الاثنين، 30 مايو 2011

إعلان تحذيري بعدم التعامل على وحدات العقارات الكائنة برقم 25 بشارع عزام بحلوان والمقامة من جمعية إسكان العاملين بشركة أسمنت بورتلاند

إعلان تحذيري
تحذر هيئة الأوقاف المصرية جميع السادة المواطنين من التعامل على وحدات العقارات الكائنة برقم 25 بشارع مسجد عزام بحلوان بالقاهرة، والتي شرعت جمعية إسكان العاملين بشركة أسمنت بورتلاند حلوان في البناء عليها وطرحها للبيع للجمهور.
ذلك أن المساحة المقام عليها هذه العمارات محل نزاع قضائي بين هيئة الأوقاف المصرية والجمعية المذكورة ومقام بشأنها الدعاوى أرقام 7 و 10 لسنة 2009 "وقف" كلي جنوب القاهرة بطلب محو وشطب المشهرات أرقام 290 لسنة 2004 و 557 لسنة 2005 و 2962 لسنة 2008 نظراً لأن تلك الأرض مملوكة للوقف الخيري (وقف/ محمد راتب باشا). 
كما إن إعلامات الوراثة التي تم الاستناد إليها في المشهرات سالفة الذكر محل اتهام في الجنحة رقم 3830 لسنة 2009 جنح السيدة زينب، بتهم تزوير إعلامات شرعية واستعمال محرر مزور في الاستيلاء على أموال وأعيان الوقف الخيري.
الأمر الذي تحذر معه هيئة الأوقاف المصرية جميع المواطنين من التعامل بشأن هذه الوحدات (سواء من الجمعية أو من أعضائها المخصص لهم الوحدات) حرصاً على مصالحهم وعدم التغرير بهم، ولن يعتد في مواجهة هيئة الأوقاف المصرية بأي تصرفات ترد على تلك الوحدات.
............... (انتهى) ...............

* مع ملاحظة أن الأحكام التي ستصدر في مواجهة الجمعية ستكون حجة على المشترين منها الذين لم يسجلوا عقود شرائهم، لأنه من المُقرر قانوناً – وعلى ما جرى به قضاء محكمة النقض – إن: "الحكم الذي يصدر ضد البائع، فيما يقوم بشأن العقار المبيع من نزاع، يُعتبر – وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة – حجة على المُشتري الذي لم يكن قد سجل عقد شرائه عند صدوره، على أساس أن المُشتري يُعتبر مُمثلاً في شخص البائع له في تلك الدعوى المُقامة ضده وأنه خلف خاص له". (نقض مدني في الطعن رقم 2555 لسنة 52 قضائية – جلسة 7/3/1984. وفي الطعنين رقمي 2508 و 2526 لسنة 52 قضائية – جلسة 8/5/1986. المصدر: "مجموعة القواعد القانونية التي قررتها محكمة النقض في خمس سنوات" – للمُستشار/ محمود نبيل البناوي – المُجلد الثاني – القاعدة رقم 4 – صـ 950، والقاعدة رقم 10 – صـ 951).
       وبالنسبة للذين سجلوا عقود شرائهم، فسيكون ثابت في هوامش التسجيل وجود دعاوى محو وشطب تلك المشهرات الخاصة بالجمعية، وبالتالي فسيكون الحكم الصادر فيها حجة عليهم، كما إن التأشير بوجود دعاوى محو والشطب على عقودهم ينفي عنهم "حسن النية".
ومن ثم فإنه في جميع الأحوال لن يتم الاعتداد بعقودهم في مواجهة هيئة الأوقاف، بينما الأحكام الصادر في الدعاوى المقامة من هيئة الأوقاف المصرية ستكون حجة عليهم. لذا فمن الأجدر بهم – في حال حرصهم على أموالهم، وعدم تعرضهم لمشاكل ومنازعات قانونية مستقبلاً – ألا يقدموا على التعامل على تلك الوحدات. 
وقد أعذر من أنذر.
........................

وبالنسبة للأخ الفاضل/ المشتري المستفسر عما يفعل إزاء الإعلان التحذيري عن عدم التعامل على وحدات العقارات رقم 25 شارع عزام بحلوان. والمقامة على القطعة رقم 25 من 25 كدستر "شارع البحري سابقاً" ومسجد عزام حالياً – شياخة حلوان – قسم حلوان – محافظة القاهرة – حمامات مدينة حلوان/ 55 – ومسطحه 3819.30م2 (فقط ثلاثة آلاف وثمانمائة وتسعة عشر متراً مربعاً وثلاثون ديسيمتر لا غير)، وحدوده كالتالي:
الحد البحري: شارع رقم 1 بعرض 7.70م
الحد الشرقي: امتداد شارع منصور بعرض 20.00م بطول 100.00م
       الحد القبلي: شارع مسجد عزام حالياً (شارع البحري سابقاً) بعرض 20.00م بطول 2.50م ويغرب بانكسار بطول 38.00م 
الحد الغربي: شارع مُستجد بعرض 20.00م سور محطة يليه مترو الأنفاق غير محدد العرض ثم يليه سور السكة الحديد بطول 82.50م .
والأخ المشتري المستفسر قد علق على ذلك الإعلان بقوله:
(( يعني أية؟؟ والناس اللي واخدة شقق هناك، وبتدفع أقساطها، هيعملوا أية؟؟  ))
       ورداً على التساؤل اقترح (بصفة شخصية وليس بصفتي ممثلاً لهيئة الأوقاف بأي صفة) على طارح السؤال وجميع الحالات المماثلة له، ما يلي:
-   أن يقوم المشتري بتوجيه إنذار رسمي إلى الجمعية البائعة، ينذرها فيه بوقف تحصيل الأقساط لحين الفصل "نهائياً" في دعاوى محو والشطب المشهرات الواردة على قطعة الأرض المقام عليها العقارات الكائن بها تلك الوحدات.
-   وفي حال عدم استجابة الجمعية البائعة وموافقتها بمضمون هذا الإنذار، يمكن للمشتري أن يقيم دعوى قضائية ضدها يطلب فيها: "الحكم له بأحقيته في حبس باقي الثمن، والدفع بعدم التنفيذ، لحين الفصل نهائياً في الدعويين رقمي 7 و 10 لسنة 2009 "وقف" كلي جنوب القاهرة (بطلب محو وشطب المشهرات أرقام 290 لسنة 2004 و 557 لسنة 2005 و 2962 لسنة 2008 لكون الأرض المقام عليها عقار التداعي مملوكة للوقف الخيري وقف/ محمد راتب باشا)، مع إلزام الجمعية المدعى عليها بالمصروفات ومقابل أتعاب المحاماة، بحكم مشمول بالنفاذ المعجل بلا كفالة". 
-        ويتم تأسيس تلك الدعوى قانوناً على الأسانيد القانونية التالية:
       تنص المادة 246/1 من القانون المدني على أنه: "لكل من التزم بأداء شيء أن يمتنع عن الوفاء به ما دام الدائن لم يعرض الوفاء بالتزام مترتب عليه بسبب التزام المدين ومرتبط به، أو ما دام الدائن لم يقم بتقديم تأمين كاف للوفاء بالتزامه هذا".
       كما تنص المادة 161 من القانون المدني على أنه: "في العقود الملزمة للجانبين، إذا كانت الالتزامات المتقابلة مستحقة الوفاء، جاز لكل من المتعاقدين أن يمتنع عن تنفيذ التزامه إذا لم يقم المتعاقد الآخر بتنفيذ ما التزم به".
       كما تنص المادة 457/2 من القانون المدني على أنه: "فإذا تعرض أحد للمشتري مستنداً إلى حق سابق على البيع ... أو إذا خيف على المبيع أن ينزع من يد المشترى, جاز له (ما لم يمنعه شرط في العقد) أن يحبس الثمن حتى ينقطع التعرض أو يزول الخطر ...".
       هذا، ومن المقرر في قضاء محكمة النقض أن: "المقرر فى قضاء هذه المحكمة أن مفاد نص المادة 457/2 من القانون المدني أن المشرع أجاز للمشترى الحق فى حبس الثمن إذا تبين له وجود سبب جدي يخشى معه نزع المبيع من تحت يده، وتقدير جدية السبب الذي يولد الخشية فى نفس المشترى من نزع المبيع من تحت يده هو من الأمور التي تستقل بها محكمة الموضوع دون رقابة عليها فى ذلك متى أقامت قضاءها على أسباب سائغة تكفى لحمله". (نقض مدني في الطعن رقم 1455 لسنة 53 قضائية – جلسة 14/6/1987 مجموعة المكتب الفني – السنة 38 – صـ 822 – فقرة 6).
       كما تواتر قضاء محكمة النقض على أنه: "إذا وجدت أسباب جدية يخشى مها ألا يقوم البائع بتنفيذ التزامه، كان من حق المشتري أن يقف التزامه بدفع الثمن، حتى يقوم البائع من جهته بتنفيذ التزامه". (نقض مدني في الطعن رقم 1758 لسنة 59 قضائية – جلسة 31/7/1990).
هذا، والله أعلى وأعلم،،،
..............................

أما بالنسبة للسادة الذين علقوا على ذلك الإعلان بقولهم:
       (( يعنى أية الكلام ده إن شاء الله؟!!  حسبنا الله ونعم الوكيل )).
       (( أعذر وأنذر مين يا عم أنت؟!! إحنا قمنا بالشراء عام 2009 من جمعية أسكان بورتلاند حلوان وتم تخصيص عدد 270 وحدة سكنية، وجاي تنشر إعلان عام 2011 بعد اكتمال البرج، أبقى قابلني فى المشمش!!  "محمد أحمد عوينات". ))
       فأود أن ألفت نظر سيادتهم إلى ما يلي:
       إن النزعات حول ملكية قطعة الأرض المقام عليها المباني، نزاعات قديمة إلى حد ما، وليست وليدة اليوم، كما إن هيئة الأوقاف المصرية لم تألوا جهداً في حماية والدفاع عن ملكية الوقف الخيري لتلك الأرض، وإنه بمجرد علمها بتسجيل عقد شراء الجمعية لتلك الأرض من الشخص المقام ضده جنحة تزوير إعلامات وراثة والاستيلاء على مال الوقف الخيري (بالجنحة رقم 3830 لسنة 2009 جنح السيدة زينب)، وذلك بالمشهر رقم 2962 لسنة 2008 شهر عقاري القاهرة "مأمورية حلوان" قامت على الفور وزارة الأوقاف بإقامة الدعوى رقم 10 لسنة 2009 "وقف" كلي جنوب القاهرة بطلب محو وشطب ذلك المشهر لكونه صدر بناء على عقود وإعلامات وراثة مزورة ومحل اتهام في جنحة التزوير واستعمال محرر مزور والاستيلاء على مال الوقف الخيري، كما قامت وزارة الأوقاف بشهر تلك الصحيفة في الشهر العقاري على هامش المحرر المشهر المطلوب محوه وشطبه، وبالتالي في تاريخ الدعوى في بداية عام 2009، وبالتالي فإن تسجيل أية عقود تالية سيظهر فيها التأشير بدعوى المحو والشطب المقامة ضده، ولو إن أي مشتري حريص قام بمراجعة الشهر العقاري قبل التعاقد على شراء وحدة في تلك العقارات لظهر له جلياً وجود الدعاوى والمنازعات سالفة الذكر على كافة التعاملات الواردة على قطعة الأرض المملوكة لجهة الوقف الخيري (وقف/ محمد راتب باشا).
       كما إنه بمجرد قيام الجمعية المشترية لقطعة الأرض، بوضع لافتة على تلك الأرض تفيد صدور ترخيص بالبناء عليها، قامت هيئة الأوقاف المصرية بتوجيه إنذار رسمي على يد محضر إلى الجمعية بعدم الشروع في البناء، كما قامت هيئة الأوقاف المصرية بإقامة دعوى أمام القضاء الإداري بطلب إلغاء الترخيص الصادر بالتصريح للجمعية بالبناء مع ما يترتب على ذلك من آثار. ولو إن أي مشتري حريص قام بالتوجه إلى الشئون القانونية بالجمعية لعلم بوجود ذلك النزاع، كما إنه لو توجه إلى الجهة الإدارية المختصة بإصدار تراخيص البناء لعلم بوجود الدعوى بطلب إلغاء الترخيص مع ما يترتب على ذلك من آثار.
       وبمجرد شروع الجمعية في حفر الموقع تمهيداً للبناء، على الرغم من كل تلك الإجراءات السابقة، فقد تم تحرير محضر "إثبات حالة" ضدها في قسم الشرطة المختصة.
       كما إنه بمجرد قيام الجمعية بإعلان عن بيع بعض وحدات العقار بالمزاد العلني، قامت هيئة الأوقاف المصرية بتوجيه إعلان تحذيري لجمهور المواطنين تحذرهم فيه من التعامل على أي وحدة من وحدات ذلك العقار، لوجود المنازعات المنوه عنها بذلك التحذير، وقامت هيئة الأوقاف المصرية بنشر ذلك الإعلان التحذيري – على نفقتها الخاصة – في جريدتين يوميتين واسعتي الانتشار في يومين مختلفين ليتحقق علم الكافة بذلك الإعلان، حرصاً من الهيئة على عدم وقوع أي مواطن في مشاكل قانونية مستقبلاً.
       ومن ثم، فإن هيئة الأوقاف المصرية لم تكن مقصرة ولم تألوا جهداً في الدفاع عن ملكية الوقف الخيري (الذي هو على ملك الله تعالى) واتخاذ كافة الإجراءات القانونية ضد جميع من استولى بدون وجه حق على تلك الأرض، وحذرت الكافة من الوقوع في أي مشاكل قانونية مستقبلاً، وحذرتهم من التعامل على تلك الوحدات لوجود نزاعات قانونية بشأنها.
       وإذا كان البعض يراهن على إطالة أمد التقاضي وتعدد وتفرع وتشعب المنازعات بشأن وقف/ محمد راتب باشا، فإنه من الجدير بالذكر في هذا المقام أنه نتيجة لوجود كل تلك المنازعات القضائية بشأن وقف/ محمد راتب باشا وقطعة الأرض المقام عليها العقار سالف الذكر، ونتيجة للشكاوى العديدة للجهات الإدارية والرقابية في الدولة، فقد امتنعت الجهة الإدارية المختصة عن توصيل المرافق إلى تلك العقارات، فحتى إذا قام المشترون بتسلم الوحدات المباعة لهم قبل الفصل في النزاعات القضائية المثارة حالياً، فإن هؤلاء المشترين لن يتمكنوا من الانتفاع بتلك الوحدات لامتناع الجهة الإدارية عن توصيل المرافق الأساسية إليها من مياه وكهرباء وصرف صحي وتليفونات وغاز وخلافه.
       علماً بأنه في حالة صدور الأحكام القضائية في المنازعات المثارة حالياً لصالح الأوقاف – وهو من المرجح بمشيئة الرحمن، وإن طال زمن التقاضي – فإن الأوقاف ستتملك قانوناً المباني المقامة على قطعة الأرض ملكها، وستتملك الأوقاف تلك العقارات بحسب قيمتها مستحقة الإزالة "أي كأنقاض" وليس كمباني قائمة أو دفع مبلغ يساوي ما زاد في ثمن الأرض بسبب هذه المنشآت "أيهما أقل"، وذلك كله طبقاً لأحكام التملك "بالالتصاق" المنصوص عليها في القانون المدني؛..  
حيث تنص الفقرة الأولى من المادة 924 من القانون المدني على أنه: "إذا أقام شخص بمواد من عنده منشآت على أرض يعلم أنها مملوكة لغيره دون رضاء صاحب الأرض كان لهذا أن يطلب إزالة المنشآت على نفقة من أقامه مع التعويض إن كان له وجه وذلك في ميعاد سنة من اليوم الذي يعلم فيه بإقامة المنشآت أو أن يطلب استيفاء المنشآت مقابل دفع قيمتها مستحقة الإزالة أو دفع مبلغ يساوى ما زاد في ثمن الأرض بسبب هذه المنشآت".
       كما تواتر قضاء محكمة النقض على أن: "مالك الشيء الأصلي هو الذي يملك الشيء التابع، فملكية الأرض يستتبعها ملكية ما يُقام على هذه الأرض من مبان بحكم الالتصاق، وبالتالي فإن ملكية البناء تطبيقاً لقواعد الالتصاق لا تؤول إلا لمن يملك الأرض المُقام عليها، وهذا الأمر هو ما أفصحت عنه المواد 923 ، 924 ، 925 من القانون المدني من النص بلفظ صريح على أن ما يقوم من بناء يكون لصاحب الأرض حتى لو تم ذلك برضائه وموافقته أو كان ترخيص البناء باسم من أقامه، وأن حُسن نية الباني في أرض لا يملكها ليس له من أثر في تملك البناء أو الأرض التي أُقيم عليها، وإنما ينحصر أثره في منع صاحب الأرض من طلب الإزالة تطبيقاً للمادة 924 من القانون المدني". (نقض مدني في الطعن رقم 2066 لسنة 53 قضائية – جلسة 20/5/1987).
ومن ثم، فمن المرجح أن تقوم الأوقاف – بعد تملك المباني المقامة على أرضها بالالتصاق – بطرح تلك الوحدات للبيع بالمزاد العلني لصاحب أعلى سعر، حيث إن بيوع الأوقاف لا تكون أساساً إلا بالمزاد العلني، أما المتعاملين مع غير هيئة الأوقاف المصرية فلا شأن لهم بالهيئة ولا بالوحدات التي تتملكها، وهم وشأنهم مع الجهات التي تعاملوا معها، لا سيما وإنهم قصروا في تقصي حقيقة العقار المبيع فلم يرجعوا إلى الجهات المختصة كالشهر العقاري والجهة مناحة الترخيص بالبناء أو حتى قسم الشرطة التابع له عين التداعي، أو لهيئة الأوقاف المصرية مالكة الأرض، أو حتى الشئون القانونية بالجمعية البائعة للاستفسار عن وجود أية منازعات بشأن تلك الوحدات من عدمه، وبالتالي فلا يحق لأي منهم توجيه أي لوم إلى هيئة الأوقاف المصرية التي أبرئت ذمتها في مواجهة الكافة، ومن يخالف ذلك التحذير – بعد كل ما سبق – فلا يلومن إلا نفسه.  
وجعلنا الله وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه،،،
اللهم هل بلغت، اللهم فأشهد. 

................... 


السيد الأستاذ المستشار القانوني لهيئة الأوقاف المصرية
تحية تقدير واحتراماً لسيادتكم
سبق وأن قامت هيئة الأوقاف المصرية بتحذير بعدم التعامل على الوحدات السكنية التابعة لجمعية الإسكان بشركة أسمنت حلوان على الأرض المملوكة لهيئة الأوقاف المصرية وعنوانها 25 شارع عزام بحلوان نظراً لأن الأرض مملوكة لهيئة الأوقاف (وقـــف/ محمد راتب باشا الخيري).
سيدي الفاضل المستشار القانوني لهيئة الأوقاف المصرية هناك عدة تساؤلات هامة أرجو من سيادتكم الإجابة عليها.  

س1 : ما هو الموقف القانوني لأعضاء الجمعية الذين قاموا بشراء وحدات سكنية فى هذا المبنى المخالف بدون علمهم بأن الأرض مملوكة لهيئة الأوقاف المصرية، أي أنهم حسني النية، حيث أن المبنى بدأ العمل فيه سنة 2009 فى حين أن تحذير الهيئة قد تم فى سنة 2011 ؟
الموقف القانوني لهؤلاء المشترين إنهم يشترون مباني مقامة من الغير على أرض مملوكة لجهة الوقف الخيري، فعقد شرائهم ينظم العلاقة بينهم كمشترين وبين الجمعية البائعة لهم، والالتزامات الناشئة عن هذه العقود التزامات شخصية فيما بين المشترين والجمعية، ولا شأن لهيئة الأوقاف المصرية بكل تلك الالتزامات، فهي مالكة الأرض، وستتملك المباني وفقاً لأحكام الالتصاق المنصوص عليها في القانون المدني، ومن المرجح أن تعلن عن بيع وحدات تلك العقار بالمزاد العلني، حيث إن بيوع الأوقاف لا تكون إلا بالمزاد العلني، ولا شأن لها ولا التزام عليها بأي شيء فيما يخص المشترين من الجمعية، فهم يشترون ملك الغير، وهذا التصرف لا ينفذ في مواجهة المالك الحقيقي. والزعم بحسن النية يستلزم إبداء قدر من الحرص والحيطة، حيث إن العقد المشهر الذي اشترت به الجمعية تلك الأرض ممن يدعى/ عماد سعد عبده (وهو المشهر رقم 2962 لسنة 2008 جنوب القاهرة، بتاريخ 14/9/2008 مكتب جنوب القاهرة - مأمورية حلوان) مقام بشأنه دعوى محو وشطب (بالدعوى رقم 10 لسنة 2009 مدني كلي جنوب القاهرة) وهي مقيدة ومتداولة منذ يناير 2009 بمجرد شهر العقد وقبل أن تضع الجمعية حتى لافتة على الأرض أو طوبة واحدة فيها. فإذا قامت الجمعية رغم كل تلك الدعاوى المثارة (ومنها دعوى إلغاء ترخيص البناء وغيرها) بالبناء على ملك الغير وهي تعلم بذلك، ثم قامت بالبيع للغير الذين لم يكلفوا أنفسهم مجرد الإطلاع في الشهر العقاري على بيانات عقد البيع المشهر الخاص بملكية الجمعية للأرض المقام عليها البناء، رغم التأشير بالدعاوى المحو والشطب المقامة بشأنها والنزاع الجلي على ملكية أرض التداعي، فهذا ما يطلق عليه "عدم الحرص والحيطة" ولا يطلق عليه "حسن نية".

س2 : إذا كانت الأرض موضوع النزاع بين  الهيئة وجمعية الإسكان بشركــــــــة الأسمنت (بورتلاند) بحلوان مملوكة لهيئة الأوقاف المصرية باعتبار الأرض وقف خيري (محمد راتب باشا)، فلماذا لم يتم فرض حراسه قضائية على الأرض محل النزاع أمام محكمة الأمور المستعجلة للحصول على حكم قضائي لمنع التعدي على هذه الأرض أي قبل بناء مساحه بما يقرب من 22 قيراط بعدد 11 طابق، فأين كانت هيئة الأوقاف من هذه المهزلة وتورط أعضاء الجمعية ومن المسئول عن هذه الكارثة من هيئة الأوقاف ؟ 
هيئة الأوقاف قامت بالطعن على قرار الجهة الإدارية بالترخيص بالبناء، وما زال الطعن متداول بالجلسات أمام محكمة القضاء الإداري، كما قامت برفع دعوى محو وشطب المشهر الخاص بالجمعية، وهناك أكثر من دعوى قضائية مثارة بشأن هذا الوقف وأعيانه منذ عام 1997 وما زالت متداولة بالجلسات حتى الآن، وهذه المهزلة (كما تسميها) المتسبب فيها بعض الأشخاص قاموا بتزوير أوراق رسمية تفيد انتسابهم للواقف وتصرفوا في تلك الأعيان لآخرين قاموا بدورهم ببيعها للجمعية التي قامت بالبناء على الأرض رغم إنذارها رسمياً وإقامة العديد من الدعاوى ضدها بشأن ملكية الأرض وعدم أحقيتها في البناء ولكنها بشببولكنها لم تبال وقامت بالتصرف فيها للغير الذين لم يتحروا الدقة والحيطة والحذر عند تعاملهم مع الجمعية.

س 3 : لماذا لم يتم إبلاغ الرقابة الإدارية عن قيام المسئولين بجمعية الإسكان بشركة أسمنت بورتلاند بحلوان بالبناء على الأرض المملوكة لهيئة الأوقاف المصرية وكذلك الموظف أيا كان درجته بالهيئة عن تورطه عندما علم بذلك البناء المكون من 11 طابق المقام سنة 2009 فى حين أن التحذير الخاص بالهيئة تم فى 2011 مما تسبب فى كارثة لا يعلمها إلا الله لأعضاء الجمعية حيث قاموا بدفع أكثر من ثلاثون مليون جنيه لشراء الوحدات السكنية ؟ .
الهيئة قامت بإبلاغ جميع الجهات الرقابية، التي قامت بتحرياتها وأصدرت تقارير اتهام بشأن العديد من الأشخاص وقدمتهم للمحاكمة الجنائية التي ما زالت متداولة حتى تاريخه. أما بالنسبة للجمعية فعندها عقد مشهر، ولكنه مقام بشأنه دعوى محوه وشطبه ومؤشر بذلك في سجلات ودفاتر الشهر العقاري وأي مشتري حريص سيعرف ذلك بمجرد الإطلاع على دفاتر الشهر العقاري. علماً بأن الدعاوى والمنازعات كلها مقامة قبل أن تضع الجمعية طوبة واحدة في الأرض، ولكنها مع ذلك لم تبال واستمرت في البناء والبيع للغير، دون انتظار كلمة القضاء في هذا الشأن، كما إن المشترين منها لم يكلف واحد منهم نفسه مغبة الذهاب إلى الشهر العقاري للإطلاع على بيانات العقد المشهر للجمعية البائعة له حيث سيجد بالتأشير الدعاوى المقامة بشأنه.

س4 : لماذا لم يتم إبلاغ النيابة العامة بواقعه جريمة البناء على ملك الغير وأيضا بيع ملك الغير للسادة الأعضاء ؟ .
تم إبلاغ النيابة العامة عن واقعة التزوير والبيع، كما تم إقامة العديد من الدعاوى القضائية بهذا الشأن، ونيابة الأموال العامة هي التي قررت تقديم المتسببين للمحاكمة الجنائية بتهمة تزوير أوراق رسمية واستعمال محررات مزورة والاستيلاء على المال العام (حيث يعد مال الوقف الخيري مال عاماً لا يجوز التعدي عليه ولا كسب ملكيته أو أي حق عيني عليه بالتقادم وفقاً للقانون). أما بالنسبة للجمعية فمعها عقد مشهر، ولكنه مقام بشأنه دعوى محو وشطبه لصدوره بناء على محررات مزورة محل نظر أمام المحكمة الجنائية.

س5 : إذا كانت الأرض محل النزاع مملوكة لهيئة الأوقاف المصرية فلماذا لم يتم عرض سندات الملكية أو صورته على الفيس بوك لكي تقطع الشك باليقين ويعرف أعضاء الجمعية من هو المالك لهذه الأرض حتى يتمكنوا من اتخاذ الإجراءات القانونية ضد جمعيه إسكان شركة اسمنت بورتلاند بحلوان ؟ .
مستندات الملكية لا تعرض على الإنترنت بل توثق في الشهر العقاري، وحجة الوقف المثبتة لملكية الوقف لأعيان التداعي مسجلة منذ عام 1907، أما عقد المشهر للجمعية فقد تم بناء على محررات مزورة ثبت تزويرها والأشخاص الذين قاموا بذلك قدمتهم نيابة الأموال العامة للمحاكمة وما زالت محاكمتهم متداولة حتى الآن.

س 6 : لماذا لم يتم إبلاغ حي حلوان بأن الأرض مملوكة لهيئة الأوقاف المصرية لكي يتخذوا الإجراءات القانونية ضد جمعية الإسكان بشركة بورتلاند بحلوان ؟
تم تقديم العديد من البلاغات والشكاوى وإقامة العديد من الدعاوى بهدف إلغاء ترخيص البناء الصادر للجمعية، وبالفعل قام الحي مؤخراً – بعد وضوح الرؤية لديه، ومعرفته بشأن المنازعات المتعلقة بالعقد المشهر للجمعية – بوقف الترخيص بتوصيل المرافق لذلك العقار، أي إنه لن يتم إدخال المرافق العمومية إليه سواء ماء أو صرف صحي أو كهرباء أو غاز أو تليفونات أو أي شيء.

نرجو من سيادتكم عنوان هيئة الأوقاف المصرية واسم المستشار القانوني ورقم تليفون المستشار القانوني حتى نتمكن من المقابلة الشخصية لتوضيح بعض الأمور .
ديوان عام هيئة الأوقاف المصرية كائن في العقار رقم 109 بشارع التحرير بميدان الدقي بمحافظة الجيزة، ويمكنكم مقابلة السيد اللواء/ رئيس مجلس إدارة هيئة الأوقاف المصرية (اللواء/ ماجد غالب) في الدور الثاني من العنوان المشار إليه، ومن المرجح إنه سيعمل على جمعكم مع مختلف المعنيين بالأمر من مستشارين قانونيين وغيرهم. وأرقام تليفونات الهيئة هي: 188 54 333 و 337 54 333 وفاكس رقم: 327 51 333 وموقع الهيئة على الإنترنت هو:
www.hyatelawqaf-eg.org

وتفضلوا بقبول فائق الاحترام،،،
مقدمه لسيادتكم
أحد أعضاء جمعيه الإسكان
شركة الاسمنت بورتلاند حلوان
الثلاثاء 28 يونيو 2011  الخامسة بعد الظهر

ولسيادتكم جزيل الشكر،،،
أشرف رشوان
المحامي بالنقض

الجمعة، 27 مايو 2011

أحكام وآداب الفتوى والإفتاء والاستفتاء في الفقه الإسلامي - للشيخ/ جاد الحق علي جاد الحق - مسائل شرعية في الفتوى والإفتاء: المعنى اللغوي للإفتاء - المعنى الشرعي للإفتاء - مكانة الإفتاء - حكم الإفتاء - من يتصدى للإفتاء فى الإسلام؟ - أهلية الإفتاء - آداب المفتي - آداب المستفتى - آداب الفتوى – الفرق بين الإفتاء والقضاء - متى تكون الفتوى ملزمة؟ - هل للقاضي أن يفتى؟ - ماذا لو رجع المفتى عن فتواه، أو تغير اجتهاده؟ - وإذا تغير اجتهاد المفتى فهل يلزمه إعلام المستفتى؟ - ماذا لو أخطأ المفتى؟ - المصادر التى يعتمد عليها المفتي والقاضي غير المجتهد - التحقق من الصلاحية للفتوى - قاعدة فيمن تجب طاعته ومن تجوز طاعته ومن لا تجوز طاعته - اختلف العلماء فى تقليد الحاكم المجتهد لمجتهد آخر .

هذا المقال (لفضيلة الشيخ/ جاد الحق علي جاد الحق عليه رحمه الله) يتناول الموضوعات التالية: المعنى اللغوي للإفتاء - المعنى الشرعي للإفتاء - مكانة الإفتاء - حكم الإفتاء - من يتصدى للإفتاء فى الإسلام؟ - أهلية الإفتاء - آداب المفتي - آداب المستفتى - آداب الفتوى – الفرق بين الإفتاء والقضاء - متى تكون الفتوى ملزمة؟ - هل للقاضي أن يفتى؟ - ماذا لو رجع المفتى عن فتواه، أو تغير اجتهاده؟ - وإذا تغير اجتهاد المفتى فهل يلزمه إعلام المستفتى؟ - ماذا لو أخطأ المفتى؟ - المصادر التى يعتمد عليها المفتي والقاضي غير المجتهد - التحقق من الصلاحية للفتوى - قاعدة فيمن تجب طاعته ومن تجوز طاعته ومن لا تجوز طاعته - اختلف العلماء فى تقليد الحاكم المجتهد لمجتهد آخر .


"الإفتاء"
لفضيلة الشيخ/ جاد الحق على جاد الحق (عليه رحمه الله)

المعنى اللغوي: فى لسان العرب: أفتاه فى الأمر أبانه له. وأفتى الرجل فى المسألة واستفتيته فيها فأفتانى إفتاء/ وأفتى المفتى إذا أحدث حكماً، وقوله تعالى { يستفتونك قل اللّه يفتيكم } النساء 176، أي يسألونك سؤال تعلم. والفُتيا بالياء وضم الفاء، والفتوى بالواو وضم الفاء، والفتوى بالواو وفتح الفاء ما أفتى به الفقيه.
وفى المصباح المنير: والفتوى بالواو، بفتح الفاء، وبالياء فتضم، اسم من أفتى العالم إذا بين الحكم، واستفتيه سألته أن يفتى، ويقال أصله من الفتى وهو الشاب القوى، والجمع الفتاوى بكسر الواو على الأصل، وقيل يجوز الفتح للتخفيف. ومن قبيل هذا قول اللّه تعالى { ويستفتونك فى النساء قل اللّه يفتيكم فيهن } النساء 127، وقوله { أفتونى فى رؤياى } يوسف 43، وقوله سبحانه { فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا } الصافات 11، وفى الحديث الشريف ( إن أربعة تفاتوا إليه عليه السلام ) أي طلبوا منه الفتوى. ومن هذا جاء الحديث الشريف أيضا ( الإثم ما حاك فى صدرك وإن أفتاك الناس وأفتوك ) أي وإن جعلوا لك فيه رخصة وأجازوه، وقد جاء هذا فى صحيح مسلم بلفظ ( والإثم ما حاك فى نفسك وكرهت أن يطّلع عليه الناس ). وفى مسند أحمد بلفظ ( والإثم ما حاك فى القلب وتردد فى الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك ).
معنى الإفتاء شرعاً: يؤخذ مما قال به علماء الفقه وأصوله أن الإفتاء بيان حكم اللّه تعالى بمقتضى الأدلة الشرعية على جهة العموم والشمول. وفى كتاب الموافقات للشاطبى(1) المفتى قائم فى الأمة مقام النبي صلى اللّه عليه وسلم لأن العلماء ورثة الأنبياء كما يدل عليه الحديث الشريف ( إن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم )(2) ولأن المفتى نائب فى تبليغ الأحكام ففي الأحاديث الشريفة ( ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب )(3) و ( بلغوا عنى ولو آية )(4) و ( تسمعون ويسمع منكم ويسمع ممن يسمع منكم )(5) وإذا كان كذلك فهو معنى كونه قائماً مقام النبي.
مكانة الإفتاء: جاء فى المجموع للإمام النووي شرح المهذب للشيرازي اعلم أن الإفتاء عظيم الخطر، كبير الموقع، كثير الفضل، لأن المفتى وارث الأنبياء صلوات اللّه وسلامه عليهم وقائم بفرض الكفاية لكنه معرض للخطأ(6) ولهذا قالوا المفتى موقع عن اللّه تعالى.
وفى الدر المختار للحصكفى وحاشيته رد المختار لابن عابدين: الفاسق(7) لا يصلح مفتياً لأن الفتوى من أمور الدين والفاسق لا يقبل قوله فى الديانات، ابن ملك، زاد العينى واختاره كثير من المتأخرين وجزم به صاحب المجمع فى متنه وهو قول الأئمة الثلاثة أيضا وظاهر ما فى التحرير أنه لا يحل استفتاؤه اتفاقا.
وفى كتاب الفروق للقرافى: قال مالك لا ينبغي للعالم أن يفتى حتى يراه الناس أهلا للفتوى ويرى هو نفسه أهلا لذلك(8)، يريد ظهور أهليته عند العلماء وثبوتها.
وهذه المعاني مرددة فى عامة كتب فقهاء المذاهب تحرجا من التسرع فى الفتوى وفى هذا قال ابن القيم فى "أعلام الموقعين": كان السلف من الصحابة والتابعين يكرهون التسرع فى الفتوى ويود كل واحد منهم أن يكفيه إياها غيره، فإذا رأى أنها قد تعينت عليه بذل اجتهاده فى معرفة حكمها من الكتاب والسنة أو قول الخلفاء الراشدين ثم أفتى(9).
حكم الإفتاء: تكاد نصوص(10) الفقهاء تتفق على أن تعليم الطالبين وإفتاء المستفتين فرض كفاية، فإن لم يكن وقت حدوث الواقعة المسئول عنها إلا واحد، تعين عليه، فإذا استفتى وليس فى الناحية غيره تعين عليه الجواب، فإن كان فيها غيره وحضر فالجواب فى حقهما فرض كفاية، وإن لم يحضر غيره وجهان: أصحهما لا يتعين والثاني يتعين.
أول من قام بالإفتاء كان هذا مقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقد كان يفتى بوحي من اللّه سبحانه، كما تشير إليه آيات القرآن الكريم، وقد كانت الفتوى ينزل بها القرآن أو يخبر بها صلوات اللّه عليه وسلامه بجوامع كلمه مشتملة على فصل الخطاب، وهذه الأخيرة من السنة الشريفة فى المرتبة الثانية من كتاب اللّه تعالى، ما لم تنقل متواترة ليس لأحد من المسلمين العدول عن العمل بها أو القعود عن إتباعها، بل على كل مسلم الأخذ بها متى صحت امتثالا لقوله تعالى { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } الحشر 7، وقوله { فإن تنازعتم فى شيء فردوه إلى اللّه والرسول إن كنتم تؤمنون باللّه واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } النساء 59، ومن بعده - صلى اللّه عليه وسلم - قام بالفتوى الفقهاء من الصحابة والتابعين، وقد أورد ابن حزم(11) رحمه اللّه تعالى، أسماء عدد كثير من الصحابة والتابعين الذين تصدوا للإفتاء، منسوبين إلى البلاد التى أفتوا فيها. وأفاض فى تعداد المفتين من الصحابة والتابعين رضوان اللّه عليهم أجمعين العلامة ابن القيم فى كتابه أعلام الموقعين(12) مبيناً أصول فتاوى الإمام أحمد بن حنبل رحمه اللّه تعالى مقارنة بما لدى الأئمة الآخرين من أصول فى هذا الموضع.
من يتصدى للإفتاء فى الإسلام؟: إن أمر الدين خطير وعظيم، من أجل هذا حَرَّم اللّه القول فيه بغير علم، بل وجعله فى المرتبة العليا من التحريم، ذلك - واللّه أعلم - قوله سبحانه { قل إنما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا باللّه ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على اللّه ما لا تعلمون } الأعراف 33، وذلك أيضا - واللّه أعلم - قوله تعالى { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على اللّه الكذب إن الذين يفترون على اللّه الكذب لا يفلحون } النحل 116، ففي الآية الأولى رتب اللّه الحكيم فى تشريعه المحرمات بادئاً بأخفها الفواحش ثم مبيناً ما هو أشد الإثم والظلم - ثم بكبيرها { وأن تقولوا على اللّه ما لا تعلمون } وهذا عام فى القول فى ذات اللّه وصفاته ودينه وتشريعه. وفى الآية الأخرى أبان اللّه سبحانه أنه لا يجوز للمسلم أن يقول هذا حرام وهذا حلال، إلا إذا علم أن اللّه سبحانه وتعالى حرمه أو أحله. وقد نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى الحديث الصحيح أميره (بريدة) أن ينزل عدوه إذا حاصرهم على حكم اللّه وقال (فإنك لا تدرى أتصيب حكم اللّه فيهم أم لا ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك ) وفى سنن أبى داود من حديث مسلم بن يسار قال سمعت أبا هريرة يقول قال رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - (من قال على ما لم أقل فليتبوأ بيتا فى جهنم، ومن أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتاه، ومن أشار على أخيه بأمر يعلم الرشد فى غيره فقد خانه ) ومن هذا نعلم خطر الفتوى بدون علم، لأن الفتوى تعتبر شريعة عامة تشيع بين الناس فتعم المستفتى وغيره، فوجب الالتزام بالإفتاء بنصوص الشريعة والتوقف إذا عز البيان. ولقد كان من ورع الأئمة المجتهدين إطلاق لفظ الكراهة على ما يرونه محرماً تحرزا من القول بالتحريم الظاهر فى أمر لم يقطع به نص شرعي وخروجاً من مظنة الدخول فى نطاق قول اللّه سبحانه { قل أرأيتم ما أنزل اللّه لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آللّه أذن لكم أم على اللّه تفترون } يونس 59، الحلال ما أحله اللّه ورسوله، والحرام ما حرمه اللّه ورسوله(13).
ومن ثم كان حتما أن تتوافر فيمن يتصدى للإفتاء الأهلية التامة، وقد اختلفت كلمة فقهاء المذاهب فى مدى الأهلية للإفتاء:
ففي الفقه الحنفي: أنه لا يفتى إلا المجتهد(14)، فقد استقر رأى الأصوليين على أن المفتى هو المجتهد فأما غير المجتهد ممن حفظ أو يحفظ أقوال المجتهدين فالواجب عليه إذا سئل أن ينسب القول الذى يفتى به لقائله على جهة الحكاية عنه، وطريق نقل أقوال المجتهدين أحد أمرين: الأول- أن ينقله من أحد الكتب المعروفة المتداولة نحو كتب محمد بن الحسن وأمثالها من التصانيف المشهورة، لأنه وقتئذ بمنزلة الخبر المتواتر والمشهور. الثاني- أن يكون له سند فيه بأن تلقاه رواية عن شيوخه.
وفى الفقه المالكي: قال ابن رشد فى صفة المفتى إن الجماعة التى تنسب إلى العلوم وتتميز عن جملة العوام بالحفظ والفهم ثلاث طوائف(15):
الأولى- طائفة تبعت مذهب مالك تقليداً بغير دليل، فحفظت مجرد أقواله وأقوال أصحابه فى مسائل الفقه دون التفقه فيها للتعرف على صحيحها والبعد عن سقيمها.
الثانية- طائفة تبعت المذهب لما بان لها من صحة الأصول التى انبنى عليها وحفظت أقوال إمامه وأقوال أصحابه فى مسائل الفقه وفقهت معانيها وعلمت صحيحها وسقيمها ولكنها لم تبلغ درجة معرفة قياس الفروع على الأصول.
الثالثة- طائفة تبعت المذهب لما انكشف لها صحة أصوله لكونها عالمة بأحكام القرآن والسنة عارفة بالناسخ والمنسوخ والمفصل والمجمل والعام والخاص والمطلق والمقيد، جامعة لأقوال العلماء من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار، حافظة لما كان موضع وفاق وما جرى فيه الخلاف.
ولا تجوز الفتوى للطائفة الأولى وإن كان لها العمل بما علمت، وللطائفة الثانية أن تفتى بما علمته صحيحاً من قول إمام المذهب وغيره من فقهائه، أما الطائفة الثالثة فهي الأهل للفتوى عموماً.
وفى الفقه الشافعي: أن المفتين قسمان: مستقل، وغير مستقل(16).
القسم الأول- المفتى المستقل، وشرطه معرفة أدلة الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وما يشترط فى هذه الأدلة ووجوه دلالتها واستنباط الأحكام منها على ما هو مفصل فى علم أصول الفقه، واشتراط حفظ مسائل الفقه إنما هو فى المفتى الذى يتأدى به فرض الكفاية ولا يشترط هذا فى المستقل المجتهد.
القسم الثاني- المفتى غير المستقل، وهو المنتسب لأحد المذاهب تكون فتواه نقلاً لقول إمام المذهب أو أحد أصحابه المجتهدين، ويتأدى به فرض الكفاية، وله أن يفتي بما لا نص فيه لإمامه تخريجاً على أصوله إذا توافرت فيه شروط التخريج، وجملتها علمه بفقه المذهب وأصوله وأدلته تفصيلاً ووجوه القياس، أما من يحفظ مسائل فقه المذهب دون بصر بالأدلة والأقيسة، فهذا لا تجوز له الفتوى إلا بما يجده منقولاً عن إمامه وتفريعات المجتهدين فى المذهب، وما لا يوجد منقولاً ويندرج تحت قاعدة عامة من قواعد المذهب، أو يلتحق بفرع من فروعه ظاهر المأخذ، جازت له الفتوى وإلا أمسك عنها.
وفى فقه مذهب الإمام أحمد بن حنبل(17): أن المجتهد الظان بالحكم لا يقلد غيره، وأن العامي المحض يقلد غيره وأن من توافرت لديه أهلية الاجتهاد ولكنه لم يجتهد مختلف فيه، والأظهر أنه لا يقلد، ويلحق به من اجتهد بالفعل ولم يظن الحكم، لتعارض الأدلة أو غيره، أما المتمكن فى بعض الأحكام دون البعض فالأشبه أنه يقلد لأنه عامي من وجه ويحتمل أن لا يقلد لأنه مجتهد من وجه.
وفى أعلام الموقعين لابن القيم(18) ولما كان التبليغ عن اللّه سبحانه يعتمد العلم بما يبلغ والصدق فيه لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق، فيكون عالماً بما يبلغ صادقاً فيه ويكون مع ذلك حسن الطريقة مرضى السيرة عدلاً فى أقواله وأعماله متشابه السر والعلانية فى مدخله ومخرجه وأحواله وأن يعلم قدر المقام الذى أقيم فيه، ولا يكون فى صدره حرج من قول الحق والصدع به فإن اللّه ناصره وهاديه.
آداب المفتي: فى الفقه الحنفي(19): أن الإفتاء فيما لم يقع غير واجب وأنه يحرم التساهل فى الفتوى وإتباع الميل ولا ينبغي الإفتاء إلا لمن عرف أقاويل العلماء وعرف من أين قالوا فإن كان فى المسألة خلاف لا يختار قولاً يجيب به حتى يعرف حجته، والفتوى جائزة من كل مسلم بالغ عاقل حافظ للروايات واقف على الدرايات محافظ على الطاعات مجانب للشهوات والشبهات سواء كان من توافر فيه كل هذا رجلا أو امرأة، شيخاً أو شاباً.
وقد أفصح فقهاء المالكية(20) والشافعية(21) والحنابلة(22) عن آداب المفتى بما يقرب من هذه المعاني.
ولقد أفاض ابن القيم(23) فى بيان آداب الفتوى فأورد فوائد جمة للمفتى والمستفتى يحسن بكل من يتصدى للإفتاء فى دين اللّه وشرعه أن يحصلها.
وقد روى عن الإمام أحمد بن حنبل(24) قوله: لا ينبغي أن يجيب المفتى فى كل ما يستفتى فيه، ولا ينبغي للرجل أن يعرض نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال:
إحداها- أن يكون له نية، أي أن يخلص فى ذلك للّه تعالى ولا يقصد رياسة أو نحوها.
والثانية- أن يكون على علم وحلم ووقار وسكينة وإلا لم يتمكن من بيان الأحكام الشرعية.
الثالثة- أن يكون قوياً على ما هو فيه وعلى معرفته.
الرابعة- الكفاية وإلا أبغضه الناس، فإنه إذا لم يكن له كفاية احتاج إلى الناس وإلى الأخذ مما فى أيديهم فيتضررون منه.
الخامسة- معرفة الناس، أي أنه يجب عليه أن يعرف نفسية المستفتى وأن يكون ذا بصيرة نافذة يدرك بها أثر فتواه وانتشارها بين الناس.
ولقد أبرز الإمام الشاطبي(25) ما ينبغي أن يكون عليه المفتى باعتباره هادياً ومرشداً وأن فتواه مدار لإصلاح الناس فقال:
"المفتى البالغ ذروة الدرجة هو الذى يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهب الشدة ولا يميل بهم إلى طرق الانحلال. والدليل على صحة هذا أنه الصراط المستقيم الذى جاءت به الشريعة لأن مقصد الشارع من المكلف الحمل على التوسط من غير إفراط ولا تفريط ثم أورد الأدلة على هذا المذهب من سنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأضاف أن الميل إلى الرخص فى الفتوى بإطلاق يكون مضاداً للمشي على التوسط كما أن الميل إلى التشديد مضاد له أيضا. ومن ثم كان على المفتى أن يعالج حال الناس بالرخص التى سهل اللّه بها لعباده كإباحة المحظورات عند الضرورات، فإذا أدت العزيمة إلى الضيق كانت الرخصة أحب إلى اللّه من العزيمة { يريد اللّه بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } البقرة 185، { وما جعل عليكم فى الدين من حرج } الحج 78، والذي يحذره المفتى أن يتحرى الفتوى بالقول الذى يوافق هوى المستفتى، لأن إتباع الهوى ليس من المشقات التى يترخص بسببها، والخلاف بين المجتهدين رحمة، والشريعة حمل على الوسط لا على مطلق التخفيف ولا على مطلق التشديد".
ثم قال الشاطبي: "إذا ثبت أن الحمل على التوسط هو الموافق لقصد الشارع وهو الذى كان عليه السلف الصالح، فلينظر المقلد أي مذهب كان أجرى على هذا الطريق، فهو أخلق بالإتباع وأولى بالاعتبار، وإن كانت المذاهب كلها طرقاً إلى اللّه ولكن الترجيح فيها لابد منه لأنه أبعد من إتباع الهوى. هذا فإذا كان المفتى لم تتوافر لديه أدوات الاجتهاد وشروطه فهل له أن يتخير من أقوال فقهاء المذاهب ما يكون أيسر للناس لا نزاع فى أن المفتى إذا استطاع أن يميز بين الأدلة ويختار من فقه المذاهب المنقولة نقلاً صحيحاً على أساس الاستدلال كان له أن يتخير فى فتواه ما يراه مناسباً، ولكن عليه أن يلتزم فى هذا بأربعة قيود(26) :
الأول- ألا يختار قولاً ضعف سنده.
الثاني- أن يختار ما فيه صلاح أمور الناس والسير بهم فى الطريق الوسط دون إفراط أو تفريط.
الثالث- أن يكون حسن القصد فيما يختار مبتغياً به رضا اللّه سبحانه متقياً غضبه، وغير مبتغ إرضاء حاكم أو هوى مستفت.
الرابع- ألا يفتى بقولين معاً على التخيير مخافة أن يحدث قولاً ثالثاً لم يقل به أحد".
ولا تجوز(27) الفتوى فى علم الكلام، بل ينهى عنها، ولا يجوز للمفتي أن يفتي فيما يتعلق باللفظ كالطلاق والأيمان والأقارير بما اعتاده هو من فهم تلك الألفاظ أو بمعناها لغة وإنما عليه أن يتعرف عرف أهلها والمتكلمين بها ويحملها على ما اعتادوه وعرفوه، وإن كان الذى اعتادوه مخالفاً لحقائق هذه الألفاظ اللغوية، لأن الأيمان وأمثالها مبناها العرف، بمعنى أن ما تعارف عليه الناس من معنى اللفظ مقدم على حقيقته المهجورة.
وحقيق بالمفتى أن يكثر الدعاء بالحديث الصحيح ( اللّهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون. اهدني لما اختلفت فيه من الحق بإذنك إنك تهدى من تشاء إلى صراط مستقيم ) ويقول إذا أشكل عليه شيء يا معلم إبراهيم علمني. للخبر الوارد فى ذلك.
آداب المستفتى: قال الإمام الشاطبي فى الموافقات(28): إن السائل لا يصح له أن يسأل من لا يُعتبر فى الشريعة جوابه لأنه إسناد أمر إلى غير أهله والإجماع على عدم صحة مثل هذا لأن السائل إذا سأل من ليس أهلاً لما سئل عنه فكأنما يقول له أخبرني عما لا تدري وأنا أسند أمري لك فيما نحن بالجهل فيه سواء. ويؤخذ من هذا أن المسلم إذا جهل أمراً من أمور دينه وجب عليه أن يسأل من هو أهل لإفادته وأن يتحرى ذلك كالمريض الذى يبحث عن الطبيب المتخصص فيما ألم به، ونحن نرى فى واقعنا كيف يجهد الإنسان نفسه وغيره من المحيطين به فى السؤال والتقصي عن طبيب اشتهر فى علاج داء من الأدواء الجسدية أو النفسية فأولى تصحيحاً لالتزاماتنا الدينية ألا نلجأ فى الاستفتاء فى أمور الدين إلا لأهل الذكر فيها امتثالاً لقول اللّه تعالى تعليما وتوجيها { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } الأنبياء 7.
ويجب على السائل أن يتجه بسؤاله عن المفيد فى أمر التكليف فى دينه يرشدنا إلى هذا قول اللّه تعالى { يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج } البقرة 189، فالسؤال فى هذه الآية كان مقصوداً به بيان حالات الهلال كيف يولد ولم يبد فى أول الشهر دقيقاً كالخيط ثم يتسع ويكبر بمضي الأيام حتى يصير بدراً ثم يعود إلى حالته الأولى ولكن الجواب فى الآية كان صارفاً للسائلين عن هذا القصد موجهاً لهم إلى ما ينبغي السؤال عنه وهو ما يتعلق بالهلال من أحكام شرعية ومواقيت وهذا من الأسلوب الحكيم الذى أريد به توجيه السائل إلى ما هو الأليق بحاله فى السؤال بتوجيه الفكر إلى ثمرة من ثمرات طريق سير الهلال فى مجراه بدلا من الدخول فى مناقشات قد لا يفهمها السائل بل ويعسر فهمها على الكثيرين. ومن هذا القبيل جواب الرسول - صلى اللّه عليه وسلم - لسائله عن الساعة أي القيامة بقوله - ماذا أعددت لها إذا صرفه هذا الجواب إلى ما ينبغي عمله والاستعداد به.
آداب الفتوى: تحدث الفقهاء عن هذه الآداب فى نواحي شتى يدور أكثرها على طريقة تفهم السؤال والإجابة عليه، وحفظ الترتيب والعدل بين المستفتين فلا يميل إلى الأغنياء وذوى النفوذ ويقدم أجوبتهم على الفقراء ولا يجوز الإفتاء بقول مهجور جدا لمنفعة يرجوها، ويلزم المُفتي أن يبين الجواب بياناً يزيل الالتباس، وليكتب بخط واضح بعبارة واضحة صحيحة تفهمها العامة ولا يزدريها الخاصة، وعليه أن يعيد النظر فيما كتب للاستيثاق من صحته وسلامته وعدم إخلاله ببعض المسئول عنه، واستحسن الفقهاء كذلك للمفتي أن يبدأ فتاويه بالدعاء ببعض الأدعية المأثورة طلباً للتوفيق من اللّه سبحانه وأن يختصر جوابه ويكون بحيث تفهمه العامة، ولا يميل مع المستفتى أو مع خصمه، ولا يفتى فيما تدفع به الدعاوى، وينبغي للمفتى إذا رأى للسائل طريقاً يرشده إليه أن ينبهه عليه ما لم يضر غيره ضرراً دون حق، كمن حلف لا ينفق على زوجته يفتى بأن يعطيها قرضاً أو بيعاً ثم يبريها، وكما حكى أن رجلاً قال لأبى حنيفة رحمه اللّه حلفت أن أطأ امرأتي فى نهار رمضان ولا أكفر ولا أقضى فقال سافر بها. ولا يسوغ لمفت إذا استفتى أن يتعرض لجواب غيره برد ولا تخطئة ويجيب بما عنده من موافقة أو مخالفة، وليس بمنكر أن يذكر المفتى فى فتواه الحجة إذا كانت نصاً واضحاً مختصراً لاسيما إذا أفتى فقيهاً، أما إذا أفتى عامياً فلا يذكر الحجة، والأولى أن يبين فى المسائل الخلافية سند ومصدر القول الذى أفتى به(29).
الإفتاء والقضاء: المفتى مخبر عن الحكم للمستفتي، والقاضي ملزم بالحكم وله حق الحبس والتعزيز عند عدم الامتثال كما أن له إقامة الحدود والقصاص(30). وفى الفقه المالكي(31) قاعدة الفتوى وقاعدة الحكم وإن كان كل منهما خبراً عن اللّه تعالى ويجب على السامع اعتقاد ذلك ويلزم المكلف. إلا أن بينهما فرقا من وجهين:
الأول- أن الفتوى محض إخبار عن اللّه تعالى فى إلزام أو إباحة، أما الحكم فإخبار مآله الإنشاء والإلزام، فالمفتى - مع اللّه تعالى - كالمترجم مع القاضي ينقل عنه ما وجده عنده وما استفاده من النصوص الشرعية بعبارة أو إشارة أو فعل أو تقرير أو ترك، والحاكم ( القاضي ) - مع اللّه تعالى - كنائب ينفذ ويمضى ما قضى به - موافقاً للقواعد - بين الخصوم.
والوجه الثاني- أن كل ما يتأتى فيه الحكم تتأتى فيه الفتوى ولا عكس. ذلك أن العبارات كلها لا يدخلها الحكم (القضاء)، وإنما تدخلها الفتيا فقط، فلا يدخل تحت القضاء الحكم بصحة الصلاة أو بطلانها وكذلك أسباب العبادات كمواقيت الصلاة ودخول شهر رمضان وغير هذا من أسباب الأضاحي والكفارات والنذور والعقيقة لأن القول فى كل ذلك من باب الفتوى وإن حكم فيها القاضي ومن ثم كانت الأحكام الشرعية قسمين:
الأول- ما يقبل حكم الحاكم مع الفتوى فيجتمع الحكمان كمسائل المعاملات من البيوع والرهون والإيجارات والوصايا والأوقاف والزواج والطلاق.
الثاني- ما لا يقبل إلا الفتوى كالعبادات وأسبابها وشروطها وموانعها.
وتفارق الفتوى القضاء فى أن هذا الأخير إنما يقع فى خصومة يستمع فيها القاضي إلى أقوال المدعى والمدعى عليه ويفحص الأدلة التى تقام من بينة وإقرار وقرائن ويمين، أما الفتوى فليس فيها كل ذلك وإنما هي واقعة يبتغى صاحبها الوقوف على حكمها من واقع مصادر الأحكام الشرعية.
ويختلف المفتى والقاضي عن الفقيه المطلق بأن القضاء والفتوى أخص من العلم بالفقه لأن هذا أمر كلى يصدق على جزئيات أو قواعد متنوعة وبعبارة أخرى فإن عمل المفتى والقاضي تطبيقي وعمل الفقيه تأصيل لقاعدة أو تفريع على أصل مقرر.
هذا ولا تختلف كلمة المذاهب الأخرى عما تقدم فى هذا الموضع(32).
متى تكون الفتوى ملزمة؟: تقدم القول إن الفتوى مجرد بيان حكم الشرع فى الواقعة المسئول عنها وبهذا ليس فيها أو لها قوة الإلزام ومع هذا تكون ملزمة للمستفتي فى الوجوه التالية:
الأول- التزام المستفتى العمل بالفتوى.
الثاني- شروعه فى تنفيذ الحكم الذى كشفته الفتوى.
الثالث- إذا اطمأن قلبه إلى صحة الفتوى والوثوق بها لزمته.
الرابع- إذا قصر جهده على الوقوف على حكم الواقعة ولم يجد سوى مفت واحد لزمه الأخذ بفتياه، أما إذا وجد مفتياً آخر فإن توافقت فتواهما لزم العمل بها وإن اختلفتا فإن استبان له الحق فى إحداهما لزمه العمل بها وإن لم يستبن له الصواب ولم يتيسر له الاستيثاق بمفت آخر كان عليه أن يعمل بقول المفتى الذى تطمئن إليه نفسه فى دينه وعلمه لقول الرسول صلى اللّه عليه وسلم ( استفت نفسك وإن أفتاك الناس وأفتوك )(33).
هل للقاضي أن يفتى؟: اختلفت أقوال الفقهاء فى هذا الموطن.
ففي الفقه الحنفي: يفتى القاضي ولو فى مجلس القضاء من لم يخاصم إليه هذا هو الصحيح.  قال ابن عابدين، وفى الظهيرية: ولا بأس للقاضي أن يفتى من لم يخاصم إليه ولا يفتي أحد الخصوم فيما خوصم إليه فيه.  فى "الخلاصة": القاضي هل يفتى؟: فيه أقاويل والصحيح لا بأس به فى مجلس القضاء وغيره من الديانات والمعاملات.  وفى "كافي الحاكم" أكره للقاضي أن يفتى فى القضاء للخصوم كراهة أن يعلم خصمه قوله فيحترز منه بالباطل.  وفى "معين الحكام": لا يفتى القاضي فى مسائل الخصومات لأهل بلده لئلا يحترز الخصم بالباطل وأما إلى غيره فلا بأس.
وفى الفقه الشافعي(34): نقل الخطيب:أن القاضي كغيره فى الفتيا بلا كراهة هذا هو الصحيح المشهور من مذهبنا.وفى "تعاليق الشيخ أبى حامد": أن له الفتوى فى العبادات ومالا يتعلق بالقضاء، أما ما يتعلق بالقضاء فوجهان لأصحابنا:
أحدهما- ليس له أن يفتى فى مسائل الأحكام، لأن لكلام الناس عليه مجالا ولأحد الخصمين عليه مقالا.
والثاني- للأصحاب أيضا: للقاضي أن يُفتى فى مسائل الأحكام كغيرها لأنه أهل لها. وقال ابن المنذر: تكره الفتوى فى مسائل الأحكام الشرعية. وقال "شريح": أنا أقضي ولا أفتي(35).
وفى الفقه الأباضى(36): ويكره للقاضي أن يفتي فى الأحكام إذا سئل عنها وإن أفتى فى أمور الدين جاز. وعن عمر أنه كتب إلى شريح: لا تسارر إلا أحد فى مجلسك ولا تبع ولا تتبع ولا تفت فى مسألة من الأحكام ولا تضر ولا تضار. وقال العاصمى: ومنع الإفتاء للحكام فى كل ما يرجع للخصام. وأجيز الإفتاء فى مسألة عامة لا فى خصومة معينة. ولعله وضح من هذا أن من كرهوا للقاضي الإفتاء فيما تثور فيه الخصومات أمامه أقوى حجة وأولى بالإتباع لأنه يبتعد بالقاضي عن مظان التهم ويضمن حياده بين الخصوم.
ماذا لو رجع المفتى عن فتواه، أو تغير اجتهاده؟: قال ابن القيم إذا أفتى المفتى بشيء ثم رجع عنه فإن علم المستفتي برجوعه ولم يكن عمل بالأول فقيل يحرم العمل به، وقيل إنه لا يحرم عليه الأول بمجرد رجوع المفتى، بل يتوقف المستفتي حتى يسأل غير المفتي، فإن أفتاه بما يوافق الأول استمر على العمل به وإن أفتاه برأي آخر ولم يفته أحد بما يخالف الأخير حرم عليه العمل بالأول، وإن لم يكن فى البلد إلا مفت واحد، سأله عن رجوعه عما أفتاه به، فإن كان رجوعه إلى اختيار قول آخر مع تسويغه الأول لم يحرم عليه، وإن كان رجوعه لخطأ بان له وأن ما أفتاه به لم يكن صواباً حرم عليه العمل بالأول إذا كان رجوعه لمخالفة دليل شرعي، أما إذا كان رجوعه لمجرد أنه بان له أن ما أفتى به خلاف مذهبه لم يحرم على المستفتى العمل بالفتوى الأولى، إلا أن تكون المسألة إجماعية، فلو تزوج المستفتى بالفتوى ودخل بالزوجة ثم رجع المفتى لم يحرم عليه إمساك امرأته إلا بدليل شرعي يقتضى تحريمها ولا يجب عليه مفارقتها بمجرد رجوعه ولا سيما إذا كان الرجوع لما تبين له من مخالفة مذهبه وإن وافق مذهب غيره.
وإذا تغير اجتهاد المفتى فهل يلزمه إعلام المستفتى؟: اختلف فى ذلك، فقيل لا يلزمه لأنه عمل أولا بما يسوغ له، فإذا لم يعلم ببطلانه لم يكن آثما فهو فى سعة من استمراره، وقيل بل يلزمه إعلامه، لأن ما رجع عنه قد اعتقد بطلانه وبان له أن ما أفتاه به ليس من الدين فيجب عليه إعلامه، والصواب التفصيل: فإن كان المفتى ظهر له الخطأ قطعاً لكونه خالف نص الكتاب أو السنة التى لا معارض لها أو خالف إجماع الأمة فعليه إعلام المستفتى، وإن كان إنما ظهر له أنه خالف مجرد مذهبه أو نص إمامه لم يجب عليه إعلام المستفتى(37).
ماذا لو أخطأ المفتى؟: فى أعلام الموقعين لابن القيم(38): خطأ المفتي كخطأ الحاكم (القاضي) والشاهد.
وقد اختلفت الرواية فى خطأ الحاكم فى النفس أو الطرف. فعن الإمام أحمد فى ذلك روايتان:
أحدهما- أنه فى بيت المال لأنه يكثر منه ذلك الحكم، فلو حملته العاقلة لكان ذلك إضرارا عظيماً بهم.
والثانية- أنه على عاقلته كما لو كان الخطأ بسبب غير الحاكم.
أما خطؤه فى المال: فإذا حكم بحق ثم بان كفر الشهود أو فسقهم نقض حكمه، ثم رجع المحكوم عليه ببدل المال على المحكوم له. وكذلك إذا كان الحكم بقود رجع أولياء المقتول ببدله على المحكوم له وإذا كان الحكم بحق للّه بإتلاف مباشر أو بالسراية ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها- أن الضمان على المزكين لأن الحكم إنما وجب بتزكيتهم.
والثاني- يضمنه الحاكم لأنه لم يثبت، بل فرط فى المبادرة إلى الحكم وترك البحث والاستقصاء.
والثالث- أن للمستحق تضمينين أيهما شاء.
وعن أحمد رواية أخرى: أنه لا ينقض بفسق الشهود، وعلى هذا إذا استفتى الإمام أو الوالي مفتيا فأفتاه ثم بان له خطؤه فحكم المفتى مع الإمام حكم المزكين مع الحاكم ( القاضي ).
وإن عمل المستفتى بفتواه من غير حاكم ولا إمام فأتلف نفساً أو مالاً، فإن كان المفتى أهلاً فلا ضمان عليه والضمان على المستفتى، وإن لم يكن أهلاً فعليه الضمان لقول النبي - صلى اللّه عليه وسلم - ( من تطبب ولم يعرف منه طب فهو ضامن ) وهذا يدل على أنه إذا عرف منه طب وأخطأ لم يضمن، والمفتي أولى بعدم الضمان من الحاكم والإمام.
وفى الفقه الحنفي(39): أن خطأ القاضي تارة يكون فى بيت المال، وهو إذا أخطأ فى حد ترتب عليه تلف نفس أو عضو، وتارة يكون فى مال المقضي له وهذا إذا أخطأ فى قضائه فى الأموال، وتارة يكون هدراً وهو إذا أخطأ فى حد ولم يترتب على ذلك تلف نفس أو عضو كحد الشرب مثلا، وتارة يكون فى مال القاضي وهو ما إذا تعمد الجور.
ولقد نص الفقه المالكي(39): على أن القاضي لو علم بكذب الشهود فحكم بالجور وأراق الدماء كان حكمه حكم الشهود إذا لم يباشر القتل بنفسه، بل أمر به من تلزمه طاعته، وفى "المدونة": إن أقر القاضي أنه رجم أو قطع الأيدي أو جلد تعمداً للجور أقيد منه، وهو ظاهر فى أن القود يلزم القاضي وإن لم يباشر، ومن هذا النص وغيره مما ساقه فقهاء المالكية يتضح أن حكم الشاهد فى الرجوع عن الشهادة يسرى على القاضي والمفتى بالبيان السابق نقله عن ابن القيم.
وقد جرى الفقه الشافعي(40): فى بيان حكم خطأ القاضي والمفتى والشهود على نحو ما ردده فقهاء المذاهب الثلاثة فيما سبق.
ويخلص مما تقدم أن خطأ المفتى والقاضي يكون ضمانه فى بيت المال إذا ثبت أنهما جدا واجتهدا فى الفحص واستقصاء الوقائع والأدلة ولم يقصرا فى البحث بمقارنة الحجج والبيانات والتعرف على عدالة الشهود واستظهار دلالة الشهادة، ثم الوصول إلى الحكم الشرعي فى الواقعة. أما إذا ثبت تقصير المفتى أو القاضي وقعوده عن التقصي فيما هو مطروح أمامه كان ضامناً لما أفسده بفتواه أو قضائه، لاسيما إذا كان المفتي غير أهل للفتيا، كما تقدم.
المصادر التى يعتمد عليها المفتي والقاضي غير المجتهد: قال الشيخ عز الدين(41) بن عبد السلام: وأما الاعتماد على كتب الفقه الصحيحة الموثوق بها فقد اتفق العلماء فى هذا العصر على جواز الاعتماد عليها لأن الثقة قد حصلت فيها، كما تحصل بالرواية، ولذلك فقد اعتمد الناس على الكتب المشهورة فى النحو واللغة والطب وسائر العلوم لحصول الثقة وبُعد التدليس، ومن اعتقد أن الناس قد اتفقوا على الخطأ فى ذلك فهو أولى بالخطأ منهم، ولولا جواز ذلك لتعطل كثير من المصالح.
ومثل هذا ذكره القرافى(42) فى كتابه "الأحكام فى تمييز الفتيا عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام" قال: كان الأصل يقتضى ألا تجوز الفتيا إلا بما يرويه العدل عن المجتهد الذى يقلده المفتى حتى يصح ذلك عند المفتى كما تصح الأحاديث عند المجتهد، لأنه نقل فى دين اللّه فى الموضعين، وعلى هذا كان ينبغي أن يحرم غير ذلك غير أن الناس توسعوا فى هذا العصر، فصاروا يفتون من كتب يطالعونها من غير رواية وهو خطر عظيم فى الدين وخروج عن القواعد، غير أن الكتب المشهورة لأجل شهرتها بعدت بُعداً شديداً عن التحريف والتزوير فاعتمد الناس عليها اعتماداً على ظاهر الحال.
ونقل المواق فى "التاج والإكليل"(43) قول ابن عبد السلام: مواد الاجتهاد فى زماننا أيسر منها فى زمن المتقدمين لو أراد اللّه بنا الهداية.
وقال الكمال بن الهمام الحنفي(44): إن طريق النقل عن المجتهد أحد أمرين إما أن يكون له سند فيه أو يأخذه عن كتاب معروف تداولته الأيدي نحو كتب محمد بن الحسن لأنه بمنزلة الخبر المتواتر أو المشهور وبمثل هذا قال ابن نجيم المصري الحنفي فى كتابه "البحر الرائق شرح كنز الدقائق"(45) وقد تقدم.
التحقق من الصلاحية للفتوى: روى الخطيب(46) أبو بكر الحافظ البغدادي بسنده عن أبى هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "يخرج فى آخر الزمان رجال - وفى رواية - قوم رءوس جهال يفتون الناس فيضلون ويضلون"، وروى بسنده أيضا عن مالك قال: "أخبرني رجل أنه دخل على ربيعة بن عبد الرحمن فوجده يبكى فقال ما يبكيك وارتاع لبكائه، فقال: أدخلت عليك مصيبة؟ فقال: لا، ولكن استفتى من لا علم له وظهر فى الإسلام أمر عظيم". ثم عقب الشيخ أبو بكر الحافظ رحمه اللّه بقوله: "ينبغي لإمام المسلمين أن يتصفح أحوال المفتين، فمن كان يصلح للفتوى أقره عليها ومن لم يكن من أهلها منعه منها وتقدم إليه بألا يتعرض لها وأوعده بالعقوبة إن لم ينته عنها". وقد كان الخلفاء من بنى أمية ينصبون للفتوى بمكة فى أيام الموسم قوماً يفتونهم ويأمرون بألا يستفتى غيرهم. وروى أيضا بسنده(47) عن محمد بن سماعة قال: سمعت أبا يوسف يقول: سمعت أبا حنيفة يقول: من تكلم فى شيء من العلم وتقلده وهو يظن أن اللّه لا يسأله عنه كيف أفتيت فى دين اللّه فقد سهلت عليه نفسه ودينه. وفى ذات الموضع أيضا قول الإمام أبى حنيفة: "لولا الفرق من اللّه تعالى أن يضيع العلم ما أفتيت أحداً يكون له المهنأ وعلى الوزر". وقد نقل ابن نجيم الحنفي فى "البحر الرائق عن شرح الروض"(48): "أنه ينبغي للإمام أن يسأل أهل العلم المشهورين فى عصره عمن يصلح للفتوى ليمنع من لا يصلح ويتوعده بالعقوبة إذا عاد". كما نقل البهوتى الحنبلي فى كتابه "كشاف القناع" قول الخطيب البغدادي(49): "وينبغي للإمام أن يتصفح أحوال المفتين فمن صلح للفتيا أقره ومن لا يصلح نهاه ومنعه"، وحكى ما نقل عن الإمام مالك من أقوال فى هذا الشأن. ومن هذا الفقه نستبين أن الفتوى خطيرة الأثر.
وقد قيل إن حكم اللّه ورسوله يظهر على أربعة ألسنة: لسان الراوي، ولسان المفتى، ولسان الحاكم ( القاضي )، ولسان الشاهد. فالراوي يظهر على لسانه حكم اللّه ورسوله، والمفتى يظهر على لسانه معناه وما استنبطه من لفظه، والحاكم يظهر على لسانه الإخبار بحكم اللّه وتنفيذه، والشاهد يظهر على لسانه الإخبار بالسبب الذى يثبت حكم الشارع. والواجب على هؤلاء الأربعة أن يخبروا بالصدق المستند إلى العلم فيكونون عالمين بما يخبرون به صادقين فى الإخبار به. ومن التزم الصدق والبيان منهم فى مرتبته نور الإله فى علمه ووقته ودينه ودنياه وكان مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ذلك الفضل من اللّه وكفى باللّه عليما(50).
هذا وقد عرض سلطان العلماء العز بن عبد السلام لعدة أمور فى الاجتهاد والتقليد فى كتابه "قواعد الأحكام فى مصالح الأنام"(51)، تحت عنوان: قاعدة فيمن تجب طاعته ومن تجوز طاعته ومن لا تجوز طاعته: فقال: لا طاعة لأحد المخلوقين إلا لمن أذن اللّه فى طاعته كالرسل والعلماء والأئمة والقضاة والولاة والآباء والأمهات والسادات والأزواج والمستأجرين فى الإجارات على الأعمال والصناعات، ولا طاعة لأحد فى معصية اللّه عز وجل لما فيه من المفسدة الموبقة فى الدارين أو فى أحدهما، فمن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة له، إلا أن يكره إنساناً على أمر يبيحه الإكراه فلا إثم على مطيعه وقد تجب طاعته لا لكونه آمراً بل لدفع مفسدة ما يهدده به من قتل أو قطع أو جناية على بضع. ولو أمر الإمام أو الحاكم إنساناً بما يعتقد الآمر حله والمأمور تحريمه، فهل له فعله نظراً إلى رأى الآمر أو يمتنع نظراَ إلى رأى المأمور؟ فيه خلاف: وهذا مختص فيما لا ينقض حكم الآمر به فإن كان مما ينقض حكمه به فلا سمع ولا طاعة، وكذلك لا طاعة لجهلة الملوك والأمراء إلا فيما يعلم المأمور أنه مأذون فى الشرع. وتفرد الإله بالطاعة لاختصاصه بنعم الإنشاء والإبقاء والتغذية والإصلاح الدينى والدنيوى فما من خير إلا هو جالبه، وما من ضير إلا هو سالبه وليس بعض العباد بأن يكون مطاعا بأولى من البعض، إذ ليس لأحد منهم إنعام بشيء مما ذكرته فى حق الإله، وكذلك لا حكم إلا له فأحكامه مستفادة من الكتاب والسنة والإجماع والأقيسة الصحيحة والاستدلالات المعتبرة فليس لأحد أن يستحسن ولا أن يستعمل مصلحة مرسلة، ولا أن يقلد أحداً لم يؤمر بتقليده كالمجتهد فى تقليد المجتهد، أو فى تقليد الصحابة، وفى هذه المسائل اختلاف بين العلماء، ويرد على من مخالف ذلك فى قوله عز وجل { إن الحكم إلا للّه أمر أن لا تعبدوا إلا إياه } يوسف 40، ويستثنى من ذلك العامة فإن وظيفتهم التقليد بعجزهم عن التوصل إلى معرفة الأحكام بالاجتهاد بخلاف المجتهد فإنه قادر على النظر المؤدى إلى الحكم، ومن قلد إماماً من الأئمة ثم أراد تقليد غيره فهل له ذلك؟ فيه خلاف، والمختار التفصيل فإن كان المذهب الذى أراد الانتقال إليه مما ينقض فيه الحكم، فليس له الانتقال إلى حكم يجب نقضه، فإنه لم يجب نقضه إلا لبطلانه، فإن كان المأخذان متقاربين جاز التقليد والانتقال، لأن الناس لم يزالوا من زمن الصحابة إلى أن ظهرت المذاهب الأربعة يقلدون من اتفق من العلماء من غير نكير من أحد يُعتبر إنكاره، ولو كان ذلك باطلاً لأنكروه وكذلك لا يجب تقليد الأفضل وإن كان هو الأولى لأنه لو وجب تقليده لما قلد الناس الفاضل والمفضول فى زمن الصحابة والتابعين من غير نكير بل كانوا مسترسلين فى تقليد الفاضل والأفضل ولم يكن الأفضل يدعو الكل إلى تقليد نفسه، ولا المفضول يمنع من سأله عن وجود الفاضل وهذا مما لا يرتاب فيه عاقل. ومن العجب العجيب أن الفقهاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف مأخذ إمامه بحيث لا يجد لضعفه مدفعا ومع هذا يقلده فيه، ويترك من الكتاب والسنة والأقيسة الصحيحة لمذهبه جموداً على تقليد إمامه، بل يتحلل لدفع ظواهر الكتاب والسنة، ويتأولهما بالتأويلات البعيدة الباطلة نضالاً عن مقلده، وقد رأيناهم يجتمعون فى المجالس فإذا ذكر لأحدهم فى خلاف ما وطن نفسه عليه تعجب أمامه حتى ظن أن الحق غاية التعجب من غير استرواح إلى دليل بل لما ألفه من تقليد منحصر فى مذهب إمامه أولى من تعجبه من مذهب غيره، فالبحث مع هؤلاء ضائع مفض إلى التقاطع والتدابر من غير فائدة يجديها، وما رأيت أحداً رجع عن مذهب إمامه إذا ظهر له الحق فى غيره بل يصير عليه مع علمه بضعفه وبعده، فالأولى ترك البحث مع هؤلاء الذين إذا عجز أحدهم عن تمشية مذهب إمامه قال لعل إمامى وقف على دليل لم أقف عليه ولم أهتد إليه، ولم يعلم المسكين أن هذا مقابل بمثله لخصمه ما ذكره من الدليل الواضح والبرهان اللائح، فسبحان اللّه ما أكثر ما أعمى التقليد بصره حتى حمله على مثل ما ذكر وفقنا اللّه لإتباع الحق أينما كان وعلى لسان من ظهر، وأين هذا من مناظرة السلف ومشاورتهم فى الأحكام ومسارعتهم إلى إتباع الحق إذا ظهر لسان الخصم. وقد نقل عن الشافعي رحمه اللّه أنه قال ما ناظرت أحدا إلا قلت اللّهم أجر الحق على قلبه ولسانه فإن كان الحق معي اتبعني وإن كان الحق معه ابتعته.
(فائدة): اختلف العلماء فى تقليد الحاكم المجتهد لمجتهد آخر: فأجازه بعضهم لأن الظاهر من المجتهدين أنهم أصابوا الحق، فلا فرق بين مجتهد ومجتهد فإذا جاز للمجتهد أن يعتمد على ظنه المستفاد من الشرع فلم لا يجوز له الاعتماد على ظن المجتهد الآخر المعتمد على أدلة الشرع، ولا سيما إذا كان المقلد أنبل وأفضل فى معرفة الأدلة الشرعية ومنعه الشافعي وغيره وقالوا ثقته بما يجده من نفسه من الظن المستفاد ومن أدلة الشرع أقوى مما يستفيده من غيره ولا سيما إن كان هو أفضل الجماعة، وخير أبو حنيفة فى تقليد من شاء من المجتهدين لأن كل واحد منهم على حق وصواب، وهذا ظاهر متجه إذا قلنا كل مجتهد مصيب.
وبعد فلعل هذه الكلمة الراشدة من الشيخ العز بن عبد السلام بيان للمنهج الذى يجب أن يسير عليه المفتون فى نطاق ما تواتر واشتهر فى كتب فقه المذاهب من آداب للمفتى والمستفتى وللفتيا إذ تكاد نصوص السلف الصالح من العلماء تتفق على تلك الآداب ولقد نهج المفتون فى مصر هذا السبيل، إذ تكشف تطبيقاتهم واختياراتهم عن التزامهم بما تواتر من فقه المذاهب، مؤثرين ما صح دليله، وصلح عليه حال المستفتى. وهذا ما ينبغي أن يلتزمه كل مفت مستعينا باللّه رب العالمين معلم إبراهيم.
واللّه يقول الحق وهو يهدى السبيل وهو الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب.
وصلى اللّه على سيدنا محمد عبد اللّه ورسوله. وعلى آله وأصحابه وسلم.

القاهرة فى رمضان 1400 هجرية يوليو 1980م.
جاد الحق على جاد الحق.
مفتى جمهورية مصر العربية.












ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهامش:
(1) جزء 4 صـ 244 وما بعدها فى "فتوى المجتهد"، بتصرف.
(2) فى الترغيب والترهيب للمنذرى بروايته وزيادات أخرى.
(3) البخاري فى خطبته صلى اللّه عليه وسلم بمنى.
(4) المرجع السابق فيما يذكر عن بنى إسرائيل ورواه أيضا أحمد والترمذي.
(5) رواه أحمد وأبو داود والحاكم عن ابن عباس وهو حديث صحيح.
(6) صـ 40 طبع إدارة الطباعة المنيرية 1344 هجرية.
(7) جزء 4 صـ 418 فى كتاب "القضاء".
(8) جزء 2 صـ 110 مع هامشه "تهذيب الفروق"، بتصرف.
(9) جزء 1 صـ 27 طبع إدارة الطباعة المنيرية.  وأنظر كذلك "كشاف القناع على فن الإقناع" للبهوتى الحنبلي، جزء 6 صـ 240 وما بعدها فى أحكام تتعلق بالفتيا.
(10) المجموع للنووي، جزء 1 صـ 27 و صـ 45 . و "البحر الرائق" لابن نجيم الحنفي، جزء 6 صـ 290 . و "الفروق" للقرانى، جزء 4 صـ 89 . و "منتهى الارادات" للبهوتى الحنبلي، جزء 4 صـ 257 بهامش كشاف القناع.
(11) "الأحكام فى أصول الأحكام"، جزء 5 صـ 89 وما بعدها فى الباب الثامن والعشرين.
(12) المرجع السابق، جزء 1 صـ 8 إلى 31 الطبعة السابقة.
(13) من "أعلام الموقعين" لابن القيم، جزء 1 صـ 31 : 36 ، بتصرف.
(14) "البحر الرائق" لابن نجيم المصري "شرح كنـز الرقائق"، جزء 6 صـ 289 وما بعدها.
(15) "مواهب الجليل" مع "التاج والإكليل" كلاهما شرح مختصر سيدي خليل، جزء 6 صـ  94 و 95.
(16) "المجموع" للنووي شرح المذهب للشيرازي، جزء 1 صـ 42 وما بعدها.
(17) "روضة الناظر وأصول الفقه" لابن قدامة المقدى، جزء 2 صـ 441.
(18) المرجع السابق، جزء 1 صـ 8 وما بعدها.
(19) الفتاوى الهندية، جزء 3 صـ 309 و 310 و "البحر الرائق" لابن نجيم، جزء 6 صـ 291 و 292.
(20) "التاج والإكليل" للحطاب مع "مواهب الجليل"، جزء 6 صـ 91 وما بعدها.
(21) "المجموع" للنووي شرح "المهذب"، جزء 1 صـ 45 وما بعدها.
(22) "كشاف القناع" للبهوتى الحنبلي، جزء 6 صـ 242 وما بعدها.
(23) "أعلام الموقعين"، جزء 4 صـ 136 وما بعدها.
(24) "كشاف القناع" سالف الذكر، صـ 240.
(25) "الموافقات"، جزء 4 صـ 258 وما بعدها طبع المكتبة التجارية تحقيق المرحوم الشيخ/ عبد اللّه دراز.
(26) "الموافقات" للشاطبى، جزء 4 صـ 139 وما بعدها.
(27) "كشاف القناع" للبهوتى الحنبلي، جزء 6 صـ 242.
(28) المرجع السابق، جزء 4 صـ 262 . وراجع فى هذا المعنى أيضا: "البحر الرائق" لابن نجيم المصري الحنفي، جزء 6 صـ 290 و 291 . و "الحطاب" وبهامشه "التاج والإكليل فى فقه مالك"، جزء 1 صـ 32 و جزء 6 صـ 92 وما بعدها. و "المجموع" للنوى "شرح المهذب" للشيرازي الشافعي، جزء 1 من صـ 54 إلى صـ 58 . و "كشاف القناع" للبهوتى الحنبلي، جزء 6 صـ 246.
(29) "البحر الرائق" لابن نجيم المصري الحنفي، جزء 6 صـ 292 . و الحطاب و "التاج والإكليل" فقه مالكي، جزء 6 صـ 295 و 296 . و "المجموع" للنووي "شرح المهذب" للشيرازي، جزء 1 صـ ق47 : 54 و "الفقيه والمتفقه" للخطيب، جزء 2 صـ 182 إلى 194 . و "كشاف القناع" للبهوتى الحنبلي، جزء 6 صـ 34 إلى 246.
(30) "تاريخ القضاء فى الإسلام" للقاضي/ محمود عرنوس، صـ 160.
(31) "تهذيب الفروق" بهامش "الفروق" للقرافى، جزء 4 صـ 89 : 92.
(32) "المجموع" للنوى "شرح المهذب"، جزء 1 صـ 41 و 42 . و "كشاف القناع" للبهوتى الحنبلي، جزء 6 صـ 240.
(33) "تاريخ القضاء فى الإسلام" للقاضي/ محمود عرنوس، صـ 174 المطبعة المصرية الأهلية الحديثة، بالقاهرة سنة 1934 . و "الدر المختار" للحصكفى و "رد المختار" لابن عابدين، جزء 4 صـ 315 فى كتاب القضاء.
(34) "المجموع" للنووي، جزء 1 صـ 41 و 42.
(35) "أعلام الموقعين" لابن القيم، جزء 4 صـ 192.
(36) كتاب "شرح النيل وشفاء العليل" لمحمد يوسف أطفيش، جزء 6 صـ 558.
(37) "أعلام الموقعين"، جزء 4 صـ 195 و 196 . و "المجموع" للنووي، جزء 1 صـ 45 و 46 . و "مختصر الطحاوى" فقه حنفي، صـ 327 . و "قوانين الأحكام الشرعية" لابن جزي المالكي، صـ 322 طبعة دار العلم، بيروت 1974، تحقيق الأستاذ/ عبد العزيز سيد الأهل.
(38) المرجع السابق، جزء 4 صـ 196 و 197 .
(39) "الدر المختار" وحاشية ابن عابدين "رد المحتار"، جزء 4 . و "كتاب القضاء" صـ 335 : 360 . و "الأشباه والنظائر" لابن نجيم مع حاشية الحموي فى ذات الموضع، صـ 355 . و "مجمع الضمانات" صـ 364 آخر الباب الثلاثين.
(39) "مواهب الجليل" للحطاب وبهامشه "التاج والإكليل" للمواق، جزء 6 صـ 202 فى الرجوع عن الشهادة.
(40) حواشي "تحفة المحتاج" بشرح المنهاج، جزء 10 صـ 280 وما بعدها.
(41) "تاريخ القضاء فى الإسلام" للقاضي/ محمود عرنوس، صـ 154 و 155.
(42) المرجع السابق فى ذات الموضع.
(43) "التاج والإكليل" على هامش "مواهب الجليل" للحطاب، جزء 6 صـ 88.
(44) "فتح القدير" على "الهداية"، جزء 5 صـ 456 و 457 طبعة أولى المطبعة الأميرية 1316 هجرية.
(45) جزء 6 صـ 289 إلى 292.
(46) كتابه "الفقيه والمتفقه" المجلد الثاني، جزء 7 صـ 152 : 154 الطبعة الأولى، طبعة دار الإفتاء، السعودية سنة 1389 هجرية . و "أعلام الموقعين" لابن القيم، جزء 4 صـ 180 و 181.
(47) المرجع السابق، صـ 168.
(48) المرجع السابق، جزء 6 صـ 286.
(49) المرجع السابق، جزء 6 صـ 241 ).
(50) "أعلام الموقعين" لابن القيم، جزء 4 صـ 152 الطبعة السابقة.
(51) المرجع السابق، جزء 2 صـ 151 : 154.

===================================

هذا، والله أعلى وأعلم،،،