربيّ والسّرْيانيّ والكتبَ كلّها وتكلّم بالألسنة كلّها آدم عليه السلام. وقاله غير كعب الأحبار.
فإن قيل: قد روي عن كعب الأحبار من وجه حَسَن قال: أوّل مَن تكلّم بالعربية جبريل عليه السلام وهو الذي ألقاها على لسان نوح عليه السلام وألقاها نوح على لسان ابنه سام ورواه ثَور بن زيد عن خالد بن مَعْدان عن كعب. ورُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أول مَن فتق لسانه بالعربية المبيّنة إسماعيل وهو ابن عشر سنين». وقد رُوي أيضاً: أن أوّل مَن تكلّم بالعربية يَعْرُب بن قَحْطان, وقد روي غير ذلك. قلنا: الصحيح أن أوّل مَن تكلّم باللغات كلّها من البشر آدمُ عليه السلام, والقرآن يشهد له قال الله تعالى: {وَعَلّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلّهَا} واللّغات كلّها أسماء فهي داخلة تحته وبهذا جاءت السنة قال صلى الله عليه وسلم: «وعلّم آدم الأسماء كلّها حتى القَصْعَة والقُصَيعة» وما ذكروه يحتمل أن يكون المراد به أوّل من تكلم بالعربيّة من ولد إبراهيم عليه إسماعيلُ عليه السلام. وكذلك إن صح ما سواه فإنه يكون محمولاً على أن المذكور أوّل من تكلّم من قبيلته بالعربية بدليل ما ذكرنا, والله أعلم. وكذلك جبريل أوّل من تكلم بها من الملائكة وألقاها على لسان نوح بعد أن علّمها الله آدم أو جبريل على ما تقدّم, والله أعلم.
قوله تعالى: {هَـَؤُلآءِ} لفظ مبنيّ على الكسر. ولغة تَمِيم وبعض قيس وأسَد فيه القصر قال الأعشى:
هَؤُلاَء ثم هَؤُلاَ كلاّ أعطيــتَ نِعالاً مَحْذُوّةً بمثالِ
ومن العرب من يقول: هولاء فيحذف الألف والهمزة.
السادسة: قوله تعالى: {إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} شرطٌ, والجواب محذوفٌ تقديره: إن كنتم صادقين أن بني آدم يفسدون في الأرض فأنبئوني قاله المبرّد. ومعنى «صادقين» عالمين ولذلك لم يسغ للملائكة الاجتهاد وقالوا: «سبحانك»! حكاه النقاش قال: ولو لم يشترط عليهم إلا الصدق في الإنباء لجاز لهم الاجتهاد كما جاز للذي أماته الله مائة عام حين قال له: {كَمْ لَبِثْتَ} (البقرة: 259) فلم يشترط عليه الإصابة, فقال ولم يُصب ولم يُعنّف وهذا بيّن لا خفاء فيه. وحكى الطبري وأبو عبيد: أن بعض المفسرين قال إن معنى «إن كنتم»: إذ كنتم, وقالا: هذا خطأ. و «أنْبِئُونِي» معناه أخبروني. والنبأ: الخبر ومنه النبيء بالهمز, وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
السابعة: قال بعض العلماء: يخرج من هذا الأمر بالإنباء تكليف ما لا يطاق لأنه علم أنهم لا يعلمون. وقال المحققون من أهل التأويل: ليس هذا على جهة التكليف وإنما هو على جهة التقرير والتوقيف. وسيأتي القول في تكليف ما لا يطاق ـ هل وقع التكليف به أم لا ـ في آخر السورة, إن شاء الله تعالى.

 قوله تعالى:
{قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاّ مَا عَلّمْتَنَا إِنّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}.
قوله تعالى: {قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاّ مَا عَلّمْتَنَا} فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {سُبْحَانَكَ} أي تنزيهاً لك عن أن يعلم الغيب أحدٌ سواك. وهذا جوابهم عن قوله: «أنْبِئُونِي» فأجابوا أنهم لا يعلمون إلا ما أعلمهم به ولم يتعاطوْا ما لا علم لهم به كما يفعله الجهال منا. و «ما» في «ما علمتنا» بمعنى الذي أي إلا الذي علّمتنا ويجوز أن تكون مصدرية بمعنى إلا تعليمك إيانا.
الثانية: الواجب على مَن سُئل عن علم أن يقول إن لم يعلم: الله أعلم ولا أدري, اقتداء بالملائكة والأنبياء والفضلاء من العلماء, لكن قد أخبر الصادق أنّ بموت العلماء يقبض العلم فيبقى ناس جُهّال يُستفتَوْن فيُفتون برأيهم فَيضِلّون ويُضلون. وأما ما ورد من الأخبار عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين بعدهم في معنى الآية فروَى البُسْتِيّ في المسند الصحيح له عن ابن عمر أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيّ البقاع شرّ؟ قال: «لا أدري حتى أسأل جبريل» فسأل جبريل فقال: لا أدري حتى أسأل ميكائيل فجاء فقال: «خير البقاع المساجد, وشرّها الأسواق». وقال الصّديق للجَدّة: ارجعي حتى أسأل الناس. وكان عليّ يقول: وأبردها على الكبد ثلاث مرات. قالوا وما ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: أن يُسْأَل الرجلُ عما لا يعلم فيقول: الله أعلم. وسأل ابنَ عمر رجلٌ عن مسألة فقال: لا علم لي بها فلما أدبر الرجل. قال ابن عمر: نِعم ما قال ابن عمر, سُئل عما لا يعلم فقال لا علم لي به! ذكره الدّارمِيّ في مسنده. وفي صحيح مسلم عن أبي عَقيل يحيى بن المتوكل صاحب بُهَيّة قال: كنت جالساً عند القاسم بن عبيد الله ويحيى بن سعيد, فقال يحيى للقاسم: يا أبا محمد إنه قبيح على مثلك عظيمٌ أن يُسأل عن شيء من أمر هذا الدّين فلا يوجد عندك منه عِلْمٌ ولا فَرَج, أو عِلْمٌ ولا مَخْرَج؟ فقال له القاسم: وعَمّ ذاك؟ قال: لأنك ابن إمامَيْ هُدًى: ابنُ أبي بكر وعمر. قال يقول له القاسم: أقْبَحُ من ذاك عند مَن عَقل عن الله أن أقول بغير علم أو آخذ عن غير ثقة. فسكت فما أجابه. وقال مالك بن أنس: سمعت ابن هُرْمُز يقول: ينبغي للعالم أن يُوَرّث جلساءه من بعده لا أدري حتى يكون أصلاً في أيديهم فإذا سُئل أحدهم عما لا يدري قال: لا أدري. وذكر الهَيْثَم بن جميل قال: شهدت مالك بن أنس سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها: لا أدري.
قلت: ومثلُه كثيرٌ عن الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين, وإنما يحمل على ترك ذلك الرياسةُ وعدم الإنصاف في العلم. قال ابن عبد البَرّ: مِن بركة العلم وآدابه الإنصافُ فيه, ومن لم يُنصف لم يفهم ولم يتفهّم. روى يونس بن عبد الأعلى قال سمعت ابن وَهَبْ يقول سمعت مالك بن أنس يقول: ما في زماننا شيء أقلّ من الإنصاف.
قلت: هذا في زمن مالك فكيف في زماننا اليوم الذي عمّ فينا الفساد وكثر فيه الطّغام! وطُلب فيه العلم للرياسة لا للدّراية, بل للظهور في الدنيا وغلبة الأقران بالمِراء والجدال الذي يُقْسِي القلب ويُورث الضّغن وذلك مما يحمل على عدم التقوى وترك الخوف من الله تعالى. أين هذا مما رُوي عن عمر رضي الله عنه وقد قال: لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين اُوقِيّة ولو كانت بنت ذي العَصبة ـ يعني يزيد بن الحُصين الحارثي ـ فمن زاد ألقيت زيادته في بيت المال فقامت امرأة من صَوْب النساء طويلةٌ فيها فَطَس فقالت: ما ذلك لك! قال: ولم؟ قالت لأن الله عز وجل يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً} (النساء: 20) فقال عمر: امرأة أصابت ورجل أخطأ! وروى وَكيع عن أبي معشر عن محمد بن كعب القُرَظِي قال: سأل رجل عليّا رضي الله عنه عن مسألة فقال فيها فقال الرجل: ليس كذلك يا أمير المؤمنين, ولكن كذا وكذا فقال عليّ: أصبتَ وأخطأتُ, وفوق كل ذي عِلْمٍ عليم. وذكر أبو محمد قاسم بن أصْبَغَ قال: لمّا رحلتُ إلى المشرق نزلت القَيْرَوان فأخذت على بكر بن حماد حديثَ مُسدّد, ثم رحلتُ إلى بَغداد ولقيت الناس, فلما انصرفتُ عدتُ إليه لتمام حديث مسدّد, فقرأت عليه فيه يوماً حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أنه قدم عليه قوم من مُضَرَ مِن مُجْتابِي النّمَار» فقال: إنما هو مُجْتابي الثّمار فقلت إنما هو مُجتابي النمار هكذا قرأته على كل من قرأته عليه بالأندلس والعراق فقال لي: بدخولك العراق تُعارضنا وتفخَر علينا! أو نحو هذا. ثم قال لي: قم بنا إلى ذلك الشيخ ـ لشيخ كان في المسجد ـ فإن له بمثل هذا عِلماً فقمنا إليه فسألناه عن ذلك فقال: إنما هو مُجْتابي النّمار, كما قلت وهم قوم كانوا يلبسون الثياب مشققة, جيوبُهم أمامَهم. والنّمار جمع نَمِر. فقال بكر بن حماد وأخذ بأنفه: رَغِم أنْفِي للحق, رَغِم أنفي للحق. وانصرف. وقال يزيد بن الوليد بن عبد الملك فأحسن:
إذا ما تحدّثتُ في مجلسٍ   تَناهَى حديثي إلى ما عَلِمتُ
ولم أعْدُ علمي إلى غيره  وكان إذا ما تناهَى سَكتّ
الثانية: قوله تعالى: {سُبْحَانَكَ} «سبحان» منصوب على المصدر عند الخليل وسيبويه, يؤدّي عن معنى نُسَبّحك تسبيحا. وقال الكسائي: هو منصوب على أنه نداء مضاف. و {الْعَلِيمُ} فعيل للمبالغة والتكثير في المعلومات في خلق الله تعالى. و {الْحَكِيمُ} معناه الحاكم وبينهما مزيد المبالغة. وقيل معناه المُحكم ويجيء الحكيم على هذا من صفات الفعل, صُرف عن مُفْعِل إلى فَعِيل, كما صُرف عن مُسْمِع إلى سَميع ومُؤلِم إلى أليم قاله ابن الأنباري. وقال قوم: «الحكيم» المانع من الفساد ومنه سُمّيت حَكَمةُ اللّجام لأنها تمنع الفرس من الجري والذهاب في غير قصد. قال جرير:
أبني حَنِيفةَ أحْكموا سُفهاءَكم  إنّي أخافُ عليكمُ أن أغْضَبَا
أي امنعوهم من الفساد. وقال زهير:
القائد الخيلَ مَنْكوباً دوابرها  قد اُحْكِمَتْ حكَماتِ القِدّ والأبَقَا
القدّ: الجلد. والأبَق: القُنّب. والعرب تقول: أحْكم اليتيم عن كذا وكذا يريدون منعه. والسورة المُحْكَمة: الممنوعة من التغيير وكل التبديل, وأن يُلحق بها ما يخرج عنها, ويزاد عليها ما ليس منها والحِكمة من هذا لأنها تمنع صاحبها من الجهل. ويقال: أحْكَم الشيء إذا أتقنه ومنعه من الخروج عما يريد. فهو مُحْكم وحكيم على التكثير.

 قوله تعالى:
{قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لّكُمْ إِنِيَ أَعْلَمُ غَيْبَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}
قوله تعالى: {قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ} فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ} أمره الله أن يُعلِمهم بأسمائهم بعد أن عرضهم على الملائكة ليعلموا أنه أعلم بما سألهم عنه تنبيهاً على فضله وعلوّ شأنه فكان أفضل منهم بأن قدّمه عليهم وأسجدهم له وجعلهم تلامذته وأمرهم بأن يتعلّموا منه. فحصلت له رتبة الجلال والعظمة بأن جعله مسجوداً له, مختصّا بالعلم.
الثانية: في هذه الآية دليل على فضل العلم وأهله وفي الحديث: «وإن الملائكة لتضع أجنحتها رِضاً لطالب العلم» أي تخضع وتتواضع وإنما تفعل ذلك لأهل العلم خاصّة من بين سائر عيال الله لأن الله تعالى ألزمها ذلك في آدم عليه السلام فتأدّبت بذلك الأدب. فكلما ظهر لها عِلْم في بشر خضعت له وتواضعت وتذلّلت إعظاماً للعلم وأهله, ورضًى منهم بالطلب له والشغل به. هذا في الطلاب منهم فكيف بالأحبار فيهم والربّانيين منهم! جعلنا الله منهم وفيهم, إنه ذو فضل عظيم.
الثالثة: اختلف العلماء من هذا الباب, أيّما أفضل الملائكة أو بنو آدم على قولين: فذهب قوم إلى أن الرسل من البشر أفضل من الرسل من الملائكة, والأولياء من البشر أفضل من الأولياء من الملائكة. وذهب آخرون إلى أن الملأ الأعلى أفضل. احتجّ من فضّل الملائكة بأنهم {عِبَادٌ مّكْرَمُونَ لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} (الأنبياء: 26 ـ 27). {لاّ يَعْصُونَ اللّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (التحريم: 66). وقوله: {لّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرّبُونَ} (النساء: 172) وقوله: {وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ} (هود: 31). وفي البخاريّ: «يقول الله عز وجل: «مَن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم». وهذا نص. احتّج من فضّل بني آدم بقوله تعالى: {إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ أُوْلَـَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيّةِ} (البينة: 7) بالهمز, مِنْ برأ الله الخلق. وقوله عليه السلام: «وإنّ الملائكة لتَضَع أجنحتها رِضًى لطالب العلم» الحديث. أخرجه أبو داود, وبما جاء في أحاديثَ مِن أن الله تعالى يُباهِي بأهل عَرفات الملائكة, ولا يُباهي إلا بالأفضل, والله أعلم. وقال بعض العلماء: ولا طريق إلى القطع بأن الأنبياء أفضل من الملائكة, ولا القطع بأن الملائكة خير منهم لأن طريق ذلك خبر الله تعالى وخبر رسوله أو إجماع الأمة وليس ها هنا شيء من ذلك, خلافاً للقدرية والقاضي أبي بكر رحمه الله حيث قالوا: الملائكة أفضل. قال: وأما من قال من أصحابنا والشّيعة: إن الأنبياء أفضل لأن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود لاَدم, فيقال لهم: المسجود له لا يكون أفضل من الساجد, ألا ترى أن الكعبة مسجود لها والأنبياء والخلق يسجدون نحوها, ثم إن الأنبياء خير من الكعبة باتفاق الأمة. ولا خلاف أن السجود لا يكون إلا لله تعالى لأن السجود عبادة والعبادةُ لا تكون إلا لله, فإذا كان كذلك فكون السجود إلى جهة لا يدل على أن الجهة خير من الساجد العابد وهذا واضح. وسيأتي له مزيد بيان في الآية بعد هذا.
الرابعة: قوله تعالى: {إِنِيَ أَعْلَمُ غَيْبَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} دليل على أن أحداً لا يعلم من الغيب إلا ما أعلمه الله كالأنبياء أو من أعلمه من أعلمه الله تعالى فالمنجمون والكُهّان وغيرهم كذبة. وسيأتي بيان هذا في «الأنعام» إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاّ هُوَ}.
الخامسة: قوله تعالى: {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} أي من قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} حكاه مَكّي والماوَرْدِيّ. وقال الزّهراويّ: ما أبدوه هو بِدارُهم بالسجود لاَدم. {فَلَمّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لّكُمْ إِنِيَ أَعْلَمُ غَيْبَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} قال ابن عباس وابن مسعود وسعيد بن جُبير: المراد ما كتمه إبليس في نفسه من الكبر والمعصية. قال ابن عطية: وجاء «تكتمون» للجماعة والكاتم واحد في هذا القول على تجوّز العرب واتساعها كما يقال لقوم قد جَنَى سَفيهٌ منهم: أنتم فعلتم كذا. أي منكم فاعله, وهذا مع قصد تعنيف, ومنه قوله تعالى: {إَنّ الّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} (الحجرات: 4) وإنما ناداه منهم عُيَيْنَة, وقيل الأقْرَع. وقالت طائفة: الإبداء والمكتوم ذلك على معنى العموم في معرفة أسرارهم وظواهرهم أجمع. وقال مهدي بن ميمون: كنا عند الحسن فسأله الحسن بن دِينار ما الذي كتمت الملائكة؟ قال: إن الله عز وجل لما خلق آدم رأت الملائكة خلقاً عجباً, وكأنهم دخلهم من ذلك شيء, قال: ثم أقبل بعضهم على بعض وأسرّوا ذلك بينهم, (فقالوا: و) ما يهمكم من هذا المخلوق! إن الله لم يخلق خلقاً إلا كنا أكرم عليه منه. و «ما» في قوله: «ما تبدون» يجوز أن ينتصب بـ «ـأعلم» على أنه فعل, ويجوز أن يكون بمعنى عالم وتنصب به «ما» فيكون مثل حَوَاجّ بيت الله, وقد تقدّم.

قوله تعالى:
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لاَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاّ إِبْلِيسَ أَبَىَ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}
فيه عشر مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا} أي واذكر. وأما قول أبي عبيدة: إنّ «إذْ» زائدة فليس بجائز لأن إذ ظرف وقد تقدّم. وقال: «قلنا» ولم يقل قلت لأن الجبار العظيم يخبر عن نفسه بفعل الجماعة تفخيماً وإشادةً بذكره. والملائكة جمع مَلَك وقد تقدّم. وتقدّم القول أيضاً في آدم واشتقاقه فلا معنى لإعادته وروي عن أبي جعفر بن القَعْقاع أنه ضمّ تاء التأنيث من الملائكة إتباعاً لضم الجيم في «اسجدوا». ونظيره «الحمد لله».
الثانية: قوله تعالى: {اسْجُدُواْ} السجود معناه في كلام العرب التذلل والخضوع قال الشاعر:
بِجَمْع تَضِلّ البُلْقُ في حَجَراته  ترى الأكُمَ فيها سُجّداً لِلحوافِرِ
الاُكْمُ: الجبال الصغار. جعلها سُجّداً للحوافر لِقهر الحوافر إياها وأنها لا تمتنع عليها. وعَيْنٌ ساجدة أي فاترة عن النظر, وغايته وضع الوجه بالأرض. قال ابن فارس: سَجد إذ تطامن, وكلّ ما سجد فقد ذّلّ. والإسجاد: إدامة النّظر. قال أبو عمرو: وأسجد إذا طأطأ رأسه قال:
فُضُولَ أزِمّتِها أسجدتْ  سجودَ النصارى لأحبارها
قال أبو عبيدة: وأنشدني أعرابي من بني أسد:
قلنَ له أسْجِدْ لِلْيلَى فأسجدَا
يعني البعير إذا طأطأ رأسه ودراهمُ الإسجاد: دراهم كانت عليها صُور كانوا يسجدون لها قال:
وافىَ بها كدراهم الإسجاد
الثالثة: استدلّ مَن فضّل آدم وبَنِيه بقوله تعالى للملائكة: {اسْجُدُواْ لاَدَمَ}. قالوا: وذلك يدلّ على أنه كان أفضلَ منهم. والجواب أن معنى {اسْجُدُواْ لاَدَمَ} اسجدوا لي مستقبلين وَجْه آدم. وهو كقوله تعالى: {أَقِمِ الصّلاَةَ لِدُلُوكِ الشّمْسِ} (الإسراء:(78) أي عند دلوك الشمس وكقوله: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} (صَ: 72) أي فقعوا لي عند إتمام خلقه ومواجهتكم إياه ساجدين. وقد بيّنا أن المسجود له لا يكون أفضلَ من الساجد بدليل القِبْلة.
فإن قيل: فإذا لم يكن أفضلَ منهم فما الحكمة في الأمر بالسجود له؟ قيل له: إن الملائكة لما استعظموا بتسبيحهم وتقديسهم أمَرَهم بالسجود لغيره ليريهم استغناءه عنهم وعن عبادتهم. وقال بعضهم: عيّروا آدم واستصغروه ولم يعرفوا خصائص الصّنع به فأمِروا بالسجود له تكريماً. ويحتمل أن يكون الله تعالى أمرهم بالسجود له معاقبةً لهم على قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} لمّا قال لهم: {إِنّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً} وكان علم منهم أنه إن خاطبهم أنهم قائلون هذا, فقال لهم: {إِنّي خَالِقٌ بَشَراً مّن طِينٍ} (صَ: 71) وجاعله خليفةً, فإذا نفخْتُ فيه من روحي فَقَعُوا له ساجدين. والمعنى: ليكون ذلك عقوبةً لكم في ذلك الوقت على ما أنتم قائلون لي الاَن.
فإن قيل: فقد استدلّ ابن عباس على فضل البشر بأن الله تعالى أقسم بحياة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: {لَعَمْرُكَ إِنّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} (الحجر: 72). وأمّنه من العذاب بقوله: {لّيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ مَا تَقَدّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخّرَ} (الفتح: 2). وقال للملائكة: {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّيَ إِلَـَهٌ مّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنّمَ} (الأنبياء: 29). قيل له: إنما لم يُقسم بحياة الملائكة كما لم يُقسم بحياة نفسه سبحانه فلم يقل: لَعَمْرِي. وأقسم بالسماء والأرض ولم يدلّ على أنهما أرفع قدراً من العرش والجِنان السّبع. وأقسم بالتين والزيتون. وأمّا قوله سبحانه: {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّيَ إِلَـَهٌ مّن دُونِهِ} فهو نظير قوله لنبيّه عليه السلام: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (الزمر: 65) فليس فيه إذاً دلالة, والله أعلم.
الرابعة: واختلف الناس في كيفية سجود الملائكة لاَدم بعد اتفاقهم على أنه لم يكن سجود عبَادةٍ فقال الجمهور: كان هذا أمراً للملائكة بوضع الجِباه على الأرض, كالسجود المعتاد في الصلاة لأنه الظاهر من السجود في العُرف والشرع وعلى هذا قيل: كان ذلك السجود تكريماً لاَدم وإظهاراً لفضله, وطاعةً لله تعالى, وكان آدم كالقِبْلة لنا. ومعنى «لاَدم»: إلى آدم كما يقال صلّى للقبْلة أي إلى القبلة. وقال قوم: لم يكن هذا السجود المعتاد اليوم الذي هو وضع الجبهة على الأرض ولكنه مُبقًى على أصل اللّغة فهو من التذلّل والانقياد, أي اخضعوا لاَدم وأقرّوا له بالفضل. {فَسَجَدُواْ} أي امتثلوا ما أمروا به.
واختُلِف أيضاً هل كان ذلك السجود خاصّا بآدم عليه السلام فلا يجوز السجود لغيره من جميع العالم إلا لله تعالى, أم كان جائزاً بعده إلى زمان يعقوب عليه السلام لقوله تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرّواْ لَهُ سُجّدَاً} (يوسف: 100) فكان آخر ما أبيح من السجود للمخلوقين؟ والذي عليه الأكثر أنه كان مباحاً إلى عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأن أصحابه قالوا له حين سجدت له الشجرة والجمل: نحن أوْلَى بالسجود لك من الشجرة والجمل الشارد فقال لهم: «لا ينبغي أن يُسجد لأحد إلا لله ربّ العالمين». روى ابن ماجه في سُننه والبُسْتِيّ في صحيحه عن عبد اللّه بن أبي أوفى قال: لما قدم معاذ بن جبل من الشام سجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما هذا» فقال: يا رسول الله, قدمتُ الشام فرأيتهم يسجدون لبطارقتهم وأساقفتهم, فأردت أن أفعل ذلك بك قال: «فلا تفعل فإني لو أمَرتُ شيئاً أن يسجد لشيء لأمرتُ المرأة أن تسجد لزوجها لا تؤدّي المرأةُ حقّ ربّها حتى تؤدّي حقّ زوجها حتى لو سألها نفسَها وهي على قَتَب لم تمنعه». لفظ البُسْتي. ومعنى القتب أن العرب يَعِزّ عندهم وجود كرسي للولادة فيحملون نساءهم على القَتَب عند الولادة. وفي بعض طرق معاذ: ونَهَى عن السجود لبشر, وأمر بالمصافحة.
قلت: وهذا السجود المنهيّ عنه قد اتخذه جُهّال المتصوّفة عادةً في سماعهم وعند دخولهم على مشايخهم واستغفارهم فيرى الواحد منهم إذا أخذه الحال بزعمه يسجد للأقدام لجهله سواء أكان للقبلة أم غيرها جهالة منه ضلّ سَعْيُهم وخاب عملهم.
الخامسة: قوله: {إِلاّ إِبْلِيسَ} نصب على الاستثناء المتصل لأنه كان من الملائكة على قول الجمهور: ابن عباس وابن مسعود وابن جُريج وابن المسيّب وقَتادة وغيرهم وهو اختيار الشيخ أبي الحسن, ورجّحه الطبري وهو ظاهر الآية. قال ابن عباس: وكان اسمه عزازيل وكان من أشراف الملائكة وكان من الأجنحة الأربعة ثم اُبْلِس بعد. روى سِمَاك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان إبليس من الملائكة فلما عصى الله غضب عليه فلعنه فصار شيطاناً. وحكى الماوَرْدِيّ عن قتادة: أنه كان من أفضل صنف من الملائكة يقال لهم الجِنة. وقال سعيد بن جُبير: إن الجنّ سِبْط من الملائكة خُلقوا من نار وإبليس منهم, وخلق سائر الملائكة من نور. وقال ابن زيد والحسن وقتادة أيضاً: إبليس أبو الجن كما أن آدم أبو البشر ولم يكن مَلَكا وروي نحوه عن ابن عباس وقال: اسمه الحارث. وقال شَهْر بن حَوْشَب وبعض الأصوليين: كان من الجنّ الذين كانوا في الأرض وقاتلتهم الملائكة فسبَوْه صغيراً وتعبّد مع الملائكة وخُوطب وحكاه الطبري عن ابن مسعود. والاستثناء على هذا منقطع, مثل قوله تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاّ اتّبَاعَ الظّنّ} (النساء: 157), وقوله: {إِلاّ مَا ذَكّيْتُمْ} (المائدة: 3) في أحد القولين وقال الشاعر:
ليس عليك عطشٌ ولا جوعْ  إلا الرّقادَ والرقادُ ممنوعْ
واحتّج بعض أصحاب هذا القول بأن الله جلّ وعزّ وصف الملائكة فقال: {لاّ يَعْصُونَ اللّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (التحريم: 66), وقوله تعالى: {إِلاّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنّ} (الكهف: 50) والجنّ غير الملائكة. أجاب أهل المقالة الأولى بأنه لا يمتنع أن يخرج إبليس من جملة الملائكة لما سبق في علم الله بشقائه عدلاً منه, لا يُسْأَل عما يَفعل, وليس في خلقه من نار ولا في تركيب الشهوة حين غضب عليه ما يدفع أنه من الملائكة. وقول من قال: إنه كان من جنّ الأرض فسُبِيَ, فقد رُوي في مقابلته أن إبليس هو الذي قاتل الجنّ في الأرض مع جُند من الملائِكة حكاه المهدَوِيّ وغيره. وحكي الثّعلبي عن ابن عباس: أن إبليس كان من حيّ من أحياء الملائكة يقال لهم الجنّ خُلقوا من نار السموم, وخُلقت الملائكة من نور, وكان اسمه بالسريانية عزازيل, وبالعربية الحارث, وكان من خُزّان الجنة وكان رئيسَ ملائكة السماء الدنيا وكان له سلطانها وسلطان الأرض, وكان من أشدّ الملائكة اجتهاداً وأكثرهم علماً, وكان يسوس ما بين السماء والأرض فرأى لنفسه بذلك شرفاً وعظمة, فذلك الذي دعاه إلى الكفر فعصى الله فمسخه شيطاناً رجيماً. فإذا كانت خطيئة الرجل في كِبْر فلا تَرْجُه, وإن كانت خطيئة في معصية فارْجُه وكانت خطيئة آدم عليه السلام معصية, وخطيئة إبليس كِبْراً. والملائكة قد تُسَمّى جِنّا لاستتارها وفي التنزيل: {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنّةِ نَسَباً} (الصافات: 158) وقال الشاعر في ذكر سليمان عليه السلام:
وسَخّرَ مِن جِنّ الملائِكِ تِسعةً  قياماً لَدَيْهِ يعملون بلا أجْرِ
وأيضاً لما كان من خُزّان الجنة نُسب إليها فاشتق اسمه من اسمها, والله أعلم. وإبليس وزنه إفعيل, مشتقّ من الإبلاس وهو اليأس من رحمة الله تعالى. ولم ينصرف لأنه معرفة ولا نظير له في الأسماء فشبّه بالأعجمية قاله أبو عبيدة وغيره. وقيل: هو أعجمي لا اشتقاق له فلم ينصرف للعُجْمة والتعريف قاله الزجاج وغيره.
السادسة: قوله تعالى: {أَبَىَ} معناه امتنع من فعل ما اُمِر به ومنه الحديث الصحيح عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إذا قرأ ابن آدم السجدة (فَسَجد) اعتزل الشيطان يبكي يقول يا وَيْله ـ وفي رواية: يا وَيْلي ـ اُمِر ابن آدم بالسجود فَسَجد فله الجنة وأمِرتُ بالسجود فأبَيْتُ فَلِي النار». خّرجه مسلم. يقال: أبَى يأبَى إباءً, وهو حرف نادر جاء على فَعَل يَفْعَل ليس فيه حرف من حروف الحَلْق وقد قيل: إن الألف مضارِعة لحروف الحلْق. قال الزجاج: سمعت إسماعيل بن إسحَق القاضي يقول: القول عندي أن الألف مضارِعة لحروف الحلق. قال النحاس: ولا أعلم أن أبا إسحَق روى عن إسماعيل نحواً غير هذا الحرف.
السابعة: قوله تعالى: {وَاسْتَكْبَرَ} الاستكبار: الاستعظام فكأنه كره السجود في حقه واستعظمه في حق آدم فكان ترك السجود لاَدم تسفيهاً لأمر الله وحكمته. وعن هذا الكِبر عبّر عليه السلام بقوله: «لا يدخل الجنة مَن (كان) في قلبه مثقالُ حبة من خَرْدَل من كِبر». في رواية فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسَناً ونعله حسنة. قال: «إن الله جميل يحب الجمال الكِبْرُ بَطَرُ الحق وغَمْطُ الناس». أخرجه مسلم. ومعنى بطر الحق: تسفيهه وإبطاله. وغمط الناس: الاحتقار لهم والازدراء بهم. ويروى: «وغمص» بالصاد المهملة, والمعنى واحد يقال: غَمِصه يَغْمِصه غَمْصاً واغتمصه أي استصغره ولم يره شيئاً. وغَمَص فلان النعمة إذا لم يشكرها. وغَمَصتُ عليه قولاً قاله, أي عبته عليه. وقد صرّح اللّعين بهذا المعنى فقال: {أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} (الأعراف: 12). {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} (الإسراء: 61). {قَالَ لَمْ أَكُن لأسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مّنْ حَمَإٍ مّسْنُونٍ} (الحجر: 33) فكفّره الله بذلك. فكلّ من سَفّه شيئاً من أوامر الله تعالى أو أمر رسوله عليه السلام كان حُكْمُه حُكْمَه, وهذا ما لا خلاف فيه. وروى ابن القاسم عن مالك أنه قال: بلغني أن أوّل معصية كانت الحسد والكبر, حسَدَ إبليسُ آدم, وشح آدم في أكله من الشجرة. وقال قتادة: حَسَدَ إبليسُ آدم, على ما أعطاه الله من الكرامة فقال: أنا ناريّ وهذا طِيني. وكان بدء الذنوب الكِبْر, ثم الحرص حتى أكل آدم من الشجرة, ثم الحسد إذ حسد ابن آدم أخاه.
الثامنة: قوله تعالى: {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} قيل: كان هنا بمعنى صار ومنه قوله تعالى: {فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ}. (هود: 43) وقال الشاعر:
بتَيْهاءَ قَفْرٍ والمَطِيّ كأنها  قطا الحَزْن قد كانت فِراخاً بُيوضُها
أي صارت. وقال ابن فُورَك. «كان» هنا بمعنى صار خطأ تردّه الأصول. وقال جمهور المتأوّلين: المعنى أي كان في علم الله تعالى أنه سيكفر لأن الكافر حقيقةً والمؤمنَ حقيقةً هو الذي قد علم الله منه الموافاة.
قلت: وهذا صحيح لقوله صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري: «وإنما الأعمال بالخواتيم». وقيل: إن إبليس عبد اللّه تعالى ثمانين ألف سنة, واُعْطي الرياسة والخِزانة في الجنة على الاستدراج كما أعْطى المنافقون شهادة أن لا إلَه إلا الله على أطراف ألسنتهم, وكما اُعْطي بَلْعَام الاسم الأعظم على طرف لسانه فكان في رياسته والكبر في نفسه متمكن. قال ابن عباس: كان يرى لنفسه أن له فضيلة على الملائكة بما عنده فلذلك قال: أنا خير منه ولذلك قال الله عز وجل: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ} (صَ: 75) أي استكبرت ولا كِبْر لك, ولم أتكبّر أنا حين خلقتُه بيديّ والكبر لي! فلذلك قال: {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}. وكان أصل خلقته من نار العِزّة ولذلك حَلف بالعِزّة فقال: {فَبِعِزّتِكَ لاُغْوِيَنّهُمْ أَجْمَعِينَ} (صَ: 82) فالعِزّة أوْرثته الكِبْر حتى رأى الفضل له على آدم عليه السلام. وعن أبي صالح قال: خُلقت الملائكة من نُور العِزّة وخُلق إبليس من نار العِزّة.
التاسعة: قال علماؤنا ـ رحمة الله عليهم ـ: ومَن أظهر الله تعالى على يديه ممن ليس بنبيّ كرامات وخوارق للعادات فليس ذلك دالاّ على ولايته خلافاً لبعض الصّوفية والرافضة حيث قالوا: إن ذلك يدل على أنه وَلِيّ, إذ لو لم يكن وَلِيّا ما أظهر الله على يديه ما أظهر. ودليلنا أن العلم بأن الواحد منّا وليّ لله تعالى لا يصح إلا بعد العلم بأنه يموت مؤمناً, لم يمكنا أن نقطع على أنه وليّ لله تعالى لأن الوليّ لله تعالى مَن علم الله تعالى أنه لا يوافي إلا بالإيمان. ولما اتفقنا على أننا لا يمكننا أن نقطع على أن ذلك الرجل يوافي بالإيمان, ولا الرجل نفسه يقطع على أنه يوافي بالإيمان, علم أن ذلك ليس يدلّ على ولايته لله. قالوا: ولا نمنع أن يطلع الله بعض أوليائه على حسن عاقبته وخاتمة عمله وغيره معه قاله الشيخ أبو الحسن الأشْعَرِيّ وغيره. وذهب الطّبَرِي إلى أن الله تعالى أراد بقصة إبليس تقريع أشباهه من بني آدم, وهم اليهود الذي كفروا بمحمد عليه السلام مع علمهم بنبوته, ومع قِدَم نعم الله عليهم وعلى أسلافهم.
العاشرة: واختلف هل كان قبل إبليس كافر أولا؟ فقيل: لا, وإن إبليس أوّل من كفر. وقيل: كان قبله قوم كفار وهم الجن وهم الذين كانوا في الأرض. واختلف أيضاً هل كفر إبليس جهلاً أو عناداً على قولين بين أهل السّنة, ولا خلاف أنه كان عالماً بالله تعالى قبل كفره. فمن قال إنه كفر جهلاً قال: إنه سُلب العلم عند كفره. ومن قال كفر عنادا قال: كفر ومعه علمه. قال ابن عطية: والكفر (عناداً) مع بقاء العلم مستبعد, إلا أنه عندي جائز لا يستحيل مع خذل الله لمن يشاء.

 قوله تعالى:
{وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـَذِهِ الشّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظّالِمِينَ}
 فيه ثلاث عشرة مسألة:
الأولى: قوله تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ} لا خلاف أن الله تعالى أخرج إبليس عند كفره وأبعده عن الجنة, وبعد إخراجه قال لاَدم: اسكن أي لازم الإقامة واتخذها مسكناً, وهو محل السكون. وسَكَن إليه يَسْكُن سكوناً. والسّكَن: النار قال الشاعر:
قد قُوّمَتْ بِسَكَنٍ وأدهان
والسّكَن: كل ما سُكن إليه. والسّكين معروف, سُمّيَ به لأنه يُسَكّن حركة المذبوح ومنه المِسْكين لقلة تصرّفه وحركته. وسُكّان السفينة عربيّ لأنه يُسَكّنها عن الاضطراب.
الثانية: في قوله تعالى: {اسْكُنْ} تنبيه على الخروج لأن السّكْنَى تكون إلى مدّة ثم تنقطع, فدخولهما في الجنة كان دخول سُكْنَى لا دخول إقامة.
قلت: وإذا كان هذا فيكون فيه دلالة على ما يقوله الجمهور من العلماء: إن من أسكن رجلاً مسكناً له أنه لا يملكه بالسّكْنَى, وأن له أن يخرجه إذا انقضت مدّة الإسكان. وكان الشعبيّ يقول: إذا قال الرجل داري لك سُكْنَى حتى تموت فهي له حياتَه وموتَه, وإذا قال: داري هذه اسكنها حتى تموت فإنها ترجع إلى صاحبها إذا مات. ونَحوٌ من السّكْنَى العُمْرَى, إلا أن الخلاف في العُمْرَى أقوى منه في السّكْنَى. وسيأتي الكلام في العُمْرَى في «هود» إن شاء الله تعالى. قال الحَرْبيّ: سمعت ابن الإعرابي يقول: لم يختلف العرب في أن هذه الأشياء على مِلْك أربابها ومنافعها لمن جُعلت له والرقبى والإفقار والإخبال والمِنحة والعَرِيّة والسّكْنَى والإطراق. وهذا حجة مالك وأصحابه في أنه لا يملك شيء من العطايا إلا المنافع دون الرّقاب وهو قول اللّيْث بن سعد والقاسم بن محمد, ويزيد بن قُسيط.
والعُمْرَى: هو إسكانك الرجل في دار لك مدّة عمرك أو عمره. ومثله الرّقْبَى. وهو أن يقول: إن مُتّ قبلي رجعتْ إليّ وإن متّ قبلك فهي لك وهي من المراقبة. والمراقبة: أن يَرقُب كلّ واحد منهما موتَ صاحبه ولذلك اختلفوا في إجازتها ومنعها, فأجازها أبو يوسف والشافعي, وكأنها وَصِيّةٌ عندهم. ومنعها مالك والكوفيون لأن كل واحد منهم يقصد إلى عوض لا يدري هل يحصل له, ويتمنى كل واحد منهما موت صاحبه. وفي الباب حديثان أيضاً بالإجازة والمنع ذكرهما ابن ماجه في سُننه الأوّل رواه جابر بن عبد اللّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العُمْرَى جائزةٌ لمن اُعمِرَها والرّقْبَى جائزةٌ لمن اُرْقِبهَا» ففي هذا الحديث التسويةُ بين العُمْرَى والرّقْبَى في الحكم. الثاني رواه ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا رُقْبَى فمن اُرْقِب شيئاً فهو له حياتَه ومماتَه». قال: والرّقْبَى أن يقول هو للآخر: مِنّي ومنك موتا. فقوله: «لا رُقْبى» نهيٌ يدلّ على المنع وقوله: «مَن اُرْقِب شيئاً فهو له» يدلّ على الجواز وأخرجهما أيضاً النّسائي. وذكر عن ابن عباس قال: العُمْرَى والرّقْبَى سواء. وقال ابن المنذر: ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «العُمْرَى جائزة لمن اُعمرها والرّقْبَى جائزة لمن أرْقِبها». فقد صحّح الحديث ابن المنذر وهو حجة لمن قال بأن العُمْرَى والرّقْبَى سواء. ورُوي عن عليّ وبه قال الثّوْرِيّ وأحمد, وأنها لا ترجع إلى الأوّل أبداً وبه قال إسحَق. وقال طاوس: مَن أرقب شيئاً فهو سبيل الميراث.
والإفقار مأخوذ من فَقار الظّهر. أفقرتك ناقتي. أعَرْتُك فَقارها لتركبها. وأفقرك الصيد إذا أمكنك من فقاره حتى ترميه. ومثله الإخبال, يقال: أخبلت فلاناً إذا أعرته ناقة يركبها أو فرساً يغزو عليه قال زهير:
هنالك إن يُسْتَخْبَلُوا المال يُخْبِلوا  وإن يُسْأَلوا يُعْطُوا وإن يَيْسِروا يَغْلُوا
والمِنْحة: العطِيّة. والِمنْحة: مِنحة اللّبن. والمَنِيحة: الناقةُ أو الشاةُ يُعطيها الرجلُ آخر يحتلبها ثم يردّها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العاريّة مُؤدّاةٌ والمنحة مرودةٌ والدّين مقضِيّ والزّعيم غارم». رواه أبو أمامة, أخرجه الترمذيّ والدّارَقُطْنيّ وغيرهما, وهو صحيح.
والإطراق: إعارة الفحل استطرق فلان فلاناً فَحْلَه: إذا طلبه ليضرب في إبله فأطرقه إياه ويقال: أطرِقني فحلك أي أعِرْني فَحْلَك ليضرب في إبلي. وطَرَق الفحلُ الناقةَ يَطْرُق طروقاً أي قَعَا عليها. وطَرُوقة الفحل: اُنثاه يقال: ناقة طَروقة الفحل للتي بلغت أن يضربها الفحل.
الثالثة: قوله تعالى: {أَنْتَ وَزَوْجُكَ} «أنت» تأكيد للمضمر الذي في الفعل ومثله {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبّكَ}. ولا يجوز اسكن وزوجك, ولا اذهب وربك, إلا في ضرورة الشعر كما قال:
قلتُ إذ أقبلتْ وزُهْرٌ تَهَادَى  كنِعاج المَلا تَعَسّفْنَ رَمْلاً
فـ «زُهْر» معطوف على المضمر في «أقبلتْ» ولم يؤكد ذلك المضمر. ويجوز في غير القرآن على بُعْد: قم وزيد.
الرابعة: قوله تعالى: {وَزَوْجُكَ} لغة القرآن «زَوْجٌ» بغير هاء, وقد تقدّم القول فيه. وقد جاء في صحيح مسلم: «زوجة», حدّثنا عبد اللّه بن مَسْلَمة بن قَعْنَب قال حدّثنا حماد بن سَلَمة عن ثابت البُنَانِيّ عن أنس: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان مع إحدى نسائه فمرّ به رجل فدعاه فجاء فقال: «يا فلانُ هذه زوجتي فلانة»: فقال يا رسول الله, مَن كنتُ أظنّ به فلم أكن أظنّ بك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان يجري من الإنسان مَجْرى الدم». وزوج آدم عليه السلام هي حوّاء عليها السلام, وهو أوّل من سمّاها بذلك حين خُلقت من ضِلَعِهِ من غير أن يَحُسّ آدم عليه السلام بذلك ولو ألِم بذلك لم يَعْطِف رجل على امرأته فلما انتبه قيل له: من هذه؟ قال: امرأة قيل: وما اسمها؟ قال: حّواء قيل: ولِمَ سُمّيت امرأة؟ قال: لأنها من المرء أخِذت قيل: ولمَ سُمّيت حوّاء؟ قال: لأنها خُلقت من حيّ. روي أن الملائكة سألته عن ذلك لتجرّب علمه, وأنهم قالوا له: أتحبها يا آدم؟ قال: نعم قالوا لحوّاء: أتحبينه يا حوّاء؟ قالت: لا وفي قلبها أضعافُ ما في قلبه من حبه. قالوا: فلو صَدَقت امرأة في حبّها لزوجها لصدَقت حوّاء. وقال ابن مسعود وابن عباس: لما اُسْكِن آدم الجنة مشى فيها مستوحشاً, فلمّا نام خُلقت حوّاء مِن ضلعه القُصْرَى مِن شقه الأيسر ليسكن إليها ويأنس بها فلما انتبه رآها فقال: من أنت؟! قالت: امرأة خُلقت من ضلعك لتسكن إليّ وهو معنى قوله تعالى: {هُوَ الّذِي خَلَقَكُمْ مّن نّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} (الأعراف: 179). قال العلماء: ولهذا كانت المرأة عَوْجاء لأنها خُلقت من أعوج وهو الضّلع. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المرأة خُلقت من ضلع ـ في رواية: وإنّ أعوج شيء في الضلع أعلاه ـ لن يستقيم لك على طريقة واحدة فإن استمتعتَ بها استمعتَ (بها) وبها عِوَج وإن ذهبتَ تُقِيمها كَسَرْتَها وكَسْرُها طلاقُها». وقال الشاعر:
هي الضّلَع العَوجاءُ لستَ تُقيمها  ألاَ إنّ تقويم الضلوع انكسارها
أتجمع ضَعفاً واقتداراً على الفتى  أليس عجيباً ضعفُها واقتدارها
ومن هذا الباب استدل العلماء على ميراث الخنثى المُشْكل إذا تساوت فيه علامات النساء والرجال من اللّحية والثّدْي والمبال بنقص الأعضاء. فإن نقصت أضلاعه عن أضلاع المرأة اُعْطيَ نصيب رجل ـ روي ذلك عن عليّ رضي الله عنه ـ لخلق حوّاءَ من أحد أضلاعه, وسيأتي في المواريث بيان هذا إن شاء الله تعالى.
الخامسة: قوله تعالى: {الجنة} الجنة: البُستان, وقد تقدّم القول فيها. ولا التفات لما ذهبت إليه المعتزلة والقدرية من أنه لم يكن في جنة الخُلْد وإنما كان في جنة بأرض عَدَن. واستدلّوا على بدعتهم بأنها لو كانت جنة الخلد لما وصل إليه إبليس, فإن اللّه يقول: {لاّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ} (الطور: 23) وقال: {لاّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذّاباً} (النبأ: 35) وقال: {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً} {إِلاّ قِيلاً سَلاَماً} (الواقعة: 25 ـ 26). وأنه لا يخرج منها أهلها لقوله: {وَمَا هُمْ مّنْهَا بِمُخْرَجِينَ} (الحجر: 48). وأيضاً فإن جنة الخُلْد هي دار القُدْس, قُدّست عن الخطايا والمعاصي تطهيراً لها. وقد لَغَا فيها إبليس وكَذَب, واُخْرِج منها آدم وحواء بمعصيتهما.
قالوا: وكيف يجوز على آدم مع مكانه من الله وكمال عقله أن يطلب شجرة الخُلْد وهو في دار الخُلْد والمُلْك الذي لا يبلَى؟ فالجواب: أن الله تعالى عَرّف الجنة بالألف واللام ومن قال: أسأل الله الجنة لم يُفهم منه في تعارف الخلق إلا طلب جنة الخلد. ولا يستحيل في العقل دخول إبليس الجنة لتغرير آدم وقد لَقِي موسى آدم عليهما السلام فقال له موسى: أنت أشقيتَ ذُرّيتك وأخرجتهم من الجنة فأدخل الألف واللام ليدل على أنها جنة الخلد المعروفة, فلم ينكر ذلك آدم, ولو كانت غيرها لردّ على موسى فلما سكت آدم على ما قَرّره موسى صحّ أن الدار التي أخرجهم الله عزّ وجلّ منها بخلاف الدار التي اُخرجوا إليه. وأما ما احتجوا به من الاَي فذلك إنما جعله الله فيها بعد دخول أهلها فيها يوم القيامة, ولا يمتنع أن تكون دار الخلد لمن أراد الله تخليده فيها وقد يخرج منها من قُضي عليه بالفناء. وقد أجمع أهل التأويل على أن الملائكة يدخلون الجنة على أهل الجنة ويخرجون منها, وقد كان مفاتيحها بيد إبليس ثم انتزعت منه بعد المعصية, وقد دخلها النبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء ثم خرج منها وأخبر بما فيها وأنها جنة الخلد حقّا. وأما قولهم: إن الجنة دار القُدْس وقد طهّرها الله تعالى من الخطايا فجهلٌ منهم وذلك أن الله تعالى أمر بني إسرائيل أن يدخلوا الأرض المقدّسة وهي الشام, وأجمع أهل الشرائع على أن الله تعالى قدّسها وقد شُوهد فيها المعاصي والكفر والكذب ولم يكن تقديسها مما يمنع فيها المعاصي وكذلك دار القُدْس. قال أبو الحسن بن بطال: وقد حكى بعض المشايخ أن أهل السّنّة مجمعون على أن جنة الخلد هي التي أهبط منها آدم عليه السلام, فلا معنى لقول مَن خالفهم. وقولهم كيف يجوز على آدم في كمال عقله أن يطلب شجرة الخُلْد وهو دار الخلد فيُعكس عليهم ويقال: كيف يجوز على آدم وهو في كمال عقله أن يطلب شجرة الخلد في دار الفناء! هذا ما لا يجوز على من له أدنى مُسْكة من عقل, فكيف بآدم الذي هو أرجح الخلق عقلا, على ما قال أبو أمامة على ما يأتي.
السادسة: قوله تعالى: {وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا} قراءة الجمهور «رَغَداً» بفتح الغين. وقرأ النّخَعِيّ وابن وَثّاب بسكونها. والرّغَد: العيش الدّارّ الهنيّ الذي لا عنَاء فيه قال:
بينما المرء تراه ناعما  يأمن الأحداث في عيش رغد
ويقال: رَغِد عيشُهم ورِغد (بضم الغين وكسرها). وأرغد القوم: أخصبوا وصاروا في رَغَد من العيش. وهو منصوب على الصفة لمصدر محذوف. وحَيْثُ وحيثَ وحيثِ, وحَوْثَ وحوثِا, كلّها لغات, ذكرها النحاس وغيره.
السابعة: قوله تعالى {وَلاَ تَقْرَبَا هَـَذِهِ الشّجَرَةَ} أي لا تقرباها بأكل لأن الإباحة فيه وقعت. قال ابن العربي: سمعت الشّاشيّ في مجلس النّضْر (بن شُميل) يقول: إذا قيل لا تقرَب (بفتح الراء) كان معناه لا تَلَبّس بالفعل, وإذا كان (بضم الراء) فإن معناه لا تَدْنُ منه. وفي الصحاح: قَرُب الشيءُ يقرُب قُرْباً أي دنا. وقَرِبته (بالكسر) أقْرَبه قُرْبانا أي دنَوْت منه. وقَرَبت أقْربُ قِرابة ـ مثل كتبت أكتب كتابة ـ إذا سِرت إلى الماء وبينك وبينه ليلة والاسم القَرَب. قال الأصمعي: قلت لأعرابيّ: ما القَرَب؟ فقال: سَيْرُ الليل لِورْد الغد. وقال ابن عطية قال بعض الحذاق: إن الله تعالى لما أراد النهي عن أكل الشجرة نهى عنه بلفظ يقتضي الأكل وما يدعو إليه العرب وهو القرب. قال ابن عطية: وهذا مثالٌ بَيّن في سدّ الذرائع. وقال بعض أرباب المعاني قوله: «ولا تَقْرَبَا» إشعار بالوقوع في الخطيئة والخروج من الجنة, وأن سكناه فيها لا يدوم لأن المخلّد لا يحظر عليه شيء ولا يؤمر ولا يُنْهَى. والدليل على هذا قوله تعالى {إِنّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً} فدلّ على خروجه منها.
الثامنة: قوله تعالى: {هَـَذِهِ الشّجَرَةَ} الاسم المبهَم يُنعت بما فيه الألف واللام لا غير, كقولك: مررت بهذا الرجل وبهذه المرأة وهذه الشجرة. وقرأ ابن مُحَيْصِن: «هذي الشجرة» بالياء وهو الأصل لأن الهاء في هذه بدل من ياء ولذلك انكسر ما قبلها, وليس في الكلام هاء تأنيث قبلها كسرة سواها, وذلك لأن أصلها الياء.
والشّجَرة والشّجَرة والشّيَرة ثلاثُ لغات, وقرئ «الشّجرة» بكسر الشين. والشّجرة والشّجَرة: ما كان على ساق من نبات الأرض. وأرض شَجِيرة وشَجْراء أي كثيرة الأشجار, ووادٍ شَجير ولا يقال: وادٍ أشجر. وواحد الشّجْراء شَجَرة, ولم يأت من الجمع على هذا المثال إلا أحرف يسيرة: شَجَرة وشَجْراء, وقَصَبة وقَصْباء, وطَرَفة وطَرْفاء, وحَلَفة وحَلْفاء. وكان الأصمعي يقول في واحد الحَلْفاء: حَلِفة بكسر اللام مخالفة لأخواتها. وقال سيبويه: الشّجراء واحد وجَمْع, وكذلك القَصْباء والطّرْفاء والحَلْفاء. والمَشْجَرة: موضع الأشجار. وأرض مَشْجَرة, وهذه الأرض أشجر من هذه أي أكثر شجراً, قاله الجوهري.
التاسعة: واختلف أهل التأويل في تعيين هذه الشجرة التي نُهي عنها فأكل منها فقال ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جُبير وجَعْدة بن هُبيرة: هي الكَرْم ولذلك حُرّمت علينا الخمر. وقال ابن عباس أيضاً وأبو مالك وقَتادة: هي السّنْبُلة, والحبّةُ منها ككُلَى البقر, أحْلَى من العسل وألْيَن من الزّبْد قاله وَهْب بن مُنَبّه. ولما تاب الله على آدم جعلها غذاء لبنيه. وقال ابن جُريج عن بعض الصحابة: هي شجرة التّين, وكذا روى سعيد عن قتادة, ولذلك تُعَبّر في الرؤيا بالندامة لأكلها من أجل ندم آدم عليه السلام على أكلها ذكره السّهَيْلي. قال ابن عطية: وليس في شيء من هذا التعيين ما يَعْضُده خبرٌ وإنما الصواب أن يُعتقد أن الله تعالى نهى آدم عن شجرة فخالف هو إليها وعصى في الأكل منها. وقال القُشيري أبو نصر: وكان الإمام والدي رحمه الله يقول: يُعلم على الجملة أنها كانت شجرة المِحْنة.
العاشرة: واختلفوا كيف أكل منها مع الوعيد المقترن بالقرب وهو قوله تعالى: {فَتَكُونَا مِنَ الْظّالِمِينَ}, فقال قوم: أكلا من غير التي أشير إليها, فلم يتأوّلا النهي واقعاً على جميع جنسها, كأن إبليس غَرّه (بالأخذ) بالظاهر. قال ابن العربي: وهي أوّل معصية عصي الله بها على هذا القول. قال: «وفيه دليل على أن من حلف ألا يأكل من هذا الخبز فأكل من جنسه حنِث. وتحقيق المذاهب فيه أن أكثر العلماء قالوا: لا حِنْث فيه. وقال مالك وأصحابه: إن اقتضى بساط اليمين تعيين المشار إليه لم يحنَث بأكل جنسه, وإن اقتضى بساط اليمين أو سببها أو نيتها الجنس حُمل عليه وحنِث بأكل غيره وعليه حُملت قصة آدم عليه السلام فإنه نهي عن شجرة عُيّنت له وأريد بها جنسها فحمل القول على اللفظ دون المعنى.
وقد اختلف علماؤنا في فَرْعٍ من هذا وهو أنه إذا حلَف ألا يأكل هذه الحنطة فأكل خبزاً منها على قولين قال في الكتاب: يحنَث لأنها هكذا تؤكل. وقال ابن الموّاز: لا شيء عليه لأنه لم يأكل حنطة وإنما أكل خبزاً فراعى الاسم والصفة. ولو قال في يمينه: لا آكل من هذه الحنطة لحِنث بأكل الخبز المعمول منها». وفيما اشترى بثمنها من طعام وفيما أنبتت خلاف. وقال آخرون: تأوّلا النّهي على النّدب. قال ابن العربيّ: وهذا وإن كان مسألة من أصول الفقه فقد سقط ذلك ها هنا لقوله: «فَتَكُونَا مِنَ الظّالِمِينَ» فقرن النّهي بالوعيد, وكذلك قوله سبحانه: {فَلاَ يُخْرِجَنّكُمَا مِنَ الْجَنّةِ فَتَشْقَىَ} (طه: 117). وقال ابن المُسَيّب: إنما أكل آدم بعد أن سَقَته حَوّاء الخمر فسَكِر وكان في غير عقله. وكذلك قال يزيد بن قُسيط, وكان يحلفان بالله أنه ما أكل من هذه الشجرة وهو يعقل. قال ابن العربيّ: وهذا فاسد نقلاً وعقلاً, أما النّقل فلم يصح بحال, وقد وصف الله عز وجل خمر الجنة فقال: {لاَ فِيهَا غَوْلٌ} (الصافات: 47). وأما العقل فلأن الأنبياء بعد النبوّة معصومون عما يؤدّي إلى الإخلال بالفرائض واقتحام الجرائم.
قلت: قد استنبط بعض العلماء نبوّة آدم عليه السلام قبل إسكانه الجنة من قوله تعالى: {أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ} (البقرة: 3) فأمره الله تعالى أن ينبئ الملائكة بما ليس عندهم من علم الله جلّ وعَزّ. وقيل: أكلها ناسياً, ومن الممكن أنهما نَسِيَا الوعيد.
قلت: وهو الصحيح لإخبار الله تعالى في كتابه بذلك حَتْماً وجَزْماً فقال: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىَ ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} (طه: 115) ولكن لما كان الأنبياء عليهم السلام يلزمهم من التحفظ والتيقّظ لكثرة معارفهم وعُلُوّ منازلهم ما لا يلزم غيرهم كان تشاغله عن تذكّر النّهي تضييعاً صار به عاصياً أي مخالفاً. قال أبو أمامة: لو أن أحلام بني آدم منذ خلق الله الخلق إلى يوم القيامة وضعت في كِفّة ميزان ووُضع حِلْم آدم في كِفّة أخرى لرجحهم وقد قال الله تعالى: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً}.
قلت: قولُ أبي اُمامة هذا عمومٌ في جميع بني آدم. وقد يحتمل أن يخصّ من ذلك نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم فإنه كان أوفر الناس حلماً وعقلاً. وقد يحتمل أن يكون المعنى لو أن أحلام بني آدم من غير الأنبياء. والله أعلم.
قلت: والقول الأوّل أيضاً حَسَن فظنّا أن المراد العَيْن وكان المراد الجنس كقول النبيّ صلى الله عليه وسلم حين أخذ ذهباً وحريراً فقال: «هذان حرامان على ذكور أمتي». وقال في خبر آخر: «هذان مهلكان أمتي». وإنما أراد الجنس لا العين.
الحادية عشرة: يقال إن أوّل مَن أكل من الشجرة حوّاء بإغواء إبليس إياها ـ على ما يأتي بيانه ـ وإن أوّل كلامه كان معها لأنها وسواس المخدّة, وهي أوّلِ فتنة دخلت على الرجال من النساء فقال: ما منعتما هذه الشجرة إلا أنها شجرة الخُلْد لأنه علم منهما أنهما كانا يُحبّان الخُلْد, فأتاهما من حيث أحبّا «حُبّك الشيء يُعمِي ويُصِم» ـ فلما قالت حوّاء لاَدم أنكر عليها وذكر العهد فألحّ على حّواء وألَحّت حوّاء على آدم, إلى أن قالت: أنا آكل قبلك حتى إن أصابني شيء سَلِمْتَ أنت فأكلتْ فلم يضرها, فأتت آدم فقالت: كُلْ فإني قد أكلتُ فلم يضرّني فأكل فبدت لهما سوءاتهما وحصلا في حكم الذنب لقول الله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبَا هَـَذِهِ الشّجَرَةَ} فجمعهما في النّهي فلذلك لم تنزل بها العقوبة حتى وُجد المنهيّ عنه منهما جميعاً, وخَفِيت على آدم هذه المسألة ولهذا قال بعض العلماء: إن من قال لزوجتيه أو أمَتَيْه: إن دخلتما الدار فأنتما طالقتان أو حُرّتان إن الطلاق والعتق لا يقع بدخول إحداهما. وقد اختلف علماؤنا في ذلك على ثلاثة أقوال قال ابن القاسم: لا تطلقان ولا تَعتِقان إلا باجتماعهما في الدخول حملاً على هذا الأصل وأخذاً بمقتضى مطلق اللفظ. وقاله سُحْنون. وقال ابن القاسم مرة أخرى: تطلقان جميعاً وتَعتِقان جميعاً بوجود الدخول من إحداهما لأن بعض الحِنْث حِنْث كما لو حلف ألاّ يأكل هذين الرغيفين فإنه يحنث بأكل أحدهما بل بأكل لُقمة منهما. وقال أشهب: تَعتِق وتطلقُ التي دخلت وحدها لأن دخول كلّ واحدة منهما شرطٌ في طلاقها أو عتقها. قال ابن العربي: وهذا بعيد لأن بعض الشرط لا يكون شرطاً إجماعاً.
قلت: الصحيح الأوّل, وإن النّهي إذا كان معلّقاً على فعلين لا تتحقق المخالفة إلا بهما لأنك إذا قلت: لا تدخلا الدار فدخل أحدهما ما وُجدت المخالفة منهما لأن قول الله تعالى {وَلاَ تَقْرَبَا هَـَذِهِ الشّجَرَةَ} نَهْيٌ لهما {فَتَكُونَا مِنَ الْظّالِمِينَ} جوابه فلا يكونا من الظالمين حتى يفعلا فلما أكلت لم يصبها شيء لأن المنهيّ عنه ما وُجد كاملاً. وخَفِيَ هذا المعنى على آدم فطمع ونسي هذا الحكم, وهو معنى قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىَ ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ} . وقيل: نسي قوله: {إِنّ هَـَذَا عَدُوّ لّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنّكُمَا مِنَ الْجَنّةِ فَتَشْقَىَ} (طه: 117). والله أعلم.
الثانية عشرة: واختلف العلماء في هذا الباب هل وقع من الأنبياء ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ صغائر من الذنوب يؤاخذون بها ويعاتبون عليها أم لا ـ بعد اتفاقهم على أنهم معصومون من الكبائر ومن كل رذيلة فيها شَيْن ونقص إجماعاً عند القاضي أبي بكر وعند الأستاذ أبي إسحاق أن ذلك مقتضى دليل المعجزة وعند المعتزلة أن ذلك مقتضى دليل العقل على أصولهم ـ فقال الطبري وغيره من الفقهاء والمتكلمين والمحدّثين: تقع الصغائر منهم. خلافاً للرافضة حيث قالوا: إنهم معصومون من جميع ذلك واحتجّوا بما وقع من ذلك في التنزيل وثبت من تنصّلهم من ذلك في الحديث, وهذا ظاهر لا خفاء فيه. وقال جمهور من الفقهاء من أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي: إنهم معصومون من الصغائر كلها كعصمتهم من الكبائر أجمعها لأنّا أمِرنا باتباعهم في أفعالهم وآثارهم وسِيَرهم أمراً مطلقاً من غير التزام قرينة, فلو جوّزنا عليهم الصغائر لم يمكن الاقتداء بهم إذ ليس كل فعل من أفعالهم يتميّز مقصده من القُرْبة والإباحة أو الحَظْر أو المعصية, ولا يصحّ أن يؤمر المرء بامتثال أمرٍ لعلّه معصية, لاسيّما على من يرى تقديم الفعل على القول إذا تعارضا من الأصوليين. قال الأستاذ أبو إسحاق الأسفرايني: واختلفوا في الصغائر والذي عليه الأكثر أن ذلك غير جائز عليهم, وصار بعضهم إلى تجويزها, ولا أصل لهذه المقالة. وقال بعض المتأخرين ممن ذهب إلى القول الأوّل: الذي ينبغي أن يقال إن الله تعالى قد أخبر بوقوع ذنوب من بعضهم ونَسَبها إليهم وعاتبهم عليها, وأخبروا بها عن نفوسهم وتنصّلوا منها وأشفقوا منها وتابوا وكل ذلك وَرَد في مواضع كثيرة لا يقبل التأويل جملتها وإن قَبِل ذلك آحادها وكل ذلك مما لا يُزْرِي بمناصبهم, وإنما تلك الأمور التي وقعت منهم على جهة النّدور وعلى جهة الخطأ والنسيان, أو تأويل دعا إلى ذلك فهي بالنسبة إلى غيرهم حسنات وفي حقهم سيئات (بالنسبة) إلى مناصبهم وعُلوّ أقدارهم إذ قد يؤاخذ الوزير بما يثاب عليه السائس, فأشفقوا من ذلك في موقف مع علمهم بالأمن والأمان والسلامة. قال: وهذا هو الحق. ولقد أحسن الجُنَيد حيث قال: حسنات الأبرار سيئات المقربين. فهم ـ صلوات الله عليهم ـ وإن كان قد شهدت النصوص بوقوع ذنوب منهم فلم يُخِلّ ذلك بمناصبهم ولا قَدَح في رُتَبهم, بل قد تلافاهم واجتباهم وهداهم ومدحهم وزكّاهم واختارهم واصطفاهم صلوات الله عليهم وسلامه.
الثالثة عشرة: قوله تعالى: {فَتَكُونَا مِنَ الْظّالِمِينَ} الظّلم أصله وضع الشيء في غير موضعه. والأرض المظلومة: التي لم تُحفر قطّ ثم حُفرت. قال النابغة.
وقفتُ فيها أصَيْلالاً أسائله اعَيّتْ جواباً وما بالرّبعِ من أحدِ
لا الأوَارِيّ لأّياً ما اُبَيّنها والنّؤْيَ كالحَوْض بالمظلومة الجَلَد
ويُسَمّى ذلك التراب الظّلِيم. قال الشاعر:
فأصبَحَ في غبراءَ بعد إشاحةٍ على العيش مردودٍ عليها ظَليمُها
وإذا نُحِرَ البعيرُ من غير داء به فقد ظُلم ومنه:
ظَلاّمون للجُزُر
ويقال: سقانا ظَلِيمة طيّبة إذا سقاهم اللبن قبل إدراكه. وقد ظَلَم وَطْبَه إذا سَقَى منه قبل أن يَرُوب ويُخْرَج زُبْده. واللّبنُ مظلوم وظَليم. قال:
وقائلةٍ ظلمتُ لكم سقائي  وهل يخْفَى على العَكَدِ الظليم
ورجل ظَليم: شديد الظلم. والظلم: الشرك قال الله تعالى: {إِنّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان: 13(.
قوله تعالى: {وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً} حُذفت النون من «كُلاَ» لأنه أمْر, وحُذفت الهمزة لكثرة الاستعمال, وحذفها شاذّ. قال سيبويه: مِن العرب من يقول اُؤْكُل فيُتِمّ. يقال منه: أكَلْت الطعام أكْلاً وَماْكَلاً. والأكْلة (بالفتح): المرّة الواحدة حتى تشبع. والاُكْلة (بالضم): اللّقْمة تقول: أكلت اُكْلَة واحدة وهي القُرْصة أيضاً. وهذا الشيء اُكْلَةٌ لك أي طُعْمَةٌ لك. والاُكْلُ أيضاً ما اُكِل. ويقال: فلان ذو اُكْل إذا كان ذا حظّ من الدنيا ورزق واسع. {رَغَداً} نعتٌ لمصدر محذوف أي أكْلاً رَغَداً. قال ابن كَيْسان: ويجوز أن يكون مصدراً في موضع الحال. وقال مجاهد: «رَغَداً» أي لا حساب عليهم. والرّغد في اللغة: الكثير الذي لا يُعَنّيك ويقال: أرغد القوم إذا وقعوا في خِصْب وسَعَة. وقد تقدّم هذا المعنى. و {لاَ} مبنيّة على الضمّ لأنها خالفت أخواتها الظروف في أنها لا تضاف, فأشبهت قبلُ وبعدُ إذا أفردتا فضُمّت. قال الكسائي: لغة قيس وكِنانة الضمّ, ولغة تميم الفتح. قال الكسائي: وبنو أسد يخفضونها في موضع الخفض, وينصبونها في موضع النصب قال الله تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} وتُضمّ وتُتفتح. {وَلاَ تَقْرَبَا هَـَذِهِ الشّجَرَةَ} الهاء من «هذه» بدل من ياء الأصل لأن الأصل هذي. قال النحاس: ولا أعلم في العربية هاء تأنيث مكسوراً ما قبلها إلا هاء «هذه». ومن العرب من يقول: هاتا هند, ومنهم من يقول: هاتي هند. وحكى سيبويه: هذه هند بإسكان الهاء. وحكى الكسائي عن العرب: ولا تقربا هذي الشجرة. وعن شِبْل بن عَبّاد قال: كان ابن كَثير وابن مُحَيْصِن لا يُثبتان الهاء في «هذه» في جميع القرآن. وقراءة الجماعة «رَغَداً» بفتح الغين. وروي عن ابن وَثّاب والنّخَعِيّ أنهما سَكّنَا الغين. وحكى سلمة عن الفَرّاء قال يقال: هذه فعلت وهذي فعلت, بإثبات ياء بعد الذال. وهذِ فعلت, بكسر الذال من غير إلحاق ياء ولا هاء. وهاتا فعلت. قال هشام ويقال: تافعلت. وأنشد:
خَلِيليّ لَوْلاَ ساكنُ الدّارِ لم اُقِمْ بِتَا الدّارِ إلاّ عابرَ ابن سبيل
قال ابن الأنباري: وتا بإسقاط ها بمنزلة ذي بإسقاط ها من هذي, وبمنزلة ذه بإسقاط ها من هذه. وقد قال الفرّاء: مَن قال هذِ قامتْ لا يُسقط ها لأن الاسم لا يكون على ذال واحدة.
{فَتَكُونَا} عطف على «تقربا» فلذلك حُذفت النون. وزعم الجَرْمِيّ أن الفاء هي الناصبة وكلاهما جائز.

 قوله تعالى:
{فَأَزَلّهُمَا الشّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمّا كَانَا فِيهِ}
فيه عشر مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {فَأَزَلّهُمَا الشّيْطَانُ عَنْهَا} قرأ الجماعة «فَأزَلّهما» بغير ألف, من الزلّة وهي الخطيئة أي استزلهما وأوقعهما فيها. وقرأ حمزة «فأزالهما» بألف, من التّنحية أي نَحّاهما. يقال: أزلته فزال. قال ابن كَيْسان: فأزالهما من الزوال أي صرفهما عما كانا عليه من الطاعة إلى المعصية.
قلت: وعلى هذا تكون القراءتان بمعنًى, إلاّ أن قراءة الجماعة أمكن في المعنى. يقال منه: أزْلَلْته فَزَلّ. ودلّ على هذا قولُه تعالى: {إِنّمَا اسْتَزَلّهُمُ الشّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ} (آل عمران: 155) , وقوله: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشّيْطَانُ} والوسوسة إنما هي إدخالهما في الزّلل بالمعصية وليس للشيطان قدرة على زوال أحد من مكان إلى مكان, إنما قدرته (على) إدخاله في الزلل, فيكون ذلك سبباً إلى زواله من مكان إلى مكان بذنبه. وقد قيل: إن معنى أزلهما مِن زلّ عن المكان إذا تنحّى فيكون في المعنى كقراءة حمزة من الزوال. قال امرؤ القيس:
يَزِلّ الغلاَمُ الخِفّ عن صَهَوَاتِه  ويُلْوِي بأثواب العَنيفِ المثقّلِ
وقال أيضاً:
كُمَيْتٍ يُزِلّ اللّبْدُ عن حال مَتْنِهِ كما زلّت الصّفْواء بالمتنزّل
الثانية: قوله تعالى: {فَأَخْرَجَهُمَا مِمّا كَانَا فِيهِ} إذا جعل أزال من زال عن المكان فقوله: «فأخرجهما» تأكيد وبيان للزوال إذ قد يمكن أن يزولا عن مكان كانا فيه إلى مكان آخر من الجنة, وليس كذلك, وإنما كان إخراجهما من الجنة إلى الأرض لأنهما خلقا منها, وليكون آدم خليفة في الأرض. ولم يقصد إبليس ـ لعنه الله ـ إخراجه منها وإنما قصد إسقاطه من مرتبته وإبعاده كما اُبعد هو فلم يبلغ مقصده ولا أدرك مراده, بل ازداد سُخْنة عَين وغَيظ نفس وخَيبة ظنّ. قال الله جلّ ثناؤه: {ثُمّ اجْتَبَاهُ رَبّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىَ} (طه: 122) فصار عليه السلام خليفة الله في أرضه بعد أن كان جاراً له في داره فكم بين الخليفة والجار! صلى الله عليه وسلم. ونسب ذلك إلى إبليس لأنه كان بسببه وإغوائه. ولا خلاف بين أهل التأويل وغيرهم أن إبليس كان متولّي إغواء آدم واختلف في الكيفية, فقال ابن مسعود وابن عباس وجمهور العلماء أغواهما مشافهة ودليل ذلك قوله تعالى: {وَقَاسَمَهُمَا إِنّي لَكُمَا لَمِنَ النّاصِحِينَ} (الأعراف: 201) والمقاسمة ظاهرها المشافهة. وقال بعضهم, وذكره عبد الرزاق عن وهب بن مُنَبّه: دخل الجنة في فم الحيّة وهي ذات أربع كالبُخْتِيّة من أحسن دابة خلقها الله تعالى بعد أن عرض نفسه على كثير من الحيوان فلم يُدخله إلا الحيّة فلما دخلت به الجنة خرج من جَوْفها إبليس فأخذ من الشجرة التي نهى الله آدم وزوجه عنها فجاء بها إلى حوّاء فقال: انظري إلى هذه الشجرة, ما أطيبَ ريحَها وأطيب طعمَها وأحسن لونَها! فلم يزل يُغويها حتى أخذتها حوّاء فأكلتها. ثم أغوى آدم, وقالت له حوّاء: كُلْ فإني قد أكلتُ فلم يضرّني فأكل منها فبدت لهما سوءاتهما وحصلا في حكم الذنب فدخل آدم في جوف الشجرة, فناداه ربه: أين أنت؟ فقال: أنا هذا يا ربّ قال: ألا تخرج؟ قال أستحي منك يا رب قال: اهبط إلى الأرض التي خُلقت منها. ولُعنت الحيّة وردّت قوائمها في جوفها وجعلت العداوة بينها وبين بني آدم, ولذلك أمرنا بقتلها, على ما يأتي بيانه. وقيل لحوّاء: كما أدْمَيْت الشجرة فكذلك يصيبك الدّم كل شهر وتحملين وتضعين كرها تشرفين به على الموت مراراً. زاد الطبري والنقاش: وتكوني سَفِيهة وقد كنت حَلِيمة. وقالت طائفة: إن إبليس لم يدخل الجنة إلى آدم بعد ما أخرج منها وإنما أغوى بشيطانه وسلطانه ووسواسه التي أعطاه الله تعالى كما قال صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم». والله أعلم. وسيأتي في الأعراف أنه لما أكل بقي عُرياناً وطلب ما يستتر به فتباعدت عنه الأشجار وبَكّتوه بالمعصية, فرحمته شجرة التّين, فأخذ من ورقه فاستتر به. فبُلِيَ بالعُرْي دون الشجر. والله أعلم. وقيل: إن الحكمة في إخراج آدم من الجنة عمارة الدنيا.
الثالثة: يُذكر أن الحيّة كانت خادم آدم عليه السلام في الجنة فخانته بأن مكّنت عدوّ الله من نفسها وأظهرت العداوة له هناك فلما أهبطوا تأكّدت العداوة وجُعل رزقها التراب, وقيل لها: أنت عدوّ بني آدم وهم أعداؤك وحيث لَقِيَك منهم أحدٌ شَدَخ رأسك. روى ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خمسٌ يقتلهنّ المُحْرِم» فذكر الحية فيهن. وروى أن إبليس قال لها: أدخليني الجنة وأنت في ذمّتي فكان ابن عباس يقول: أخْفِرُوا ذِمّة إبليس. وروَت ساكنةُ بنتُ الجَعْد عن سَرّاء بنت نَبْهان الغَنَوِيّة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اقتلوا الحيّات صغيرَها وكبيرَها وأسودَها وأبيضها فإنَ مَن قتلها كانت له فداء من النار ومَن قتلته كان شهيداً». قال علماؤنا: وإنما كانت له فداء من النار لمشاركتها إبليس وإعانته على ضرر آدم وولده فلذلك كان مَن قتل حيّة فكأنما قتل كافراً. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يجتمع كافرٌ وقاتلُه في النار أبداً». أخرجه مسلم وغيره.
الرابعة: روى ابن جُريج عن عمرو بن دِينار عن أبي عبيدة عن عبد اللّه بن مسعود قال: كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم بمنًى فمرّت حيّة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقتلوها» فسبقتنا إلى حُجْر فدخلته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هاتوا بسعفة ونار فأضرموها عليه ناراً». قال علماؤنا: وهذا الحديث يخصّ نهيه عليه السلام عن المُثْلَة وعن أن يعذّب أحد بعذاب الله تعالى قالوا: فلم يُبق لهذا العدوّ حُرْمة حيث فاته حتى أوصل إليه الهلاك من حيث قدر.
فإن قيل: قد رُوي عن إبراهيم النّخَعِي أنه كره أن تُحرق العقرب بالنار, وقال: هو مُثْلَة. قيل له: يحتمل أن يكون لم يبلغه هذا الأثر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم, وعمل على الأثر الذي جاء: «لا تعذّبوا بعذاب الله» فكان على هذا سبيل العمل عنده.
فإن قيل: فقد روى مسلم عن عبد اللّه بن مسعود قال: كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في غار وقد أنزلت عليه: {وَالْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً} (المرسلات: 1) فنحن نأخذها مِن فيه رَطْبَة, إذ خرجت علينا حيّة, فقال: «اقتلوها» فابتدرناها لنقتلها فسبقتنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وقاها الله شرّكم كما وقاكم شرّها». فلم يُضرم ناراً ولا احتال في قتلها. قيل له: يحتمل أن يكون لم يجد ناراً فتركها, أو لم يكن الجُحْر بهيئة ينتفع بالنار هناك مع ضرر الدخان وعدم وصوله إلى الحيوان. والله أعلم. وقوله: «وقاها الله شركم» أي قتلَكم إيّاها «كما وقاكم شرها» أي لَسْعَها.
الخامسة: الأمْرُ بقتل الحَيّات من باب الإرشاد إلى دفع المضرة المُخوفة من الحيات فما كان منها متحقّق الضرر وجبت المبادرة إلى قتله لقوله: «اقتلوا الحيّات واقتلوا ذا الطّفْيَتين والأبْتَر فإنهما يَخطفان البصر ويُسقطان الحَبَل». فخصّهما بالذكر مع أنهما دخلا في العموم ونبّه على ذلك بسبب عظم ضررهما. وما لم يتحقق ضرره فما كان منها في غير البيوت قُتل أيضاً لظاهر الأمر العام, ولأن نوع الحيّات غالبه الضرر, فيستصحب ذلك فيه, ولأنه كله مروّع بصورته وبما في النفوس من النّفرة عنه ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب الشّجاعة ولو على قتل حيّة». فشجّع على قتلها. وقال فيما خرّجه أبو داود من حديث عبد اللّه بن مسعود مرفوعاً: «اقتلوا الحيات (كلهنّ) فمن خاف ثأرهنّ فليس مني». والله أعلم.
السادسة: ما كان من الحيّات في البيوت فلا يُقتل حتى يُؤذن ثلاثة أيام لقوله عليه السلام: «إن بالمدينة جِنّا قد أسلموا فإذا رأيتم منهم شيئاً فآذنوه ثلاثة أيام». وقد حمل بعض العلماء هذا الحديث على المدينة وحدها لإسلام الجنّ بها قالوا: ولا نعلم هل أسلم مِن جنّ غير المدينة أحدٌ أو لا قاله ابن نافع. وقال مالك: نهى عن قتلِ جِنان البيوت في جميع البلاد. وهو الصحيح لأن الله عز وجل قال: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الْجِنّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} (الأحقاف: 29) الآية. وفي صحيح مسلم عن عبد اللّه بن مسعود عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «أتاني داعي الجنّ فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن» وفيه: وسألوه الزاد وكانوا من جِنّ الجزيرة الحديث. وسيأتي بكماله في سورة «الجن» إن شاء الله تعالى. وإذا ثبت هذا فلا يقتل شيء منها حتى يُحرّج عليه ويُنذر على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
السابعة: روى الأئمة عن أبي السائب مَوْلى هشام بن زُهرة أنه دخل على أبي سعيد الخُدْريّ في بيته, قال: فوجدته يصلّي, فجلست أنتظره حتى يقضى صلاته, فسمعت تحريكاً في عَراجينَ ناحية البيت, فالتفتّ فإذا حيّة, فوثبتُ لأقتلها فأشار إليّ أن اجلس فجلست فلما انصرف أشار إلى بيت في الدار فقال: أترى هذا البيت؟ فقلت نعم فقال: كان فيه فَتًى منّا حديثُ عهد بعُرْس, قال: فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخَنْدَق فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار فيرجع إلى أهله فاستأذنه يوماً, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خُذ عليك سلاحك فإني أخشى عليك قُرَيْظَة». فأخذ الرجل سلاحه ثم رجع فإذا امرأتُه بين البابين قائمة فأهْوَى إليها بالرّمح ليطعُنَها به وأصابته غيْرَة فقالت له: اكفف عليك رمحك, وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني! فدخل فإذا بحيّة عظيمة منطوِية على الفراش, فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به, ثم خرج فركزه في الدار فاضطربت عليه, فما يُدْرَى أيّهما كان أسرعَ موتاً, الحيّةُ أم الفتى! قال: فجئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له, وقلنا: ادع الله يحييه (لنا) فقال: «استغفروا لصاحبكم ـ ثم قال: ـ إنّ بالمدينة جِنّا قد أسلموا فإذا رأيتم منهم شيئاً فآذِنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان». وفي طريق أخرى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لهذه البيوت عوامر فإذا رأيتم شيئاً منها فحرّجوا عليها ثلاثاً فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر ـ وقال لهم: ـ اذهبوا فادِفنوا صاحبكم». قال علماؤنا رحمة الله عليهم: لا يُفهم من هذا الحديث أن هذا الجان الذي قتله هذا الفتى كان مسلِماً وأن الجن قتلته به قصاصاً لأنه لو سُلّم في القصاص مشروع بيننا وبين الجن لكان إنما يكون في العمد المحض وهذا الفتى لم يقصد ولم يتعمّد قتل نفس مسلمة, إذ لم يكن عنده علم من ذلك, وإنما قصد إلى قتل ما سُوّغ قتل نوعه شرعاً فهذا قتل خطأ ولا قصاص فيه. فالأولى أن يقال: إن كفار الجن أو فسقتهم قتلوا الفتى بصاحبهم عَدْواً وانتقاماً. وقد قتلت سعد بن عُبَادة رضي الله عنه وذلك أنه وُجد ميتاً في مغتسله وقد اخضرّ جسده, ولم يشعروا بموته حتى سمعوا قائلاً يقول ولا يروْن أحداً:
قد قتلنا سيّد الخَزْرَج سعدَ بن عُبادة
ورميناه بسهميــن فلم نُخْط فؤاده
وإنما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إن بالمدينة جِنّا قد أسلموا» ليبيّن طريقاً يحصل به التحرّز من قتل المسلم منهم ويتسلط به على قتل الكافر منهم. رُوِي من وجوه أن عائشةَ زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم قتلت جاّنا فاُرِيتْ في المنام أن قائلاً يقول لها: لقد قتلت مسلماً, فقالت: لو كان مسلماً لم يدخل على أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: ما دخل عليك إلا وعليك ثيابك. فأصبحت فأمرت باثني عشر ألف درهم فجعلت في سبيل الله. وفي رواية: ما دخل عليك إلا وأنت مستترة فتصدّقت وأعتقت رِقاباً. وقال الربيع بن بدر: الجان من الحيّات التي نَهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن قتلها هي التي تمشي ولا تلتوي وعن علقمة نحوه.
الثامنة: في صفة الإنذار قال مالك: أحَبّ إليّ أن يُنذَروا ثلاثة أيام. وقاله عيسى بن دينار وإن ظهر في اليوم مراراً. ولا يُقتصر على إنذاره ثلاث مرار في يوم واحد حتى يكون في ثلاثة أيام. وقيل: يكفى ثلاث مرار لقوله عليه السلام: «فليؤذنه ثلاثاً», وقوله: «حرّجوا عليه ثلاثاً» ولأن ثلاثاً للعدد المؤنث فظهر أن المراد ثلاث مرات. وقول مالك أولى لقوله عليه السلام: «ثلاثة أيام». وهو نص صحيح مقيّد لتلك المطلقات, ويحمل ثلاثاً على إرادة ليالي الأيام الثلاث, فغلب الليلة على عادة العرب في باب التواريخ فإنها تغلب فيها التأنيث. قال مالك: ويكفي في الإنذار أن يقول: أحرّج عليك بالله واليوم الاَخر ألا تبدوا لنا ولا تؤذونا. وذكر ثابت البُنَاني عن عبد الرحمن بن أبي لَيْلَى أنه ذكر عنده حيات البيوت فقال: إذا رأيتم منها شيئاً في مساكنكم فقولوا: أنشدكم بالعهد الذي أخذ عليكم نوح عليه السلام, وأنشدكم بالعهد الذي أخذ عليكم سليمان عليه السلام فإذا رأيتم منهن شيئاً بعدُ فاقتلوه.
قلت: وهذا يدلّ بظاهره أنه يكفى في الإذن مرّة واحدة والحديث يردّه. والله أعلم. وقد حكى ابن حبيب عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه يقول: «أنشدكنّ بالعهد الذي أخذ عليكنّ سليمان ـ عليه السلام ـ ألاّ تؤذيننا وألاّ تظهرنّ علينا.
التاسعة: روى جُبير عن نُفير عن أبي ثعلبة الخُشَنِيّ ـ واسمه جرثوم ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الجنّ على ثلاثة أثلاث فثلثٌ لهم أجنحة يطيرون في الهواء وثلث حيات وثلث يَحلّون ويَظعَنون». وروى أو الدّرداء ـ واسمه عُوَيْمر ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خلق الله الجنّ ثلاثة أثلاث فثلث كلاب وحيّات وخِشَاش الأرض وثلث ريح هفّافة وثلث كبني آدم لهم الثواب وعليهم العقاب وخلق الله الإنس ثلاثة أثلاث فثلث لهم قلوب لا يفقهون بها وأعين لا يُبصرون بها وأذان لا يسمعون بها إن هم إلا كالأنعام بل هم أضلّ سبيلاً وثلث أجسادهم كأجساد بني آدم وقلوبهم قلوب الشياطين وثلث في ظلّ الله يوم لا ظِلّ إلا ظلّه».
العاشرة: ما كان من الحيوان أصله الإذاية فإنه يُقتل ابتداء, لأجل إذايته من غير خلاف كالحيّة والعَقْرب والفأر والوَزَغ, وشبهه. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خمسٌ فواسقُ يُقتلن في الحِلّ والحَرَم...». وذكر الحديث.
فالحيّة أبْدت جوهرها الخبيث حيث خانت آدم بأن أدخلت إبليس الجنة بين فَكّيها ولو كانت تبرزه ما تركها رضوان تدخل به. وقال لها إبليس أنت في ذمتي فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلها وقال: «اقتلوها ولو كنتم في الصلاة» يعني الحية والعقرب. والوَزَغة نفخت على نار إبراهيم عليه السلام من بين سائر الدواب فلُعنت. وهذا من نوع ما يُرْوَى في الحية. ورُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَن قتل وَزَغة فكأنما قتل كافراً». وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «مَن قَتَل وَزَغة في أوّل ضربة كُتبت له مائةُ حسنة وفي الثانية دون ذلك وفي الثالثة دون ذلك» وفي رواية أنه قال: «في أوّل ضربة سبعون حسنة».
والفأرة أبدت جوهرها بأن عمدت إلى حبال سفينة نوح عليه السلام فقطعتها. وروى عبد الرحمن بن أبي نُعْم عن أبي سعيد الخُدْرِيّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يَقتل المُحْرِمُ الْحيَة والعقرب والحدأة والسّبعُ العادي والكلب العقور والفُوَيْسقة». واستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أخذت فَتِيلة لتحرق البيت فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلها.
والغراب أبدى جوهره حيث بعثه نبيّ الله نوح عليه السلام من السفينة ليأتيه بخبر الأرض فترك أمره وأقبل على جِيفة. هذا كلّه في معنى الحيّة فلذلك ذكرناه. وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في التعليل في «المائدة» وغيرها إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى:
{وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ}
فيه سبع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَقُلْنَا اهْبِطُواْ} حُذفت الألف من «اهبطوا» في اللفظ لأنها ألف وصل. وحُذفت الألف من «قلنا» في اللفظ لسكونها وسكون الهاء بعدها. وروى محمد بن مصَفّى عن أبي حَيْوَة ضمّ الباء في «اهبطوا», وهي لغة يقوّيها أنه غير متعدّ والأكثر في غير المتعدّي أن يأتي على يَفْعُل. والخطاب لاَدم وحواء والحية والشيطان في قول ابن عباس. وقال الحسن: آدم وحواء والوسوسة. وقال مجاهد والحسن أيضاً: بنو آدم وبنو إبليس. والهبوط: النزول من فوق إلى أسفل فأهبط آدم بسَرْنَديبَ في الهند بجبل يقال له «بوذ» ومعه ريح الجنة فعلِق بشجرها وأوديتها فامتلأ ما هناك طِيباً فمن ثَمّ يؤتى بالطيب من ريح آدم عليه السلام. وكان السحاب يمسح رأسه فأصلع, فأورث ولده الصلع. وفي البخاري عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «خلق الله آدم وطوله ستون ذراعاً» الحديث. وأخرجه مسلم وسيأتي. واهبطت حوّاء بجُدّة وإبليس بالاُبُلّة, والحيّة ببَيْسان, وقيل: بسَجِسْتان. وسجستان أكثر بلاد الله حيات, ولولا العِرْبَدّ الذي يأكلها ويفنى كثيراً منها لاُخليت سجستان من أجل الحياتِ ذكره أبو الحسن المسعودي.
الثانية: قوله تعالى: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ} «بعضكم» مبتدأ, «عدوّ» خبره, والجملة في موضع نصب على الحال والتقدير وهذه حالكم. وحذفت الواو من و «بعضكم» لأن في الكلام عائداً كما يقال: رأيتك السماء تمطر عليك. والعدوّ: خلاف الصديق وهو من عدا إذا ظلم. وذئب عَدَوان: يَعْدُو على الناس. والعُدْوان: الظلم الصّراح. وقيل: هو مأخوذ من المجاوزة من قولك: لا يَعْدُوك هذا الأمر أي لا يتجاوزك. وعداه إذا جاوزه فسمّي عدوّا لمجاوزة الحد في مكروه صاحبه ومنه العَدْوُ بالقَدَم لمجاوزة الشيء, والمعنيان متقاربان فإن من ظلم فقد تجاوز.
قلت: وقد حمل بعض العلماء قوله تعالى: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ} على الإنسان نفسه, وفيه بُعْدٌ وإن كان صحيحاً معنىً. يدلّ عليه قوله عليه السلام: «إن العبد إذا أصبح تقول جوارحه للسانه اتق الله فينا فإنك إذا استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا». فإن قيل: كيف قال «عدوّ» ولم يقل أعداء ففيه جوابان. أحدهما: أن بَعْضاً وكُلاّ يُخبر عنهما بالواحد على اللفظ وعلى المعنى, وذلك في القرآن قال الله تعالى: {وَكُلّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} (مريم: 95) على اللفظ, وقال تعالى: {وَكُلّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} (النمل: 87) على المعنى. والجواب الاَخر: أن عدوّا يفرد في موضع الجمع قال الله عز وجل: {وَهُمْ لَكُمْ عَدُوّ بِئْسَ لِلظّالِمِينَ بَدَلاً} (الكهف: 50) بمعنى أعداء, وقال تعالى: {يَحْسَبُونَ كُلّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوّ} (المنافقون: 4). وقال ابن فارس: العدوّ اسم جامع للواحد والاثنين والثلاثة والتأنيث, وقد يجمع.
الثالثة: لم يكن إخراج الله تعالى آدم من الجنة وإهباطه منها عقوبة له لأنه أهبطه بعد أن تاب عليه وقبِل توبته, وإنما أهبطه إمّا تأديباً وإمّا تغليظاً للمِحْنة. والصحيح في إهباطه وسكناه في الأرض ما قد ظهر من الحكمة الأزليّة في ذلك, وهي نشر نَسله فيها ليكلّفهم ويمتحنهم, ويرتب على ذلك ثوابهم وعقابهم الاُخْرَوِيّ إذ الجنة والنار ليستا بدار تكليف فكانت تلك الأكلة سبب إهباطه من الجنة. ولله أن يفعل ما يشاء. وقد قال: {إِنّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً}. وهذه منقبة عظيمة وفضيلة كريمة شريفة وقد تقدّمت الإشارة إليها مع أنه خُلق من الأرض. وإنما قلنا إنما أهبطه بعد أن تاب عليه لقوله ثانية: «قُلْنَا اهْبِطُوا» وسيأتي.
الرابعة: قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرّ} ابتداء وخبر أي موضع استقرار. قاله أبو العالية وابن زيد. وقال السّدّيّ: «مُسْتَقَر» يعني القبور.
قلت: وقول الله تعالى: {جَعَـلَ لَكُـمُ الأرْضَ قَـرَاراً} يحتمل المعنيين. والله أعلم.
الخامسة: قوله تعالى: {وَمَتَاعٌ} المتاع ما يُستمتع به من أكل ولُبْس وحياة وحديث وأنس وغير ذلك ومنه سُمّيت مُتعة النكاح لأنها يُتَمَتّع بها. وأنشد سليمان بن عبد الملك حين وقف على قبر ابنه إثر دفنه:
وقفتُ على قبرٍ غريبٍ بقَفْرةٍ  متاعٌ قليلٌ من حبيبٍ مفارِق
السادسة: قوله تعالى: {إِلَىَ حِينٍ} اختلف المتأوّلون في الحين على أقوال فقالت فرقة: إلى الموت وهذا قول من يقول: المستقرّ هو المقام في الدنيا. وقيل: إلى قيام الساعة وهذا قول من يقول: المستقَرّ هو القبور. وقال الربيع: «إلى حين» إلى أجل. والحين: الوقت البعيد فحينئذ تبعيدٌ من قولك الاَن. قال خويلد:
كابِي الرّماد عظيمُ القِدْرِ جَفْنَتُه  حِين الشتاءِ كحْوض المَنْهَلَ اللّقِفِ
لَقِف الحوض لَقَفاً أي تهوّر من أسفله واتّسع. وربما أدخلوا عليه التاء. قال أبو وَجْزَة:
العاطفون تَحِين ما مِن عاطفٍ والمُطْعِمون زمانَ أيْنَ المُطْعِمُ
والحِين أيضاً: المدّة ومنه قوله تعالى: {هَلْ أَتَىَ عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مّنَ الدّهْرِ} (الإنسان: 1). والحِين: الساعة قال الله تعالى: {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ} (الزمر: 58). قال ابن عَرَفة: الحِين القطعة من الدهر كالساعة فما فوقها. وقوله: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتّىَ حِينٍ} (المؤمنون: 54) أي حتى تفنى آجالهم. وقوله تعالى: {تُؤْتِيَ أُكُلَهَا كُلّ حِينٍ} (إبراهيم: 25) أي كل سنة وقيل: بل كل ستة أشهر وقيل: بل غُدْوَةً وَعَشِيّا. قال الأزهريّ: الحِين اسم كالوقت يصلح لجميع الأزمان كلها طالت أو قصرت. والمعنى أنه ينتفع بها في كل وقت ولا ينقطع نفعها البَتّة. قال: والحِين يوم القيامة. والحين: الغُدْوَة والعَشِيّة قال الله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ}. (الروم: 17) ويقال: عاملته محايَنَةً من الحِين. وأحينت بالمكان: إذا أقمت به حِيناً. وحان حينُ كذا أي قرب. قالت بُثَيْنَةُ:
وإنّ سُلوّي عن جميلٍ لساعةٌ من الدهر ما حانت ولا حان حِينُهَا
السابعة: لما اختلف أهل اللسان في الحِين اختلف فيه أيضاً علماؤنا وغيرهم فقال الفَرّاء: الحين حِيتان: حِين لا يوقف على حدّه, والحِين الذي ذكر الله جل ثناؤه: {تُؤْتِيَ أُكُلَهَا كُلّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبّهَا} (إبراهيم: 25) ستة أشهر. قال ابن العربي: الحِين المجهول لا يتعلّق به حُكم, والحِين المعلوم هو الذي تتعلق به الأحكام ويرتبط به التكليف وأكثر المعلوم سنة. ومالك يرى في الأحكام والأيمان أعمّ الأسماء والأزمنة. والشافعي يرى الأقل. وأبو حنيفة توسط فقال: ستة أشهر. ولا معنى لقوله لأن المقدّرات عنده لا تثبت قياساً, وليس فيه نص عن صاحب الشريعة, وإنما المعوّل على المعنى بعد معرفة مقتضى اللفظ لغةً. فمن نَذَر أن يصلّي حِيناً فيُحمل على ركعة عند الشافعي لأنه أقل النافلة, قياساً على ركعة الوتر. وقال مالك وأصحابه: أقل النافلة ركعتان فيتقدّر الزمان بقدر الفعل. وذكر ابن خُوَيْزِ مَنْداد في أحكامه: أن من حلف ألاّ يكلم فلاناً حِيناً أو لا يفعل كذا حيناً, أن الحين سنة. قال: واتفقوا في الأحكام أن من حلف ألاّ يفعل كذا حيناً أو لا يكلّم فلاناً حيناً, أن الزيادة على سنة لم تدخل في يمينه.
قلت: هذا الاتفاق إنما هو في المذهب. قال مالك رحمه الله: مَن حلف ألا يفعل شيئاً إلى حِينٍ أو زمان أو دهر, فذلك كلّه سنة. وقال عنه ابن وهب: إنه شك في الدهر أن يكون سنة. وحكى ابن المنذر عن يعقوب وابن الحسن: أن الدهر ستة أشهر. وعن ابن عباس وأصحاب الرأي وعكرمة وسعيد بن جُبير وعامر الشّعْبي وعَبِيدة في قوله تعالى: {تُؤْتِيَ أُكُلَهَا كُلّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبّهَا} (إبراهيم: 25) أنه ستة أشهر. وقال الأوزاعي وأبو عبيد: الحين ستة أشهر. وليس عند الشافعي في الحين وقت معلوم, ولا للحين غاية قد يكون الحين عنده مدّة الدنيا. وقال: لا نُحَنثه أبداً, والوَرَع أن يقضيه قبل انقضاء يوم. وقال أبو ثَور وغيره: الحين والزمان على ما تحتمله اللغة, يقال: قد جئت من حين, ولعلّه لم يجئ من نصف يوم. قال الكِيَا الطبري الشافعي: وبالجملة, الحين له مصارف, ولم ير الشافعيّ تعيين محمل من هذه المحامل لأنه مجمل لم يوضع في اللغة لمعنىً معيّن. وقال بعض العلماء في قوله تعالى: «إلى حِينٍ» فائدة بشارة إلى آدم عليه السلام ليعلم أنه غير باق فيها ومنتقل إلى الجنة التي وعد بالرجوع إليها وهي لغير آدم دالة على المعاد فحسب والله أعلم.

 قوله تعالى:
{فَتَلَقّىَ آدَمُ مِن رّبّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنّهُ هُوَ التّوّابُ الرّحِيمُ}
فيه ثماني مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {فَتَلَقّىَ آدَمُ مِن رّبّهِ كَلِمَاتٍ} فيه ثمان مسائل تلقّى قيل معناه: فَهِم وفَطِنَ. وقيل: قَبِل وأخذ وكان عليه السلام يتلقّى الوَحْي أي يستقبله ويأخذه ويتلقّفه. تقول: خرجنا نتلقّى الحجيج أي نستقبلهم. وقيل: معنى تلّقى تلّقن. وهذا في المعنى صحيح, ولكن لا يجوز أن يكون التلقّي من التلقّن في الأصل لأن أحد الحرفين إنما يُقلب ياء إذا تجانسا, مثل تظنّى مِن تظنّن, وتقّصى من تقصّص. ومثله تسرّيت من تسرّرت, وأمليت من أمللت وشبه ذلك ولهذا لا يقال: تَقَبّى مِن تقبّل, ولا تلقّى مِن تلقّن فاعلم. وحَكَى مكيّ أنه اُلهمها فانتفع بها. وقال الحسن: قبولُها تعلّمه لها وعمله بها.
الثانية: واختلف أهل التأويل في الكلمات فقال ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير والضحاك ومجاهد هي قوله: {رَبّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (الأعراف: 23). وعن مجاهد أيضاً: سبحانك اللّهُمّ لا إلَه إلاّ أنت ربّي ظلمتُ نفسي فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم. وقالت طائفة: رأى مكتوباً على ساق العرش «محمد رسول الله» فتشفّع بذلك, فهي الكلمات. وقالت طائفة: المراد بالكلمات البكاء والحياء والدعاء. وقيل: الندم والاستغفار والحزن. قال ابن عطية: وهذا يقتضي أن آدم عليه السلام لم يقل شيئاً إلا الاستغفار المعهود. وسئل بعض السلف عما ينبغي أن يقوله المذنب فقال: يقول ما قاله أبواه: {رَبّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} الآية. وقال موسى: {رَبّ إِنّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} (القصص: 16). وقال يونس: {لاّ إِلَـَهَ إِلاّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنّي كُنتُ مِنَ الظّالِمِينَ} (الأنبياء: 87). وعن ابن عباس ووهب بن مُنَبّه: أن الكلمات «سبحانك اللّهُمّ وبحمدك, لا إلَه إلا أنتَ عملتُ سوءاً وظلمتُ نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين, سبحانك اللّهُمّ وبحمدك, لا إلَهَ إلا أنتَ عملتُ سوءاً وظلمتُ نفسي فتُبْ عليّ إنك أنت التواب الرحيم». وقال محمد بن كعب هي قوله: لا إلَهَ إلا أنت سبحانك وبحمدك, عملتُ سوءاً وظلمتُ نفسي فتُبْ عليّ إنك أنت التوّاب الرحيم. لا إلَهَ إلا أنت سبحانك وبحمدك, عملتُ سوءاً وظلمتُ نفسي فارحمني إنك أنت الغفور الرحيم. لا إلَه إلا أنت سبحانك وبحمدك عملتُ سوءاً وظلمتُ نفسي فارحمني إنك أرحم الراحمين, وقيل: الكلمات قوله حين عطس: «الحمد لله». والكلمات: جمع كلمة والكلمة تقع على القليل والكثير. وقد تقدم.
الثالثة: قوله تعالى: {فَتَابَ عَلَيْهِ} أي قَبِل توبته, أو وفّقه للتّوْبة. وكان ذلك في يوم عاشوراء في يوم جمعة على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وتاب العبد: رجع إلى طاعة ربه. وعبد تواب: كثير الرجوع إلى الطاعة. وأصل التوبة الرجوع يقال: تاب وثاب وآب وأناب: رجع.
الرابعة: إن قيل: لم قال «عليه» ولم يقل عليهما, وحواء مشاركة له في الذنب بإجماع, وقد قال: {مِنَ الْكَافِرِينَ } و{قَالاَ رَبّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا}. فالجواب: أن آدم عليه السلام لما خوطب في أوّل القصة بقوله: «اسْكُن» خصّه بالذكر في التلقّي فلذلك كملت القصة بذكره وحده. وأيضاً فلأن المرأة حُرمة ومستورة فأراد الله السّتر لها ولذلك لم يذكرها في المعصية في قوله: {وَعَصَىَ ءَادَمُ رَبّهُ فَغَوَىَ} (طه: 121). وأيضاً لما كانت المرأة تابعة للرجل في غالب الأمر لم تُذكر كما لم يذكر فَتَى موسى مع موسى في قوله: {أَلَمْ أَقُلْ لّكَ} الكهف: 75. وقيل: إنه دلّ بذكر التوبة عليه أنه تاب عليها إذ أمرهما سواء قاله الحسن. وقيل: إنه مثل قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضّوَاْ إِلَيْهَا} الجمعة: 11 أي التجارة لأنها كانت مقصود القوم, فأعاد الضمير عليها ولم يقل إليهما والمعنى متقارب. وقال الشاعر:
رَماني بأمر كنتُ منه ووالدي  بريئاً ومِن فوق الطّوِيّ رمانِي
وفي التنزيل: {وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقّ أَن يُرْضُوهُ} فحذف إيجازاً واختصاراً.
الخامسة: قوله تعالى: {عَلَيْهِ إِنّهُ هُوَ التّوّابُ الرّحِيمُ} وصف نفسه سبحانه وتعالى بأنه التوّاب وتكرر في القرآن معرّفاً ومنكراً واسماً وفعلاً. وقد يُطلق على العبد أيضاً توّاب قال الله تعالى: {إِنّ اللّهَ يُحِبّ التّوّابِينَ وَيُحِبّ الْمُتَطَهّرِينَ} (البقرة: 222). قال ابن العربي: ولعلمائنا في وصف الربّ بأنه توّاب ثلاثة أقوال أحدها: أنه يجوز في حق الربّ سبحانه وتعالى فيُدْعَى به كما في الكتاب والسّنّة ولا يتأوّل. وقال آخرون: هو وصف حقيقيّ لله سبحانه وتعالى وتوبة الله على العبد رجوعُه من حال المعصية إلى حال الطاعة. وقال آخرون: توبة الله على العبد قبوله توبته وذلك يحتمل أن يرجع إلى قوله سبحانه وتعالى: قبلت توبتك, وأن يرجع إلى خلقه الإنابة والرجوع في قلب المسيء وإجراء الطاعات على جوارحه الظاهرة.
السادسة: لا يجوز أن يقال في حق الله تعالى: تائب, اسم فاعل من تاب يتوب لأنه ليس لنا أن نُطلق عليه من الأسماء والصفات إلا ما أطلقه هو على نفسه أو نبيّه عليه السلام أو جماعة المسلمين وإن كان في اللغة محتملاً جائزاً. هذا هو الصحيح في هذا الباب, على ما بيّناه في (الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى). قال الله تعالى: {لَقَدْ تَابَ الله عَلَىَ النّبِيّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنصَارِ} (التوبة: 117). وقال: {هُوَ يَقْبَلُ التّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} (التوبة: 104). وإنما قيل لله عز وجل: توّاب, لمبالغة الفعل وكثرة قبوله توبة عباده لكثرة من يتوب إليه.
السابعة: اعلم أنه ليس لأحد قُدرة على خلق التّوبة لأن الله سبحانه وتعالى هو المنفرد بخلق الأعمال خلافاً للمعتزلة ومَن قال بقولهم. وكذلك ليس لأحد أن يقبل توبة من أسرف على نفسه ولا أن يعفو عنه. قال علماؤنا: وقد كفرت اليهود والنصارى بهذا الأصل العظيم في الدّين {اتّخَذُوَاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ اللّهِ} (التوبة: 31) جلّ وعزّ, وجعلوا لمن أذنب أن يأتي الحِبْرَ أو الراهب فيعطيه شيئاً ويحطّ عنه ذنوبه {افْتِرَاءً عَلَى اللّهِ قَدْ ضَلّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} (الأنعام: 140).
الثامنة: قرأ ابن كَثير: {فَتَلَقّىَ آدَمُ مِن رّبّهِ كَلِمَاتٍ}. والباقون برفع «آدم» ونصب «كلمات». والقراءتان ترجعان إلى معنىً لأن آدم إذا تلقّى الكلمات فقد تلقته. وقيل: لما كانت الكلمات هي المنقذة لاَدم بتوفيق الله تعالى له لقبوله إياها ودعائه بها كانت الكلمات فاعلة, وكأن الأصل على هذه القراءة «فتلقّت آدمَ مِن ربه كلماتٌ» لكن لمّا بعد ما بين المؤنث وفعله حَسُن حذف علامة التأنيث. وهذا أصل يجري في كل القرآن والكلامِ إذا جاء فعل المؤنث بغير علامة ومنه قولهم: حضر القاضي اليوم امرأة. وقيل: إن الكلمات لمّا لم يكن تأنيثه حقيقياً حُمِل على معنى الكَلِم, فذُكّر. وقرأ الأعمش: «آدمْ مّن ربه» مدغماً. وقرأ أبو نَوفل بن أبي عقرب: «أنه» بفتح الهمزة, على معنى لأنه وكسر الباقون على الاستئناف. وأدغم الهاء في الهاء أبو عمرو وعيسى وطلحة فيما حكى أبو حاتم عنهم. وقيل: لا يجوز لأن بينهما واواً في اللفظ في الخط. قال النحاس: أجاز سيبويه أن تحذف هذه الواو, وأنشد:
له زَجَلٌ كأنّهُ صَوْتُ حادٍ  إذا طَلب الوَسِيقةَ أو زَميرُ
فعلى هذا يجوز الإدغام, وهو رفع بالابتداء. «التّواب» خبره, والجملة خبر «إنّ». ويجوز أن يكون «هو» توكيداً للهاء, ويجوز أن تكون فاصلة على ما تقدّم.
وقال سعيد بن جُبير: لما اُهبط آدم إلى الأرض لم يكن فيها شيء غير النّسر في البر, والحوت في البحر, فكان النسر يأوي الى الحوت فيبيت عنده فلما رأى النسر آدم قال: يا حوت, لقد أهبط اليوم إلى الأرض شيء يمشي على رجليه ويبطش بيديه! فقال الحوت: لئن كنتَ صادقاً مالي منه في البحر مَنْجى, ولا لك في البر منه مَخْلَص!.

 قوله تعالى:
{قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمّا يَأْتِيَنّكُم مّنّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}
 قوله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُواْ} كرّر الأمر على جهة التغليظ وتأكيده كما تقول لرجل: قُمْ قُمْ. وقيل: كرّر الأمر لما علّق بكل أمر منهما حُكماً غيرَ حُكم الاَخر فعلّق بالأوّل العداوة, وبالثاني إتيان الهدى. وقيل: الهبوط الأوّل من الجنة إلى السماء, والثاني من السماء إلى الأرض. وعلى هذا يكون فيه دليل على أن الجنة في السماء السابعة, كما دلّ عليه حديث الإسراء على ما يأتي.
{جَمِيعاً} نصب على الحال. وقال وهب بن مُنَبّه: لما هبط آدم عليه السلام إلى الأرض قال إبليس للسباع: إن هذا عدوّ لكم فأهلكوه فاجتمعوا وولّوا أمرهم إلى الكلب وقالوا: أنت شجعنا, وجعلوه رئيسا فلما رأى ذلك آدم عليه السلام تحيّر في ذلك فجاءه جبريل عليه السلام وقال له: امسح يدك على رأس الكلب ففعل, فلما رأت السباع أن الكلب ألِف آدم تفرّقوا. واستأمنه الكلب فأمنه آدم, فبقي معه ومع أولاده. وقال الترمذيّ الحكيم نحو هذا, وأن آدم عليه السلام لما أهبط إلى الأرض جاء إبليس إلى السباع فأشلاهم على آدم ليؤذوه وكان أشدّهم عليه الكلب, فاُمِيت فؤاده فروي في الخبر أن جبريل عليه السلام أمره أن يضع يده على رأسه فوضعها فاطمأن إليه وألفه فصار ممن يحرسه ويحرس ولده ويألفهم. وبموت فؤاده يفزع من الاَدميين فلو رُمي بمَدَرٍ ولّى هارباً ثم يعود آلفاً لهم. ففيه شعبة من إبليس, وفيه شعبة من مسحة آدم عليه السلام فهو بشعبة إبليس ينبح ويَهِرّ ويعدو على الاَدميّ, وبمسحة آدم مات فؤاده حتى ذل وانقاد وألف به وبولده يحرسهم, ولَهَثُه على كل أحواله من موت فؤاده ولذلك شبّه الله سبحانه وتعالى العلماء السوء بالكلب, على ما يأتي بيانه في «الأعراف» إن شاء الله تعالى. ونزلت عليه تلك العصا التي جعلها الله آية لموسى, فكان يطرد بها السباع عن نفسه.
قوله تعالى: {فَإِمّا يَأْتِيَنّكُم مّنّي هُدًى} اختلف في معنى قوله: «هُدًى» فقيل: كتاب الله قاله السّدّي. وقيل: التوفيق للهداية. وقالت فرقة: الهُدَى الرسل, وهي إلى آدم من الملائكة, وإلى بنيه من البشر كما جاء في حديث أبي ذَرّ, وخرّجه الاَجُرّي. وفي قوله: «مِنّي» إشارة إلى أن أفعال العباد خَلْقٌ لله تعالى خلافاً للقدرية وغيرهم كما تقدّم وقرأ الجحدريّ «هُدَيّ» وهو لغة هذيل, يقولون: هُدَيّ وعَصَيّ ومَحْيَيّ. وأنشد النحويون لأبي ذُؤَيْب يرثي بنيه:
سَبقُوا هَوَيّ وأعنقوا لهواهُم  فتُخُرّموا ولكل جَنْبٍ مَصْرَعُ
قال النحاس: وعلّة هذه اللغة عند الخليل وسيبويه أن سبيل ياء الإضافة أن يُكسر ما قبلها فلما لم يَجُز أن تتحرك الألف أبدلت ياء وأدغمت. و «ما» في قوله: «إمّا» زائدة على «إنْ» التي للشرط, وجواب الشرط الفاء مع الشرط الثاني في قوله: {فَمَن تَبِعَ}. و «مَن» في موضع رفع بالابتداء. و «تبع» في موضع جزم بالشرط. «فَلاَ خَوْفٌ» جوابه. قال سيبويه: الشرط الثاني وجوابه هما جواب الأول. وقال الكسائي: فلا خَوْفٌ عليهِم» جواب الشرطين جميعاً.
قوله تعالى: {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} الخوف هو الذعر ولا يكون إلا في المستقبل. وخاوفني فلان فَخُفْتُه أي كنت أشدّ خوفاً منه. والتخوّف: التنقّص ومنه قوله تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَىَ تَخَوّفٍ}(النحل: 47). وقرأ الزّهْرِيّ والحسن وعيسى بن عمرو ابن أبي إسحَق ويعقوب: «فلا خوف» بفتح الفاء على التبرئة. والاختيار عند النحويين الرفع والتنوين على الابتداء لأن الثاني معرفة لا يكون فيه إلا الرفع لأن «لا» لا تعمل في معرفة, فاختاروا في الأوّل الرفع أيضاً ليكون الكلام من وجه واحد. ويجوز أن تكون «لا» في قولك: فلا خوف بمعنى ليس.
والحُزْن والحَزَن: ضدّ السرور, ولا يكون إلا على ماض. وحَزِن الرجل (بالكسر) فهو حزِن وحزين وأحزنه غيره وحَزَنه أيضاً, مثل أسلكه وسلكه ومحزون بُنِيَ عليه. قال اليزيدي: حزنه لغة قريش, وأحزنه لغة تميم وقد قرئ بهما. واحتزن وتحزّن بمعنىً. والمعنى في الآية: فلا خوف عليهم فيما بين أيديهم من الاَخرة, ولا هم يحزنون على ما فاتهم من الدنيا. وقيل: ليس فيه دليل على نفي أهوال يوم القيامة وخوفها على المطيعين لما وصفه الله تعالى ورسوله من شدائد القيامة إلا أنه يخففه عن المطيعين, وإذا صاروا إلى رحمته فكأنهم لم يخافوا. والله أعلم.

 قوله تعالى:
{وَالّذِينَ كَفَرواْ وَكَذّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَـَئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
 قوله تعالى: {وَالّذِينَ كَفَرواْ} أي أشركوا لقوله: {وَكَذّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَـَئِكَ أَصْحَابُ النّارِ} الصحبة: الاقتران بالشيء في حالة مّا, في زمان مّا فإن كانت الملازمة والخُلْطة فهي كمال الصحبة وهكذا هي صحبة أهل النار لها. وبهذا القول ينفك الخلاف في تسمية الصحابة رضي الله عنهم إذ مراتبهم متباينة, على ما نبيّنه في «براءة» إن شاء الله. وباقي ألفاظ الآية تقدّم معناها والحمد لله.

 قوله تعالى:
{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِيَ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيّايَ فَارْهَبُونِ}
 قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} نداء مضاف, علامة النصب فيه الياء, وحذفت منه النون للإضافة. الواحد ابن, والأصل فيه بني, وقيل: بَنَوٌ فمن قال: المحذوف منه واو احتج بقولهم: البنوّة. وهذا لا حجة فيه لأنهم قد قالوا: الفتّوة, وأصله الياء. وقال الزجاج: المحذوف منه عندي ياء كأنه من بنيت. الأخفش: اختار أن يكون المحذوف منه الواو لأن حذفها أكثر لثقلها. ويقال: ابن بيّن البنوّة, والتصغير بُنيّ. قال الفراء: يقال: يا بُنَيّ ويا بُنَيّ لغتان, مثل يا أبتِ ويا أبتَ وقرئ بهما. وهو مشتقّ من البناء وهو وضع الشيء على الشيء والابن فرع للأب وهو موضوع عليه.
وإسرائيل هو يعقوب بن إسحَق بن إبراهيم عليهم السلام. قال أبو الفرج الجَوْزِيّ: وليس في الأنبياء من له اسمان غيره, إلا نبينّا محمد صلى الله عليه وسلم فإن له أسماء كثيرة. ذكره في كتاب «فهوم الاَثار» له.
قلت: وقد قيل في المسيح إنه اسم عَلَم لعيسى عليه السلام غير مشتق, وقد سمّاه الله رُوحاً وكَلِمة, وكانوا يسمّونه أبِيل الأبِيلين  ذكره الجوهري في الصحاح. وذكر البيهقي في «دلائل النبوّة» عن الخليل بن أحمد: خمسة من الأنبياء ذوو اسمين, محمد وأحمد نبيّنا صلى الله عليه وسلم, وعيسى والمسيح, وإسرائيل ويعقوب, ويونس وذو النون, وإلياس وذو الكفل صلى الله عليه وسلم.
قلت: ذكرنا أن لعيسى أربعة أسماء, وأما نبينا صلى الله عليه وسلم فله أسماء كثيرة, بيانها في مواضعها.
وإسرائيل: اسم أعجمي, ولذلك لم ينصرف وهو في موضع خفض بالإضافة. وفيه سبع لغات: إسرائيل, وهي لغة القرآن. وإسرائيل, بمدّة مهموزة مختلسة, حكاها شنّبوذ عن وَرْش. وإسراييل, بمدّة بعد الياء من غير همز, وهي قراءة الأعمش وعيسى بن عمر وقرأ الحسن والزهريّ بغير همز ولا مدّ. وإسرائل, بغير ياء بهمزة مكسورة. وإسراءَل, بهمزة مفتوحة. وتميم يقولون: إسرائين, بالنون. ومعنى إسرائيل: عبد الله. قال ابن عباس: إسرا بالعبدانية هو عبد, وإيل هو الله. وقيل: إسرا هو صفوة الله, وإيل هو الله. وقيل: إسرا من الشدّ فكأن إسرائيل الذي شدّه الله وأتقن خلقه ذكره المهدَوي. وقال السّهيلي: سميّ إسرائيل لأنه أسرى ذات ليلة حين هاجر إلى الله تعالى فسمي إسرائيل أي أسرى إلى الله ونحو هذا فيكون بعض الاسم عبرانياً وبعضه موافقاً للعرب. والله أعلم.
قوله تعالى: {اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} الذكر اسم مشترك, فالذكر بالقلب ضدّ النسيان, والذكر باللسان ضدّ الإنصات. وذكرت الشيء بلساني وقلبي ذكرا. واجعله منك على ذُكْر (بضم الذال) أي لا تنسه. قال الكسائي: ما كان بالضمير فهو مضموم الذال, وما كان باللسان فهو مكسور الذال. وقال غيره: هما لغتان, يقال: ذِكْر وذُكْر, ومعناهما واحد. والذّكر (بفتح الذال) خلاف الأنثى. والذّكر أيضاً الشرف ومنه قوله: {وَإِنّهُ لَذِكْرٌ لّكَ وَلِقَوْمِكَ} (الزخرف:44). قال ابن الأنباري: والمعنى في الآية اذكروا شكر نعمتي فحذف الشكر اكتفاء بذكر النعمة. وقيل: إنه أراد الذكر بالقلب وهو المطلوب أي لا تغفلوا عن نعمتي التي أنعمت عليكم ولا تناسوها وهو حسن. والنعمة هنا اسم جنس, فهي مفردة بمعنى الجمع, قال الله تعالى: {وَإِن تَعُدّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا} (إبراهيم: 34) أي نِعمَه. ومن نعمه عليهم أن أنجاهم من آل فرعون, وجعل منهم أنبياء, وأنزل عليهم الكتب والمنّ والسّلْوَى, وفجّر لهم من الحجر الماء, إلى ما استودعهم من التوراة التي فيها صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته ورسالته. والنعم على الاَباء نعم على الأبناء لأنهم يشرفون بشرف آبائهم.
تنبيه: قال أرباب المعاني: ربط سبحانه وتعالى بني إسرائيل بذكر النعمة وأسقطه عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى ذكره, فقال: {فَاذْكُرُونِيَ أَذْكُرْكُمْ} (البقرة: 152) ليكون نظر الأمم من النعمة إلى المنعم, ونظر أمة محمد صلى الله عليه وسلم من المنعم إلى النعمة.
قوله تعالى: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِيَ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} أمْرٌ وجوابه. وقرأ الزهريّ: «اُوَفّ» (بفتح الواو وشد الفاء) للتكثير. واختلف في هذا العهد ما هو فقال الحسن: عهده قوله: {خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم بِقُوّةٍ} (البقرة: 63), وقوله: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِيَ إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً} (المائدة: 12). وقيل هو قوله: {وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيّنُنّهُ لِلنّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} (آل عمران: 187). وقال الزجاج: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِيَ} الذي عهدت إليكم في التوراة من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم,{أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} بما ضمنت لكم على ذلك, إن أوفيتم به فلكم الجنة. وقيل: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِيَ} في أداء الفرائض على السنة والإخلاص, {أُوفِ} بقبولها منكم ومجاراتكم عليها. وقال بعضهم: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِيَ} في العبادات, {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} أي أوصلكم إلى منازل الرعايات. وقيل: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِيَ} في حفظ آداب الظواهر, {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} بتزيين سرائركم. وقيل: هو عام في جميع أوامره ونواهيه ووصاياه فيدخل في ذلك ذكر محمد صلى الله عليه وسلم الذي في التوراة وغيره. هذا قول الجمهور من العلماء, وهو الصحيح. وعهده سبحانه وتعالى هو أن يدخلهم الجنة.
قلت: وما طلب من هؤلاء من الوفاء بالعهد هو مطلوب منا قال الله تعالى: {أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} (المائدة: 1), {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ} (النحل: 91) وهو كثير. ووفاؤهم بعهد الله أمارة لوفاة الله تعالى لهم لا علة له, بل ذلك تفضّلٌ منه عليهم.
قوله تعالى: {وَإِيّايَ فَارْهَبُونِ} أي خافون. والرّهْبُ والرّهْبُ والرّهْبَة: الخوف. ويتضمّن الأمر به معنى التهديد. وسقطت الياء بعد النون لأنها رأس آية. وقرأ ابن أبي إسحاق: «فارْهَبونِي» بالياء, وكذا «فاتّقوني» على الأصل. «وإيّايَ» منصوب بإضمار فعل, وكذا الاختيار في الأمر والنهي والاستفهام التقدير: وإياي ارهبوا فارهبون. ويجوز في الكلام وأنا فارهبون على الابتداء والخبر. وكون «فارهبون» الخبر على تقدير الحذف المعنى وأنا ربكم فارهبون.

 قوله تعالى:
{وَآمِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدّقاً لّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُوَاْ أَوّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيّايَ فَاتّقُونِ}
 قوله تعالى: {وَآمِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ} أي صدّقوا يعني بالقرآن. {مُصَدّقاً} حال من الضمير في «أنزلت» التقدير بما أنزلته مصدقاً والعامل فيه أنزلت. ويجوز أن يكون حالاً من ما, والعامل فيه آمنوا التقدير آمنوا بالقرآن مصدقاً. ويجوز أن تكون مصدرية التقدير آمنوا بإنزال. {لّمَا مَعَكُمْ} يعني من التوراة.
قوله تعالى: {وَلاَ تَكُونُوَاْ أَوّلَ كَافِرٍ بِهِ} الضمير في «به» قيل هو عائد على محمد صلى الله عليه وسلم, قاله أبو العالية: وقال ابن جُريج: هو عائد على القرآن, إذ تضمنه قوله: {بِمَآ أَنزَلْتُ} وقيل: على التوراة, إذ تضمنها قوله: «لِما معكم».
فإن قيل: كيف قال «كافر» ولم يقل كافرين قيل: التقدير ولا تكونوا أوّل فريق كافر به. وزعم الأخفش والفرّاء أنه محمول على معنى الفعل لأن المعنى أوّل من كفر به. وحكى سيبويه: هو أظرف الفتيان وأجمله وكان ظاهر الكلام هو أظرف فتًى وأجمله. وقال: «أوّلَ كافرٍ به» وقد كان قد كفر قبلهم كفار قريش, فإنما معناه من أهل الكتاب إذ هم منظور إليهم في مثل هذا لأنهم حجة مظنون بهم عِلم و «أوّل» عند سيبويه نصب على خبر كان. وهو مما لم ينطق منه بفعل وهو على أفعل, عينه وفاؤه واو. وإنما لم ينطق منه بفعل لئلا يعتلّ من جهتين: العين والفاء وهذا مذهب البصريين. وقال الكوفيون: هو مِن وَألَ إذا نجا فأصله أوأل, ثم خُفّفت الهمزة وأبدلت واواً وأدغمت فقيل أوّل, كما تخفف همزة خطيئة. قال الجوهري: «والجمع الأوائل والأوالي أيضاً على القلب. وقال قوم: أصله وَوّل على فَوْعَل فقلبت الواو الأولى همزة. وإنما لم يجمع على أواوِل لاستثقالهم اجتماع الواوين بينهما ألف الجمع». وقيل: هو أفعل من آل يؤول, فأصله أاْوَل قلب فجاء أعفل مقلوباً من أفعل, فسُهّل واُبدل واُدغم.
مسألة: لا حُجّةَ في هذه الآية لمن يمنع القول بدليل الخطاب, وهم الكوفيون ومن وافقهم لأن المقصود من الكلام النهي عن الكفر أولاً وآخراً وخصّ الأوّل بالذكر لأن التقدّم فيه أغلظ, فكان حكم المذكور والمسكوت عنه واحداً وهذا واضح.
قوله تعالى: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً}
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَلاَ تَشْتَرُواْ} معطوف على قوله: {وَلاَ تَكُونُوَاْ}. نهاهم عن أن يكونوا أوّل من كفر وألا يأخذوا على آيات الله ثمناً أي على تغيير صفة محمد صلى الله عليه وسلم رُشًى. وكان الأحبار يفعلون ذلك فنُهوا عنه قاله قوم من أهل التأويل, منهم الحسن وغيره. وقيل: كانت لهم مآكل يأكلونها على العلم كالراتب فنهُوا عن ذلك. وقيل: إن الأحبار كانوا يعلّمون دينهم بالأجرة فنُهوا عن ذلك. وفي كتبهم: يا بنَ ادمَ عَلّم مَجّاناً كما عُلّمت مَجّاناً أي باطلاً بغير أجرة قاله أبو العالية. وقيل: المعنى ولا تشتروا بأوامري ونواهيّ وآياتي ثمناً قليلاً, يعني الدنيا ومدّتها والعيش الذي هو نزر لا خطر له فسُمّي ما اعتاضوه عن ذلك ثمناً لأنهم جعلوه عوضاً فانطلق عليه اسم الثمن وإن لم يكن ثمناً. وقد تقدّم هذا المعنى. وقال الشاعر:
إن كنتَ حاولتَ ذنباً أو ظفِرتَ به  فما أصبتَ بترك الحج مِن ثَمَن
قلت: وهذه الآية وإن كانت خاصة ببني إسرائيل فهي تتناول مَن فعل فعلهم. فمن أخذ رشوة على تغيير حق أو إبطاله, أو امتنع من تعليم ما وَجَب عليه, أو أداء ما علمه وقد تعيّن عليه حتى يأخذ عليه أجراً فقد دخل في مقتضى الآية. والله أعلم. وقد روى أبو داود عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن تعلّم علماً مما يُبتغَى به وجه الله عز وجل لا يتعلّمه إلا ليصيب به عَرَضاً من الدنيا لم يجد عَرْف الجنة يوم القيامة» يعني ريحها.
الثانية: وقد اختلف العلماء في أخذ الأجرة على تعليم القرآن والعلم ـ لهذه الآية وما كان في معناها ـ فمنع ذلك الزّهِريّ وأصحاب الرأي وقالوا: لا يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن لأن تعليمه واجب من الواجبات التي يحتاج فيها إلى نيّة التقرّب والإخلاص فلا يؤخذ عليها أجرة كالصلاة والصيام. وقد قال تعالى: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً}. وروى ابن عباس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «معلّمُو صبيانكم شراركم أقلهم رحمة باليتيم وأغلظهم على المسكين». وروى أبو هريرة قال: قلت يا رسول الله ما تقول في المعلمين؟ قال: «درهمهم حرام وثوبهم سُحْت وكلامهم رياء». وروى عُبَادة بن الصّامت قال: علّمت ناساً من أهل الصّفّة القرآن والكتابة, فأهدى إليّ رجل منهم قوساً فقلت: ليست بمال وأرمي عنها في سبيل الله, فسألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنْ سرّك أن تُطَوّق بها طوقاً من نار فاقبلها». وأجاز أخذ الأجرة على تعليم القرآن مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور وأكثر العلماء لقوله عليه السلام في حديث ابن عباس ـ حديثِ الرّقْيَة ـ: «إن أحقّ ما أخذتم عليه أجراً كتابُ الله». أخرجه البخاري, وهو نصّ يرفع الخلاف, فينبغي أن يعوّل عليه.
وأمّا ما احتج به المخالف من القياس على الصلاة والصيام ففاسد لأنه في مقابلة النص ثم إن بينهما فُرقاناً, وهو أن الصلاة والصوم عباداتٌ مختصّة بالفاعل, وتعليم القرآن عبادة متعدية لغير المعلّم فتجوز الأجرة على محاولته النقل كتعليم كتابة القرآن. قال ابن المنذر: وأبو حنيفة يكره تعليم القرآن بأجرة ويجوّز أن يستأجر الرجلَ يكتب له لوحاً أو شِعراً أو غناء معلوماً بأجرٍ معلوم فيجوّز الإجارة فيما هو معصية ويبطلها فيما هو طاعة.
وأما الجواب عن الآية ـ فالمراد بها بنو إسرائيل, وشَرْعُ مَن قبلنا هل هو شَرْع لنا فيه خلاف, وهو لا يقول به.
جواب ثان: وهو أن تكون الآية فيمن تعيّن عليه التعلم فأبى حتى يأخذ عليه أجراً. فأما إذا لم يتعيّن فيجوز له أخذ الأجرة بدليل السّنّة في ذلك, وقد يتعيّن عليه إلا أن ليس عنده ما ينفقه على نفسه ولا على عياله فلا يجب عليه التعليم وله أن يقبل على صنعته وحرفته. ويجب على الإمام أن يعين لإقامة الدّين إعانته, وإلا فعلى المسلمين لأن الصدّيق رضي الله عنه لما ولي الخلافة وعُيّن لها لم يكن عنده ما يقيم به أهله, فأخذ ثياباً وخرج إلى السوق فقيل له في ذلك, فقال: ومن أين أنفق على عيالي! فردّوه وفرضوا له كفايته. وأما الأحاديث فليس شيء منها يقوم على ساق, ولا يصح منها شيء عند أهل العلم بالنقل. أما حديث ابن عباس فرواه سعيد بن طَريف عن عكرمة عنه وسعيد متروك. وأما حديث أبي هريرة فرواه عليّ بن عاصم عن حماد بن سَلَمة عن أبي جرهم عنه وأبو جرهم مجهول لا يعرف, ولم يرو حماد بن سَلَمة عن أحد يقال له أبو جرهم, وإنما رواه عن أبي المُهَزّم وهو متروك الحديث أيضاً, وهو حديث لا أصل له. وأما حديث عُبَادة بن الصامت فرواه أبو داود من حديث المغيرة بن زياد الموصليّ عن عبادة بن نُسيّ عن الأسود بن ثعلبة عنه والمغيرة معروف عند أهل العلم ولكنه له مناكير, هذا منها قاله أبو عمر. ثم قال: وأما حديث القوس فمعروف عند أهل العلم لأنه روي عن عبادة من وجهين, وروي عن أبَيّ بن كعب من حديث موسى بن عليّ عن أبيه عن اُبِيّ, وهو منقطع. وليس في الباب حديث يجب العمل به من جهة النقل, وحديث عبادة واُبَي يحتمل التأويل لأنه جائز أن يكون علّمه لله ثم أخذ عليه أجراً. وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خير الناس وخير من يمشي على جديد الأرض المعلّمون كلما خلق الدّين جدّدوه اُعطوهم ولا تستأجروهم فتحرجوهم فإن المعلم إذا قال للصبيّ: قل: بسم الله الرحمن الرحيم فقال الصبي: بسم الله الرحمن الرحيم كتب الله براءة للصبيّ وبراءة للمعلم وبراءة لأبويه من النار».
الثالثة: واختلف العلماء في حكم المصلّي بأجرة فروى أشهب عن مالك أنه سئل عن الصلاة خلف من اسُتْؤجِر في رمضان يقوم للناس فقال: أرجو ألا يكون به بأس وهو أشد كراهة له في الفريضة. وقال الشافعي وأصحابه وأبو ثور: لا بأس بذلك ولا بالصلاة خلفه. وقال الأوزاعي: لا صلاة له. وكرهه أبو حنيفة وأصحابه على ما تقدّم. قال ابن عبد البر: وهذه المسألة معلّقة من التي قبلها وأصلها واحد.
قلت: ويأتي لهذا أصل آخر من الكتاب في «براءة» إن شاء اللّه تعالى. وكره ابن القاسم أخذ الأجرة على تعليم الشعر والنحو. وقال ابن حبيب: لا بأس بالإجارة على تعليم الشعر والرسائل وأيام العرب ويكره من الشعر ما فيه الخمر والخنا والهجاء. قال أبو الحسن اللّخْمِيّ: ويلزم على قوله أن يُجيز الإجارة على كتبه ويُجيز بيع كتبه. وأما الغناء والنّوح فممنوع على كل حال.
الرابعة: روى الدارميّ أبو محمد في مسنده أخبرنا يعقوب بن إبراهيم قال حدّثنا محمد بن عمر بن الكُمَيْت قال حدثنا علي بن وهب الهمدانيّ قال أخبرنا الضحاك بن موسى قال: مرّ سليمان بن عبد الملك بالمدينة ـ وهو يريد مكة ـ فأقام بها أياماً فقال: هل بالمدينة أحد أدرك أحداً من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ قالوا له: أبو حازم فأرسل إليه فلما دخل عليه قال له: يا أبا حازم ما هذا الجفاء؟ قال أبو حازم: يا أمير المؤمنين وأيّ جفاء رأيت مني؟ قال: أتاني وجوه أهل المدينة ولم تأتني! قال: يا أمير المؤمنين أعيذك بالله أن تقول ما لم يكن, ما عَرَفتني قبل هذا اليوم ولا أنا رأيتك! قال: فالتفت إلى محمد بن شهاب الزهريّ فقال: أصاب الشيخ وأخطأت. قال سليمان: يا أبا حازم, ما لنا نكره الموت؟! قال: لأنكم أخربتم الاَخرة وعمرتم الدنيا فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب قال: أصبت يا أبا حازم, فكيف القدوم غداً على الله تعالى؟ قال: أمّا المحسن فكالغائب يَقْدَم على أهله, وأمّا المسيء فكالاَبق يَقْدَم على مولاه. فبكى سليمان وقال: ليت شعري! ما لنا عند الله؟ قال: أعرض عملك على كتاب الله. قال: وأيّ مكان أجده؟ قال: {إِنّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ}{وَإِنّ الْفُجّارَ لَفِي جَحِيمٍ } {وَإِذَا لَقُواْ الّذِينَ آمَنُواْ} (الانفطار: 13 ـ 14). قال سليمان: فأين رحمة اللّه يا أبا حازم؟ قال أبو حازم: رحمة اللّه قريب من المحسنين. قال له سليمان: يا أبا حازم, فأيّ عباد اللّه أكرم؟ قال: أولو المروءة والنّهى. قال له سليمان: فأيّ الأعمال أفضل؟ قال أبو حازم: أداء الفرائض مع اجتناب المحارم. قال سليمان: فأي الدعاء أسمع؟ قال: دعاء المحسَن إليه للمحسِن. فقال أيّ الصدقة أفضل؟ قال: للسائل البائس, وجُهْد المُقِلّ, ليس فيها مَنّ ولا أذًى. قال: فأيّ القول أعدل؟ قال: قولُ الحق عند مَن تخافه أو ترجوه. قال: فأيّ المؤمنين أكْيَس؟ قال: رجلٌ عَمِل بطاعة الله ودلّ الناس عليها. قال: فأيّ المؤمنين أحمق؟ قال: رجل انحطّ في هوَى أخيه وهو ظالم, فباع آخرته بدنيا غيره. قال له سليمان: أصبتَ, فما تقول فيما نحن فيه؟ قال: يا أمير المؤمنين, إن آباءك قهروا الناس بالسيف, وأخذوا هذا المُلْكَ عَنْوَةَ على غير مَشُورة من المسلمين ولا رضاهم, حتى قتلوا منهم مقتلة عظيمة فقد ارتحلوا عنها, فلو شعرتَ ما قالوه وما قيل لهم!. فقال له رجل من جلسائه: بئس ما قلت يا أبا حازم! قال أبو حازم: كذبتَ, إن الله أخذ ميثاق العلماء لَيُبَيّنُنّه للناس ولا يكتمونه. قال له سليمان: فكيف لنا أن نُصلح؟ قال: تدَعون الصّلَف وتمسّكُون بالمرؤة وتقسمون بالسّويّة. قال له سليمان: فكيف لنا بالمأخذ به؟ قال أبو حازم: تأخذه مِن حِلّه وتضعه في أهله. قال له سليمان: هل لك يا أبا حازم أن تَصْحَبنا فتُصيبَ منا وُنصيبَ منك؟ قال: أعوذ بالله! قال له سليمان: ولم ذاك؟ قال: أخشى أن أركن إليكم شيئاً قليلاً فيُذيقني الله ضِعفَ الحياة وضعف الممات. قال له سليمان: ارفع إلينا حوائجك. قال: تنجيني من النار وتدخلني الجنة. قال له سليمان: ليس ذاك إليّ! قال له أبو حازم: فمالي إليك حاجة غيرها. قال: فادع لي. قال أبو حازم: اللهُمّ إن كان سليمان وَلِيّك فيَسّرْه لخير الدنيا والاَخرة, وإن كان عدوّك فخذ بناصيته إلى ما تحبّ وترضى. قال له سليمان: قَطّ! قال أبو حازم: قد أوجزتُ وأكثرتُ إن كنت من أهله, وإن لم تكن من أهله فما ينبغي أن أرمي عن قَوس ليس لها وَتَر. قال له سليمان: أوْصني قال: ساُوصيك واُوجِز: عظّم ربك, ونَزّهه أن يراك حيث نهاك, أو يفقدك حيث أمرك. فلما خرج من عنده بعث إليه بمائة دينار, وكتب (إليه) أن أنفقها ولك عندي مثلها كثير. قال: فردّها عليه وكتب إليه: يا أمير المؤمنين, أعيذك بالله أن يكون سؤالك إيّاي هَزْلاً أو ردّي عليك بَذْلاً, وما أرضاها لك, فكيف (أرضاها) لنفسي! إن موسى بن عِمران لما وَرَد ماءَ مَدْين وجد عليه رِعاءً يَسقون, ووجد من دونهم جاريتين تذودان (فسألهما, فقالتا: لا نَسقي حتى يُصدر الرّعاء وأبونا شيخ كبير) فسقى لهما ثم تولّى إلى الظلّ فقال: رَبّ إني لِمَا أنزلتَ إليّ من خير فقير. وذلك أنه كان جائعاً خائفاً لا يأمن, فسأل ربّه ولم يسأل الناس. فلم يفطن الرعاء, وفطنت الجاريتان. فلما رجعتا إلى أبيهما أخبرتاه بالقصة وبقوله. فقال أبوهما وهو شعيب عليه السلام: هذا رجل جائع. فقال لإحداهما: اذهبي فادعيه. فلما أتته عظّمته وغطّت وجهها وقالت: {إِنّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} (القصص: 25) فشقّ على موسى حين ذكرت {أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} ولم يجد بُدّا من أن يتبعها لأنه كان بين الجبال جائعاً مستوْحشاً. فلما تبعها هبّت الريح فجعلت تصفّق ثيابها على ظهرها فتصِفُ له عجزيتها ـ وكانت ذات عَجُز ـ وجعل موسى يُعرِض مَرّة ويغضّ أخرى فلما عِيل صبره ناداها: يا أمَةَ الله كوني خلفي, وأرِيني السّمت بقولك. فلما دخل على شُعَيب إذ هو بالعَشاء مُهَيّأ فقال له شعيب: اجلس يا شاب فتعشّ فقال له موسى عليه السلام: أعوذ بالله! فقال له شعيب: لِم! أمَا أنت جائع؟ قال: بلى, ولكني أخاف أن يكون هذا عِوضاً لمَا سقيتُ لهما, وأنا مِن أهل بيت لا نبيع شيئاً من ديننا بملء الأرض ذهباً. فقال له شعيب: لا يا شابّ, ولكنها عادتي وعادة آبائي: نَقْرِي الضيف ونطعم الطعام فجلس موسى فأكل. فإن كانت هذه المائة دينار عوضاً لما حدّثتُ فالميتة والدّمُ ولحم الخنزير في حال الاضطرار أحلّ من هذه, وإن كان لحق في بيت المال فلي فيها نظراء فإن ساوَيْت بيننا وإلا فليس لي فيها حاجة.
قلت: هكذا يكون الاقتداء بالكتاب والأنبياء. انظروا إلى هذا الإمام الفاضل والحبر العالم كيف لم يأخذ على عمله عِوَضاً, ولا على وصيّته بَدْلاً, ولا على نصيحته صَفَداً بل بيّن الحق وصَدَع, ولم يلحقه في ذلك خوف ولا فَزَع. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يمنعنّ أحدكم هيبةُ أحد أن يقول أو يقوم بالحق حيث كان». وفي التنزيل: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ}.
قوله تعالى: {وَإِيّايَ فَاتّقُونِ} قد تقدّم معنى التقوى. وقرئ «فاتقّوني» بالياء, وقد تقدّم. وقال سهل بن عبد اللّه: قوله: {وَإِيّايَ فَاتّقُونِ} قال: موضع علمي السابق فيكم. {وَإِيّايَ فَارْهَبُونِ} قال: موضع المكر والاستدراج لقول الله تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} (الأعراف: 182), وقوله: {فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} (الأعراف: 99). فما استثنى نبِيّا ولا صدّيقاً. قوله تعالى: {فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}

 قوله تعالى:
{وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقّ بِالْبَاطِلِ}
اللّبْس: الخلط. لَبَست عليه الأمر ألبِسه, إذا مزجتَ بيّنه بمُشْكله وحقّه بباطله, قال الله تعالى: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مّا يَلْبِسُونَ}. وفي الأمر لُبْسة أي ليس بواضح. ومن هذا المعنى قول عليّ رضي الله عنه للحارث بن حوط: يا حارث إنه ملبوس عليك, إن الحق لا يُعْرَف بالرجال, اعرف الحق تعرف أهله. وقالت الخنساء:
ترى الجليسَ يقول الحقّ تحسَبه  رُشْداً وهيهات فانظر ما به التبسا
صَدّق مقالتَه واحذَر عداوته  والبس عليه أمورا مثلَ ما لَبَسا
 وقال العَجّاج:
ما لَبَسْنَ الحقّ بالتّجَنّي  غَنِين واستبدَلْن زيداً منّي
روى سعيد عن قتادة في قوله: {وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقّ بِالْبَاطِلِ}, يقول: لا تلبسوا اليهودية والنصرانية بالإسلام, وقد علمتم أن دين الله ـ الذي لا يقبل غيره ولا يجزي إلا به ـ الإسلامُ, وأن اليهودية والنصرانية بدعة وليست من الله. والظاهر من قول عنترة:
وكَتِيبةٍ لَبّستها بكتيبة
أنه من هذا المعنى ويحتمل أن يكون من اللباس. وقد قيل هذا في معنى الآية أي لا تُغَطّوا. ومنه لبس الثوب يقال: لبِست الثوب ألْبَسه. ولباس الرجل زوجته, وزوجها لباسها. قال الجَعْدِيّ:
إذا ما الضّجيع ثَنَى جِيدَها  تَثَنّتْ عليه فكانت لباسَا
 وقال الأخْطل:
وقد لَبِستُ لهذا الأمر أعْصُرَه  حتى تجلّل رأسي الشيبُ فاشتعلا
واللّبوس: كل ما يُلبس من ثياب ودرع قال الله تعالى: {وَعَلّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لّكُمْ}. (الأنبياء:80) ولابست فلاناً حتى عرفتُ باطنه. وفي فلان مَلْبَس أي مستمتع. قال:
ألاَ إن بعد العُدْم للمرءِ قُنْوَة  وبعد المشيب طولَ عُمْرٍ ومَلْبَسَا
ولِبْس الكعبة والهودج: ما عليهما من لِباس (بكسر اللام).
قوله تعالى: {بِالْبَاطِلِ} الباطل في كلام العرب خلاف الحق, ومعناه الزائل. قال لبِيد:
ألاَ كلّ شيء ما خلا اللّهَ باطلُ
وبطل الشيء يبطل بُطْلا وبُطولا وبُطلانا (ذهب ضياعاً وخسراً), وأبطله غيره. ويقال: ذهب دمه بُطْلاً أي هَدَراً. والباطل: الشيطان. والبَطَل: الشجاع, سُمّيَ بذلك لأنه يُبطل شجاعة صاحبه. قال النابغة:
لهم لواء بأيدي ماجدٍ بطلٍ  لا بقطع الخرق إلا طرفُه سامي
والمرأةُ بَطَلة. وقد بطُل الرجل (بالضم) يبطلُ بُطولة وبَطَالة أي صار شجاعاً. وبَطل الأجير (بالفتح) بِطَاَلة أي تعطّل, فهو بطّال. واختلف أهل التأويل في المراد بقوله: {الْحَقّ بِالْبَاطِلِ} فرُوي عن ابن عباس وغيره: لا تخلطوا ما عندكم من الحق في الكتاب بالباطل وهو التغيير والتبديل. وقال أبو العالية: قالت اليهود: محمد مبعوث ولكن إلى غيرنا. فإقرارهم ببعثه حقّ, وجحدهم أنه بُعث إليهم باطل. وقال ابن زيد: المراد بالحق التوراة, والباطل ما بدّلوا فيها من ذكر محمد عليه السلام وغيره. وقال مجاهد: لا تخلطوا اليهودية والنصرانية بالإسلام. وقاله قتادة وقد تقدم.
قلت: وقول ابن عباس أصوب لأنه عام فيدخل فيه جميع الأقوال. والله المستعان.
قوله تعالى: {وَتَكْتُمُواْ الْحَقّ} يجوز أن يكون معطوفاً على «تَلْبِسُوا» فيكون مجزوماً, ويجوز أن يكون منصوباً بإضمار أن, التقدير: لا يكن منك لبس الحق وكتمانه أي وأن تكتموه. قال ابن عباس: يعني كتمانهم أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم وهم يعرفونه. وقال محمد بن سِيرِين: نزل عصابة من ولد هارون يَثْرِبَ لما أصاب بني إسرائيل ما أصابهم من ظهور المدوّ عليهم والذلة, وتلك العصابة هم حملة التوراة يومئذ, فأقاموا بيثرب يرجون أن يخرج محمد صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم, وهم مؤمنون مصدّقون بنبوته, فمضى أولئك الاَباء وهم مؤمنون وخلف الأبناء وأبناء الأبناء فأدركوا محمدًا صلى الله عليه وسلم فكفروا به وهم يعرفونه وهو معنى قوله: {فَلَمّا جَاءَهُمْ مّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ} (البقرة: 89) .
قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} جملة في موضع الحال أي أن محمداً عليه السلام حق فكفرهم كان كفر عناد ولم يشهد تعالى لهم بعلم, وإنما نهاهم عن كتمان ما علموا. ودل هذا على تغليظ الذنب على من واقعه على علم وأنه أعصى من الجاهل. وسيأتي بيان هذا عند قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبِرّ} (البقرة:44)الآية.

 قوله تعالى:
{وَآتُواْ الزّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرّاكِعِينَ}
 فيه أربع وثلاثون مسألة:
الأولى: قوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ} أمْرٌ معناه الوجوب, ولا خلاف فيه وقد تقدّم القول في معنى إقامة الصلاة واشتقاقها وفي جملة من أحكامها, والحمد لله.
الثانية: قوله تعالى: {وَآتُواْ الزّكَاةَ} أمْرٌ أيضاً يقتضي الوجوب. والإيتاء: الإعطاء. آتيته: أعطيته قال الله تعالى: {لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصّدّقَنّ} (التوبة: 75). وأتيته ـ بالقصر من غير مَدّ ـ جئته فإذا كان المجيء بمعنى الاستقبال مُدّ ومنه الحديث: «ولاَتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأخبرنه». وسيأتي.
الثالثة: الزكاة مأخوذة من زكا الشيء إذا نما وزاد يقال: زكا الزرعُ والمالُ يزكو إذا كثر وزاد. ورجل زكي أي زائد الخير. وسُمّيَ الإخراج من المال زكاة وهو نقص منه من حيث ينمو بالبركة أو بالأجر الذي يثاب به المزكّي. ويقال: زرع زاكٍ بيّن الزكاء. وزكأت الناقة بولدها تزكأ به: إذا رمتْ به من بين رجليها. وزكا الفرد: إذا صار زوجاً بزيادة الزائد عليه حتى صار شفعاً. قال الشاعر:
كانوا خَساً أو زَكاً من دون أربعة  لم يَخْلَقُوا وجدود الناس تَعْتَلِجُ
جمع جَدّ وهو الحظّ والبخت. تعتلج أي ترتفع. اعتلجت الأرض: طال نباتها. فخساً: الفردُ, وزكاً: الزّوْج.
وقيل: أصلها الثناء الجميل ومنه زكّى القاضي الشاهد. فكأن مَن يُخرج الزكاة يحصل لنفسه الثناء الجميل. وقيل: الزكاة مأخوذة من التطهير كما يقال: زكا فلان أي طهر من دنس الجَرْحة والإغفال. فكأن الخارج من المال يطهّره من تبعة الحق الذي جعل الله فيه للمساكين. ألا ترى أن النبيّ سمّى ما يخرج من الزكاة أوساخَ الناس وقد قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا} (التوبة: 103).
الرابعة: واختلف في المراد بالزكاة هنا فقيل: الزكاة المفروضة, لمقارنتها بالصلاة. وقيل: صدقة الفطر قاله مالك في سماع ابن القاسم.
قلت: فعلى الأوّل ـ وهو قول أكثر العلماء ـ فالزكاة في الكتاب مجملة بيّنها النبيّ صلى الله عليه وسلم فروى الأئمة عن أبي سعيد الخدريّ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ليس في حَبّ ولا تمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوْسُق ولا فيما دون خمسِ ذَوْدٍ صدقة ولا فيما دون خمسِ أواقٍ صدقة». وقال البخاري: «خمس أواق من الورِق». وروى البخاريّ عن ابن عمر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «فيما سَقتِ السماء والعيون أو كان عَثرِيّا العُشْرُ وما سُقى بالنّضْح نصفُ العُشر». وسيأتي بيان هذا الباب في «الأنعام» إن شاء الله تعالى. ويأتي في «براءة» زكاة العين والماشية, وبيان المال الذي لا يؤخذ منه زكاة عند قوله تعالى: {قَالَ يَقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن}. وأما زكاة الفطر فليس لها في الكتاب نصّ عليها إلا ما تأوّله مالك هنا, وقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكّىَ وَذَكَرَ اسْمَ رَبّهِ فَصَلّىَ} (الأعلىَ: 14 ـ 15). والمفسرون يذكرون الكلام عليها في سورة «الأعلى» ورأيت الكلام عليها في هذه السورة عند كلامنا على آي الصيام لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم: فرض زكاة الفطر في رمضان, الحديث. وسيأتي, فأضافها إلى رمضان.
الخامسة: قوله تعالى: {وَارْكَعُواْ} الركوع في اللغة الانحناء بالشخص وكل منحن راكع. قال لَبيد:
اُخَبّرُ أخبارَ القرون التي مضت أدِبّ كأني كلما قمت راكعُ
وقال ابن دُريد: الركعة الهُوّة في الأرض, لغة يمانية. وقيل: الانحناء يعم الركوع والسجود ويستعار أيضاً في الانحطاط في المنزلة. قال:
ولا تُعادِ الضعيفَ عَلّك أن  تركع يوماً والدهر قد رفعه
السادسة: واختلف الناس في تخصيص الركوع بالذكر فقال قوم: جعل الركوع لما كان من أركان الصلاة عبارة عن الصلاة.
قلت: وهذا ليس مختصّا بالركوع وحده فقد جعل الشرع القراءة (عبارة) عن الصلاة, والسجودَ عبارة عن الركعة بكمالها فقال: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} (الإسراء: 78) أي صلاة الفجر, وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أدرك سجدة من الصلاة فقد أدرك الصلاة». وأهل الحجاز يطلقون على الركعة سجدة. وقيل: إنما خص الركوع بالذكر لأن بني إسرائيل لم يكن في صلاتهم ركوع. وقيل: لأنه كان أثقل على القوم في الجاهلية حتى لقد قال بعض من أسلم ـ أظنه عمران بن حُصين ـ للنبيّ صلى الله عليه وسلم: على ألاّ أخِرّ إلا قائماً. فمن تأويله على ألاّ أركع فلما تمكن الإسلام مِن قلبه اطمأنت بذلك نفسه وامتثل ما أمر به من الركوع.
السابعة: الركوع الشرعي هو أن يحني الرجل صلبه ويمدّ ظهره وعنقه ويفتح أصابع يديه ويقبض على ركبتيه ثم يطمئن راكعاً يقول: سبحان ربي العظيم ثلاثاً وذلك أدناه. روى مسلم عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين وكان إذا ركع لم يُشخص رأسه ولم يصوّبه ولكن بين ذلك. وروى البخاري عن أبي حُميد الساعدي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبّر جعل يديه حَذْوَ منكبيه, وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه ثم هصر ظهره الحديث.
الثامنة: الركوع فرض, قرآناً وسُنّة, وكذلك السجود لقوله تعالى في آخر الحج: {ارْكَعُواْ وَاسْجُدُواْ} (الحج: 77). وزادت السّنة الطمأنينةَ فيهما والفصل بينهما. وقد تقدّم القول في ذلك, وبيّنا صفة الركوع آنفاً. وأما السجود فقد جاء مبيّناً من حديث أبي حُميد الساعديّ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد مكّن جبهته وأنفه من الأرض ونحّى يديه عن جنبيه ووضع كفّيه حَذْو منكبيه. خرّجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وروى مسلم عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب». وعن البَرَاء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سجدتَ فضَع كفيك وارفع مرفقيك». وعن ميمونة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد خَوّى بيديه ـ يعني جنح حتى يرى وَضَح إبطيه من ورائه ـ وإذا قعد اطمأن على فخذه اليسرى.
التاسعة: واختلف العلماء فيمن وضع جبهته في السجود دون أنفه أو أنفه دون جبهته فقال مالك: يسجد على جبهته وأنفه وبه قال الثوريّ وأحمد, وهو قول النّخَعِيّ. قال أحمد: لا يجزئه السجود على أحدهما دون الاَخر وبه قال أبو خَيْثَمة وابن أبي شيبة. قال إسحاق: إن سجد على أحدهما دون الاَخر فصلاته فاسدة. وقال الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز, ورُوي عن ابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة وعبد الرحمن بن أبي ليلى كلهم أمر بالسجود على الأنف. وقالت طائفة: يجزئ أن يسجد على جبهته دون أنفه هذا قول عطاء وطاوس وعكرمة وابن سِيرين والحسن البصري وبه قال الشافعي وأبو ثور ويعقوب ومحمد. قال ابن المنذر: وقال قائل: إن وضع جبهته ولم يضع أنفه أو وضع أنفه ولم يضع جبهته فقد أساء وصلاته تامة هذا قول النعمان. قال ابن المنذر: ولا أعلم أحداً سبقه إلى هذا القول ولا تابعه عليه.
قلت: الصحيح في السجود وضع الجبهة والأنف لحديث أبي حُميد, وقد تقدّم. وروى البخاري عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمِرت أن أسجد على سبعة أعظم على الجبهة ـ وأشار بيده إلى أنفه ـ واليدين والركبتين وأطراف القدمين ولا نَكْفِتُ الثياب والشّعَر». وهذا كله بيان لمجمل الصلاة, فتعيّن القول به. والله أعلم وروي عن مالك أنه يجزيه أن يسجد على جبهته دون أنفه كقول عطاء والشافعي. والمختار عندنا قوله الأوّل, ولا يجزئ عند مالك إذا لم يسجد على جبهته.
العاشرة: ويكره السجود على كَوْر العمامة وإن كان طاقة أو طاقتين, مثل الثياب التي تستر الركب والقدمين فلا بأس والأفضل مباشرة الأرض أو ما يسجد عليه. فإن كان هناك ما يؤذيه أزاله قبل دخوله في الصلاة, فإن لم يفعل فليمسحه مسحة واحدة. وروى مسلم عن مُعَيْقِيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الرجل يسوّي التراب حيث يسجد قال: «إن كنتَ فاعلاً فواحدة». وروي عن أنس بن مالك قال: كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شدّة الحرّ فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكّن جبهته من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه.
الحادية عشرة: لما قال تعالى: {ارْكَعُواْ وَاسْجُدُواْ} (الحج: 77) قال بعض علمائنا وغيرهم: يكفي منها ما يُسمّى ركوعاً وسجوداً, وكذلك من القيام. ولم يشترطوا الطمأنينة في ذلك فأخذوا بأقلّ الاسم في ذلك وكأنهم لم يسمعوا الأحاديث الثابتة في إلغاء الصلاة. قال ابن عبد البر: ولا يجزي ركوع ولا سجود ولا وقوف بعد الركوع, ولا جلوس بين السجدتين حتى يعتدل راكعاً وواقفاً وساجداً وجالساً. وهو الصحيح في الأثر, وعليه جمهور العلماء وأهل النظر وهي رواية ابن القاسم وغيره بوجوب الفصل وسقوط الطمأنينة وهو وَهَم عظيم لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم فعلها وأمر بها وعلّمها. فإن كان لابن القاسم عذر أن كان لم يطلع عليها فما لكم أنتم وقد انتهى العلم إليكم وقامت الحجة به عليكم! روى النسائي والدّارَقُطْنِيّ وعليّ بن عبد العزيز عن رفاعة بن رافع قال: كنت جالساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فدخل المسجد فصلّى, فلما قضى الصلاة جاء فسلّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى القوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إرجع فصلّ فإنك لم تُصلّ» وجعل الرجل يصلي وجعلنا نرمق صلاته لا ندري ما يعيب منها فلما جاء فسلّم على النبيّ صلى الله عليه وسلم وعلى القوم, فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: «وعليك ارجع فصلّ فإنك لم تصلّ». قال همام: فلا ندري, أمره مرتين بذلك أو ثلاثاً فقال له الرجل: ما ألَوْتُ, فلا أدري ما عِبتَ عليّ من صلاتي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه لا تتم صلاة أحدكم حتى يُسبغ الوضوء كما أمره الله فيَغسِل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين ثم يكبّر الله تعالى ويُثني عليه ثم يقرأ أمّ القرآن وما أذن له فيه وتيسّر ثم يكبّر فيركع فيضع كفّيه على ركبتيه حتى تطمئن مفاصله ويسترخي ثم يقول سمع الله لمن حمده ويستوي قائماً حتى يقيم صُلبه ويأخذ كل عظمٍ مأخذه ثم يكبّر فيسجد فيمكّن وجهه ـ قال همّام: وربما قال: جبهته ـ من الأرض حتى تطمئن مفاصله ويسترخي ثم يكبّر فيستوي قاعداً على مقعده ويقيم صلبه ـ فوصف الصلاة هكذا أربع ركعات حتى فرغ, ثم قال: ـ لا تَتمّ صلاة أحدكم حتى يفعل ذلك». ومثله حديث أبي هريرة خرّجه مسلم, وقد تقدّم.
قلت: فهذا بيان الصلاة المجملة في الكتاب بتعليم النبيّ عليه السلام وتبليغه إياها جميع الأنام, فمن لم يقف عند هذا البيان وأخلّ بما فرض عليه الرحمن, ولم يمتثل ما بلغه عن نبيّه عليه السلام كان من جملة من دخل في قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصّلاَةَ وَاتّبَعُواْ الشّهَوَاتِ}. (مريم: 59) على ما يأتي بيانه هناك إن شاء الله تعالى. روى البخاريّ عن زيد بن وهب قال: رأى حُذيفة رجلاً لا يتم الركوع ولا السجود فقال: ما صلّيتَ ولو متّ لمتّ على غير الفِطرة التي فَطَر الله عليها محمداً صلى الله عليه وسلم.
الثانية عشرة: قوله تعالى: {مَعَ الرّاكِعِينَ} «مع» تقتضي المَعِيّة والجمعيّة ولهذا قال جماعة من أهل التأويل بالقرآن: إن الأمر بالصلاة أوّلا لم يقتض شهود الجماعة, فأمرهم بقوله «مع» شهود الجماعة. وقد اختلف العلماء في شهود الجماعة على قولين فالذي عليه الجمهور أن ذلك من السنن المؤكدة, ويجب على من أدمن التخلف عنها من غير عذر العقوبة. وقد أوجبها بعض أهل العلم فرضاً على الكفاية. قال ابن عبد البر: وهذا قول صحيح لإجماعهم على أنه لا يجوز أن يجتمع على تعطيل المساجد كلها من الجماعات. فإذا قامت الجماعة من المسجد فصلاة المنفرد في بيته جائزة لقوله عليه السلام: «صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة». أخرجه مسلم من حديث ابن عمر. وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزءاً». وقال داود الصلاة في الجماعة فرض على كل أحد في خاصته كالجمعة واحتج بقوله عليه السلام: «لا صلاةَ لجار المسجد إلا في المسجد» خرّجه أبو داود وصحّحه أبو محمد عبد الحق وهو قول عطاء بن أبي رباح وأحمد بن حنبل وأبي ثَوْر وغيرهم. وقال الشافعي: لا أرخّص لمن قدر على الجماعة في ترك إتيانها إلا من عذر حكاه ابن المنذر. وروى مسلم عن أبي هريرة قال: أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ أعمى فقال: يا رسول الله, إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد فسأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يرخّص لي فيصلي في بيته فرخص له فلما وَلّى دعاه فقال: «(هل) تسمع النداء بالصلاة» قال نعم قال «فأجب». وقال أبو داود في هذا الحديث: «لا أجد لك رخصة». خرجه من حديث ابن أم مَكْتُوم وذكر أنه كان هو السائل. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن سمع النداء فلم يمنعه من إتيانه عذر ـ قالوا: وما العذر؟ قال: خوفٌ أو مرض ـ لم تُقبل منه الصلاة التي صلى». قال أبو محمد عبد الحق: هذا يرويه مَغراء العبدي. والصحيح موقوف على ابن عباس: «من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له». على أن قاسم بن أصْبَغ ذكره في كتابه فقال: حدّثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي, قال حدّثنا سليمان بن حرب, حدّثنا شعبة عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَن سمع النداء فلم يَجب فلا صلاة له إلا من عذر». وحسبك بهذا الإسناد صحة. ومَغراء العبدي روى عنه أبو إسحاق. وقال ابن مسعود: ولقد رأيتُنا وما يتخلّف عنها إلا منافق معلوم النفاق. وقال عليه السلام: «بيننا وبين المنافقين شهود العَتَمة والصّبح لا يستطيعونهما». قال ابن المنذر: ولقد روينا عن غير واحد من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا: «مَن سمع النداء فلم يُجب من غير عذر فلا صلاة له» منهم ابن مسعود وأبو موسى الأشعريّ. وروى أبو داود عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد هَمَمت أن آمر فِتْيتي فيجمعوا حُزَماً من حطب ثم آتي قوماً يصلون في بيوتهم ليست لهم عِلّة فأحرقها عليهم». هذا ما احتج به من أوجب الصلاة في الجماعة فرضاً, وهي ظاهرة في الوجوب, وحملها الجمهور على تأكيد أمر شهود الصلوات في الجماعة بدليل حديث ابن عمر وأبي هريرة. وحملوا قول الصحابة وما جاء في الحديث من أنه «لا صلاة له» على الكمال والفضل وكذلك قوله عليه السلام لابن أم مكتوم: «فأجب» على الندب. وقوله عليه السلام: «لقد هممت» لا يدل على الوجوب الحتم لأنه هَمّ ولم يفعل وإنما مخرجه مخرج التهديد والوعيد للمنافقين الذين كانوا يتخلّفون عن الجماعة والجمعة. يبيّن هذا المعنى ما رواه مسلم عن عبد اللّه قال: «مَن سرّه أن يلقى الله غداً مسلِماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث يُنادَى بهن, فإن الله شرع لنبيّكم صلى الله عليه وسلم سُنن الهُدَى, وإنهن من سنن الهدى ولو أنكم صلّيتم في بيوتكم كما يصلّي هذا المتخلّف في بيته لتركتم سُنّة نبيّكم صلى الله عليه وسلم, ولو تركتم سُنة نبيّكم صلى الله عليه وسلم لضَلَلتم وما من رجل يتطهّر فيحسن الطّهور ثم يَعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خُطوة يخطوها حسنة ويرفعه بها درجة ويحطّ عنه بها سيئة, ولقد رأيتُنا وما يتخلّف عنها إلا منافق معلوم النفاق, ولقد كان الرجل يؤتَى به يُهادَى بين الرجلين حتى يقام في الصّف». فبيّن رضي الله عنه في حديثه أن الاجتماع سُنّة من سُنن الهُدَى وتركه ضلال ولهذا قال القاضي أبو الفضل عِيَاض: اختلِف في التمالؤ على ترك ظاهر السنن هل يقاتل عليها أولا والصحيح قتالهم لأن في التمالؤ عليها إماتتها.
قلت: فعلى هذا إذا أقيمت السّنة وظهرت جازت صلاة المنفرد وصحّت. روى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه بضْعاً وعشرين درجة وذلك أن أحدهم إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد لا يَنْهَزُه إلا الصلاة لا يريد إلا الصلاة فلم يَخْط خُطوة إلا رُفع له بها درجةٌ وحطّ عنه بها خطيئة حتى يدخل المسجد فإذا دخل المسجد كان في الصلاة ما كانت الصلاة هي تحبِسه والملائكة يصلّون على أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلّى فيه يقولون اللّهُمّ ارحمه اللّهُمّ اغفر له اللّهُمّ تُبْ عليه ما لم يُؤْذِ فيه ما لم يُحْدِث فيه». قيل لأبي هريرة: ما يحدث؟ قال: يَفْسُو أو يَضْرِط.
الثالثة عشرة: واختلف العلماء في هذا الفضل المضاف للجماعة هل لأجل الجماعة فقط حيث كانت, أو إنما يكون ذلك الفضل للجماعة التي تكون في المسجد لما يلازم ذلك من أفعال تختص بالمساجد كما جاء في الحديث قولان. والأول أظهر لأن الجماعة هو الوصف الذي عُلّق عليه الحُكم. والله أعلم. وما كان من إكثار الخطا إلى المساجد وقصد الإتيان إليها والمُكْث فيها فذلك زيادة ثواب خارج عن فضل الجماعة. والله أعلم.
الرابعة عشرة: واختلفوا أيضاً هل تفضل جماعة جماعة بالكثرة وفضيلة الإمام؟ فقال مالك: لا. وقال ابن حبيب: نعم لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما كَثُر فهو أحبّ إلى الله». رواه اُبَي بن كعب وأخرجه أبو داود, وفي إسناده لين.
الخامسة عشرة: واختلفوا أيضاً فيمن صلّى في جماعة هل يُعيد صلاته تلك في جماعة أخرى؟ فقال مالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم: إنما يعيد الصلاة في جماعة مع الإمام مَن صلّى وحده في بيته وأهلِه أو في غير بيته وأمّا من صلّى في جماعة وإن قَلّت فإنه لا يعيد في جماعة أكثر منها ولا أقل. وقال أحمد بن حنبل وإسحَق بن راهْوَيْه وداود بن عليّ: جائز لمن صلى في جماعة ووجد جماعة أخرى في تلك الصلاة أن يعيدها معهم إن شاء لأنها نافلة وسنة. وروى ذلك عن حُذيفة بن اليَمَان وأبي موسى الأشعريّ وأنس بن مالك وصلة بن زفر والشّعْبي والنّخَعِي, وبه قال حماد بن زيد وسليمان بن حرب.
احتج مالك بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تُصلّى صلاةٌ في يوم مرتين». ومنهم من يقول: لا تصلّوا. رواه سليمان بن يَسار عن ابن عمر. واتفق أحمد وإسحَق على أن معنى هذا الحديث أن يصلي الإنسان الفريضة, ثم يقوم فيصلّيها ثانية ينوي بها الفرض مرة أخرى فأمّا إذا صلاّها مع الإمام على أنها سُنّة أو تطوّع فليس بإعادة الصلاة, وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للذين أمرهم بإعادة الصلاة في جماعة: «إنها لكم نافلة». من حديث أبي ذرّ وغيره.
السادسة عشرة: روى مسلم عن أبي مسعود عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «يَؤُمّ القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلَمُهم بالسّنة فإن كانوا في السنة سواءً فأقدمهم هجرةً فإن كانوا في الهجرة سواءً فأقَدُمهم سِلْماً ولا يؤمنّ الرجلُ الرجلَ في سلطانه ولا يقعد في بيته على تَكْرِمتِه إلا بإذنه» وفي رواية «سِنّا» مكان «سِلْماً». وأخرجه أبو داود وقال: قال شعبة: فقلت لإسماعيل: ما تَكْرِمَتُه؟ قال: فراشه. وأخرجه الترمذي وقال: حديث أبي مسعود حديث حسن صحيح, والعمل عليه عند أهل العلم.
قالوا: أحق الناس بالإمامة أقرؤهم لكتاب الله وأعلمهم بالسّنّة. وقالوا: صاحب المنزل أحق بالإمامة. وقال بعضهم: إذا أذِن صاحب المنزل لغيره فلا بأس أن يصلّى به. وكَرِهه بعضهم وقالوا: السّنة أن يصلّي صاحب البيت. قال ابن المنذر: رَوَينا عن الأشعث بن قيس أنه قدّم غلاماً وقال: إنما أقدّم القرآن. وممن قال: يؤم القوم أقرؤهم ابن سِيرين والثوريّ وإسحَقُ وأصحابُ الرأي. قال ابن المنذر: بهذا نقول لأنه موافق للسّنة. وقال مالك: يتقدّم القوم أعلمهم إذا كانت حاله حسنة, وإن للسنّ حقاً. وقال الأوزاعيّ: يؤمّهم أفقههم وكذلك قال الشافعي وأبو ثور إذا كان يقرأ القرآن وذلك لأن الفقيه أعرف بما ينوبه من الحوادث في الصلاة. وتأوّلوا الحديث بأن الأقرأ من الصحابة كان الأفقه لأنهم كانوا يتفقهون في القرآن, وقد كان مِن عُرفهم الغالب تسميتهم الفقهاء بالقرّاء واستدلّوا بتقديم النبيّ صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه أبا بكر لفضله وعلمه. وقال إسحَق: إنما قدّمه النبيّ صلى الله عليه وسلم ليدل على أنه خليفته بعده. ذكره أبو عمر في التمهيد. وروى أبو بكر البزار بإسناد حسن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سافرتم فليؤمّكم أقرؤكم وإن كان أصغرَكم وإذا أمّكم فهو أميركم». قال: لا نعلمه يروى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا من رواية أبي هريرة بهذا الإسناد.
قلت: إمامة الصغير جائزة إذا كان قارئاً. ثبت في صحيح البخاريّ عن عمرو بن سَلِمة قال: كنا بماء ممَرّ الناس وكان يمرّ بنا الركبان فنسألهم ما للناس؟ ما هذا الرجل؟ فيقولون: يزعم أن الله أرسله, أوْحَى إليه كذا! أوْحى إليه كذا! فكنت أحفظ ذلك الكلام فكأنما يُقرّ في صدري وكانت العرب تَلَوّم بإسلامها فيقولون: اتركوه وقومه, فإنه إن ظهر عليهم فهو نبيّ صادق فلما كانت وقعة الفتح بادر كل قوم بإسلامهم, وبدر أبي قومي بإسلامهم, فلما قدم قال: جئتكم والله من عند نبيّ الله حقّا, قال: «صلوا صلاة كذا في حين كذا فإذا حضرت الصلاة فليؤذّن أحدكم وليؤمّكم أكثركم قرآناً». فنظروا فلم يكن أحد أكثر مني قرآناً لِمَا كنت أتلقّى من الركبان, فقدّموني بين أيديهم وأنا ابن ست أو سبع سنين, وكانت عليّ بُرْدة إذا سجدت تقلّصتْ عني, فقالت امرأة من الحَيّ: ألا تغطّون عنا اسْتَ قارئكم! فاشتروْا فقطعوا لي قميصاً, فما فرحت بشيء فرحي بذلك القميص. وممن أجاز إمامة الصبيّ غير البالغ الحسنُ البصري وإسحاقُ بن راهْوَيْه, واختاره ابن المنذر إذا عقل الصلاة وقام بها لدخوله في جملة قوله صلى الله عليه وسلم: «يؤمّ القوم أقرؤهم» ولم يستثن, ولحديث عمرو بن سَلِمة. وقال الشافعي في أحد قوليه: يؤم في سائر الصلوات ولا يؤمّ في يوم الجمعة وقد كان قبلُ يقول: ومن أجزأتْ إمامته في المكتوبة أجزأت إمامته في الأعياد, غير أني أكره فيها إمامة غير الوالي. وقال الأوزاعيّ: لا يؤمّ الغلام في الصلاة المكتوبة حتى يحتلم, إلا أن يكون قوم ليس معهم من القرآن شيء فإنه يؤمّهم الغلام المراهق. وقال الزهري: إن اضطروا إليه أمّهم. ومنع ذلك جملةً مالكٌ والثوريّ وأصحابُ الرأي.
السابعة عشرة: الائتمام بكل إمام بالغ مسلم حُرّ على استقامة جائزٌ من غير خلاف, إذا كان يعلم حدود الصلاة ولم يكن يلحق في أمّ القرآن لحناً يُخِلّ بالمعنى مثل أن يكسر الكاف من {إِيّاكَ نَعْبُدُ} ويضم التاء في {أَنْعَمْتَ}. ومنهم من راعى تفريق الطاء من الضاد وإن لم يفرّق بينهما لا تصح إمامته لأن معناهما يختلف. ومنهم من رخّص في ذلك كله إذا كان جاهلاً بالقراءة وأمّ مثلَه. ولا يجوز الائتمام بامرأة ولا خُنْثَى مُشْكل ولا كافرٍ ولا مجنونٍ ولا أميّ, ولا يكون واحدٌ من هؤلاء إماماً بحال من الأحوال عند أكثر العلماء, على ما يأتي ذكره, إلا الأمّيّ لمثله. قال علماؤنا: لا تصح إمامة الاُمّي الذي لا يحسن القراءة مع حضور القارئ له ولا لغيره وكذلك قال الشافعي. فإن أمّ أمّياً مثلَه صحّت صلاتهم عندنا وعند الشافعي. وقال أبو حنيفة: إذا صلّى الأمّيّ بقوم يقرأون وبقوم أمّيين فصلاتهم كلهم فاسدة. وخالفه أبو يوسف فقال: صلاة الإمام ومن لا يقرأ تامّة. وقالت فرقة: صلاتهم كلهم جائزة لأن كلاّ مؤدّ فرضه, وذلك مثل المتيمم يصلي بالمتطهرين بالماء, والمصلي قاعداً يصلي بقوم قيام صلاتهم مجزئة في قول من خالفنا لأن كلا مؤدّ فرض نفسه.
قلت: وقد يحتج لهذا القول بقوله عليه السلام: «ألا ينظر المصلي (إذا صلى) كيف يصلي فإنما يصلي لنفسه» أخرجه مسلم. وإن صلاة المأموم ليست مرتبطة بصلاة الإمام, والله أعلم. وكان عطاء بن أبي رباح يقول: إذا كانت امرأته تقرأ كبّر هو وتقرأ هي فإذا فرغت من القراءة كبّر وركع وسجد وهي خلفه تصلّي. ورُويَ هذا المعنى عن قتادة.
الثامنة عشرة: ولا بأس بإمامة الأعمى والأعرج والأشَلّ والأقطع والخِصيّ والعبد إذا كان كل واحد منهم عالماً بالصلاة. وقال ابن وهب: لا أرى أن يؤمّ الأقطع والأشل لأنه منتقص عن درجة الكمال, وكرهت إمامته لأجل النقص. وخالفه جمهور أصحابه وهو الصحيح لأنه عضو لا يمنع فقده فرضاً من فروض الصلاة فجازت الإمامة الراتبة مع فقده كالعين وقد روى أنس: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم استخلف ابن أمّ مكتوم يؤمّ الناس وهو أعمى» وكذا الأعرج والأقطع والأشل والخصيّ قياساً ونَظَراً, والله أعلم. وقد روي عن أنس بن مالك أنه قال في الأعمى: وما حاجتهم إليه! وكان ابن عباس وعِتْبان بن مالك يؤمّان وكلاهما أعمى وعليه عامّة العلماء.
التاسعة عشرة: واختلفوا في إمامة ولد الزنى فقال مالك: أكره أن يكون إماماً راتبا. وكره ذلك عمر بن عبد العزيز. وكان عطاء بن أبي رَباح يقول: له أن يؤم إذا كان مرضياً, وهو قول الحسن البصري والزّهري والنّخَعيّ وسفيان الثوري والأوزاعي وأحمد وإسحَق. وتجزئ الصلاة خلفه عند أصحاب الرأي, وغيره أحبّ إليهم. وقال الشافعي: أكره أن ينصب إماماً راتباً مَن لا يُعرف أبوه, ومَن صلى أجزأه. وقال عيسى بن دينار: لا أقول بقول مالك في إمامة ولد الزنى وليس عليه من ذنب أبويه شيء. ونحوه قال ابن عبد الحكم إذا كان في نفسه أهلاً للإمامة. قال ابن المنذر: يؤم لدخوله في جملة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤم القومَ أقرؤهم». وقال أبو عمر: ليس في شيء من الاَثار الواردة في شرط الإمامة ما يدل على مراعاة نسب وإنما فيها الدلالة على الفقه والقراءة والصلاح في الدّين.
الموفية عشرين: وأما العبد فروَى البخاري عن ابن عمر قال: «لما قدم المهاجرون الأوّلون العَصَبة ـ موضع بقُبَاء ـ قبل مقدم النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يؤمّهم سالم مَوْلَى أبي حُذيفة وكان أكثرهم قرآناً» وعنه قال: كان سالم مولى أبي حذيفة يؤم المهاجرين الأوّلين وأصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم في مسجد قُبَاء, فهم أبو بكر وعمر وزيد وعامر بن ربيعة وكانت عائشة يؤمّها عبدها ذكوان من المصحف. قال ابن المنذر: وأمّ أبو سعيد مولى أبي أسيد ـ وهو عبد ـ نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, منهم حذيفة وأبو مسعود.
ورخّص في إمامة العبد النّخَعِيّ والشعبيّ والحسنُ البصريّ والحكمُ والثوريّ والشافعيّ وأحمد وإسحَق وأصحابُ الرأي وكره ذلك أبو مِجْلَز. وقال مالك: لا يؤمّهم إلا أن يكون العبد قارئاً ومَن معه من الأحرار لا يقرأون إلا أن يكون في عيد أو جمعة فإن العبد لا يؤمهم فيها ويجزئ عند الأوزاعي إن صلوا وراءه. قال ابن المنذر: العبد داخل في جملة قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «يؤم القوم أقرؤهم».
الحادية والعشرون: وأما المرأة فروَى البخاريّ عن أبي بكرة قال: «لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس قد ملّكوا بنت كسرى قال: «لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة» وذكر أبو داود عن عبد الرحمن بن خلاّد عن أمّ ورقة بنت عبد اللّه قال: «وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها في بيتها, قال: وجعل لها مؤذّناً يؤذّن لها وأمرها أن تؤم أهل دارها. قال عبد الرحمن: فأنا رأيت مؤذنها شيخاً كبيراً» قال ابن المنذر: والشافعي يوجب الإعادة على مَن صلّى من الرجال خلف المرأة. وقال أبو ثور: لا إعادة عليهم. وهذا قياس قول المُزَنِيّ.
قلت: وقال علماؤنا لا تصح إمامتها للرجال ولا للنساء. وروى ابن أيْمن جواز إمامتها للنساء. وأما الخُنْثَى المشكل فقال الشافعي: لا يؤم الرجال ويؤم النساء. وقال مالك: لا يكون إماما بحال وهو قول أكثر الفقهاء.
الثانية والعشرون: الكافر المخالف للشرع كاليهودي والنصراني يؤم المسلمين وهم لا يعلمون بكفره. وكان الشافعي وأحمد يقولان: لا يجزئهم ويعيدون. وقاله مالك وأصحابه لأنه ليس من أهل القُربة. وقال الأوزاعي: يعاقب. وقال أبو ثَور والمُزَنِيّ لا إعادة على مَن صلى خلفه, ولا يكون بصلاته مسلماً عند الشافعي وأبي ثور. وقال أحمد: يجبر على الإسلام.
الثالثة والعشرون: وأما أهل البِدع من أهل الأهواء كالمعتزلة والجهمية وغيرهما فذكر البخاري عن الحسن: صلّ, وعليه بدعته. وقال أحمد: لا يصلى خلف أحد من أهل الأهواء إذا كان داعية إلى هواه. وقال مالك: ويصلى خلف أئمة الجَور, ولا يصلى خلف أهل البدع من القدرية وغيرهم. وقال ابن المنذر: كل من أخرجته بدعته إلى الكفر لم تجز الصلاة خلفه, ومن لم يكن كذلك فالصلاة خلفه جائزة ولا يجوز تقديم من هذه صفته.
الرابعة والعشرون: وأما الفاسق بجوارحه كالزاني وشارب الخمر ونحو ذلك فاختلف المذهب فيه فقال ابن حبيب: من صلى وراء من شرب الخمر فإنه يعيد أبداً, إلا أن يكون الوالي الذي تؤدى إليه الطاعة, فلا إعادة على من صلى خلفه إلا أن يكون حينئذ سكران. قاله من لقيت من أصحاب مالك. وروي من حديث جابر بن عبد اللّه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال على المنبر: «لا تَؤمّنّ امرأة رجلاً ولا يؤمّن أعرابي مهاجراً ولا يؤمّنّ فاجر بَرّا إلا أن يكون ذلك ذا سلطان». قال أبو محمد عبد الحق: هذا يرويه عليّ بن زيد بن جُدْعان عن سعيد بن المسيّب, والأكثر يضعّف عليّ بن زيد. وروى الدارقُطْني عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن سرّكم أن تُزَكّوا صلاتكم فقدّموا خياركم» في إسناده أبو الوليد خالد بن إسماعيل المخزومي وهو ضعيف قاله الدارقُطْنِي. وقال فيه أبو أحمد بن عَديّ: كان يضع الحديث على ثقات المسلمين وحديثه هذا يرويه عن ابن جُريج عن عطاء عن أبي هريرة. وذكر الدّارَقُطْنِيّ عن سلام بن سليمان عن عمر عن محمد بن واسع عن سعيد بن جبير عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجعلوا أئمتكم خياركم فإنهم وَفْدٌ فيما بينكم وبين الله». قال الدّارقطني: عمر هذا هو عندي عمر بن يزيد قاضي المدائن, وسلام بن سليمان أيضاً مدائني ليس بالقوي قاله عبد الحق.
الخامسة والعشرون: روى الأئمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما جُعل الإمام ليُؤتم به فلا تختلفوا عليه, فإذا كبّر فكبّروا, وإذا ركع فاركعوا, وإذا قال سمع الله لمن حمده, فقولوا اللّهُمّ ربّنا ولك الحمد, وإذا سجد فاسجدوا, وإذا صلى جالساً, فصلوا جلوساً أجمعون».
وقد اختلف العلماء فيمن ركع أو خفض قبل الإمام عامداً على قولين: أحدهما: أن صلاته فاسدة إن فعل ذلك فيها كلها أو في أكثرها وهو قول أهل الظاهر ورُوِيَ عن ابن عمر. ذكر سُنيد قال حدّثنا ابن عُلَيّة عن أيوب عن أبي قِلابة عن أبي الورد الأنصاري قال: صلّيت إلى جنب ابن عمر فجعلت أرفع قبل الإمام وأضع قبله, فلما سلّم الإمام أخذ ابن عمر بيدي فلواني وجذبني, فقلت: مالك! قال: مَن أنت؟ قلتُ: فلان فلان قال: أنتَ من أهل بيت صدق! فما يمنعك أن تصلّي؟ قلت: أو ما رأيتني إلى جنبك! قال: قد رأيتك ترفع قبل الإمام وتضع قبله وإنه لا صلاة لمن خالف الإمام. وقال الحسن بن حَيّ فيمن ركع أو سجد قبل الإمام ثم رفع من ركوعه أو سجوده قبل أن يركع الإمام أو يسجد: لم يعتدّ بذلك ولم يجزه. وقال أكثر الفقهاء: مَن فعل ذلك فقد أساء ولم تفسد صلاته لأن الأصل في صلاة الجماعة والائتمام فيها بالأئمة سُنّة حسنة, فمن خالفها بعد أن أدّى فرض صلاته بطهارتها وركوعها وسجودها وفرائضها فليس عليه إعادتها وإن أسقط بعض سننها لأنه لو شاء أن ينفرد فصلّى قبل إمامه تلك الصلاة أجزأت عنه وبئس ما فعل في تركه الجماعة. قالوا: ومن دخل في صلاة الإمام فركع بركوعه وسجد بسجوده ولم يكن في ركعةٍ وإمامه في أخرى فقد اقتدى وإن كان يرفع قبله ويخفض قبله لأنه بركوعه يركع وبسجوده يسجد ويرفع وهو في ذلك تبع له, إلا أنه مسيء في فعله ذلك لخلافه سنة المأموم المجتمع عليها.
قلت: ما حكاه ابن عبد البر عن الجمهور ينبئ على أن صلاة المأموم عندهم غير مرتبطة بصلاة الإمام لأن الإتباع الحسيّ والشرعي مفقود, وليس الأمر هكذا عند أكثرهم. والصحيح في الأثر والنظر القول الأوّل فإن الإمام إنما جُعل ليؤتم به ويُقتدَى به بأفعاله ومنه قوله تعالى: {إِنّي جَاعِلُكَ لِلنّاسِ إِمَاماً} (البقرة: 124) أي يأتمّون بك على ما يأتي بيانه.
هذا حقيقة الإمام لغة وشرعاً, فمن خالف إمامه لم يتبعه ثم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بيّن فقال: «إذا كبّر فكبّروا» الحديث. فأتى بالفاء التي توجب التعقيب, وهو المبيّن عن الله مراده. ثم أوعد من رفع أو ركع قبلُ وعيداً شديداً فقال: «أمَا يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحوّل الله رأسه رأس حمار أو صورته صورة حمار» أخرجه المُوَطّأ والبخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم. وقال أبو هريرة: إنما ناصيته بيد شيطان. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلّ عملٍ ليس عليه أمْرُنا فهو ردّ». يعني مردود. فمن تعمّد خلاف إمامه عالماً بأنه مأمور باتباعه منهيّ عن مخالفته فقد استخف بصلاته وخالف ما اُمِر به فواجب ألاّ تجزي عنه صلاته تلك والله أعلم.
السادسة والعشرون: فإن رفع رأسه ساهياً قبل الإمام فقال مالك رحمه الله: السّنّة فيمن سها ففعل ذلك في ركوع أو في سجود أن يرجع راكعاً أو ساجداً وينتظر الإمام, وذلك خطأ ممن فعله لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنما جُعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه» قال ابن عبد البر: ظاهر قول مالك هذا لا يوجب الإعادة على من فعله عامداً لقوله: «وذلك خطأ ممن فعله» لأن الساهي الإثمُ عنه موضوع.
السابعة والعشرون: وهذا الخلاف إنما هو فيما عدا تكبيرة الإحرام والسلام, أما السلام فقد تقدّم القول فيه. وأما تكبيرة الإحرام فالجمهور على أن تكبير المأموم لا يكون إلا بعد تكبير الإمام, إلا ما رُوِيَ عن الشافعيّ في أحد قوليه: أنه إن كبّر قبل إمامه تكبيرة الإحرام أجزأت عنه لحديث أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى الصلاة فلما كبّر انصرف وأوْمأ إليهم ـ أي كما أنتم ـ ثم خرج ثم جاء ورأسه تقطر فصلّى بهم فلما انصرف قال: «إني كنت جُنُباً فنسيتُ أن أغتسل». ومن حديث أنس: «فكبّر وكبّرنا معه» وسيأتي بيان هذا عند قوله تعالى: {وَلاَ جُنُباً} في «النساء» إن شاء الله تعالى.
الثامنة والعشرون: وروى مسلم عن أبي مسعود قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول: «استوُوا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم لِيَلِني منكم أولو الأحلام والنّهَى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم». قال أبو مسعود: فأنتم اليوم أشدّ اختلافاً. زاد من حديث عبد اللّه: «وإيّاكم وهَيْشات الأسواق». وقوله: «استوُوا» أمرٌ بتسوية الصفوف وخاصّةً الصف الأوّل وهو الذي يلى الإمام, على ما يأتي بيانه في سورة «الحجر» إن شاء الله تعالى. وهناك يأتي الكلام على معنى هذا الحديث بحول الله تعالى.
التاسعة والعشرون: واختلف العلماء في كيفية الجلوس في الصلاة لاختلاف الاَثار في ذلك فقال مالك وأصحابه: يُفْضي المصلّي بألْيَتَيْه إلى الأرض وينصب رجله اليمنى ويَثْنِي رجله اليسرى لما رواه في مُوَطّئه عن يحيى بن سعيد أن القاسم بن محمد أراهم الجلوس في التشهد فنصب رجله اليمنى وثنى رجله اليسرى وجلس على وَرِكه الأيسر ولم يجلس على قدمه, ثم قال: أراني هذا عبدُ اللّه بن عمر, وحدّثني أن أباه كان يفعل ذلك.
قلت: وهذا المعنى قد جاء في صحيح مسلم عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين, وكان إذا ركع لم يُشْخِص رأسه ولم يُصَوّبه, ولكن بين ذلك, وكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائماً, وكان إذا رفع رأسه من السجدة لم يسجد حتى يستوي جالساً, وكان يقول في كل ركعتين التحية, وكان يفرِشُ رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى, وكانْ يَنْهَى عن عُقْبة الشيطان, ويَنْهَى أن يفترِش الرجل ذراعيه افتراش السّبُع, وكان يختم الصلاة بالتسليم».
قلت: ولهذا الحديث ـ والله أعلم ـ قال ابن عمر: إنما سُنّة الصلاة أن تنصب رجلك اليمنى وتثني اليسرى. وقال الثّوْري وأبو حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح بن حَيّ: ينصب اليمنى ويقعد على اليسرى, لحديث: وائل بن حُجْر وكذلك قال الشافعيّ وأحمد وإسحَق في الجلسة الوسطى. وقالوا في الاَخرة من الظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء كقول مالك لحديث أبي حُميد الساعدي رواه البخاريّ قال: «رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا كبّر جعل يديه حَذْوَ مَنْكِبَيه, وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه ثم هَصَر ظهره, فإذا رفع استوى حتى يعود كل فقار مكانه, فإذا سجد وضع يديه غير مفترش ولا قابضهما واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة, وإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب الأخرى, وإذا جلس في الركعة الاَخرة قدّم رجله اليسرى ونصب اليمنى وقعد على مقعدته» قال الطبري: إن فعل هذا فحسن, كل ذلك قد ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
الموفية الثلاثين: مالك عن مسلم بن أبي مريم عن عليّ بن عبد الرحمن المُعَاويّ أنه قال: «رآني عبد اللّه بن عمر وأنا أعبث بالحصباء في الصلاة فلما انصرف نهاني فقال: اصنع كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع قلت: وكيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع؟ قال: كان إذا جلس في الصلاة وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى وقبض أصابعه كلها وأشار بأصبعه التي تلي الإبهام, ووضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى وقال: هكذا كان يفعل» قال ابن عبد البر: وما وصفه ابن عمر من وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى وقبض أصابع يده تلك كلها إلا السبابة منها فإنه يشير بها, ووضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى مفتوحة مفروجة الأصابع كل ذلك سنة في الجلوس في الصلاة مُجْمَعٌ عليه, لا خلاف عَلِمته بين العلماء فيها, وحسبك بهذا. إلا أنهم اختلفوا في تحريك أصبعه السبابة, فمنهم من رأى تحريكها, ومنهم من لم يره. وكل ذلك مرويّ في الاَثار الصحاح المسندة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم, وجميعه مباح, والحمد لله. وروى سفيان بن عُيينة هذا الحديث عن مسلم بن أبي مريم بمعنى ما رواه مالك وزاد فيه: قال سفيان: وكان يحي بن سعيد حدّثناه عن مسلم ثم لقيته فسمعته منه وزادني فيه: قال: «هي مذبّة الشيطان لا يسهو أحدكم ما دام يشير بإصبعه ويقول هكذا».
قلت: روى أبو داود في حديث ابن الزبير: أنه عليه السلام كان يشير بإصبعه إذا دعا ولا يحركها» وإلى هذا ذهب بعض العراقيين, فمنع من تحريكها. وبعض علمائنا رأوا أن مدّها إشارة إلى دوام التوحيد. وذهب أكثر العلماء من أصحاب مالك وغيرهم إلى تحريكها, إلا أنهم اختلفوا في الموالاة بالتحريك على قولين تأوّل مَن والاه بأن قال: إن ذلك يذكر بموالاة الحضور في الصلاة وبأنها مقمعة ومدفعة للشيطان على ما روى سفيان. ومن لم يوال رأى تحريكها عند التلفظ بكلمتي الشهادة, وتأوّل في الحركة كأنها نطق بتلك الجارحة بالتوحيد والله أعلم.
الحادية والثلاثون: واختلفوا في جلوس المرأة في الصلاة فقال مالك: هي كالرجل, ولا تخالفه فيما بعد الإحرام إلا في اللباس والجهر. وقال الثوريّ: تُسْدُلُ المرأة جلبابها من جانب واحد ورواه عن إبراهيم النّخَعِيّ. وقال أبو حنيفة وأصحابه: تجلس المرأة كأيسر ما يكون لها. وهو قول الشّعْبي: تقعد كيف تيسر لها. وقال الشافعيّ: تجلس بأستر ما يكون لها.
الثانية والثلاثون: روى مسلم عن طاوس قال: «قلنا لابن عباس في الإقعاء على القدمين فقال: هي السّنّة فقلنا له إنّا لنراه جفاء بالرجل فقال ابن عباس: (بل) هي سُنّة نبيك صلى الله عليه وسلم» وقد اختلف العلماء في صفة الإقعاء ما هو فقال أبو عبيد: الإقعاء جلوس الرجل على أليتيه ناصباً فخذيه مثل إقعاء الكلب والسّبعُ. قال ابن عبد البر: وهذا إقعاء مجتمَع عليه لا يختلف العلماء فيه. وهذا تفسير أهل اللغة وطائفة من أهل الفقه. وقال أبو عبيد: وأما أهل الحديث فإنهم يجعلون الإقعاء أن يجعل أليتيه على عقبيه بين السجدتين. قال القاضي عياض: والأشبه عندي في تأويل الإقعاء الذي قال فيه ابن عباس إنه من السّنّة الذي فسّر به الفقهاء من وضع الأليتين على العقبين بين السجدتين وكذا جاء مفسّراً عن ابن عباس: من السّنة أن تمس عقبك أليتك, رواه إبراهيم بن مَيْسرة عن طاوس عنه ذكره أبو عمر. قال القاضي: وقد رُوي عن جماعة من السلف والصحابة أنهم كانوا يفعلونه, ولم يقل بذلك عامة فقهاء الأمصار وسمّوْه إقعاء. ذكر عبد الرزاق عن مَعمر عن ابن طاوس عن أبيه أنه رأى ابن عمر وابن عباس وابن الزبير يَقْعون بين السجدتين.
الثالثة والثلاثون: لم يختلف من قال من العلماء بوجوب التسليم وبعدم وجوبه أن التسليمة الثانية ليست بفرض, إلا ما روي عن الحسن بن حَيّ أنه أوجب التسليمتين معاً. قال أبو جعفر الطحاوِيّ: لم نجد عن أحد من أهل العلم الذين ذهبوا إلى التسليمتين أن الثانية من فرائضها غيره. قال ابن عبد البر: مِن حجة الحسن بن صالح في إيجابه التسليمتين جميعاً ـ وقوله: إن من أحدث بعد الأولى وقبل الثانية فسدت صلاته ـ قولُه صلى الله عليه وسلم: «تحليلها التسليم». ثم بيّن كيف التسليم فكان يسلّم عن يمينه وعن يساره. ومن حجة من أوجب التسليمة الواحدة دون الثانية قوله صلى الله عليه وسلم: «تحليلها التسليم» قالوا: والتسليمة الواحدة يقع عليها اسم تسليم.
قلت: هذه المسألة مبنية على الأخذ بأقل الاسم أو بآخره, ولما كان الدخول في الصلاة بتكبيرة واحدة بإجماع فكذلك الخروج منها بتسليمة واحدة, إلا أنه تواردت السنن الثابتة من حديث ابن مسعود ـ وهو أكثرها تواتراً ـ ومن حديث وائل بن حُجْر الحضرميّ وحديثِ عمّار وحديث البَراء بن عازب وحديثِ ابن عمر وحديث سعد بن أبي وَقّاص أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يسلم تسليمتين. روى ابن جُريج وسليمان بن بلال وعبد العزيز بن محمد الدّراوَرْدي كلّهم عن عمرو بن يحيى المازني عن محمد بن يحيى بن حَبّان عن عمه واسع بن حَبّان قال قلت لابن عمر: حدّثني عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف كانت؟ فذكر التكبير كلما رفع رأسه وكلما خفضه, وذكر السلام عليكم ورحمة الله عن يمينه, السلام عليكم ورحمة الله عن يساره. قال ابن عبد البر: وهذا إسناد مدني صحيح والعمل المشهور بالمدينة التسليمة الواحدة, وهو عمل قد توراثه أهل المدينة كابراً عن كابر, ومثله يصح فيه الاحتجاج بالعمل في كل بلد لأنه لا يخفى لوقوعه في كل يوم مراراً. وكذلك العمل بالكوفة وغيرها مستفيض عندهم بالتسليمتين ومتوارث عندهم أيضاً. وكل ما جرى هذا المجرى فهو اختلاف في المباح كالأذان, وكذلك لا يروى عن عالم بالحجاز ولا بالعراق ولا بالشام ولا بمصر إنكار التسليمة الواحدة ولا إنكار التسليمتين بل ذلك عندهم معروف, وحديث التسليمة الواحدة رواه: سعد بن أبي وقّاص وعائشة وأنس إلا أنها معلولة لا يصححها أهل العلم بالحديث.
الرابعة والثلاثون: روى الدّارَقُطْنِي عن ابن مسعود أنه قال: من السّنة أن يخفى التشهّد. واختار مالك تشهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو: التحيات لله الزّاكيات لله الطيبات الصلوات لله, السلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته, السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين, أشهد أن لا إلَه الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. واختار الشافعي وأصحابه واللّيث بن سعد تشهّد ابن عباس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعّلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن, فكان يقول: «التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله, السلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته, السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين, أشهد أن لا إلَه إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله». واختار الثّوْرِي والكوفيون وأكثر أهل الحديث تشهد ابن مسعود الذي رواه مسلم أيضاً قال: «كنا نقول في الصلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم: السلام على الله, السلام على فلان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم: «إن الله هو السلام فإذا قعد أحدكم في الصلاة فليقل التحيّات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ـ فإذا قالها أصابت كل عبد (لله) صالح في السماء والأرض ـ أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ثم يتخير من المسألة ما شاء», وبه قال أحمد وإسحَق وداود. وكان أحمد بن خالد بالأندلس يختاره ويميل إليه. وروى عن أبي موسى الأشعري. مرفوعاً وموقوفاً نحو تشهد ابن مسعود. وهذا كله اختلاف في مباح ليس شيء منه على الوجوب, والحمد لله وحده. فهذه جملة من أحكام الإمام والمأموم تضمّنها قوله جل وعز: {وَارْكَعُواْ مَعَ الرّاكِعِينَ} (البقرة: 43). وسيأتي القول في القيام في الصلاة عند قوله تعالى: {وَقُومُواْ للّهِ قَانِتِينَ} (البقرة: 238). ويأتي هناك حكم الإمام المريض وغيره من أحكام الصلاة, ويأتي في «آل عمران» حكم صلاة المريض غير الامام, ويأتي في «النساء» في صلاة الخوف حكم المفترض خلف المتنفل, ويأتي في سورة «مريم» حكم الإمام يصلي أرفع من المأموم, إلى غير ذلك من الأوقات والأذان والمساجد وهذا كله بيان لقوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ}. وقد تقدّم في أوّل السورة جملة من أحكامها, والحمد لله على ذلك.

===============================

ويليه "الربع" الثالث من سورة البقرة بمشيئة الرحمن.