الخميس، 22 ديسمبر 2016

تفسير سورة النازعات - للقرطبي




سورة النازعات

سورة النازعات مَكّية بإجماع. وهي خمس أو ست وأربعون آية

بِسم الله الرحمَن الرحيم

**  قوله تعالى: { وَالنّازِعَاتِ غَرْقاً * وَالنّاشِطَاتِ نَشْطاً * وَالسّابِحَاتِ سَبْحاً * فَالسّابِقَاتِ سَبْقاً * فَالْمُدَبّرَاتِ أَمْراً * يَوْمَ تَرْجُفُ الرّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ * يَقُولُونَ أَإِنّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ * أَإِذَا كُنّا عِظَاماً نّخِرَةً * قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرّةٌ خَاسِرَةٌ * فَإِنّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُم بِالسّاهِرَةِ }.

قوله تعالى: {وَالنّازِعَاتِ غَرْقاً}: أقسم سبحانه بهذه الأشياء التي ذكرها, على أن القيامة حقّ. و «النازعاتِ»: الملائكة التي تنزِع أرواحَ الكفار قاله عليّ رضي الله عنه, وكذا قال ابن مسعود وابن عباس ومسروق ومجاهد: هي الملائكة تَنْزِع نفوس بني آدم. قال ابن مسعود: يريد أنفسَ الكُفار يَنْزِعها ملك الموت من أجسادهم, من تحت كل شعرة, ومن تحت الأظافير وأصول القدمين نَزْعاً كالسّفّود يُنزَع من الصّوف الرّطْب, ثم يغرِقها, أي يرجعها في أجسادهم, ثم ينزِعها فهذا عمله بالكفار. وقاله ابن عباس. وقال سعيد بن جبير: نُزِعت أرواحهم, ثم غرقت, ثم حُرِمت ثم قُذِف بها في النار. وقيل: يرى الكافر نفسه في وقت النزع كأنها تغرَق. وقال السّدّيّ: و «النازِعاتِ» هي النفوس حين تَغْرَق في الصدور. مجاهد: هي الموت ينزِع النفوس. الحسن وقتادة: هي النجومُ تنزِع من أفق إلى أفق أي تذهب, من قولهم: نَزَع إليه أي ذهب, أو من قولهم: نَزَعَت الخيل أي جرت. {غَرْقاً} أي إنها تغرقَ وتغيب وتطلُع من أفق إلى أفق آخر. وقاله أبو عُبيدة وابن كَيسان والأخفش. وقيل: النازعات القِسِيّ تنزِع بالسّهام قاله عطاء وعِكْرمة. و«غَرْقا» بمعنى إغراقاً وإغراق النازع في القوس أن يبلغ غاية المدّ, حتى ينتهي إلى النصل. يقال: أغرق في القوس أي استوفى مدّها, وذلك بأن تنتهي إلى العَقَب الذي عند النصل الملفوف عليه. والاستغراق الاستيعاب. ويقال لقشرة البيضة الداخلة: «غِرقِئ». وقيل: هم الغُزاة الرّماة.
قلت: هو والذي قبله سواء لأنه إذا أقسم بالقِسِيّ فالمراد النازعون بها تعظيماً لها وهو مثل قوله تعالى: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً} والله أعلم. وأراد بالإغراق: المبالغة في النزع وهو سائغ في جميع وجوه تأويلها. وقيل: هي الوحش تنزِع من الكلأ وتنفر. حكاه يحيى بن سلام. ومعنى «غرقا» أي إبعاداً في النزع.
قوله تعالى: {وَالنّاشِطَاتِ نَشْطاً} قال ابن عباس: يعني الملائكة تنِشط نفس المؤمن, فتقبضها كما يُنْشَط العِقال من يد البعير: إذا حُلّ عنه. وحكى هذا القول الفراء ثم قال: والذي سمعت من العرب أن يقولوا اُنِشطت وكأنما اُنِشط من عِقال. ورَبْطها نَشْطُها والرابط الناشط, وإذا ربطت الحبل في يد البعير فقد نَشطْته, فأنت ناشط, وإذا حللته فقد أنشطته وأنت مُنْشِط. وعن ابن عباس أيضاً: هي أنفس المؤمنين عند الموت تَنْشَط للخروج وذلك أنه ما من مؤمن (يحضره الموت) إلا وتُعرض عليه الجنة قبل أن يموت, فيرى فيها ما أعدّ الله له من أزواجه وأهله من الحور العين, فهم يدعونه إليها, فنفسه إليهم نِشطَه أن تخرج فتأتيهم. وعنه أيضاً قال: يعني أنفس الكفار والمنافقين تنْشط كما ينشَط العقب, الذي يعقب به السهم. والعقَب بالتحريك: العصب الذي تعمل منه الأوتار, الواحدة عَقَبة تقول منه: عَقَبَ السهم والقدح والقوس عَقْباً: إذا لوى شيئاً منه عليه. والنشط: الجذب بسرعة, ومنه الأنشوطة: عقدة يسهل انحلالها إذا جِذبت مثل عقدة التكة. وقال أبو زيد: نشطت الحبل أنِشطه نَشْطاً: عقدته بأنشوطة, وأنشطته أي حللته, وأنشطْت الحبل أي مددته حتى ينحلّ. وقال الفراء: اُنِشط العقال أي حُلّ, ونُشِط: أي رَبط الحبل في يديه. وقال الليث: أنشطته بأنشوطة واُنشوطتين أي أوثقته, واُنشطت العِقال: أي مددت اُنشوطته فانحلت. قال: ويقال نشط بمعنى أنشط, لغتان بمعنى وعليه يصح قول ابن عباس المذكور أوّلاً. وعنه أيضاً: الناشطات الملائكة لنشاطها, تذهب وتجيء بأمر الله حيثما كان. وعنه أيضاً وعن عليّ رضي الله عنهما: هي الملائكة تنِشط أرواح الكفار, ما بين الجلد والأظفار, حتى تخرجها من أجوافهم نَشْطاً بالكَرْب والغمّ, كما تَنْشِط الصوف من سَفّود الحديد, وهي من النّشْط بمعنى الجذب يقال: نَشَطْت الدلو أنِشطُها بالكسر, وأنشُطها بالضم: أي نزعتها. قال الأصمعي: بئر أنشاط: أي قريبة القعر, تخرج الدلو منها بجذبة واحدة. وبئر نَشوط قال: وهي التي لا يخرج منها الدلو حتى تُنْشَط كثيراً. وقال مجاهد: هو الموت يَنْشِط نفس الإنسان. السّدي: هي النفوس حين تنِشط من القدمين. وقيل: النازعات: أيدي الغُزاة أو أنفسهم, تنزع القِسِيّ بإغراق السهام, وهي التي تَنِشْط الأوهاق. عِكرمة وعطاء: هي الأوهاق تَنْشِط السهام. وعن عطاء أيضاً وقتادة والحسن والأخفش: هي النجوم تنِشط من أفق إلى أفق: أي تذهب. وكذا في الصحاح. «والناشِطاتِ نشطا» يعني النجوم من بُرْج إلى برج, كالثور الناشط من بلد إلى بلد. والهموم تنِشط بصاحبها قال هِميان بن قُحافة:
أمْسَت همومِي تنِشط المناشِطَا الشامَ بِي طوراً وطوراً واسِطَا

أبو عبيدة وعطاء أيضاً: الناشطات: هي الوحش حين تنِشطُ من بلد إلى بلد, كما أن الهموم تنِشطُ الإنسان من بلد إلى بلد وأنشد قول هِميان: أمسـت همومـي ... (البيت).
وقيل: {وَالنّازِعَاتِ} للكافرين {وَالنّاشِطَاتِ} للمؤمنين, فالملائكة يجذبون رُوح المؤمن برفق, والنزع جذب بشدة, والنشط جذب بِرِفق. وقيل: هما جميعاً للكفار والآَيتان بعدهما للمؤمنين عند فراق الدنيا.
قوله تعالى: {وَالسّابِحَاتِ سَبْحاً} قال عليّ رضي الله عنه: هي الملائكة تسبَح بأرواح المؤمنين. الكلبي: هي الملائكة تقبض أرواح المؤمنين, كالذي يسبح في الماء, فأحياناً ينغمس وأحياناً يرتفع, يُسلونها سَلاّ رفيقاً بسهولة, ثم يدعونها حتى تستريح. وقال مجاهد وأبو صالح: هي الملائكة ينزلون من السماء مسرعين لأمر الله كما يقال للفرس الجواد سابح: إذا أسرع في جريه. وعن مجاهد أيضاً: الملائكة تسبح في نزولها وصعودها. وعنه أيضاً: السابحات: الموت يسبح في أنفس بني آدم. وقيل: هي الخيل الغزاة قال عنترة:
والخيلُ تعلَمُ حين تَسْبَحُ في حِياض الموت سَبْحا

 وقال امرؤ القيس:
 مِسَحّ إذا ما السابحاتُ على الوَنَى أثَرْنَ غُباراً بالكَديد المُرَكّلِ

قتادة والحسن: هي النجوم تسبح في أفلاكها, وكذا الشمس والقمر قال الله تعالى: {كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}. عطاء: هي السّفن تسبح في الماء. ابن عباس: السابحات أرواح المؤمنين تسبح شوقاً إلى لقاء الله ورحمته حين تخرج.
قوله تعالى: {فَالسّابِقَاتِ سَبْقاً} قال عليّ رضي الله عنه: هي الملائكة تسبق الشياطين بالوحي إلى الأنبياء عليهم السلام. وقاله مسروق ومجاهد. وعن مجاهد أيضاً وأبي رَوْق: هي الملائكة سبقت ابن آدم بالخير والعمل الصالح. وقيل: تسبق بني آدم إلى العمل الصالح فتكتبه. وعن مجاهد أيضاً: الموت يسبق الإنسان. مقاتل: هي الملائكة تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة. ابن مسعود: هي أنفس المؤمنين تسبق إلى الملائكة الذين يقْبضونها وقد عاينِت السرور, شوقاً إلى لقاء الله تعالى ورحمته. ونحوه عن الربيع, قال: هي النفوس تسبق بالخروج عند الموت. وقال قتادة والحسن ومعمر: هي النجوم يسبق بعضها بعضاً في السير. عطاء: هي الخيل التي تسبق إلى الجهاد. وقيل: يحتمل أن تكون السابقات ما تسبق من الأرواح قبل الأجساد إلى جنة أو نار قاله الماوردي. وقال الجُرجانيّ: ذكر «فالسابقات» بالفاء لأنها مشتقة من التي قبلها أي واللائي يسبحن فيسبقن, تقول: قام فذهب فهذا يوجب أن يكون القيام سبباً للذهاب, ولو قلت: قام وذهب, لم يكن القيام سبباً للذهاب.
قوله تعالى: {فَالْمُدَبّرَاتِ أَمْراً} قال القُشَيريّ: أجمعوا على أن المراد الملائكة. وقال الماوردي: فيه قولان: أحدهما الملائكة قاله الجمهور. والقول الثاني هي الكواكب السبعة. حكاه خالد بن مَعْدان عن مُعاذ بن جبل. وفي تدبيرها الأمر وجهان: أحدهما تدبير طلوعها وأفولها. الثاني تدبيرها ما قضاه الله تعالى فيها من تقلّب الأحوال. وحكى هذا القول أيضاً القشيري في تفسيره, وأن الله تعالى علّق كثيراً من تدبير أمر العالم بحركات النجوم, فأضيف التدبير إليها وإن كان من الله, كما يسمى الشيء باسم ما يجاوره. وعلى أن المراد بالمدبّرات الملائكة, فتدبيرها نزولها بالحلال والحرام وتفصيله قاله ابن عباس وقتادة وغيرهما. وهو إلى الله جل ثناؤه, ولكن لما نزلت الملائكة به سميت بذلك كما قال عز وجل: {نَزَلَ بِهِ الرّوحُ الأمِينُ} (الشعراء: 193) وكما قال تعالى: {فَإِنّهُ نَزّلَهُ عَلَىَ قَلْبِكَ} (البقرة: 97) يعني جبريل نزله على قلب محمد صلى الله عليه وسلم, والله عز وجل هو الذي أنزله. وروى عطاء عن ابن عباس: {فَالْمُدَبّرَاتِ أَمْراً}: الملائكة وُكّلت بتدبير أحوال الأرض في الرياح والأمطار وغير ذلك. قال عبد الرحمن بن ساباطٍ: تدبير أمر الدنيا إلى أربعة جبريل وميكائيل وملك الموت واسمه عزرائيل وإسرافيل, فأما جبريل فموكل بالرياح والجنود, وأما ميكائيل فموكل بالقَطْر والنبات, وأما ملك الموت فموكل بقبض الأنفس في البر والبحر, وأما إسرافيل فهو يتنزل بالأمر عليهم, وليس من الملائكة أقرب من إسرافيل, وبينه وبين العرش مسيرة خمسمائة عام. وقيل: أي وُكّلوا بأمور عرّفهم الله بها. ومن أول السورة إلى هنا قسم أقسم الله به, ولله أن يقسم بما شاء من خلقه, وليس لنا ذلك إلا به عز وجل. وجواب القسم مضمر, كأنه قال: والنازِعات وكذا وكذا لَتُبعَثُنّ ولتحاسَبُن. أضمر لمعرفة السامعين بالمعنى قاله الفراء. ويدل عليه قوله تعالى: {أَإِذَا كُنّا عِظَاماً نّخِرَةً} ألست ترى أنه كالجواب لقولهم: «أئِذا كنا عِظاما نَخِرةً» نُبْعَث؟ فاكتفي بقوله: «ائِذا كنا عِظاماً نخِرةً»؟ وقال قوم: وقع القسم على قوله: {إِنّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لّمَن يَخْشَىَ} وهذا اختيار التّرمذي ابن عليّ. أي فيما قصصت من ذكر يوم القيامة وذكر موسى وفرعون «لعِبرة لمِن يخشى» ولكنّ وَقْع القسم على ما في السورة مذكوراً ظاهراً بارزاً أحْرى وأقمن من أن يؤتى بشيء ليس بمذكور فيما قال ابن الأنباريّ: وهذا قبيح, لأن الكلام قد طال فيما بينهما. وقيل: جواب القسم «هل أتاك حدِيث موسى» لأن المعنى قد أتاك. وقيل: الجواب {يَوْمَ تَرْجُفُ الرّاجِفَةُ} على تقدير ليَوم ترجُف, فحذف اللام. وقيل: فيه تقديم وتأخير, وتقديره يوم ترجُف الراجفة وتتبعها الرادفة والنازعات غرقاً. وقال السجستاني: يجوز أن يكون هذا من التقديم والتأخير, كأنه قال: فإذا هم بالساهرة والنازعات. ابن الأنباريّ: وهذا خطأ لأن الفاء لا يُفْتح بها الكلام, والأوّل الوجْه. وقيل: إنما وقع القسم على أن قلوب أهل النار تجفّ, وأبصارهم تخشع, فانتصاب «يومَ ترجُف الراجفة» على هذا المعنى, ولكن لم يقع عليه. قال الزجاج: أي قلوب واجفة يوم ترجُف. وقيل: انتصب بإضمار اذكر. و «ترجُف» أي تضطرب. والراجفة: أي المضطربة كذا قال عبد الرحمن بن زيد قال: هي الأرض, والرادِفة الساعة. مجاهد: الراجفة الزلزلة {تَتْبَعُهَا الرّادِفَةُ} الصيْحة. وعنه أيضاً وابن عباس والحسن وقتادة: هما الصيحتان. أي النفختان. أما الأولى فتميت كل شيء بإذن الله تعالى, وأما الثانية فتحي كل شيء بإذن الله تعالى. وجاء في الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «بينهما أربعون سنة» وقال مجاهد أيضاً: الرادفة حين تنشق السماء وتُحمل الأرضُ والجبال فتدك دكة واحدة, وذلك بعد الزلزلة. وقيل: «الراجفة تَحرّك الأرض, والرادفة زلزلة أخرى تفني الأرَضين». فالله أعلم. وقد مضى في آخر «النمل» ما فيه كفاية في النفخ في الصور. وأصل الرجفة الحركة, قال الله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الأرْضُ} وليست الرجفة ها هنا من الحركة فقط, بل من قولهم: رجَف الرعد يرجُف رَجْفاً ورَجيفاً: أي أظهر الصوتَ والحركةَ, ومنه سميت الأراجيف, لاضطراب الأصوات بها, وإفاضة الناس فيها قال:
 أبِالأراجِيف يا بن اللومِ تُوعِدنِي وفِي الأرَاجِيف خِلتُ اللؤمَ والخوَرَا

وعن اُبيّ بن كعب. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ذهب ربع الليل قام ثم قال: «يأيها الناس اذكروا الله, جاءت الراجفة تتبعها الرادفة, جاء الموت بما فيه». {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} أي خائفة وجلة قاله ابن عباس وعليه عامة المفسرين. وقال السّدّي: زائلة عن أماكنها. نظيره {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ}. (غافر: 18) وقال المؤرّخ: قلقة مُسْتَوْفِزة, مرتكضة غير ساكنة. وقال المبرد: مضطربة. والمعنى متقارب, والمراد قلوب الكفار يقال وجَفَ القلب يجِف وجِيفا إذا خَفَق, كما يقال: وجَب يَجِب وَجيبا, ومنه وجيف الفرس والناقة في العدو, والإيجاف حمل الدابة على السير السريع, قال:
بُدّلْنَ بعد جهرةٍ صَرِيفَا وبعد طولِ النّفَسِ الوجِيفا

و«قلوب» رفع بالابتداء و «واجِفة» صفتها. و{أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} خبرها مثل قوله {وَلَعَبْدٌ مّؤْمِنٌ خَيْرٌ مّن مّشْرِكٍ} (البقرة: 221) ومعنى «خاشِعة» منكسرة ذليلة من هول ما ترى. نظيره: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلّةٌ} (القلم: 43) والمعنى أبصار أصحابها, فحذف المضاف. {يَقُولُونَ أَإِنّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ} أي يقول هؤلاء المكذبون المنكرون للبعث, إذا قيل لهم إنكم تبعثون, قالوا منكرين متعجبين: أنرد بعد موتنا إلى أول الأمر, فنعود أحياء كما كنا قبل الموت؟ وهو كقولهم: {أَإِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} (الإسراء: 49) يقال: رجع فلان في حافرته, وعلى حافرته, أي رجع من حيث جاء قاله قتادة. وأنشد ابن الأعرابي:
أحافِرةً على صَلَع وشَيْبٍ مَعَاذ اللّهِ مِن سَفَهٍ وعارِ

يقول: أأرجع إلى ما كنت عليه في شبابي من الغَزَل والصّبا بعد أن شِبت وصَلِعت! ويقال: رجع على حافرته: أي الطريق الذي جاء منه. وقولهم في المثل: النقدُ عند الحافرة. قال يعقوب: أي عند أوّل كلمة. ويقال: التقى القوم فاقتتلوا عند الحافرة. أي عند أوّل ما التقوا. وقيل: الحافرة العاجلة أي أئنا لمردودون إلى الدنيا فنصير أحياء كما كنا؟ قال الشاعر:
آليتُ لا أنساكُمُ فاعَلُموا حَتّى يُردّ الناسُ في الحافِرةْ

وقيل: الحافرة: الأرض التي تُحْفَر فيها قبورُهم, فهي بمعنى المحفورة كقوله تعالى: {مّآءٍ دَافِقٍ} و «عِيشةٍ راضِيةٍ». والمعنى أئنا لمردودون في قبورنا أحْياء. قاله مجاهد والخليل والفرّاء. وقيل: سميت الأرض الحافرة لأنها مستقرّ الحوافر, كما سميت القدم أرضاً لأنها على الأرض. والمعنى أئنا لراجعون بعد الموت إلى الأرض فنمشِي على أقدامنا. وقال ابن زيد: الحافرة: النار, وقرأ {تِلْكَ إِذاً كَرّةٌ خَاسِرَةٌ}. وقال مقاتل وزيد بن أسلم: هي اسم من أسماء النار. وقال ابن عباس: الحافِرة في كلام العرب: الدنيا. وقرأ أبو حَيْوة: «الحَفِرِة» بغير ألف, مقصور من الحافر. وقيل: الحفِرة: الأرض المنتنة بأجساد موتاها من قولهم: حَفِرت أسنانُه, إذا ركبها الوسخ من ظاهرها وباطنها. يقال: في أسنانه حَفَر, وقد حَفَرت تحفِر حَفْرا, مثل كسر يكسِر كسرا إذا فسدت أصولها. وبنو أسد يقولون: في أسنانه حَفَر بالتحريك. وقد حفِرت مثال تعِب تعبا, وهي أردا اللغتين قاله في الصحاح. {أَإِذَا كُنّا عِظَاماً نّخِرَةً} أي بالية متفتتّةً. يقال: نخِرَ العظم بالكسر: أي بلِى وتفتت يقال: عظام نخِرة. وكذا قرأ الجمهور من أهل المدينة ومكة والشام والبصرة, واختاره أبو عُبيد لأن الاَثار التي تذكر فيها العظام, نظرنا فيها فرأينا نخِرة لا ناخرة. وقرأ أبو عمرو وابنه عبد الله وابن عباس وابن مسعود وابن الزبير وحمزة والكسائي وأبو بكر «ناخِرة» بألف, واختاره الفرّاء والطَبريّ وأبو معاذ النحويّ لِوِفاق رؤوس الاَي. وفي الصحاح: والناخِر من العظام التي تدخل الريح فيه ثم تخرج منه ولها نَخِير. ويقال: ما بها ناخر, أي ما بها أحد. حكاه يعقوب عن الباهليّ. وقال أبو عمرو بن العلاء: الناخرة التي لم تنخر بعد, أي لم تبل ولا بدّ أن تنخر. وقيل: الناخر المُجَوّفة. وقيل: هما لغتان بمعنى كذلك تقول العرب: نخِر الشيء فهو نخِر وناخِر كقولهم: طمِع فهو طمِع وطامِع, وحذِرٌ وحاذِر, وبخِلٌ وباخِل, رفَرِه وفارِه قال الشاعر:
يظَلّ بِها الشيخُ الذِي كان بادِنا يَدِب على عُوجٍ له نَخِراتِ

عُوج: يعني قوائم. وفي بعض التفسير: ناخرة بالألف: بالِية ونخِرة: تنخر فيها الريح أي تمر فيها, على عكس الأوّل قال:  مِـن بعـدِ ما صِـرتُ عِظامـا ناخِـرةْ. وقال بعضهم: الناخرة: التي اُكِلت أطرافها وبقيت أوساطها. والنخرة: التي فسدت كلها. قال مجاهد: نخرة أي مرفوتة كما قال تعالى: {عِظَاماً وَرُفَاتاً} ونُخْرة الريح بالضم: شدّة هبوبها. والنّخْرة أيضاً والنّخَرة مثال الهُمَزِة: مقدم أنف الفرس والحمار والخنزير يقال: هشم نُخْرَته: أي أنفه. {قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرّةٌ خَاسِرَةٌ} أي رَجْعة خائبة, كاذبة باطلة, أي ليست كائنة، قاله الحسن وغيره. الربيع بن أنس: «خاسِرة» على من كذب بها. وقيل: أي هي كرة خُسران. والمعنى أهلها خاسرون كما يقال: تجارة رابحة أي يربح صاحبها. ولا شيء أخسر من كَرّة تقتضي المصير إلى النار. وقال قتادة ومحمد بن كعب: أي لئن رجعنا أحياء بعد الموت لنحْشَرَنّ بالنار, وإنما قالوا هذا لأنهم أوعدوا بالنار. والكر: الرجوع يقال: كره, وكر بنفسه, يتعدى ولا يتعدى. والكرة: المرة, والجمع الكرات. {فَإِنّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} ذكر جل ثناؤه سهولة البعث عليه فقال: «فإنما هِي زَجْرة واحدة». ورَوى الضحاك عن ابن عباس قال: نفخة واحدة {فَإِذَا هُم} أي الخلائق أجمعون {بِالسّاهِرَةِ} أي على وجه الأرض, بعد ما كانوا في بطنها. قال الفرّاء: سميت بهذا الاسم لأن فيها نَوم الحيوان وسهرهم. والعرب تسمى الفلاة ووجه الأرض ساهِرة, بمعنى ذاتِ سَهَر لأنه يُسْهَر فيها خوفاً منها, فوصفها بصفة ما فيها واستدل ابن عباس والمفسرون بقول أمية بن أبي الصّلْت:
وفيها لحمُ ساهِرةٍ وبحرٌ وما فاهوا بِهِ لَهمُ مُقِيمُ

 وقال آخر يوم ذي قارٍ لفرسه:
 أقدم مَحَاجِ اِنها الأساوِرةْ
ولا يَهُولَنّكَ رِجْل نادِرةْ
 فإنما قَصْرُك تُربُ الساهِرةْ
ثم تعودُ بعدَها في الحافِرةْ
مِن بعـدِ ما صِرت عِظامـا ناخِـرَهْ
وفي الصحاح. ويقال: الساهور: ظِل الساهِرة, وهي وجه الأرض. ومنه قوله تعالى: {فإذا هُمْ بِالساهِرةِ}, قال أبو كبير الهذليّ:
 يَرتَدْنَ ساهِرةً كانّ جمِيمَها وعمِيمَها أسْداف ليلٍ مُظلِم

ويقال: الساهور: كالغِلاف للقمر يدخُل فيه إذا كُسِف, وأنشدوا قول أمية بن أبي الصّلْت:
قَمـر وساهورٌ يُسَـلّ ويُغْمَـدُ

وأنشدوا لآخَر في وصف امرأة:
 كأنها عِرقُ سامٍ عِند ضارِبِهِ أوْ شُقةٌ خرجَتْ مِن جوفِ ساهورِ

يريد شُقّة القمر. وقيل: الساهرة: هي الأرض البيضاء. ورَوى الضحاك عن ابن عباس قال: أرض من فِضة لم يعص الله جل ثناؤه عليها قط خلقها حينئذ. وقيل: أرض جددها الله يوم القيامة. وقيل: الساهرة اسم الأرض السابعة يأتي بها الله تعالى فيحاسب عليها الخلائق, وذلك حين تبدل الأرض غير الأرض. وقال الثوري: الساهرة: أرض الشام. وهب بن منبه: جبل بيت المقدس. عثمان بن أبي العاتكة: إنه اسم مكان من الأرض بعينه, بالشام, وهو الصقع الذي بين جبل أريحاء وجبل حسان يمده الله كيف يشاء. قتادة: هي جهنم أي فإذا هؤلاء الكفار في جهنم. وإنما قيل لها ساهرة لأنهم لا ينامون عليها حينئذ. وقيل: الساهرة: بمعنى الصحراء على شفير جهنم أي يوقفون بأرض القيامة, فيدوم السهر حينئذ. ويقال: الساهرة: الأرض البيضاء المستوية سميت, بذلك, لأن السراب يجري فيها من قولهم عين ساهرة: جارية الماء, وفي ضدها: نائمة قال الأشعث بن قيس:
وساهرة يُضْحِي السرابُ مُجَلّلاً لأقطارِها قد جئْتُها متلثّما

أو لأن سالكها لا ينام خَوف الهَلَكة.

**  قوله تعالى: { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىَ * إِذْ نَادَاهُ رَبّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدّسِ طُوًى * اذْهَبْ إِلَىَ فِرْعَوْنَ إِنّهُ طَغَىَ * فَقُلْ هَل لّكَ إِلَىَ أَن تَزَكّىَ * وَأَهْدِيَكَ إِلَىَ رَبّكَ فَتَخْشَىَ * فَأَرَاهُ الآَيَةَ الْكُبْرَىَ * فَكَذّبَ وَعَصَىَ * ثُمّ أَدْبَرَ يَسْعَىَ * فَحَشَرَ فَنَادَىَ * فَقَالَ أَنَاْ رَبّكُمُ الأعْلَىَ * فَأَخَذَهُ اللّهُ نَكَالَ الاَخِرَةِ وَالاُوْلَىَ * إِنّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لّمَن يَخْشَىَ }.

قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىَ * إِذْ نَادَاهُ رَبّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدّسِ طُوًى} أي قد جاءك وبلغك «حدِيث موسى» وهذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم. أي إن فرعون كان أقوى من كفار عصرك, ثم أخذناه, وكذلك هؤلاء. وقيل: «هل» بمعنى «ما» أي ما أتاك, ولكن اُخبرت به, فإن فيه عِبرةً لمن يخشَى. وقد مضى من خبر موسى وفرعونَ في غير موضع ما فيه كفاية. وفي «طُوًى» ثلاث قراءات: قرأ ابن محيصن وابن عامر والكوفيون «طُوى» منونا واختاره أبو عبيد لخفة الاسم. الباقون بغير تنوين لأنه معدول مثل عُمر وقُثَم قال الفرّاء: طوَى: واد بين المدينة ومصر. قال: وهو معدول عن طاوٍ, كما عدل عمر عن عامر. وقرأ الحسن وعِكرمة «طِوَى» بكسر الطاء, ورُوي عن أبي عمْرو, على معنى المُقَدّس مرة بعد مرة قاله الزّجاج وأنشد:
أعَاذِلَ اِنّ اللوم في غيرِ كنهِهِ عليّ طِوَى مِن غَيّكِ المتردّدِ

أي هو لوم مكرر عليّ. وقيل: ضم الطاء وكسرها لغتان, وقد مضى في «طه» القول فيه. {اذْهَبْ إِلَىَ فِرْعَوْنَ} أي ناداه ربه, فحذف, لأن النداء قول فكأنه قال له ربه {اذْهَبْ إِلَىَ فِرْعَوْنَ}. {إِنّهُ طَغَىَ} أي جاوز القدر في العصيان. ورُوي عن الحسن قال: كان فرعون عِلْجا من هَمْدان. وعن مجاهد قال: كان من أهل اِصطَخر. وعن الحسن أيضاً قال: من أهل أصْبهان, يقال له ذو ظفر, طوله أربعة أشبار. {فَقُلْ هَل لّكَ إِلَىَ أَن تَزَكّىَ} أي تسلِم فتطهرَ من الذنوب. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: هل لك أن تشهد أن لا إله إلا الله. {وَأَهْدِيَكَ إِلَىَ رَبّكَ} أي واُرشدك إلى طاعة ربك {فَتَخْشَىَ} أي تخافه وتتقيه. وقرأ نافع وابن كثير «تَزّكّى» بتشديد الزاي, على إدغام التاء في الزاي لأن أصلها تتزكى. الباقون: «تَزَكّى» بتخفيف الزاي على معنى طرح التاء. وقال أبو عمرو: «تَزّكّى» بالتشديد (تَتَصَدّق بـ) ـالصدقة, و «تَزَكّى» يكون زكياً مؤمناً. وإنما دعا فرعون ليكون زكياً مؤمناً. قال: فلهذا اخترنا التخفيف. وقال صخر بن جُوَيْرية: لما بعث الله موسى إلى فرعون قال له: «اذهب اِلى فِرعون» إلى قوله {وَأَهْدِيَكَ إِلَىَ رَبّكَ فَتَخْشَىَ} ولن يفعل فقال: يا رب, وكيف أذهب إليه وقد علمتَ أنه لا يفعل؟ فأوحى الله إليه أن امض إلى ما أمرتك به, فإن في السماء اثني عشر ألف ملَك يطلبون علم القَدر, فلم يبلغوه وَلا يدركوه. {فَأَرَاهُ الآَيَةَ الْكُبْرَىَ} أي العلامة العُظْمَى وهي المعجزة. وقيل: العصا. وقيل: اليد البيضاء تَبُرق كالشمس. وروى الضحاك عن ابن عباس: الآَية الكبرى قال العصا. الحسن: يده وعصاه. وقيل: فَلْق البحر. وقيل: الآَية: إشارة إلى جميع آياته ومعجزاته. {فَكَذّبَ} أي كذب نبيّ الله موسى {وَعَصَىَ} أي عصى ربه عز وجل. {ثُمّ أَدْبَرَ يَسْعَىَ} أي ولىّ مدْبراً معرِضاً عن الإيمان «يسعَى» أي يعمل بالفساد في الأرض. وقيل: يعمل في نكاية موسى. وقيل: «أدبر يسعَى» هارباً من الحية. {فَحَشَرَ} أي جمع أصحابه ليمنعوه منها. وقيل: جمع جنوده للقتال والمحاربة, والسّحَرة للمعارضة. وقيل: حشر الناس للحضور. {فَنَادَىَ} أي قال لهم بصوت عال {فَقَالَ أَنَاْ رَبّكُمُ} أي لا رب لكم فوقي. ويروَي: إن إبليس تصور لفرعون في صورة الاِنس بمصر في الحمام, فأنكره فرعون, فقال له إبليس: ويْحَك! أما تعرفني؟ قال: لا. قال: وكيف وأنت خلقتني؟ ألست القائل أنا ربّكم الأعلَى. ذكره الثعلبيّ في كتاب العرائس. وقال عطاء: كان صنع لهم أصناماً صغاراً وأمرهم بعبادتها, فقال أنا رب أصنامكم. وقيل: أراد القادة والسادةَ, هو ربهم, وأولئك هم أرباب السّفلة. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير فنادي فحشر لأن النداء يكون قبل الحشر. {فَأَخَذَهُ اللّهُ نَكَالَ الاَخِرَةِ وَالاُوْلَىَ} أي نكال قوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إِلَـَهٍ غَيْرِي} (القصص: 38) وقوله بعد: «أنا ربكم الأعلَى» قاله ابن عباس ومجاهد وعِكرمة. وكان بين الكلمتين أربعون سنة قاله ابن عباس. والمعنى: أمهله في الأولى, ثم أخذه في الاَخرة, فعذبه بكلمتيه. وقيل: نكالُ الأولى: هو أن أغرقه, ونكال الاَخرة: العذابُ في الاَخرة. وقاله قتادة وغيره. وقال مجاهد: هو عذاب أوّل عمره وآخره. وقيل: الاَخرة قوله «أنا ربكم الأعلَى» والأولى تكذيبه لموسى. عن قتادة أيضاً. و «نكالَ» منصوب على المصدر المؤكّد في قول الزّجاج لأن معنى أخذه الله: نكّل الله به, فأخرج نكالَ مكانَ مصدر من معناه, لا من لفظه. وقيل: نصب بنزع حرف الصفة, أي فأخذه الله بنكال الاَخرة, فلما نزِع الخافض نُصِب. وقال الفرّاء: أي أخذه الله أخذاً نكالاً, أي للنكال. والنكال: اسم لما جعل نكالاً للغير أي عقوبة له حتى يعتبر به. يقال: نكّل فلان بفلان: إذا أثخنه عقوبة. والكلمة من الامتناع, ومنه النكولُ عن اليمين, والنّكْل القيد. وقد مضى في سورة «المزمل» والحمد لله. {إِنّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً} أي اعتباراً وعظة. {لّمَن يَخْشَىَ} أي يخاف الله عزّ وجلّ.

**  قوله تعالى: { أَأَنتُمْ أَشَدّ خَلْقاً أَمِ السّمَآءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعاً لّكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ }.

قوله تعالى: {أَأَنتُمْ أَشَدّ خَلْقاً}: يريد أهل مكة, أي أخلقكم بعد الموت أشدّ في تقديركم {أَمِ السّمَآءُ} فمن قَدَر على السماء قَدَر على الإعادة كقوله تعالى: {لَخَلْقُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ النّاسِ} وقوله تعالى: {أَوَلَـيْسَ الَذِي خَلَقَ السّمَاواتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىَ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم}, فمعنى الكلام التقريع والتوبيخ. ثم وصف السماء فقال: {بَنَاهَا} أي رفعها فوقكم كالبناء. {رَفَعَ سَمْكَهَا} أي أعلى سقْفها في الهواء يقال: سَمَكت الشيءَ أي رفعته في الهواء, وسَمَك الشيءُ سُمُوكاً: ارتفع. وقال الفرّاء: كل شيء حَمَل شيئاً من البناء وغيره فهو سَمْك. وبناء مَسْمُوك وسَنام سامِك تامِك أي عالٍ, والمسموكات: السّمَوات. ويقال: اسْمُك في الدّيْم, أي اصعد في الدرجة.
قوله تعالى: {فَسَوّاهَا} أي خلقها خلقاً مستوياً, لا تفاوت فيه, ولا شُقوق, ولا فُطُور. {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا} أي جعله مظلماً غَطِشَ الليلُ وأغطشُه الله كقولك: ظَلِم (الليلُ) وأظلمه الله. ويقال أيضاً: أغطشَ الليلُ بنفسه, وأغطشه الله كما يقال: أظلَم الليلُ, وأظلمه الله. والغَطَش والغَبَش: الظلمة. ورجل أغطَش: أي أعمى, أو شبيه به, وقد غَطِش, والمرأة غَطْشاء ويقال: ليلة غَطْشاء, وليلٌ أغطش, وفلاة غَطْشَى لا يُهْتَدَى لها قال الأعشى:
ويَهْماءَ بالليلِ غَطشَى الفَلاةِ يؤنِسنِي صوتُ فَيادِها

وقال الأعشى أيضاً:
 عَقَرْتُ لهمْ مَوْهِناً ناقتِي وغامِرُهُمْ مدلهِمّ غَطِشْ

يعني بغامرهم ليلهم, لأنه غمرهم بسواده. وأضاف الليل إلى السماء لأن الليل يكون بغروب الشمس, والشمس مضاف إلى السماء ويقال: نجوم الليل, لأن ظهورها بالليل. {وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} أي أبرز نهارَها وضوئها وشمسها. وأضاف الضّحا إلى السماء كما أضاف إليها الليل لأن فيها سبب الظلام والضياء وهو غروب الشمس وطلوعها. {وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} أي بسطها. وهذا يشير إلى كون الأرض بعد السماء. وقد مضى القول فيه في أول «البقرة» عند قوله تعالى: {هُوَ الّذِي خَلَقَ لَكُمْ مّا فِي الأرْضِ جَمِيعاً ثُمّ اسْتَوَىَ إِلَى السّمَآءِ} (البقرة: 29) مستوفًى. والعرب تقول: دَحَوْت الشيءَ أدحوه دحواً: إذا بسطته. ويقال لعش النعامة اُدحِيّ لأنه مبسوط على وجه الأرض. وقال أمية بن أبي الصلت:
وبثّ الخلقَ فيها اِذ دَحاها فهُمْ قُطّانُها حتّى التنادِي

وأنشد المبرّد:
دحاها فلما رآها استوت على الماءِ أرسى عليها الجِبالاَ

 قيل: دحاها سوّاها ومنه قول زيد بن عمرو:
وأسلمتُ وجهي لمن أسلمتْ له الأرضُ تحمِل صَخْراً ثِقالا
 دحاها فلما استوت شَدّها بأيْدٍ وأرسَي عليها الجِبالا

وعن ابن عباس: خلق الله الكعبة ووضعها على الماء على أربعة أركان, قبل أن يخلق الدنيا بألف عام, ثم دُحيت الأرض من تحت البيت. وذكر بعض أهل العلم أنّ «بعد» في موضع «مع» كأنه قال: والأرض مع ذلك دحاها كما قال تعالى: {عُتُلّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} (القلم: 13(. ومنه قولهم: أنت أحمق وأنت بعد هذا سَيّءُ الخلق قال الشاعر:
فقلت لها عَنّي اِليكِ فإنّنِي حَرَامٌ واِني بعد ذاك لَبيبُ

أي مع ذلك لبيب. وقيل: بعد: بمعنى قبل كقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزّبُورِ مِن بَعْدِ الذّكْرِ} (الأنبياء: 105) أي من قبل الفرقان قال أبو خِرَاش الهذليّ:
حَمدتُ اِلهِي بعد عروة اِذ نجا خِراشٌ وبعض الشر أهون مِن بعضِ

وزعموا أن خِراشاً نجا قبل عروة. وقيل: «دحاها»: حرثَها وشقها. قاله ابن زيد. وقيل: دحاها مهّدها للأقوات. والمعنى متقارب. وقراءة العامة «والأرضَ» بالنصب, أي دحا الأرض. وقرأ الحسن وعمرو بن ميمون «والأرض» بالرفع, على الابتداء لرجوع الهاء. ويقال: دحا يدحو دَحْوا ودَحَى يَدْحَى دحيا كقولهم: طغَى يطغَى ويطغُو, وطغِىَ يطغى, ومحا يمحو ويمحي, ولَحَى العودَ يلحَى ويلحو, فمن قال: يدحو قال دحوت ومن قال يدحي قال دحْيت. {أَخْرَجَ مِنْهَا} أي أخرج من الأرض {مَآءَهَا} أي العيون المتفجرة بالماء. {وَمَرْعَاهَا} أي البنات الذي يُرْعَى. وقال القُتَبي: دل بشيئين على جميع ما أخرجه من الأرض قوتاً ومتاعاً للأنام من العشب والشجر والحب والتمر والعصف والحطب واللباس والنار والملح لأن النار من العيدان والملح من الماء. {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} قراءةُ العامة «والجبالَ» بالنصْب, أي وأرسَى الجبال «أرساها» يعني: أثبتها فيها أوتاداً لها. وقرأ الحسن وعمرو بن ميمون وعمرو بن عبيد ونصر بن عاصم «والجِبالُ» بالرفع على الابتداء. ويقال: هلا أدخل حرف العطف على «أخرج» فيقال: إنه حال بإضمار قد كقوله تعالى: «حصِرت صدورهم». {مَتَاعاً لّكُمْ} أي منفعة لكم. {وَلأنْعَامِكُمْ} من الإبل والبقر والغنم. و «متاعا» نصب على المصدر من غير اللفظ لأن معنى «أخرج مِنها ماءها ومرعاها» أمتع بذلك. وقيل: نصب بإسقاط حرف الصفة تقديره لتتمتعوا به متاعاً.

**  قوله تعالى: { فَإِذَا جَاءَتِ الطّامّةُ الْكُبْرَىَ * يَوْمَ يَتَذَكّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَىَ * وَبُرّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَىَ }.

قوله تعالى: {فَإِذَا جَآءَتِ الطّآمّةُ الْكُبْرَىَ} أي الداهية العظمى, وهي النفخة الثانية, التي يكون معها البعث قاله ابن عباس في رواية الضحاك عنه, وهو قول الحسن. وعن ابن عباس أيضاً والضحاك: أنها القيامة سميت بذلك لأنها تطِمّ على كل شيء, فتعم ما سواها لعظم هولها أي تقلبه. وفي أمثالهم:
جرى الوادِي، فَطمّ على القَرِيّ المبرد

الطامّة عند العرب الداهية التي لا تستطاع, وإنما أخذت فيما أحسب من قولهم: طم الفرس طميماً إذا استفرغ جهده في الجري, وطم الماء إذا ملأ النهر كله. غيره: هي مأخوذة من طمّ السيلُ الرّكِية أي دفنها, والطمّ: الدفن والعلو. وقال القاسم بن الوليد الهمْداني: الطامة الكبرى حين يُساق أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار. وهو معنى قول مجاهد: وقال سفيان: هي الساعة التي يُسْلَم فيها أهل النار إلى الزبانية. أي الداهية التي طَمّت وعظمت قال:
إن بعض الحبّ يُعْمِي ويصِمّ     وكذاك البغضُ أدْهَى وأطَمْ

{يَوْمَ يَتَذَكّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَىَ} أي ما عمل من خير أو شر. {وَبُرّزَتِ الْجَحِيمُ} أي ظهرت. {لِمَن يَرَىَ} قال ابن عباس: يكشف عنها فيراها تتلظى كل ذي بصرَ. وقيل: المراد الكافر لأنه الذي يرى النار بما فيها من أصناف العذاب. وقيل: يراها المؤمن ليعرف قدر النعمة ويصلَي الكافر بالنار. وجواب «فإذا جاءتِ الطامّةُ» محذوف أي إذا جاءت الطامة دخل أهل النار النار وأهل الجنة الجنة. وقرأ مالك بن دينار: «وَبَرَزَتِ الجحِيمُ». عِكرمة: وغيره: «لمِن ترى» بالتاء, أي لمن تراه الجحيم, أو لمن تراه أنت يا محمد. والخطاب له عليه السلام, والمراد به الناس.

**  قوله تعالى: { فَأَمّا مَن طَغَىَ * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا * فَإِنّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىَ * وَأَمّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى النّفْسَ عَنِ الْهَوَىَ * فَإِنّ الْجَنّةَ هِيَ الْمَأْوَىَ}.

قوله تعالى: {فَأَمّا مَن طَغَىَ * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا} أي تجاوز الحد في العِصيان. قيل: نزلت في النضْر وابنه الحارث, وهي عامة في كل كافر آثر الحياة الدنيا على الاَخرة. وروي عن يحيى بن أبي كثير قال: من اتخذ من طعام واحد ثلاثة ألوان فقد طَغى. وروى جُوَيبر عن الضحّاك قال حذيفة: أخوف ما أخاف على هذه الأمة أن يؤثروا ما يَرَوْن على ما يَعلَمون. ويروي أنه وجد في الكتب: إن الله جل ثناؤه قال «لا يؤثِرُ عبدٌ لي دنياه على آخرته, إلا بثثت عليه همومه وضيعته, ثم لا أبالي في أيّها هلك». {فَإِنّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىَ} أي مأواه. والألف واللام بدل من الهاء. {وَأَمّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ} أي حَذِر مقامه بين يدي ربه. وقال الربيع: مقامه يوم الحساب. وكان قتادة يقول: إن للّهِ عز وجل مَقاماً قد خافه المؤمنون. وقال مجاهد: هو خوفه في الدنيا من الله عز وجل عند مواقعة الذنب فيقلع. نظيره: «ولمِن خاف مَقامَ ربهِ جنتانِ». {وَنَهَى النّفْسَ عَنِ الْهَوَىَ} أي زجرها عن المعاصي والمحارم. وقال سهل: ترك الهوى مِفتاح الجنة لقوله عز وجل: {وَأَمّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى النّفْسَ عَنِ الْهَوَىَ} قال عبد الله بن مسعود: أنتم في زمان يقول الحقّ الهوى, وسيأتي زمان يقود الهَوَى الحقّ, فنعوذ بالله من ذلك الزمان. {فَإِنّ الْجَنّةَ هِيَ الْمَأْوَىَ} أي المنزل. والآَيتان نزلتا في مصْعَب بن عُمير وأخيه عامر بن عمير فروَى الضحاك عن ابن عباس قال: أما من طغى فهو أخ لمصعب بن عمير اُسِر يوم بدر, فأخذته الأنصار فقالوا: من أنت؟ قال: أنا أخو مُصْعَب بن عُمير, فلم يشدّوه في الوَثاق, وأكرموه, وبيتوه عندهم, فلما أصبحوا حدّثوا مصعَب بن عُمَير حديثه فقال: ما هو لي بأخٍ, شدّوا أسيركم, فإن أمه أكثر أهل البطحاء حلياً ومالاً. فأوثقوه حتى بعثت أمّه في فِدائه. «وأما من خاف مقام ربه» فمصْعَب بن عمير, وقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه يوم اُحد حين تفرّق الناس عنه, حتى نفذت المشاقص في جوفه. وهي السهام, فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم متشحّطاً في دمه قال: «عندَ الله أحتسبك» وقال لأصحابه: «لقد رأيته وعليه بُردان ما تعرف قيمتهما وإن شراك نعليه من ذَهب». وقيل: إن مصعب بن عمير قتل أخاه عامِراً يوم بدر. وعن ابن عباس أيضاً قال: نزلت هذه الآَية في رجلين: أبي جهل بن هشام المخزوميّ ومصعب بن عمير العبدريّ. وقال السّدّي: نزلت هذه الآَية «وأما من خاف مقام ربهِ» في أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وذلك أن أبا بكر كان له غلام يأتيه بطعام, وكان يسأله من أين أتيت بهذا, فأتاه يوماً بطعام فلم يسأله وأكله فقال له غلامه: لمِ لا تسألني اليوم؟ فقال: نسيت, فمن أين لك هذا الطعام. فقال: تكهنت لقوم في الجاهلية فأعطَوْنيه. فتقايأه من ساعته وقال: يا رب ما بقي في العروق فأنت حبَسته فنزلت: «وأما من خاف مقام ربهِ». وقال الكلبيّ: نزلت في من هَمّ بمعصية وقدر عليها في خَلْوة ثم تركها من خوف الله. ونحوه عن ابن عباس. يعني من خاف عند المعصية مَقامه بين يدَي الله, فانتهى عنها. والله أعلم.

**  قوله تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السّاعَةِ أَيّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا * إِلَىَ رَبّكَ مُنتَهَاهَآ * إِنّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا * كَأَنّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوَاْ إِلاّ عَشِيّةً أَوْ ضُحَاهَا }.

قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السّاعَةِ أَيّانَ مُرْسَاهَا} قال ابن عباس: سأل مشركو مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم متى تكون الساعة استهزاء, فأنزل الله عز وجل الآَية. وقال عُروة بن الزبير في قوله تعالى: {فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا}؟ لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة, حتى نزلت هذه الآَية {إِلَىَ رَبّكَ مُنتَهَاهَآ}. ومعنى «مُرْساها» أي قيامُها. قال الفرّاء: رُسُوّها قيامها كرسوّ السفينةِ. وقال أبو عبيدة: أي منتهاها, ومرسَىَ السفينة حيث تنتهي. وهو قول ابن عباس. الربيع بن أنس: متى زمانها. والمعنى متقارب. وقد مضى في «الأعراف» بيان ذلك. وعن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة إلا بغَضْبة يغضَبُها ربك». «فِيم أنت مِن ذِكراها» أي في أي شيء أنت يا محمد من ذكر القيامة والسؤال عنها؟ وليس لك السؤال عنها. وهذا معنى ما رواه الزّهْرِيّ عن عُروة بن الزّبير قال: لم يزل النبيّ صلى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة حتى نزلت {فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا} {إِلَىَ رَبّكَ مُنتَهَاهَآ} أي منتهى علمها فكأنه عليه السلام لما أكثروا عليه سأل الله أن يعرفه ذلك, فقيل له: لا تسأل, فلست في شيء من ذلك. ويجوز أن يكون إنكاراً على المشركين في مسألتهم له أي فيم أنت من ذلك حتى يسألوك بيانَه, ولست ممن يَعلَمه. رُوِي معناه عن ابن عباس. والذكْرَى بمعنى الذكر. {إِلَىَ رَبّكَ مُنتَهَاهَآ} أي منتهى علمها, فلا يُوجَد عند غيره عِلم الساعة وهو كقوله تعالى: {قُلْ إِنّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبّي} (الأعراف: 187) وقوله تعالى: {إِنّ اللّهَ عِندَهُ عِلْمُ السّاعَةِ} (لقمان: 34). {إِنّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا}. أي مخوّف وخَصّ الإنذار بمن يَخْشى, لأنهم المنتفعون به, وإن كان منذراً لكل مكلف وهو كقوله تعالى: {اِنما تنذِر منِ اتبع الذكر وخشِي الرحمن بِالغيِب}. وقراءة العامة «منذِر» بالإضافة غير منون طلب التخفيف, وإلا فأصله التنوين لأنه للمستقبل وإنما لا ينون في الماضي. قال الفراء: يجوز التنوين وتركه كقوله تعالى: {بَالِغُ أَمْرِهِ}, و{بَالِغُ أَمْرِهِ} (الطلاق: 3) و{مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} (الانفال: 18) و«موهِنٌ كيدَ الكافِرين» والتنوين هو الأصل, وبه قرأ أبو جعفر وشَيبة والأعرج وابن مُحيصن وحُميد وعياش عن أبي عمرو «منذِرٌ» منونا, وتكون في موضع نصب, والمعنى نصب, إنما ينتفع بإنذارك من يخشى الساعة. وقال أبو علي: يجوز أن تكون الإضافة للماضي, نحو ضارب زيدٍ أمس لأنه قد فعَلَ الإنذار, الآَية ردّ على من قال: أحوال الاَخرة غير محسوسةٍ, وإنما هي راحة الرّوح أو تألمها من غير حِسّ. {كَأَنّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا} يعني الكافر يَرَونَ الساعة {لَمْ يَلْبَثُوَاْ} أي في دنياهم, {إِلاّ عَشِيّةً} أي قدر عشية {أَوْ ضُحَاهَا} أي أو قدر الضّحا الذي يلي تلك العشية, والمراد تقليل مدة الدنيا, كما قال تعالى: {لّمْ يَلْبَثُوَاْ إِلاّ سَاعَةً مّنَ النّهَارِ} (يونس: 45). ورَوَى الضحاك عن ابن عباس: كأنهم يوم يَرَوْنَها لم يلبثوا إلا يوماً واحداً. وقيل: «لم يلبثوا» في قبورهم «إلا عشِية أو ضحاها», وذلك أنهم استقصروا مدّة لَبْثِهِم في القبور لمَا عاينوا من الهول. وقال الفرّاء: يقول القائل: وهل للعشية ضُحاً؟ وإنما الضحا لصدر النَهار, ولكن أضيف الضحا إلى العشية, وهو اليوم الذي يكون فيه على عادة العرب يقولون: آتيك الغداةَ أو عشيتَها, وآتيك العشيةَ أو غداتها, فتكون العشية في معنى آخر النهار, والغداة في معنى أوّل النهار قال: وأنشدني بعض بني عُقَيل:
نحنُ صَبَحْنا عامِرا في دارِها
جُرْداً تَعَادَيَ طَرَفَي نهارِها
عِشيـةِ الهِـلالِ أو سِرارِهـا

أراد: عشيةِ الهلالِ, أو سِرار العشية, فهو أشدّ من آتيك الغداة أو عَشِيّها.

هذا، والله أعلى وأعلم،،،


الجمعة، 2 ديسمبر 2016

تفسير سورة العلق - للقرطبي



سورة «العَلَق»

**  سورة «العَلَق» وهي مكية بالإجماع, وهي أوّل ما نزل من القرآن, في قول أبي موسى وعائشة رضي الله عنهما. وهي تسع عشرة آية.

بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ
**  قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ}.
هذه السورة أوّل ما نزل من القرآن في قول معظم المفسرين. نزل بها جبريل على النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو قائم على حِراء, فعلمه خمسَ آيات من هذه السورة. وقيل: إن أوّل ما نزل {يَأَيّهَا الْمُدّثّرُ}, قاله جابر بن عبد الله وقد تقدم. وقيل: فاتحة الكتاب أوّل ما نزل قاله أبو مَيْسَرة الهَمْدانيّ. وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: أوّل ما نزل من القرآن {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ} (الأنعام: 151) والصحيح الأوّل. قالت عائشة: أوّل ما بُدِئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة فجاءه الملك فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبّكَ الأكْرَمُ }. خرجه البخارِيّ.
وفي الصحيحين عنها قالت: أوّل ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوَحْي الرؤيا الصادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مِثل فَلَق الصبح, ثم حُبّب إليه الخَلاء, فكان يخلو بغار حِراءٍ, يتحنث فيه اللياليَ ذواتِ العدد, (قبلَ أنْ يَرْجع إلى أهْلِهِ) ويتزوّد لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها حتى فجِئه الحقّ وهو في غار حِراء, فجاءه الملك, فقال: «اقرأ»: فقال: ما أنا بقارئ ـ قال ـ فأخذني فغطني, حتى بلغ مني الجهدُ ثم أرسلني», فقال: «اقرأ» فقلت: «ما أنا بقارئ». فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهدُ ثم أرسلني», فقال: «اقرأ» فقلت: «ما أنا بقارئ». فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد, ثم أرسلني» فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبّكَ الأكْرَمُ * الّذِى عَلّمَ بِالْقَلَمِ * عَلّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } الحديث بكماله. وقال أبو رجاء العُطارِدِيّ: وكان أبو موسى الأشعرِيّ يطوف علينا في هذا المسجد: مسجدِ البصرة, فيُقْعِدنا حِلَقاً, فيقرِئنا القرآن فكأني أنظر إليه بين ثوبين له أبيضين, وعنه أخذت هذه السورة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ }. وكانت أوّل سورة أنزلها الله على محمد صلى الله عليه وسلم. وروتْ عائشة رضي الله عنها أنها أوّل سورة أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم بعدها {نَ وَالْقَلَمِ} (القلم: 1), ثم بعدها {يَأَيّهَا الْمُدّثّرُ} (المدثر: 1) ثم بعدها «والضحى» ذكره الماوردِيّ. وعن الزّهرِيّ: أول ما نزل سورة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ} ـ إلى قوله ـ {مَا لَمْ يَعْلَمْ}, فحزِن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وجعل يعلو شواهِق الجبال, فأتاه جبريل فقال له: «إنك نبيّ الله» فرجع إلى خديجة وقال: «دَثّروني وصُبّوا عليّ ماء بارداً», فنزل {يَأَيّهَا الْمُدّثّرُ} (المدثر: 1).
ومعنى {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ} أي اقرأ ما أنزل إليك من القرآن مفتتحاً باسم ربك, وهو أن تذكر التسمية في ابتداء كل سورة. فمحل الباء من «باسم ربك» النصب على الحال. وقيل: الباء بمعنى على, أي اقرأ على اسم ربك. يقال: فعل كذا باسم الله, وعلى اسم الله. وعلى هذا فالمقروء محذوف, أي اقرأ القرآن, وافتتحه باسم الله. وقال قوم: اسم ربك هو القرآن, فهو يقول: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ} أي اسمَ ربك, والباء زائدة كقوله تعالى: {تَنبُتُ بِالدّهْنِ} (المؤمنون: 20), وكما قال:
سُـودُ المَـحـاجِـر لا يَـقْـرَاْنَ بـالسّـوَرِ
أراد: لا يقرأن السور. وقيل: معنى «اقرأ باسم ربك» أي اذكر اسمه. أمره أن يبتدئ القراءة باسم الله.

**  قوله تعالى: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ}.
قوله تعالى: {خَلَقَ الإِنسَانَ} يعني ابن آدم. {مِنْ عَلَقٍ} أي من دمٍ جمع عَلقة, والعلقة الدّم الجامد وإذا جرى فهو المسفوح. وقال: «مِنْ عَلَق» فذكره بلفظ الجمع لأنه أراد بالإنسان الجمع, وكلهمْ خُلِقوا من عَلَق بعد النطفة. والعَلَقة: قطعة من دمٍ رَطْب, سميت بذلك لأنها تعلَق لرطوبتها بما تَمُر عليه, فإذا جفت لم تكن عَلقة. قال الشاعر:
تركناه يَخِر على يديه يمج عليهما عَلَق الوَتِينِ
وخَصّ الإنسانَ بالذكر تشريفاً له. وقيل: أراد أن يبين قدرَ نعمته عليه, بأن خلقه من علقة مَهينة, حتى صار بشراً سَوِيّا, وعاقلاً مميزاً.

**  قوله تعالى: {اقْرَأْ وَرَبّكَ الأكْرَمُ}.
قوله تعالى: {اقْرَأْ} تأكيد, وتم الكلام, ثم استأنف فقال: {وَرَبّكَ الأكْرَمُ} أي الكريم. وقال الكلبيّ: يعني الحليم عن جهل العباد, فلم يُعَجّل بعقوبتهم. والأوّل أشبه بالمعنى, لأنه لما ذكر ما تقدّم من نعمه, دلّ بها على كرمه. وقيل: «إقرأ وربك» أي اقرأ يا محمد وربك يعينك ويفهمك, وإن كنت غير القارئ. و«الأكرم» بمعنى المتجاوز عن جهل العباد.

**  قوله تعالى: {الّذِى عَلّمَ بِالْقَلَمِ}.
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {الّذِى عَلّمَ بِالْقَلَمِ } يعني الخط والكتابة أي علم الإنسان الخط بالقلم. ورَوى سعيد عن قتادة قال: القلم نعمة من الله تعالى عظيمة, لولا ذلك لم يقم دِين, ولم يصلُح عيش. فدل على كمال كرمه سبحانه, بأنه عَلّم عباده ما لم يعلموا, ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم, ونَبّه على فضل علم الكتابة, لما فيه من المنافع العظيمة, التي لا يحيط بها إلا هو. وما دُوّنت العلوم, ولا قُيّدت الحِكم, ولا ضبطت أخبار الأوّلِين ومقالاتهم, ولا كتبُ الله المُنْزَلة إلا بالكتابة ولولا هي ما استقامت أمور الدين والدنيا. وسُمّي قلماً لأنه يُقْلَم أي يقطع, ومنه تقليم الظفر. وقال بعض الشعراء المُحْدَثِين يصف القلم:
فكأنه والحِبْرُ يخضِبُ رأسَهُ شيخٌ لوصل خرِيدةٍ يَتَصَنّعُ
لِمَ لا اُلاحظه بعين جَلالة وبه إلى الله الصحائفُ ترفعُ
وعن عبد الله بن عمر قال: يا رسول الله, أأكتب ما أسمع منك من الحديث؟ قال: «نعم فاكتب, فإن الله عَلّم بالقلم». وروى مجاهد عن ابن عمر قال: خلق الله عز وجل أربعة أشياء بيده, ثم قال لسائر الحيوان: كن فكان: القلم, والعَرْش, وجنة عَدْن, وآدم عليه السلام. وفي من علمه بالقلم ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه آدم عليه السلام لأنه أوّل من كتب, قاله كعب الأحبار. الثاني: أنه إدريس, وهو أول من كتب. قاله الضحاك. الثالث: أنه أدخل كل من كتب بالقلم لأنه ما عَلِم إلا بتعليم الله سبحانه, وجمع بذلك نعمته عليه في خَلْقه, وبين نعمته عليه في تعليمه استكمالاً للنعمة عليه.
الثانية: صح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هُريرة, قال: لما خلق الله الخلق كتب في كتابه ـ فهو عنده فوق العرش ـ: «إن رحمتي تغلِب غضبي». وثبت عنه عليه السلام أنه قال: «أوّلُ ما خلق الله: القلم, فقال له اكتب, فكتب ما يكون إلى يوم القيامة, فهو عنده في الذكر فوق عرشه». وفي الصحيح من حديث ابن مسعود: (أنه) سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة, بعث الله إليها ملكاً فصوّرها, وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظمها, ثم يقول, يا رب, أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب المَلَك ثم يقول: يا رب أجَلَه, فيقول ربك ما شاء, ويكتب الملك, ثم يقول يا رب رزقَه, ليقضي ربك ما شاء, ويكتب المَلَك, ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده, فلا يزيد على ما اُمر ولا ينقص, وقال تعالى: {وَإِنّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ } (الانفطار: 10 ـ 11)».
قال علماؤنا: فالأقلام في الأصل ثلاثة: القلم الأوّل: الذي خلقه الله بيده, وأمره أن يكتب. والقلم الثاني: أقلام الملائكة, جعلها الله بأيديهم يكتبون بها المقادير والكوائن والأعمال. والقلم الثالث: أقلام الناس, جعلها الله بأيديهم, يكتبون بها كلامهم, ويصلون بها مآربهم. وفي الكتابة فضائل جمة. والكتابة من جملة البيان, والبيان مما اختص به الاَدميّ.
الثالثة: قال علماؤنا: كانت العرب أقل الخلق معرفة بالكتاب, وأقل العرب معرفة به المصطفى صلى الله عليه وسلم صُرِف عن علمه, ليكون ذلك أثبت لمعجزته, وأقوى في حجته, وقد مضى هذا مبيناً في سورة «العنكبوت». وروى حَمّاد بن سَلَمة عن الزبير بن عبد السلام, عن أيوب بن عبد الله الفهري, عن عبد الله بن مسعود, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تُسْكِنوا نساءكم الغُرف, ولا تعلموهن الكتابة». قال علماؤنا: وإنما حذرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك, لأن في إسكانهن الغُرَف تطلعاً إلى الرجل وليس في ذلك تحصين لهنّ ولا تستر. وذلك أنهنّ لا يملكن أنفسهنّ حتى يشرفن على الرجل فتَحدثَ الفتنة والبلاء فحذرهم أن يجعلوا لهن غُرَفاً ذريعة إلى الفتنة. وهو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس للنساء خيرٌ لهنّ من ألا يراهنّ الرجال, ولا يرين الرجال». وذلك أنها خُلقت من الرجل, فنهْمتُها في الرجل, والرجل خلقت فيه الشهوة, وجُعلت سكناً له, فغير مأمون كل واحد منهما في صاحبه. وكذلك تعليم الكتابة ربما كانت سبباً للفتنة, وذلك إذا عُلّمَتِ الكتابة كتبت إلى من تَهوَى. والكتابة عين من العيون, بها يبصر الشاهد الغائب, والخط هو آثار يده. وفي ذلك تعبير عن الضمير بما لا ينطلق به اللسان, فهو أبلغ من اللسان. فأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينقطع عنهنّ أسباب الفتنة تحصيناً لهنّ, وطهارة لقلوبهنّ.

**  قوله تعالى: {عَلّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}.
قيل: «الإنسان» هنا آدم عليه السلام. علمه أسماء كل شيء حسب ما جاء به القرآن في قوله تعالى: {وَعَلّمَ آدَمَ الأسْمَآءَ كُلّهَا} (البقرة: 31). فلم يبق شيء إلا وعلّم سبحانه آدمَ اسمَه بكل لغة, وذكره آدم للملائكة كما عُلّمه. وبذلك ظهر فضله, وتبيّن قدره, وثبتت نبوّته, وقامت حجة الله على الملائكة وحجتُه, وامتثلت الملائكة الأمر لِمَا رأت من شرف الحال, ورأت من جلال القدرة, وسمعت من عظيم الأمر. ثم توارثت ذلك ذريته خلفاً بعد سلف, وتناقلوه قوماً عن قوم. وقد مضى هذا في سورة «البقرة» مستوفًى والحمد لله. وقيل: «الإنسان» هنا الرسول محمد صلى الله عليه وسلم دليله قوله تعالى: {وَعَلّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} (النساء: 113). وعلى هذا فالمراد بـ«علّمك» المستقبل فإن هذا من أوائل ما نزل. وقيل: هو عام لقوله تعالى: {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أُمّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً} (النحل: 78).

**  قوله تعالى: {كَلاّ إِنّ الإِنسَانَ لَيَطْغَىَ}.
قوله تعالى: {كَلاّ إِنّ الإِنسَانَ لَيَطْغَىَ} إلى آخر السورة. قيل: إنه نزل في أبي جهل. وقيل: نزلت السورة كلها في أبي جهل نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصلي في المسجد ويقرأ باسم الرب. وعلى هذا فليست السورة من أوائل ما نزل. ويجوز أن يكون خمس آيات من أوّلها أوّل ما نزلت, ثم نزلت البقية في شأن أبي جهل, وأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بضم ذلك إلى أوّل السورة لأن تأليف السور جرى بأمر من الله. ألا ترى أن قوله تعالى: {وَاتّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ} (البقرة: 281) آخرُ ما نزل, ثم هو مضموم إلى ما نزل قبله بزمان طويل. و «كَلاّ» بمعنى حَقّا إذ ليس قبله شيء. والإنسان هنا أبو جهل. والطغيان: مجاوزة الحد في العصيان.

**  قوله تعالى: {أَن رّآهُ اسْتَغْنَىَ}.
{أَن رّآهُ} أي لأن رأى نفسه استغنى أي صار ذا مال وثروة. وقال ابن عباس في رواية أبي صالح عنه, قال: لما نزلت هذه الآية وسمع بها المشركون, أتاه أبو جهل فقال: يا محمد تزعم أنه من استغنى طغى فاجعل لنا جبال مكة ذهباً, لعلنا نأخذ منها, فنطغى فندع ديننا ونتبع دينك. قال فأتاه جبريل عليه السلام فقال: «يا محمد خيّرهم في ذلك فإن شاؤوا فعلنا بهم ما أرادوه: فإن لم يسلموا فعلنا بهم كما فعلنا بأصحاب المائدة». فعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن القوم لا يقبلون ذلك فكفّ عنهم إبقاء عليهم. وقيل: «أن رَآه اسْتغنَى» بالعشيرة والأنصار والأعوان. وحذف اللام من قوله «أن رآه» كما يقال: إنكم لَتَطْغَون إن رأيتم غِناكم. وقال الفراء: لم يقل رأى نفسه, كما قيل قتل نفسه لأن رأى من الأفعال التي تريد اسماً وخبراً, نحو الظن والحِسبان, فلا يقتصر فيه على مفعول واحد. والعرب تطرح النفس من هذا الجنس تقول: رأيتني وحسبتني, ومتى تراك خارجاً, ومتى تظنك خارجاً. وقرأ مجاهد وحميد وقنبل عن ابن كثير «أن رأهُ اسْتَغنَى» بقصر الهمزة. الباقون «رآه» بمدّها, وهو الاختيار.

**  قوله تعالى: {إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ}.
قوله تعالى: {إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ} أي مرجع من هذا وصفه، فنجازيه. والرجعى والمرجع والرجوع: مصادر; يقال: رجع إليه رجوعا ومرجعا ورجعى على وزن فعلى.

**  قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الّذِي يَنْهَىَ * عَبْداً إِذَا صَلّىَ}.
قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الّذِي يَنْهَىَ} وهو أبو جهل {عَبْداً} وهو محمد صلى الله عليه وسلم. فإن أبا جهل قال: إنْ رأيت محمداً يصلّي لأطأنّ على عنقه قاله أبو هُريرة. فأنزل الله هذه الآيات تعجباً منه. وقيل: في الكلام حذف والمعنى: أمِنَ هذا الناهي عن الصلاة من العقوبة.

**  قوله تعالى: { أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَىٰ * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَىٰ}.
أي أرأيت يا أبا جهل إن كان محمد على هذه الصفة، أليس ناهيه عن التقوى والصلاة هالكا؟

**  قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ إِن كَذّبَ وَتَوَلّىَ * أَلَمْ يَعْلَم بِأَنّ اللّهَ يَرَىَ}.
يعني أبا جهل كذّب بكتاب الله عز وجل, وأعْرض عن الإيمان. وقال الفرّاء: المعنى {أَرَأَيْتَ الّذِي يَنْهَىَ * عَبْداً إِذَا صَلّىَ} وهو على الهدى, وآمر بالتقوى, والناهي مكذّب متولّ عن الذكر أي فما أعجب هذا! ثم يقول: وَيْلَه! ألم يعلم أبو جهل بأن الله يرى أي يراه ويعلم فعله فهو تقرير وتوبيخ. وقيل: كل واحد من «أرأيت» بدل من الأوّل. و{أَلَمْ يَعْلَم بِأَنّ اللّهَ يَرَىَ} الخبر.

** قوله تعالى: {كَلاّ لَئِن لّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ}.
قوله تعالى: {كَلاّ لَئِن لّمْ يَنتَهِ} أي أبو جهل عن أذاك يا محمد. {لَنَسْفَعاً} أي لنأخذن {بِالنّاصِيَةِ } فلنذلنه. وقيل: لنأخذن بناصيته يوم القيامة, وتُطْوَى مع قدميه, ويطرح في النار, كما قال تعالى: {فَيُؤْخَذُ بِالنّوَاصِي وَالأقْدَامِ} (الرحمن: 41). فالآية ـ وإن كانت في أبي جهل ـ فهي عِظة للناس, وتهديد لمن يمتنع أو يمنع غيره عن الطاعة. وأهل اللغة يقولون: سفَعْتَ بالشيء: إذا قبضت عليه وجذبته جذباً شديداً. ويقال: سَفَعَ بناصية فرسه. قال:
قَومٌ إذا كَثُر الصياح رأيتهمْ مِنْ بينِ مُلْجِم مُهْرِهِ أو سافِعِ
وقيل: هو مأخوذ من سَفَعتْه النار والشمس: إذا غيرت وجهه إلى حال تسويد كما قال:
أثافِيّ سُفعاً في مُعَرّسِ مِرْجَلٍ ونَوْيٌ كجِذم الحوض أثلَمَ خاشِع
والناصية: شعر مقدّم الرأس. وقد يعبر بها عن جملة الإنسان كما يقال: هذه ناصية مباركة إشارة إلى جميع الإنسان. وخص الناصية بالذكر على عادة العرب فيمن أرادوا إذلاله وإهانته أخذوا بناصيته. وقال المبرّد: السّفْع: الجذب بشدّة أي لَنَجُرّن بناصيته إلى النار. وقيل: السّفْع الضرب أي لنلطُمَنّ وجهه. وكله متقارب المعنى. أي يجمع عليه الضرب عند الأخذ ثم يجرّ إلى جهنم. ثم قال على البدل: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} أي ناصية أبي جهل كاذبة في قولها, خاطئةٍ في فعلها. والخاطئ معاقب مأخوذ. والمخطئ غير مأخوذ. ووصف الناصيةِ بالكاذبة الخاطئة, كوصفِ الوجوه بالنظر في قوله تعالى: {إِلَىَ رَبّهَا نَاظِرَةٌ} (القيامة: 23). وقيل: أي صاحبها كاذب خاطئ كما يقال: نهاره صائم, وليله قائم أي هو صائم في نهاره, ثم قائم في ليله.

**  قوله تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُو الزّبَانِيَةَ}.
قوله تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} أي أهل مجلسه وعشيرته, فليستنصر بهم. {سَنَدْعُو الزّبَانِيَةَ} أي الملائكة الغِلاظ الشداد ـ عن ابن عباس وغيره ـ واحدهم زِبْنِيّ قاله الكسائي. وقال الأخفش: زابن. أبو عبيدة: زِبْنِية. وقيل: زَبَانِيّ. وقيل: هو اسم للجمع كالأبابيل والعباديد. وقال قتادة: هم الشّرَط في كلام العرب. وهو مأخوذ من الزّبْن وهو الدفع ومنه المُزابنة في البيع. وقيل: إنما سموا الزبانية لأنهم يعملون بأرجلهم, كما يعملون بأيديهم حكاه أبو الليث السّمَرْقندِيّ ـ رحمه الله ـ قال: ورُوِي في الخبر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه السورة, وبلغ إلى قوله تعالى: {لَنَسْفَعاً بِالنّاصِيَةِ} قال أبو جهل: أنا أدعو قومي حتى يمنعوا عني ربّك. فقال الله تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُو الزّبَانِيَةَ }. فلما سمع ذِكر الزبانية رجع فزِعاً فقيل له: خَشِيت منه! قال لا! ولكن رأيت عنده فارساً يُهدّدني بالزّبانية, فما أدري ما الزبانية, ومال إليّ الفارس, فخشِيت منه أن يأكلني. وفي الأخبار أن الزبانية رؤوسهم في السماء وأرجلهم في الأرض, فهم يدفعون الكفار في جهنم. وقيل: إنهم أعظم الملائكة خَلْقاً, وأشدّهم بطشاً. والعرب تطلِق هذا الاسم على من اشتدّ بطشه. قال الشاعر:
مَطاعيمُ في القُصْوَى مطاعينَ في الوَغَى زَبانيةٌ غُلْب عِطامٌ حلُومُها
وعن عكرمة عن ابن عباس: {سَنَدْعُو الزّبَانِيَةَ } قال: قال أبو جهل: لئن رأيت محمداً يصلي لأطأنّ على عنقه. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لو فعل لأخذته الملائكة عِياناً». قال أبو عيسى: هذا حديث صحيح غريب. وروَى عِكرمة عن ابن عباس قال: مر أبو جهل على النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يصلّي عند المقام, فقال: ألم أنهك عن هذا يا محمد! فأغلظ له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو جهل: بأيّ شيء تهدّدني يا محمد! والله إني لأكثر أهل الوادي هذا نادياً فأنزل الله عز وجل: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُو الزّبَانِيَةَ}. قال ابن عباس: والله لو دعا نادِيَه لأخذته زبانية العذاب من ساعته. أخرجه الترمذي بمعناه, وقال: حسن غريب صحيح. والنادي في كلام العرب: المجلس الذي ينتدِي فيه القوم أي يجتمعون, والمراد أهل النادي كما قال جرِير:
لـهـم مَجـلِـسٌ صُـهْـبُ السّـبـالِ أذِلـةٌ
 وقال زهير:
وفـيهـمْ مَـقـامـاتٌ حِـسـان وُجُـوهـهـم
 وقال آخر:
واسْـتَـبّ بـعـدَك يـا كُـلَـيـبُ المـجـلِـسُ
 وقد ناديت الرجل أنادِيه إذا جالسته. قال زهير:
وجارُ البيتِ والرجلُ المنادِي
أمام الحي عَقْدُهما سَواءُ

**  قوله تعالى: {كَلاّ لاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب}.
{كَلاّ} أي ليس الأمر على ما يظنه أبو جهل. {لاَ تُطِعْهُ} أي فيما دعاك إليه من ترك الصلاة. {وَاسْجُدْ} أي صل لِلّه {وَاقْتَرِب} أي تقرّب إلى الله جل ثناؤه بالطاعة والعبادة. وقيل: المعنى: إذا سجدت فاقترب من الله بالدعاء. روى عطاء عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقرب ما يكون العبد من ربه, وأحبه إليه, جَبْهَتُه في الأرض ساجداً لله».
قال علماؤنا: وإنما (كان) ذلك لأنها نهاية العبودية والذلة ولله غاية العِزة, وله العزة التي لا مقدار لها فكلما بَعُدْت من صفته, قربت مِن جنته, ودنوت من جواره في داره. وفي الحديث الصحيح: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «أمّا الركوع فعظموا فيه الرب. وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء, فإنه قِمَن أن يُسْتجاب لكُم». ولقد أحسن من قال:
وإذا تذللتِ الرقاب تواضُعاً منا إليك فعِزّها في ذُلّها
وقال زيد بن أسلم: اسجد أنت يا محمد مصلياً, واقترب أنت يا أبا جهل من النار.
قوله تعالى: {وَاسْجُدْ} هذا من السجود. يحتمل أن يكون بمعنى السجود في الصلاة, ويحتمل أن يكون سجود التلاوة في هذه السورة. قال ابن العربيّ: «والظاهر أنه سجود الصلاة» لقوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الّذِي يَنْهَىَ * عَبْداً إِذَا صَلّىَ } ـ إلى قوله ـ {كَلاّ لاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب} , لولا ما ثبت في الصحيح من رواية مسلم وغيره من الأئمة عن أبي هريرة أنه قال: سجدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في {إِذَا السّمَآءُ انشَقّتْ} (الإنشقاق: 1), وفي {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ} (العلق: 1) سجدتين, فكان هذا نصاً على أن المراد سجود التلاوة. وقد رَوى ابن وهب, عن حماد بن زيد, عن عاصم بن بَهْدلة, عن زِرّ بن حُبَيش, عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: عزائم السجود أربع: «ألم» و«حَم. تنزيل من الرحمن الرحيم» و«النجم» و«اقرأ باسم ربك». وقال ابن العربيّ: «وهذا إن صح يلزم عليه السجود الثاني من سورة «الحج», وإن كان مقترناً بالركوع لأنه يكون معناه اركعوا في موضع الركوع, واسجدوا في موضع السجود». وقد قال ابن نافع ومطَرّف: وكان مالك يسجد في خاصة نفسه بخاتمة هذه السورة من «اقرأ باسم ربك» وابن وهب يراها من العزائم.
 قلت: وقد روينا من حديث مالك بن أنس عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن نافع عن ابن عمر قال: لما أنزل الله تعالى {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمُعاذ: «اكتبها يا معاذ» فأخذ معاذ اللوح والقلم والنون ـ وهي الدواة ـ فكتبها معاذ فلما بلغ {كَلاّ لاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب} سجد اللوح, وسجد القلم, وسجدت النون, وهم يقولون: اللهم ارفع به ذِكراً, اللهم احْطُطْ به وِزراً, اللهم اغفر به ذنباً. قال معاذ: سجدت, وأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم, فسجد.
       تمت السورة. والحمد لله على ما فتح ومنح وأعطى. وله الحمد والمِنة.