السبت، 17 يوليو 2010

حجية أحكام النقض و سلطة محكمة الموضوع في تفسير القانون


حجية أحكام النقض
وسلطة محكمة الموضوع في تفسير القانون
"لما كان يتعين الإشارة بادئ ذي بدء إلى أن الحكم المطعون فيه قد تردى فى خطأ حينما أشار الى أنه يخالف حكم محكمة النقض فى أسبابه لأنه لم يخالف أسباباً ولكنه خالف قضاءً يتضمن فصلا فى مسألة قانونية تتعلق بمدى ولاية هيئة الرقابة الإدارية بالنسبة لرجال السلطة القضائية وقضى فيها بعدم ولايتها بالنسبة لهم وانحسار اختصاصها عنهم وقد اعتنق الحكم المطعون فيه فى رده على الدفع المبدى من الطاعنين فى هذا الشأن مفهوما سائدا بان محكمة الإعادة لا تتقيد بما تنتهي إليه محكمة النقض فانه يتعين القول بأنه إن صح هذا المفهوم بالنسبة إلى تقدير الوقائع والمسائل الموضوعية التي تتمتع محكمة الموضوع بحرية فى تقديرها فإنه بالنسبة للمسائل القانونية فإن الأمر مختلف لأن القانون رقم 57 لسنة 1959 بشأن حالات وإجراءات الطعن أمام محكمة النقض فى المواد الجنائية ولئن خلا من نص مماثل لما نصت عليه المادة 269 من قانون المرافعات المدنية والتجارية فى فقرتها الثانية من أنه يتحتم على المحكمة التي أحيلت إليها القضية أن تلتزم بما انتهت إليه محكمة النقض فيما فصلت فيه من مسائل قانونية فان هذا المبدأ واجب الإعمال فى المواد الجنائية أيضاً لأنه لا وجه للتفرقة بين ما تفصل فيه محكمة النقض من مسائل قانونية مدنية كانت أو جنائية بل إن وجوب تقيد محكمة الإعادة بما تفصل فيه محكمة النقض من مسائل قانونية فى المواد الجنائية أوجب وألزم لتعلقها بالحريات التي يجب أن تستقر المبادئ التي تحكمها وتكفل حمايتها ولا يتأتى ذلك إلا بالالتزام بما تفصل فيه محكمة النقض من مسائل قانونية ولا يعترض على ذلك بما نصت عليه المادة 44 من القانون 57 لسنة 1959 سالف الذكر من أنه "إذا كان الحكم المطعون فيه صادرا بقبول دفع قانوني مانع من السير فى الدعوى ونقضته محكمة النقض وأعادت القضية الى المحكمة التي أصدرته لنظر الموضوع فلا يجوز لهذه المحكمة أن تحكم بعكس ما قضت به محكمة النقض وكذلك لا يجوز لمحكمة الموضوع فى جميع الأحوال أن تحكم بعكس ما قررته الهيئة العامة للمواد الجزائية بمحكمة النقض" لأن هذا النص قد خلا مما يقيد محكمة الإعادة فى هاتين الحالتين دون غيرهما والقول بغير ذلك تخصيص دون مقتض ولا سند فضلا عن أن ما تضمنه هذا النص لا يعدو فى حقيقته أن يكون من صور الالتزام بما تفصل فيه محكمة النقض من مسائل قانونية والذى يجب أن يعمم على كافة ما تفصل فيه محكمة النقض من هذه المسائل لتلتزم بها محكمة الإعادة وحبذا لو تناول هذه المسائل تعديل تشريعي والقول بغير ذلك مضيعة للوقت والجهد لا طائل من ورائه إلا إطالة أمد التقاضي بغير مبرر فضلا عن مجافاته للعقل والمنطق وتأباه طبيعة محكمة النقض التي هي فى الأصل محكمة القانون، لما كان ذلك وكان يقصد بالمسألة القانونية فى هذا المجال هي تلك المسألة التي تكون قد طرحت على محكمة النقض وأدلت فيها برأيها عن قصد وبصر فاكتسب حكمها قوة الشيء المحكوم فيه بشأنها بحيث يمتنع على محكمة الإعادة عند نظر الدعوى المساس بهذه الحجية، وكان المشرع وإن ناط بالمحكمة الدستورية العليا تفسير القوانين إلا أن ذلك لا يصادر حق جهات القضاء الأخرى فى تفسير القوانين وإنزال تفسيرها على الواقعة المعروضة عليها مادام لم يصدر بشأن النص المطروح تفسير ملزم من السلطة التشريعية أو من المحكمة الدستورية العليا طبقا للأوضاع المقررة فى قانونها بشأن طلبات التفسير وكانت محكمة النقض وهى محكمة لا تعلوها محكمة وبما تقتضيه وظيفتها من تفسير للقوانين قد تصدت لتفسير نصوص القانون رقم 54 لسنة 1964 بشأن الرقابة الإدارية وذلك فى حكمها الصادر فى الدعوى المعروضة بتاريخ 25 من سبتمبر سنة 2002 وقضت بعدم ولاية هيئة الرقابة الإدارية بالنسبة لرجال القضاء وانحسار اختصاصها عنهم وانحصاره فى العاملين بالجهاز الحكومي بالدولة ورتبت على ذلك آثارا سبقت الإشارة إليها فإنها تكون بذلك قد فصلت فى مسألة قانونية حازت قوة الشيء المحكوم فيه فى هذه الدعوى مما كان لازمه ألا تعاود محكمة الإعادة التصدي لهذه المسألة بأي حال من الأحوال بعد أن فصلت فيها محكمة النقض أو تناقش الآثار المترتبة على قضاء محكمة النقض فيها لما فى ذلك من مساس بحجية قضائها فى الدعوى وكان يجب أن يقتصر بحثها فى المسائل التي لا تمس هذه الحجية وغنى عن البيان إن هذا القول لا يصادر حق محكمة الموضوع فى تفسير نصوص القوانين على غير ما تراه محكمة النقض ولكن يكون ذلك فى دعاوى أخرى لأن أحكام محكمة النقض ليس لها طبيعة لائحية وتقتصر حجيتها على حدود النزاع المطروح فى ذات الدعوى بين الخصوم أنفسهم ولا يمتد أثر هذه الحجية الى غيرها، لما كان ما تقدم فانه ودون ما حاجة الى مناقشة الأسباب التي ساقتها محكمة الإعادة وأجهدت نفسها فى البحث عنها وخالفت بها محكمة النقض ما كان لهذه المحكمة (محكمة الإعادة) أن تعاود بحث تلك المسألة مرة أخرى بعد أن قضت فيها محكمة النقض بحكم حاز قوة الأمر المقضي حتى لو صادف الدعوى بعد صدور حكم النقض حكم أو تفسير مغاير من جهة ملزمة لأن حجية الأحكام تسمو على اعتبارات النظام العام، وإذ غاب هذا النظر عن محكمة الإعادة أو خالفته فان ذلك مما يعيب حكمها بمخالفة القانون والخطأ فى تطبيقه".
( نقض جنائي، في الطعن رقم 27375 لسنة 73 قضائية – جلسة 6/7/2003 – المستحدث من أحكام النقض – صـ 117 )

الخميس، 8 يوليو 2010

إثبات الواقعة السلبية أو إثبات النفي


إثبات الواقعة السلبية – أو إثبات النفي؟!
من الشروط المسلم بها والواجب توافرها في الواقعة محل الإثبات أن تكون "محددة".
فمما لاشك فيه أن تجهيل الواقعة يجعلها غير قابلة للإثبات لأن الإقناع لا ينصب بداهة على أمر غامض أو مبهم. ويرجع ما تقدم إلى أن أساس الإقناع هو الفهم، والفهم لا بد له من الدقة والتحديد ووضوح البيان.
وهو ما يعبر عنه بعض الشراح بقولهم أن الواقعة يجب أن تكون "معينة" أو "محصورة", وهذه كلها مترادفات تؤدي إلي نفس المعني.
وهكذا فإنه إذا كانت الواقعة محددة فإنها تصلح لأن تكون محلاً للإثبات, ويستوي في هذا أن تكون واقعة إيجابية أو أن تكون واقعة سلبية.([1])
فإثبات عقد أو إثبات فعل ضار كمصدر للحق هو إثبات لوقائع إيجابية, أما الوقائع السلبية المحددة فيمكن إثباتها بإقامة الدليل على واقعة إيجابية منافية لها([2]), ذلك أن كل واقعة سلبية محددة تتضمن واقعة إيجابية مضادة لها وإثبات الواقعة السلبية  إنما يكون بإثبات الواقعة الإيجابية المضادة لها.
وعلي ذلك فالواقعة محل الإثبات هي الواقعة المحددة دون الواقعة غير المحددة التي لا تصلح لأن تكون محلاً لأي إثبات ومن أمثلة الوقائع غير المحددة:
-   أن يدعي أحد الأشخاص الملك المطلق (أي دون بيان سبب التملك) أو يقول أنه مالك بعقد ولا يحدد ماهية ذلك العقد هل هو عقد شراء أم هبة ...الخ
-        أو أن يدعي أحد الأشخاص مرض الموت دون أن يبين ماهيته
-        أو أن يدعي وضع اليد دون أن يحدد عنصره الزمني أي مدته وتاريخ بدايته.
فمثل هذا الغموض كفيل بان يجعل الإدعاء مستعصياً على الإثبات ويؤدي بالتالي إلى رفض الدعوى لعدم إثبات المُدعي لدعواه.([3])
وإلى هنا نجد أن هذا الشرط لا صعوبة فيه بل ويكاد أن يكون بديهياً.
وحقيقة الأمر أن البلبلة إنما ثارت بسبب ما تردد في بعض المؤلفات من أن "إثبات النفي" مستحيل، لأن النفي أمر غير محدد.
وهذا الرأي ناتج عن خطأ وقع فيه بعض الشراح في فهم كلمة "النفي", حيث لم يفهمونها على معناها الحقيقي وهو الإنكار بل فهموها علي معني الأمر السلبي أو الواقعة السلبية.([4])
ولعدم الوقوع في هذا الخطأ في الفهم يجب الاحتفاظ بالفرق بين تقسيم الوقائع إلى إيجابية وسلبية وتقسيمها – أي الوقائع – إلى محددة ومطلقة, فليست كل واقعة إيجابية محددة, كما لا تعني سلبية الواقعة أنها دائمة مطلقة.([5])
وفي هذا الصدد ذهب الدكتور عبد الودود يحي إلى القول بأن إثبات العقد أو الفعل الضار هو إثبات لوقائع إيجابية أما الوقائع السلبية المحددة فيمكن إثباتها بإقامة الدليل على واقعة إيجابية منافية لها،([6]) فإن صعوبة الإثبات لا تكمن في كون الواقعة سلبية ولكن تكون الصعوبة إذا كانت هذه الواقعة تتضمن إدعاءً مطلقاً أو مُجهلاً, وذلك لا يقتصر على الواقعة السلبية فحسب بل يمكن للواقعة الإيجابية أيضاً أن تتضمن إدعاءً عاماً مجهلاً وهنا لا تصح هذه الوقائع أن تكون محلاً للإثبات([7]). ولذلك فإنه يشترط في الواقعة التي تكون محلاً للإثبات أن تكون واقعة محددة سواء أكانت واقعة إيجابية أم سلبية.
ومع ذلك يجب أن نلاحظ أن الفهم الصحيح للمسألة هو أن من ينكر لا يجوز أن يكلف بدليل لأن وضعه هو الوضع الطبيعي والمألوف, ومن يدعي عكس هذا الوضع هو الذي يجب أن يدعم ادعاءه ويأتي ببرهانه حيث أن البينة – أي الدليل – على من ادعي خلاف الظاهر.
ولقد استغل البعض هذا الفهم الصحيح للمسألة في اتجاه آخر, أو غم عليهم, فذهبوا إلى أن من أقام إدعاء بواقعة سلبية لا يلتزم بالإثبات بل يفترض صحة ادعائه.([8])
وهذا فهم خاطئ للمسألة حيث أنه وبحسب الأصل إذا كان الإنكار يصلح وسيلة للدفاع إلا أنه لا يصلح وسيلة للدعوى (أي للإدعاء).([9])
ولئن كانت بعض هذه التفسيرات الخاطئة سالفة البيان قد شاعت حيناً من الدهر إلا أن الفقهاء قد تنبهوا إليها منذ زمن طويل([10])،([11]) وردوا الأمور في خصوصها إلى الوضع الصحيح وهو أن الواقعة السلبية كالواقعة الإيجابية قابلة للإثبات ما دامت محددة ومن ثم يجب على من يدعيها إقامة الدليل عليها.([12])
وإذا كان البعض لا يتصور كيف تثبت واقعة سلبية فإنه وكما أسلفنا فإن هذا يكون عن طريق إثبات واقعة إيجابية مضادة لها([13]) حيث أن كل واقعة سلبية تتضمن وبالضرورة واقعة إيجابية مضادة لها([14]) ntitheses immediate une a
فعلى سبيل المثال إذا أدعي عمرو بأن زيداً أحدث به إصابة وسأله عن تعويضها, وأراد زيد أن يثبت أنه لم يكن موجوداً في مكان الحادث حين وقوعه (وهذه واقعة سلبية) فإنه يستطيع إثبات هذه الواقعة عن طريق إثبات واقعة إيجابية مضادة لها, وذلك بأن يثبت أنه كان حينئذ موجود في مكان آخر, وهذا يؤكد أنه لم يكن موجودا في مكان الحادث وقت وقوعه وهي الواقعة السلبية محل الإثبات.([15])
وهذه الطريقة مألوفة في الإثبات وشائعة في القضايا الجنائية بوجه خاص ويسمونها في الاصطلاح ALIBI أي إثبات وجود المتهم في غير مكان الجريمة([16])، ومع ذلك وكما رأينا فهي معروفة أيضاً في المسائل المدنية.
وعلى هذا فمن الخطأ أن يقال أن إثبات الوقائع السلبية مستحيل وأنه لهذا لا يجوز التكليف به, بل أن القانون نفسه يتطلب أحياناً إثبات وقائع سلبية. وعلي سبيل المثال وفي باب استرداد ما دفع بغير وجه حق يلزم أن يثب طالب الرد أنه لم يكن مدينا بما دفعه, أي بما يبغي استرداده.([17])
وكذلك فقد يقتضي المنطق ذاته وجوب إثبات الواقعة السلبية في أحيان أخرى, ومن أمثلة ذلك أن من تحدى بحق معلق على شرط ينطوي على واقعة سلبية, فإنه يلتزم بإثباتها.
لهذا فإنه ومتى تعهد موظف مثلاً بأن يأجرك منزله بالقاهرة أن لم ينقل إليها في تاريخ معين فأردت أن تثبت أنه لم ينقل إليها, فإن إثبات هذه الواقعة السلبية يكون جائزاً وميسوراً من ناحية, وواجب عليك من ناحية أخري.
ومن أمثلة ذلك أيضاً أن من يدعي أن حكماً ما قد أصبح نهائياً يجب أن يثبت أنه قد أعلن للخصم, وأن هذا الخصم لم يطعن فيه ويحصل هذا عادة بالحصول على شهادة (من قلم كتاب المحكمة المختصة) بعدم حصول الطعن.
وثمة حجة أخرى يضيفها الشراح وهي تتلخص في أنه حتى إذا كان إثبات الواقعة السلبية مستحيلاً فإن هذه الاستحالة التي يجد المدعي فيها نفسه لا تبرر إعفائه من الإثبات وتحميل خصمه به.([18])
وهكذا فإن كون الواقعة سلبية ليس من شأنه إعفاء مدعيها من الإثبات أو منعه من الإثبات, بل يباح له ويطلب منه إثباتها, فإن أخفق فلا يكون ذلك داعياً إلى تحميل خصمه بالإثبات, بل أنه يكون مدعاة لرفض دعواه.
ويفهم مما تقدم، في إطار أن إثبات النفي لا يكون مستحيلا, إلا إذا كان من قبيل النفي المطلق ـ على حد تعبير محكمة النقض – أو النفي الصرف. ومرد ذلك في حقيقة الأمر ليس إلى كون الواقعة سلبية, ولكن إلى كون الواقعة غير محددة INDEFINI ومثال ذلك أن يدعي شخص أنه لم يقترض أي مبلغ من المال طوال حياته. فمثل هذه الواقعة لا يمكن إثباتها, ليس لكونها واقعة سلبية, ولكن لكونها واقعة غير محددة.
ويخلص لنا مما تقدم أن استحالة الإثبات في الفروض السابقة ترجع إلى كون الواقعة غير محددة لا إلى كونها سلبية أو إيجابية([19]). لذلك فإنه يصبح أمراً بديهيا عدم تصور أن تكون مثل هذه الوقائع محلا لنزاع قضائي أو أن ترفع بشأنها دعوى.([20])
مواجهة الصعوبات العملية في إثبات الوقائع السلبية:
إلا أننا إذا ما خلصنا إلى أن من يدعي واقعة سلبية يجب عليه إثباتها بحكم كونه مدعيا, لا نلبث أن نجد أنفسنا إزاء الصعوبات العملية التي يجدها مدعي الواقعة السلبية في إثباتها, لذلك فإن الشراح ينصحون القضاة عندئذ بأن يتلطفوا معه في شأنها, وألا يكلفوه من أمره عسراً([21]). أي أن منطق الأمور والحال كذلك أن يقنع القضاة في هذا المجال من المدعي بالتبعيض في الإثبات وأن يسبغوا له استبدال محل الإثبات بإثبات واقعة مقاربة للواقعة المدعاة دون الواقعة المدعاة نفسها, وأن يلجئوا إلى طريق الموازنة والترجيح, ويقفوا عند حد الاحتمال القوي أو الظن الغالب.
لذلك وإزاء صعوبة إثبات الواقعة السلبية, فإن قضاة الموضوع عادة ما يكونون أكثر تساهلاً مع المدعي, فيكتفون بما لهم من سلطة في تقدير الدليل بما يقدمه هذا الأخير بما يجعل ادعاءه بالواقعة السلبية قريب الاحتمال لينقلوا على عاتق الطرف الآخر عبء إثبات العكس.([22])
التمسك بالوضع العادي للأمور واشتباهه بالواقعة السلبية:
ثمة حالات قد يتوهم الباحث إزاءها أن المدعي يتحدى بواقعة سلبية مما يقتضي تكليفه بإثباتها, مع أننا لو تأملنا هذه الحالات لوجدنا أن المدعي يتمسك فيها بالوضع المعمول به في توزيع عبء الإثبات أو ما يسميه بعض الشراح "القرينة الطبيعية".
لذلك فإذا رفع المدعي دعواه بالاستناد إلى تلك "القرينة الطبيعية" فإنه فيُعفى من الإثبات, بل يكلف بذلك خصمه إذا نازعه في دعواه, مع أن مركز ذلك الخصم في الدعوى هو مركز المدعي عليه. فإذا كان ثمة وضع طبيعي يتمسك به المدعي ويرفع دعواه بطلب تقرير حق له على أساس قيام ذلك الوضع, والمُفترض بقاء ما كان على ما كان. فإذا نازع المدعى عليه في ذلك لزمه إثبات ما يدعيه: لأنه – وإن كان مدعى عليه في القضية – إلا أنه من وجهة الإثبات يعتبر مدعياً لأمر مخالف للأصل.([23])
ومن أمثلة اشتباه التمسك بالوضع الثابت أصلا بالوقائع السلبية ما يحدث عادة في مجال الجزاءات المطبقة في عقود العمل والجزاءات الإدارية من اعتبار ادعاء العامل أو الموظف بعدم ارتكابه خطأ من قبيل الوقائع السلبية التي يقع عليه عبء إثباتها, بينما أن حقيقة الأمر أن العامل أو الموظف الإداري, وبحسب الأصل, يفترض في شأنه عدم ارتكاب الخطأ واستصحاب سلامة الأداء..
أ- حالة انعدام المبرر في فسخ عقد العمل:
في حالة العامل الذي يرفع دعوى علي صاحب العمل طالباً التعويض عن فسخ عقده على أساس أن هذا الفصل لم يكن له مبرر, لذلك فقد يذهب البعض إلى القول بأن الإدعاء بانعدام المبرر هو إدعاء بواقعة سلبية! فإن صح هذا كان الواجب تحميل العامل بإثباتها لأنه هو المدعي.
لكن الواقع وصحيح القانون على خلاف التصور السابق: ذلك أن الأصل والوضع الطبيعي للأمور هو انعدام الخطأ في جانب أي شخص: فإذا رفع العامل دعواه مستنداً إلى هذه القرينة الطبيعية, وهي عدم وجود خطأ من جانبه فإنه لا يكون مكلفاً بالإثبات, لا على أساس أن الواقعة التي يدعيها واقعة سلبية, وإنما على أساس أنه يتمسك بالوضع الطبيعي, وهو الأصل. فإذا نازعه خصمه في ذلك فمعني هذا أنه يدعي أن هذا الأصل قد جدت واقعة على خلافه, وحينئذ ينقلب المدعي عليه (في الدعوى) مدعياً (للواقعة) التي تخالف الأصل, ويترتب على ذلك أن يكون هو المكلف بإثباتها.([24])
ب ـ حالة الجزاءات الإدارية:
كذلك من الحالات التي يختلط فيها الأمر بشأن تحديد محدودية الواقعة وبين ما إذا كانت ممكنة الإثبات من عدمه بالنظر إلى كونها واقعة سلبية "حالة الجزاءات الإدارية".([25])
والأمر في شأن الجزاءات الإدارية يتعلق بتلك الجزاءات التي يخول القانون للإدارة توقيعها دونما حاجة إلى اللجوء إلى القضاء. ويؤدي ذلك إلي جعل من وقع عليه الجزاء في موقف المدعي دائماً إذا ما تظلم, وبالتالي فهو المكلف بإثبات أنه لم يرتكب ما يستوجب الجزاء, وهذا من قبيل الواقعة السلبية.
وقد دعا ذلك بعض الشراح إلى استنكار هذا الوضع بالنظر إلى أن هذا تكليف للمدعي بإثبات أمر سلبي, وهو ما لا يجوز.
والواقع أن هذه الحجة غير صحيحة طبقاً لما أسلفناه, ذلك لأنه لو كان المتظلم مدعياً بواقعة سلبية لما كان هناك ثمة ما يمنع من تكليفه بإثباتها, بل لوجب ذلك. والحقيقة أنه يتمسك بالأصل وبالقرينة الطبيعية والتي تقول بأن الأصل هو عدم نسبة الخطأ للإنسان. وبالتالي فإذا كانت جهة الإدارة هي التي تدعي خلافاً للأصل (بتوقيعها الجزاء عليه), فإن عليها أن تثبت ذلك.
والقول بغير ذلك مؤداه الانحدار إلى قبول أن الأصل في الإنسان الخطأ, أي أن تصبح القرينة الأصلية هي قرينة الإجرام وانشغال الذمة, لا قرينة البراءة وبراءة الذمة, وهو ما لا يستسيغه منطق: لأن الأصول يجب أن تطابق المعقول, ولولا ذلك لما اعتبرت أصولا.
وقد تواتر قضاء محكمة النقض على أنه:
تنص المادة الأولى من قانون الإثبات رقم 25 لسنة 1968 على أنه على الدائن إثبات الالتزام وعلى المدين إثبات التخلص منه، فالأصل هو براءة الذمة وانشغالها عارض ويقع عبء الإثبات على عاتق من يدعى خلاف الثابت أصلاً مدعياً كان أو مدعى عليه.
       (نقض مدني في الطعن رقم 916 لسنة 48 قضائية، جلسة 26/12/1983، مجموعة المكتب الفني، السنة 34، صـ 1098، فقرة 3).
هذا، والله أعلى وأعلم،،،


(1) من أمثلة الوقائع الإيجابية ادعاء شخص بأنه يقابل آخر كل يوم طيلة حياته. ومن أمثلة الوقائع السلبية ادعاء شخص آخر بأنه لم يقابل الآخر بالمرة. وأشار إلى هذه الأمثلة: محمود جمال الدين زكي، صـ 291، بند 277 نقلا عن ريبيو وبولانجيه، وعن جلاسون وتيسيه.
([2]) عبد الودود يحي، الموجز في قانون الإثبات، عام 1987، صـ 13.
([3]) أنظر في تفصيل هذه الأمثلة وأمثلة أخري, وجيز السنهوري، وتعليقات دالوز على المادة 253 مرافعات، دالوز العملي والربراتوار الحديث في هذا المقام.
([4]) يرجع السر في هذه البلبلة إلي خطأ أنزلق إليه بعض الشُراح GLOSSATEURS في تعليقهم على بعض النصوص اللاتينية التي تقرر أن من أنكر AUI NEGQT ليس عليه دليل, أي أنه من اكتفي بنفي الواقعة المدعي بها عليه لا يكلف بتقديم دليل يؤيد إنكاره. راجع في هذه النصوص اللاتينية: وجيز أكاريا (في القانون الروماني وشرح النظم لجستنيان)، جـ 2، صـ 402، وهامش 4 صـ 905، بند 776، هامش 2، وقد فند في هامشيه مزاعم هؤلاء الشراح, وأنظر أيضاً مبسوط بودري، التزامات، جـ 3، بند 2065 وكذا بوجه خاص وجيز كولان وكابيتان، جـ 1، صـ  99 وهامش 1. وجلاسون، جـ 3، صـ 664 بند 596 وقد أشار إلى أن بونيه سبق له التنبيه لهذا الخطأ.
([5]) محمد شكري سرور، موجز أصول الإثبات في المواد المدنية والتجارية، عام 1986، بند 17، صـ 31.
([6]) عبد الودود يحي، الموجز في قانون الإثبات، عام 1987، صـ 13.
([7]) أحمد عبد العال أبو قرين، الجامع في أحكام الإثبات في المواد المدنية والتجارية، 1990 – 1991، صـ 20.  
([8]) أنظر لوران، جـ  19، صـ 93، بند 95. وأنظر جلاسون، جـ 3، صـ 665، وقد استند البعض في تبرير ذلك إلى أحد النصوص اللاتينية الثلاثة المشار إليها وهو الخاص بالدفع بعدم استلام النقود وعدها وبيان ذلك أنه إذا حدث أن الواعد بالقرض لم يسلم المبلغ إلى الموعود ورفع عليه مع ذلك دعوى يطالبه فيها بالسداد بناء على تعهده بالرد, فقد أجيز للموعود بالقرض أن يدراً عن نفسه المطالبة بان يبدي الدفع المسمي دفع عدم استلام النقود وعدها, وكان إبداؤها له كافياً ما دام قد تمسك به في بداية دفاعه فلم يكن إذن محتاجاً إلى إقامة الدليل على عدم صحة استلامه للنقود بل كان يفترض إنه لم يتسلمها إلى أن يقيم خصمه الدليل على استلامه لها (قارن هذا في القانون الحديث بالسبب إذا لم يذكر في العقد) والواقع أن القانون الروماني يقيم هنا قرينة الغش الذي كان الإثبات فيه على المدين فكأن عد النقود كان يعتبر من عناصر إتمام العقد. ولا شك في أن هذا كان خروجاً علي القواعد العامة إلا إنه قد اقتضاه شيوع ذلك النوع من التحليل (أنظر ديديه بلهبه، أستاذ من جرنيوبل، في كتابه القانون الروماني، جـ 2، صـ 113 وما بعدها، واكاربا، جـ 2، بند 581، صـ 401. وجلاسون، جـ 3، بند 596، صـ 64. وقد ذكر أن هذا الدفع لم يؤخذ به في القانون الفرنسي, أن لوازيل قد أنكره (في القاعدة 6 من الباب 2 من الكتاب الخامس من مؤلفه في العادات).  
([9]) حيث سنوضح فيما بعد وجود حالات استثنائية يكون فيها الإنكار صالحاً لإقامة دعوى أصلية كما هو الحال بالنسبة لدعوى إنكار الارتفاق.
([10]) يري بعض الشراح أن الذين خلطوا بين الأمر السلبي والإنكار بمعني النفي لم يخطئوا عن جهل وإنما عن عمد (رأي الفقيه ليسونا، في صادق فهمي، صـ 213 وهامش 1)، فاستعملوا هذه النصوص في غير معناها الصحيح ليجعلوا منها تكئة لبعض آرائهم. ولعل هذا ا يفسر أن أرتول وهو من شيوخهم لم يقع في هذا الخطأ بل أشار بوضوح إلى الرأي الصحيح (أنظر بوردي ص 427 هامش 2).
([11]) كولان وكابيتان، جـ 1، صـ 99، هامش 1. وجلاسون، صـ 655 وأشار إلى بونيه طبعة خامسة، بند 39 ومبسوط بودري، وأنظر أيضاً لوران، جزء 91، بند 95 حيث يقرر أن خطأ تفسير الشراح لهذه النصوص الرومانية قد أقره جميع الشراح.
([12]) نقض فرنسي (عرائض) 21 نوفمبر 1826, أورده جلاسون، صـ 664، دالوز العلمي (إثبات)، بند 38، وربر دالوز والهجائي العتيق (R) تحت كلمة إثبات، بند 20 أولاً. وأنظر أيضاً نقض فرنسي 12 نوفمبر 1956 دالوز الدوري 1857-1- 59 ومبسوط بلانيول، التزامات ثان، صـ 754 وهامش 4. وأنظر كذلك نقض مصري 26 يناير 1950 في الطعن رقم 84 لسنة 18 قضائية.  
([13]) لوران، 19، بند 95. ومبسوط بلانيول، التزامات ثان، صـ 755، بند 1416. وأديري، 12، خامسة، صـ 82، فقرة 749 عند هامش 14. ومبسوط بودري، التزامات ثالث، صـ 427 عند هامش 2 بها.
([14]) أحمد عبد العال أبو قرين، الجامع في أحكام الإثبات في المواد المدنية والتجارية، عام 1990، صـ 19.
([15]) أنظر لوران، 19، صـ 93. حيث يقول: وأني أثبت أنك لست بلجيكياً بإثبات أنك فرنسي أو بأنك قد فقدت صفتك كبلجيكي، ومثله مبسوط بودري، التزامات ثالث، صـ 427 عند هامش 2 بها.
([16]) وفي ذلك قضت محكمة النقض الجنائي بأنه: "لا يصح أن تقام الإدانة على الشك والظن، بل يجب أن تؤسس على الجزم واليقين. فإذا كان المتهم قد تمسك في دفاعه بأنه لم يحضر الحادث الذي أصيب فيه المجني عليه إذ كان وقتئذ بنقطة البوليس وأشهد على ذلك شاهداً فلم تأخذ المحكمة بهذا الدفاع دون أن تقطع برأي في صحة شهادة ذلك الشاهد أو كذبها مع ما لهذه الشهادة من أثر في ثبوت التهمة المسندة إلى المتهم لتعلقها بما إذا كان موجوداً بمكان الحادث وقت وقوعه أو لم يكن فإن حكمها يكون معيباً. الطعن رقم 442 سنة 20 قضائي، جلسة 16/10/1950.
([17]) أوبري ورو, ط خامسة، 12، صـ 83 عند هامش 16. وجوريس كلاسير، مدني، مادة 1315، بند 60 ومراجعه. لوران، جـ 19، صـ 94 ومراجعه. وكابيتان، صـ 478، بند 719. ومبسوط بلانيول العملي, التزامات، جـ 2، صـ 755 هامش 2.
(18) ودالوز العملي، تحت كلمة "إثبات"، بند 38 ومراجعه. ومبسوط بودري، التزامات، جزء ثالث، بند 2066. ومبسوط بلانيول، التزامات، جزء ثان، صـ 755.
([19]) فإطلاق الواقعة هو الذي يؤدي إلى جعلها مستحيلة في مقام الإثبات. وسنري أن الاستحالة تجعل الواقعة غير جائزة القبول في مجال الإثبات.
([20]) مبسوط بلانيول, التزامات, جـ 2، صـ 754 هامش 4. وتعليق روسو في سيري، عام 1922, 2, 73.
([21]) دالوز العملي، تحت كلمة إثبات، بند 38 ومراجعه. ومبسوط بلانيول, سابق الإشارة إليه, صـ 755 وهامش 4.
([22]) محمد شكري سرور, موجز أصول الإثبات في المواد المدنية والتجارية, 1986، صـ 32. قارن ذلك بالمبدأ الذي تطبقه محكمة النقض في شأن تيسير إثبات الإخلال بتنفيذ الالتزام ببذل عناية, الطعن رقم 111 لسنة 35 قضائية، جلسة 26/6/1969 حيث قضت بأنه: "لئن كان مقتضى اعتبار التزام الطبيب التزاما ببذل عناية ـ خاصة أن المريض إذا أنكر على الطبيب بذل العناية الواجبة ـ فإن عبء إثبات ذلك يقع على المريض. إلا أنه إذا أثبت المريض واقعة ترجح إهمال الطبيب كما إذا أثبت أن الترقيع الذي أجراه له جراح التجميل في موضع الجرح والذي نتج عنه تشويه ظاهر بجسمه لم يكن يقتضيه السير العادي لعملية التجميل وفقا للأصول الطبية المستقرة، فإن المريض يكون بذلك قد أقام قرينة قضائية على عدم تنفيذ الطبيب لالتزامه فينتقل عبء الإثبات بمقتضاها إلى الطبيب ويتعين عليه لكي يدرأ المسئولية عن نفسه أن يثبت قيام حالة الضرورة التي اقتضت إجراء الترقيع والتي من شأنها أن تنفى عنه وصف الإهمال".
([23]) مثال ذلك دعوى إنكار الارتفاق وفيها يدعي مالك عقار ضد مالك عقار مجاور له بأن عقاره غير محمل بارتفاق للعقار المجاور ويطالب بالحكم له بذلك في مواجهة المدعي عليه. وفى هذه الحالة جري القضاء على أن المدعي غير مكلف بإثبات مما يدعيه من خلو عقاره من الارتفاق بل يكون المدعي عليه هو المكلف بإثبات ارتفاقه أن كان يدعي من ذلك شيئاً. فهل إعفاء المدعي من الإثبات في هذه الحالة يرجع إلى أن الواقعة التي يدعيها سلبية؟ والحقيقة أن التبرير الصحيح لذلك هو: أن الوضع الطبيعي للأمور هو خلو الأعيان من الأعباء فالمدعي إنما يقرر أمرا مطابقا للوضع الطبيعي، ولذلك لا يكلف بإثباته. فإن كان المدعي عليه لا ينازعه في ذلك وجب الحكم له بما طلب: لأن القاضي حينئذ لا يفعل أكثر من تقرير الأمر. أما إذا نازعه المدعي عليه فإن معنى ذلك أن هذا المدعي عليه (في الدعوى) يدعي أمرا على خلاف الأصل (الذي يتمسك به المدعي) – فينبغي عليه إثباته.
([24]) وفي مسألة أخري، وهي مدى استحقاق التعويض عند تحقق الشرط الجزائي، قضت محكمة النقض بأنه: "تنص الفقرة الأولى في المادة 224 من القانون المدني على أن "لا يكون التعويض الاتفاقي مستحقاً إذا أثبت المدين أن الدائن لم يلحقه أي ضرر" ووجود الشرط الجزائي في العقد يفترض معه وقوع الضرر إلا إذا أثبت المدين عدم وقوعه لأن هذا الشرط ينقل عبء الإثبات من عاتق الدائن إلى عاتق المدين". وذلك في الطعن رقم 1293 لسنة 54  قضائية، جلسة 16/3/1986.
([25]) أنظر رسالة: باكتيه، في الإثبات أمام القضاء الإداري, رسالة من باريس 1952, بند 57، صـ 90.

الجمعة، 2 يوليو 2010

إثبات القانون الأجنبي


إثبات القانون الأجنبي
قد يثور أمام القضاء الوطني منازعات ينخرط فيها عنصر أجنبي، كشأن عقد أبرم في الخارج وتم تنفيذه – كله أو جزء منه – في الوطن، أو العكس. أو قد يتمسك أحد الخصوم بتطبيق قانون أجنبي على الوقائع محل النزاع حيث تلزمه قواعد الإسناد في قانونه الوطني بتطبيق القانون الأجنبي عليها. 
وهنا يثور التساؤل حول إمكانية افتراض علم القاضي الوطني بمضمون القانون الأجنبي المراد تطبيقه. ولما كان من البديهي عدم إمكان توقع علم القاضي الوطني بجميع قوانين دول العالم أجمع، وبالتالي يقع عبء إثبات هذا القانون الأجنبي على ذوي الشأن من الخصوم، وإلا كان القاضي في حل من تطبيقه إذا ما عجز ذوي الشأن عن إثباته.
ولقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه يجب على ذوي الشأن من الخصوم في هذه الحالة إثبات هذا القانون الأجنبي وسارت على ذلك محاكم فرنسا وإنجلترا وكانت محاكم مصر المختلطة فيما سبق تسير على ذلك أيضا.
إلا أن جانب آخر من الفقه ذهب إلى القول بأنه يجب على القاضي أن يبحث عن هذا القانون ويطبقه كما يطبق قانون بلاده.
وقد ذهب فريق من الشراح من أنصار هذا المذهب الأخير إلى القول بأن القاضي الوطني يجب أن يطبق القانون الأجنبي من تلقاء نفسه في الحالات التي تلزمه قواعد الإسناد في قانونه الوطني بتطبيقه, ومن ثم فلا حاجة بداءة إلى تمسك الخصوم بالقانون الأجنبي, ولا حاجة بهم إلى إثباته ولا داعي لتكليفهم بذلك. بل أن القاضي هو الذي يجب أن ينشط للتعرف علي القانون الأجنبي بنفسه.
إلا أن جمهور الفقهاء على أن القانون الأجنبي يعتبر بمثابة "واقعة" من واقعات الدعوى, ومن ثم يلزم ذوي الشأن من الخصوم بإثباته.([1]) وقد ساير القضاء هذا الرأي سواء في مصر أم في فرنسا، مع مراعاة أنه يترتب على الأخذ بهذا الرأي: عدم إخضاع فهم القاضي الوطني للقانون الأجنبي الواجب التطبيق لرقابة محكمة النقض المصرية، على أساس أن فهمه له يمثل تقديراً منه لواقعة من وقائع الدعوى المطروحة عليه، ومحكمة النقض لا تراقب قاضي الموضوع في تقديره للوقائع.
ولقد استقر القضاء على تحديد وسيلة إثبات القانون الأجنبي, فهو لا يقبل في هذا الشأن إلا شهادة من السلطات الأجنبية الرسمية، مع ترجمة معتمدة لها، وهذه الشهادة تسمي في الاصطلاح CERTIFICAT DE COUTUME ([2]) وإن كان يبدو من قضاء محكمة النقض الفرنسية أنها قد مالت إلى التساهل وقبول إثبات القانون الأجنبي عن طريق تقديم مؤلفات الفقهاء الأجانب.([3])
هذا ولقد ذهب رأي ثالث من الشراح إلي أن القانون الأجنبي لا يخرج عن كونه قانوناً, وغاية ما في الأمر أن الصعوبات العملية في التعرف على القوانين الأجنبية تبرر الحلول التي ذهب إليها القضاء من تطلب قيام الخصوم بإثبات هذه القوانين.
ويري البعض أن هذا الرأي لم يعد له محل من الناحية العملية حيث أن ما كان مثاراً في الماضي من صعوبة التعرف على القوانين الأجنبية قد هان شأنه إزاء تقدم الحضارة وسهولة المواصلات وتوثق الاتصالات بين الدول وانتشار التبادل الثقافي وإقبال أبناء كل أمة على تعلم لغات الأمم الأخرى وإتقان الترجمة. هذا فضلاً عن أن معظم البلدان تنشئ إدارات لجمع وترتيب الوثائق الخاصة بالقوانين الأجنبية مثل إدارة التشريعات الأجنبية في وزارات العدل بفرنسا ومصر.
أما في مصر فإن القضاء([4]) لم يعرض لهذه المسألة إلا في الأحكام قليلة العدد والتي كانت تجري علي نهج القضاء الفرنسي.
وينقسم الفقه في مصر([5]) على ذات النحو الذي رأيناه في فرنسا وإن لم تكن اتجاهات بعض شراحه من الوضوح على النحو الذي يبدو في فقه الشراح الفرنسيين.
فالرأي الغالب في الفقه المصري يميل إلى القول بأنه ليس على الخصوم إثبات ما يتمسكون به من قواعد القانون الأجنبي بل أنه ينبغي على القاضي أن ينهض إلى البحث عن هذه القواعد. وسندهم في ذلك أن القاعدة القانونية لا تتغير طبيعتها لمجرد أن الذي يقوم بتطبيقها هو قاض أجنبي، فالقانون الأجنبي يأخذ حكم القانون الوطني ويفترض علم القاضي به ولا يطلب من الخصوم إثباته.
وأنه ما دام القانون الوطني، يقضي في خصوص مسألة معينة، بتطبيق قانون أجنبي معين عليها، فإنه يتوجب على القاضي أن يطبق هذا القانون وعلى نحوه السليم. فإن لم يطبقه، أو أخطأ في فهمه وجره ذلك إلى الخطأ في تطبيقه، فإنه يعتبر بذلك قد تخالف، ليس مع حكم القانون الأجنبي الذي لم يحسن فهمه فحسب، بل مع قانونه الوطني أيضاً، الذي أملى عليه أمراً فلم يصدع له.
ويري فريق آخر أن القانون الأجنبي يجب أن يكون محلاً للإثبات أي أنه يكون على صاحب المصلحة التمسك بقاعدة القانون الأجنبي أن يثبتها. وسندهم في ذلك أنه يتعذر على القاضي الوطني الإلمام بالقوانين الأجنبية، لذلك فإن طرف الدعوى الذي يطالب بتطبيق قانون أجنبي، يتحمل عبء إثباته، ويتم ذلك عن طريق الشهادات الصادرة من السلطات المختصة بالدولة الأجنبية، أو مجموعات الأحكام، أو المؤلفات العلمية.
هذا ويذهب بعض الفقهاء إلى تأسيس رأيهم بشأن إلزام الخصوم بإثبات القانون الأجنبي على الصعوبات العملية. ومع ذلك فإن جانبا من هذا التوجه الأخير يتجه بالإضافة إلى الصعوبات العملية إلى اعتبار القانون الأجنبي في حكم الواقعة, مع أن هذا الاعتبار الأخير وحده يجعل التذرع بالصعوبات العملية من غير أساس ولا ضرورة حيث أن التعلل بهذه الصعوبات يعني عدم اعتبار القانون الأجنبي واقعة, ومن ثم فإنه يكون من التناقض أن نجمع في نفس الوقت بين الحجتين.
ومن جانبنا فإننا نري اعتبار القانون الأجنبي واقعة لأن افتراض علم القاضي بقانون دولته يرجع إلى أنه هو ذاته أداة هذه الدولة لتطبيق القانون ولذلك ينبغي أن يتحقق عما صدر فيها من قوانين. أما الدول الأجنبية فهي أشخاص معنوية أخري لا يعتبر القاضي أداة من أدواتها أو عضوا فيها, ولهذا لا يفترض فيه العلم بقوانينها كما لا يفترض فيه العلم بما صنع الأفراد في دولته لاختلاف أشخاصهم عن شخص الدولة.
وقد جاء في حكم لمحكمة النقض المصرية أن الاستناد إلى قانون أجنبي – وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة لا يعدو أن يكون مجرد واقعة مادية وهو ما يوجب على الخصوم إقامة الدليل عليها وإذا لم تقدم الطاعنة بملف الطعن صورة رسمية للتشريع الأجنبي الذي تستند إليه ولا ترجمة رسمية له فإن النعي يكون غير مقبول.([6])
كما قضت محكمة النقض بأن: "الاستناد إلى قانون أجنبي. واقعة مادية يجب على الخصوم إقامة الدليل عليها. عدم تقديم الطاعن ما يثبت تمسكه بهذا الدفع أمام محكمة الموضوع. إثارته أمام محكمة النقض. سبب جديد. غير مقبول. (نقض جلسة 18/11/1972 مجموعة المكتب الفني – السنة 23 – صـ 1257. ونقض جلسة 19/1/1977 مجموعة المكتب الفني – السنة 28 – صـ 276).
وفي هذا السياق فإنه لا يمكن الاعتراض بأن قانون القاضي الوطني يلزمه، وفقاً لقواعد الإسناد، في بعض الأحوال بأن يطبق قانون الدولة الأجنبية, لأن ذلك لا يعني حتماً أن يبحث القاضي عن قانون تلك الدولة الأجنبية أو أن يفترض فيه العلم به, ذلك أن هذه الحالة تتساوى في الحكم مع الحالة التي يلزم فيها المشرع القاضي الوطني بأن ينزل حكم العقد على أطرافه ويعتبر العقد "قانوناً للعاقدين" ومع ذلك لم يجادل أحد في إلزام العاقد بإثبات العقد ودلالته.([7])
وغاية ما في الأمر أن القانون الأجنبي وإن كان واقعة إلا أنه ليس واقعة خاصة بطرفي الخصومة بل هو واقعة عامة من الوقائع التي يمكن أن تكون محلاً لعلم الكافة بها – فلا جناح على القاضي أن يبحث أن شاء ولا عليه أيضاً أن أجري في شأنها علمه الشخصي([8]), فإن لم يطمئن القاضي إلى نتائج بحثه أو يجد إليه سبيلا, وجب على الخصوم إقناعه بقاعدة القانون الأجنبي على الصورة المعمول بها في بلادها, فإن لم يثبتوا له ذلك جاز له أن يعتبر هذه الحالة من الحالات التي لا يوجد فيها نص تشريعي, وقد يري تطبيق القانون المصري على أساس أن هذا هو ما تقضي به العدالة.([9])
وإن قيل أن في مكنة القاضي الاستعانة بمترجم فإن الرد على ذلك أن هذا من سلطته, على أنه لن يكون أمامه في هذه الحالة إلا أن يفترض في الترجمة مطابقتها للواقع وهو ما يجعل الحكم في النهاية في يد المترجم عملا. هذا فضلاً عما يحدث كل يوم من التعديلات والتغييرات في القوانين مما قد يغيب عن القاضي. أضف إلى هذا أن معرفة القوانين الأجنبية لا تقف عند حد العثور على نصوصها بل تتعدى ذلك إلي معرفة مدلول هذه النصوص. ولهذا فإننا لا نقر رأي الشراح الذين يريدون أن يفرضوا على القاضي العلم بالقوانين الأجنبية.
وأخيراً، يجب مراعاة أن قاعدة إقامة الدليل على القانون الأجنبي، مناطها، أن يكون هذا القانون الأجنبي غريباً عن القاضي الوطني ويصعب عليه الوقوف على أحكامه أو الوصول إلى مصادره، فإذا كان القاضي الوطني على علم بمضمونه أو يفترض العلم به، أمتنع تطبيق قاعدة إقامة الدليل على القانون الأجنبي.
حيث قضت محكمة النقض المصرية بأنه: "المقرر في قضاء هذه المحكمة أن التمسك بقانون أجنبي لا يعدو أن يكون مجرد واقعة يجب إقامة الدليل عليها وكان مرد هذا القضاء هو الاستجابة للاعتبارات العملية التي لا يتيسر معها للقاضي الإلمام بأحكام ذلك القانون فإن مناط تطبيق هذه القاعدة  أن يكون القانون الأجنبي غريبا عن القاضي يصعب عليه الوقوف على أحكامه والوصول إلى مصادره أما إذا كان القاضي يعلم بمضمونه أو كان علمه به مفترضا فلا محل للتمسك بتطبيق القاعدة، لما كان ذلك وكانت المعاهدات الدولية قد أصبحت مصدرا هاما من مصادر القانون البحري وطريقا لتوحيد أحكامه على النطاق الدولي وصارت قواعده بمقتضى هذه المعاهدات قواعد دولية معروفة لدى القضاء البحري في كثير من الدول وكانت مصر قد انضمت إلى المعاهدة الدولية الخاصة بتوحيد بعض القواعد القانونية المتعلقة بسندات الشحن الموقعة ببروكسل في 25/8/1924 والتي أصبحت تشريعا نافذ المفعول في مصر بموجب المرسوم بالقانون الصادر في 31/1/1944 وكان بروتوكول هذه المعاهدة قد خول الدول المتعاقدة الحق في تنفيذه إما بإعطائها قوة القانون أو بإدخال أحكامها في تشريعها الوطني وكان من المعلوم فقها وقضاء أن إنجلترا قد أدخلت أحكام معاهدة سندات الشحن لسنة 1924 في تشريعها الداخلي حيث أصدرت قانون نقل البضائع بحراً لسنة 1924 وجعلت أحكامه مطابقة لأحكام المعاهدة المذكورة التي أصبحت تشريعا نافذاً في مصر فإن علم القاضي بمضمون هذا القانون يكون مفترضاً ولا يكون ثمة محل لإلقاء عبء إثبات مضمونة على عاتق من يتمسك به". (نقض مدني في الطعن رقم 2317 لسنة 59 قضائية – جلسة 8/2/1996 مجموعة المكتب الفني – السنة 47 – الجزء الأول – صـ 317).
هذا، والله أعلى وأعلم،،،


([1]) نقض مدني فرنسي 26 أبريل 1950 منشور في دالوز 1950 قضاء 9 صـ 361. كما قضت محكمة النقض المصرية بأن: "الاستناد إلى قانون أجنبي - وعلى ما جرى به قضاء محكمة النقض - لا يعدو أن يكون مجرد واقعة وهو ما يوجب على الخصوم إقامة الدليل عليه". نقض مدني رقم 8 لسنة 35 قضائية، جلسة 26/7/1967.
([2]) أنظر نقض فرنسي 31/10/1923 و 27/11/1926 وباتيفول ومراجعه. ويري بعض الشراح أن اعتبار القانون الأجنبي واقعة يبيح إثباته بأي وسيلة: ريجو, القانون الدولي الخاص, صـ 145.
([3]) حكم نقض 16 أبريل 1950.
(4) فالمقرر في قضاء محكمة النقض أن القانون الأجنبي لا يعدو أن يكون مجرد واقعة مادية يجب على الخصوم إقامة الدليل عليها. مجموعة المكتب الفني، أنظر"أحكام ومبادئ النقض في مائة عام في قانون الإثبات" صـ 276.
([5]) وأما التشريع فلم يرد فيه نص بهذا الخصوص وإن كان المشروع التمهيدي للقانون المدني قد ورد فيه نص جرت في شأنه مناقشة انتهت إلى صياغته بالشكل الآتي: "في جميع الحالات التي سيقرر فيها أن قانوناً أجنبياً هو الواجب التطبيق يطبق عليه القانون المصري إذا كان وجود القانون الأجنبي أو مدلوله غير ممكن إثباته" مجموعة الأعمال التحضيرية للقانون المدني على المادة 27 منه صفحة 314و 315 بالهامش من الجزء الأول في طبعة وزارة العدل. لكن هذا النص أهمل عند إفراغ القانون المدني في صيغته النهائية لا بقصد استبعاد حكمه, وإنما لأن اهتمام المشـرع على ما يظهر كان منصرفاً إلى مسألة الإحالة والإحالة المزدوجـة.
(35) الطعنان رقما 25و 28 لسنة 32 قضائية "أحوال شخصية", جلسة 29/12/1971, مجموعة المكتب الفني، السنة 22، صـ 1126.
(36) أنظر: "سافاتييه" في: تغيرات وجه القانون، وقرب ما ذكرناه وما جاء في بحث العلاقة بما ورد هانز كلسن عن العقود في سجلات (أرشيف) فلسفة القانون في العدد الخاص بالعقد من أن العقد ينشئ قاعدة nor ,e وأن القانون هنا يفرض الحكم للعقد آي أن هناك تفويضاً délégation إحالة كما في حالة الإحالة إلى قانون أجنبي (أرشيف – سنة 1940 – عدد 4/1 صـ 36).
([8]) ولا يكون قضاؤه فيها بعلمه محل طعن ما دام علمه مطابقاً للحقيقة, انظر باتيفول بند 336 و353 و355.
([9] ( وفي ذلك قضت محكمة النقض بأن: "الاستناد إلى قانون أجنبي - وعلى ما جرى به قضاء محكمة النقض - لا يعدو أن يكون مجرد واقعة وهو ما يوجب على الخصوم إقامة الدليل عليه". نقض مدني في الطعن رقم  8 لسنة 35 قضائية، جلسة 26/7/1967.