الجمعة، 2 يوليو 2010

إثبات القانون الأجنبي


إثبات القانون الأجنبي
قد يثور أمام القضاء الوطني منازعات ينخرط فيها عنصر أجنبي، كشأن عقد أبرم في الخارج وتم تنفيذه – كله أو جزء منه – في الوطن، أو العكس. أو قد يتمسك أحد الخصوم بتطبيق قانون أجنبي على الوقائع محل النزاع حيث تلزمه قواعد الإسناد في قانونه الوطني بتطبيق القانون الأجنبي عليها. 
وهنا يثور التساؤل حول إمكانية افتراض علم القاضي الوطني بمضمون القانون الأجنبي المراد تطبيقه. ولما كان من البديهي عدم إمكان توقع علم القاضي الوطني بجميع قوانين دول العالم أجمع، وبالتالي يقع عبء إثبات هذا القانون الأجنبي على ذوي الشأن من الخصوم، وإلا كان القاضي في حل من تطبيقه إذا ما عجز ذوي الشأن عن إثباته.
ولقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه يجب على ذوي الشأن من الخصوم في هذه الحالة إثبات هذا القانون الأجنبي وسارت على ذلك محاكم فرنسا وإنجلترا وكانت محاكم مصر المختلطة فيما سبق تسير على ذلك أيضا.
إلا أن جانب آخر من الفقه ذهب إلى القول بأنه يجب على القاضي أن يبحث عن هذا القانون ويطبقه كما يطبق قانون بلاده.
وقد ذهب فريق من الشراح من أنصار هذا المذهب الأخير إلى القول بأن القاضي الوطني يجب أن يطبق القانون الأجنبي من تلقاء نفسه في الحالات التي تلزمه قواعد الإسناد في قانونه الوطني بتطبيقه, ومن ثم فلا حاجة بداءة إلى تمسك الخصوم بالقانون الأجنبي, ولا حاجة بهم إلى إثباته ولا داعي لتكليفهم بذلك. بل أن القاضي هو الذي يجب أن ينشط للتعرف علي القانون الأجنبي بنفسه.
إلا أن جمهور الفقهاء على أن القانون الأجنبي يعتبر بمثابة "واقعة" من واقعات الدعوى, ومن ثم يلزم ذوي الشأن من الخصوم بإثباته.([1]) وقد ساير القضاء هذا الرأي سواء في مصر أم في فرنسا، مع مراعاة أنه يترتب على الأخذ بهذا الرأي: عدم إخضاع فهم القاضي الوطني للقانون الأجنبي الواجب التطبيق لرقابة محكمة النقض المصرية، على أساس أن فهمه له يمثل تقديراً منه لواقعة من وقائع الدعوى المطروحة عليه، ومحكمة النقض لا تراقب قاضي الموضوع في تقديره للوقائع.
ولقد استقر القضاء على تحديد وسيلة إثبات القانون الأجنبي, فهو لا يقبل في هذا الشأن إلا شهادة من السلطات الأجنبية الرسمية، مع ترجمة معتمدة لها، وهذه الشهادة تسمي في الاصطلاح CERTIFICAT DE COUTUME ([2]) وإن كان يبدو من قضاء محكمة النقض الفرنسية أنها قد مالت إلى التساهل وقبول إثبات القانون الأجنبي عن طريق تقديم مؤلفات الفقهاء الأجانب.([3])
هذا ولقد ذهب رأي ثالث من الشراح إلي أن القانون الأجنبي لا يخرج عن كونه قانوناً, وغاية ما في الأمر أن الصعوبات العملية في التعرف على القوانين الأجنبية تبرر الحلول التي ذهب إليها القضاء من تطلب قيام الخصوم بإثبات هذه القوانين.
ويري البعض أن هذا الرأي لم يعد له محل من الناحية العملية حيث أن ما كان مثاراً في الماضي من صعوبة التعرف على القوانين الأجنبية قد هان شأنه إزاء تقدم الحضارة وسهولة المواصلات وتوثق الاتصالات بين الدول وانتشار التبادل الثقافي وإقبال أبناء كل أمة على تعلم لغات الأمم الأخرى وإتقان الترجمة. هذا فضلاً عن أن معظم البلدان تنشئ إدارات لجمع وترتيب الوثائق الخاصة بالقوانين الأجنبية مثل إدارة التشريعات الأجنبية في وزارات العدل بفرنسا ومصر.
أما في مصر فإن القضاء([4]) لم يعرض لهذه المسألة إلا في الأحكام قليلة العدد والتي كانت تجري علي نهج القضاء الفرنسي.
وينقسم الفقه في مصر([5]) على ذات النحو الذي رأيناه في فرنسا وإن لم تكن اتجاهات بعض شراحه من الوضوح على النحو الذي يبدو في فقه الشراح الفرنسيين.
فالرأي الغالب في الفقه المصري يميل إلى القول بأنه ليس على الخصوم إثبات ما يتمسكون به من قواعد القانون الأجنبي بل أنه ينبغي على القاضي أن ينهض إلى البحث عن هذه القواعد. وسندهم في ذلك أن القاعدة القانونية لا تتغير طبيعتها لمجرد أن الذي يقوم بتطبيقها هو قاض أجنبي، فالقانون الأجنبي يأخذ حكم القانون الوطني ويفترض علم القاضي به ولا يطلب من الخصوم إثباته.
وأنه ما دام القانون الوطني، يقضي في خصوص مسألة معينة، بتطبيق قانون أجنبي معين عليها، فإنه يتوجب على القاضي أن يطبق هذا القانون وعلى نحوه السليم. فإن لم يطبقه، أو أخطأ في فهمه وجره ذلك إلى الخطأ في تطبيقه، فإنه يعتبر بذلك قد تخالف، ليس مع حكم القانون الأجنبي الذي لم يحسن فهمه فحسب، بل مع قانونه الوطني أيضاً، الذي أملى عليه أمراً فلم يصدع له.
ويري فريق آخر أن القانون الأجنبي يجب أن يكون محلاً للإثبات أي أنه يكون على صاحب المصلحة التمسك بقاعدة القانون الأجنبي أن يثبتها. وسندهم في ذلك أنه يتعذر على القاضي الوطني الإلمام بالقوانين الأجنبية، لذلك فإن طرف الدعوى الذي يطالب بتطبيق قانون أجنبي، يتحمل عبء إثباته، ويتم ذلك عن طريق الشهادات الصادرة من السلطات المختصة بالدولة الأجنبية، أو مجموعات الأحكام، أو المؤلفات العلمية.
هذا ويذهب بعض الفقهاء إلى تأسيس رأيهم بشأن إلزام الخصوم بإثبات القانون الأجنبي على الصعوبات العملية. ومع ذلك فإن جانبا من هذا التوجه الأخير يتجه بالإضافة إلى الصعوبات العملية إلى اعتبار القانون الأجنبي في حكم الواقعة, مع أن هذا الاعتبار الأخير وحده يجعل التذرع بالصعوبات العملية من غير أساس ولا ضرورة حيث أن التعلل بهذه الصعوبات يعني عدم اعتبار القانون الأجنبي واقعة, ومن ثم فإنه يكون من التناقض أن نجمع في نفس الوقت بين الحجتين.
ومن جانبنا فإننا نري اعتبار القانون الأجنبي واقعة لأن افتراض علم القاضي بقانون دولته يرجع إلى أنه هو ذاته أداة هذه الدولة لتطبيق القانون ولذلك ينبغي أن يتحقق عما صدر فيها من قوانين. أما الدول الأجنبية فهي أشخاص معنوية أخري لا يعتبر القاضي أداة من أدواتها أو عضوا فيها, ولهذا لا يفترض فيه العلم بقوانينها كما لا يفترض فيه العلم بما صنع الأفراد في دولته لاختلاف أشخاصهم عن شخص الدولة.
وقد جاء في حكم لمحكمة النقض المصرية أن الاستناد إلى قانون أجنبي – وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة لا يعدو أن يكون مجرد واقعة مادية وهو ما يوجب على الخصوم إقامة الدليل عليها وإذا لم تقدم الطاعنة بملف الطعن صورة رسمية للتشريع الأجنبي الذي تستند إليه ولا ترجمة رسمية له فإن النعي يكون غير مقبول.([6])
كما قضت محكمة النقض بأن: "الاستناد إلى قانون أجنبي. واقعة مادية يجب على الخصوم إقامة الدليل عليها. عدم تقديم الطاعن ما يثبت تمسكه بهذا الدفع أمام محكمة الموضوع. إثارته أمام محكمة النقض. سبب جديد. غير مقبول. (نقض جلسة 18/11/1972 مجموعة المكتب الفني – السنة 23 – صـ 1257. ونقض جلسة 19/1/1977 مجموعة المكتب الفني – السنة 28 – صـ 276).
وفي هذا السياق فإنه لا يمكن الاعتراض بأن قانون القاضي الوطني يلزمه، وفقاً لقواعد الإسناد، في بعض الأحوال بأن يطبق قانون الدولة الأجنبية, لأن ذلك لا يعني حتماً أن يبحث القاضي عن قانون تلك الدولة الأجنبية أو أن يفترض فيه العلم به, ذلك أن هذه الحالة تتساوى في الحكم مع الحالة التي يلزم فيها المشرع القاضي الوطني بأن ينزل حكم العقد على أطرافه ويعتبر العقد "قانوناً للعاقدين" ومع ذلك لم يجادل أحد في إلزام العاقد بإثبات العقد ودلالته.([7])
وغاية ما في الأمر أن القانون الأجنبي وإن كان واقعة إلا أنه ليس واقعة خاصة بطرفي الخصومة بل هو واقعة عامة من الوقائع التي يمكن أن تكون محلاً لعلم الكافة بها – فلا جناح على القاضي أن يبحث أن شاء ولا عليه أيضاً أن أجري في شأنها علمه الشخصي([8]), فإن لم يطمئن القاضي إلى نتائج بحثه أو يجد إليه سبيلا, وجب على الخصوم إقناعه بقاعدة القانون الأجنبي على الصورة المعمول بها في بلادها, فإن لم يثبتوا له ذلك جاز له أن يعتبر هذه الحالة من الحالات التي لا يوجد فيها نص تشريعي, وقد يري تطبيق القانون المصري على أساس أن هذا هو ما تقضي به العدالة.([9])
وإن قيل أن في مكنة القاضي الاستعانة بمترجم فإن الرد على ذلك أن هذا من سلطته, على أنه لن يكون أمامه في هذه الحالة إلا أن يفترض في الترجمة مطابقتها للواقع وهو ما يجعل الحكم في النهاية في يد المترجم عملا. هذا فضلاً عما يحدث كل يوم من التعديلات والتغييرات في القوانين مما قد يغيب عن القاضي. أضف إلى هذا أن معرفة القوانين الأجنبية لا تقف عند حد العثور على نصوصها بل تتعدى ذلك إلي معرفة مدلول هذه النصوص. ولهذا فإننا لا نقر رأي الشراح الذين يريدون أن يفرضوا على القاضي العلم بالقوانين الأجنبية.
وأخيراً، يجب مراعاة أن قاعدة إقامة الدليل على القانون الأجنبي، مناطها، أن يكون هذا القانون الأجنبي غريباً عن القاضي الوطني ويصعب عليه الوقوف على أحكامه أو الوصول إلى مصادره، فإذا كان القاضي الوطني على علم بمضمونه أو يفترض العلم به، أمتنع تطبيق قاعدة إقامة الدليل على القانون الأجنبي.
حيث قضت محكمة النقض المصرية بأنه: "المقرر في قضاء هذه المحكمة أن التمسك بقانون أجنبي لا يعدو أن يكون مجرد واقعة يجب إقامة الدليل عليها وكان مرد هذا القضاء هو الاستجابة للاعتبارات العملية التي لا يتيسر معها للقاضي الإلمام بأحكام ذلك القانون فإن مناط تطبيق هذه القاعدة  أن يكون القانون الأجنبي غريبا عن القاضي يصعب عليه الوقوف على أحكامه والوصول إلى مصادره أما إذا كان القاضي يعلم بمضمونه أو كان علمه به مفترضا فلا محل للتمسك بتطبيق القاعدة، لما كان ذلك وكانت المعاهدات الدولية قد أصبحت مصدرا هاما من مصادر القانون البحري وطريقا لتوحيد أحكامه على النطاق الدولي وصارت قواعده بمقتضى هذه المعاهدات قواعد دولية معروفة لدى القضاء البحري في كثير من الدول وكانت مصر قد انضمت إلى المعاهدة الدولية الخاصة بتوحيد بعض القواعد القانونية المتعلقة بسندات الشحن الموقعة ببروكسل في 25/8/1924 والتي أصبحت تشريعا نافذ المفعول في مصر بموجب المرسوم بالقانون الصادر في 31/1/1944 وكان بروتوكول هذه المعاهدة قد خول الدول المتعاقدة الحق في تنفيذه إما بإعطائها قوة القانون أو بإدخال أحكامها في تشريعها الوطني وكان من المعلوم فقها وقضاء أن إنجلترا قد أدخلت أحكام معاهدة سندات الشحن لسنة 1924 في تشريعها الداخلي حيث أصدرت قانون نقل البضائع بحراً لسنة 1924 وجعلت أحكامه مطابقة لأحكام المعاهدة المذكورة التي أصبحت تشريعا نافذاً في مصر فإن علم القاضي بمضمون هذا القانون يكون مفترضاً ولا يكون ثمة محل لإلقاء عبء إثبات مضمونة على عاتق من يتمسك به". (نقض مدني في الطعن رقم 2317 لسنة 59 قضائية – جلسة 8/2/1996 مجموعة المكتب الفني – السنة 47 – الجزء الأول – صـ 317).
هذا، والله أعلى وأعلم،،،


([1]) نقض مدني فرنسي 26 أبريل 1950 منشور في دالوز 1950 قضاء 9 صـ 361. كما قضت محكمة النقض المصرية بأن: "الاستناد إلى قانون أجنبي - وعلى ما جرى به قضاء محكمة النقض - لا يعدو أن يكون مجرد واقعة وهو ما يوجب على الخصوم إقامة الدليل عليه". نقض مدني رقم 8 لسنة 35 قضائية، جلسة 26/7/1967.
([2]) أنظر نقض فرنسي 31/10/1923 و 27/11/1926 وباتيفول ومراجعه. ويري بعض الشراح أن اعتبار القانون الأجنبي واقعة يبيح إثباته بأي وسيلة: ريجو, القانون الدولي الخاص, صـ 145.
([3]) حكم نقض 16 أبريل 1950.
(4) فالمقرر في قضاء محكمة النقض أن القانون الأجنبي لا يعدو أن يكون مجرد واقعة مادية يجب على الخصوم إقامة الدليل عليها. مجموعة المكتب الفني، أنظر"أحكام ومبادئ النقض في مائة عام في قانون الإثبات" صـ 276.
([5]) وأما التشريع فلم يرد فيه نص بهذا الخصوص وإن كان المشروع التمهيدي للقانون المدني قد ورد فيه نص جرت في شأنه مناقشة انتهت إلى صياغته بالشكل الآتي: "في جميع الحالات التي سيقرر فيها أن قانوناً أجنبياً هو الواجب التطبيق يطبق عليه القانون المصري إذا كان وجود القانون الأجنبي أو مدلوله غير ممكن إثباته" مجموعة الأعمال التحضيرية للقانون المدني على المادة 27 منه صفحة 314و 315 بالهامش من الجزء الأول في طبعة وزارة العدل. لكن هذا النص أهمل عند إفراغ القانون المدني في صيغته النهائية لا بقصد استبعاد حكمه, وإنما لأن اهتمام المشـرع على ما يظهر كان منصرفاً إلى مسألة الإحالة والإحالة المزدوجـة.
(35) الطعنان رقما 25و 28 لسنة 32 قضائية "أحوال شخصية", جلسة 29/12/1971, مجموعة المكتب الفني، السنة 22، صـ 1126.
(36) أنظر: "سافاتييه" في: تغيرات وجه القانون، وقرب ما ذكرناه وما جاء في بحث العلاقة بما ورد هانز كلسن عن العقود في سجلات (أرشيف) فلسفة القانون في العدد الخاص بالعقد من أن العقد ينشئ قاعدة nor ,e وأن القانون هنا يفرض الحكم للعقد آي أن هناك تفويضاً délégation إحالة كما في حالة الإحالة إلى قانون أجنبي (أرشيف – سنة 1940 – عدد 4/1 صـ 36).
([8]) ولا يكون قضاؤه فيها بعلمه محل طعن ما دام علمه مطابقاً للحقيقة, انظر باتيفول بند 336 و353 و355.
([9] ( وفي ذلك قضت محكمة النقض بأن: "الاستناد إلى قانون أجنبي - وعلى ما جرى به قضاء محكمة النقض - لا يعدو أن يكون مجرد واقعة وهو ما يوجب على الخصوم إقامة الدليل عليه". نقض مدني في الطعن رقم  8 لسنة 35 قضائية، جلسة 26/7/1967.

الخميس، 27 مايو 2010

مصر - صورة إيجابية

صحيفة الوطن الكويتية الثلاثاء 11 جمادى الأولى 1431 – 25 مايو 2010
مبدعون مسكوت عليهم
فهمي هويدي – المقال الأسبوعي
حينما سدت الطواويس الأفق، فإننا لم نر مثابرة النمل ولا إبداعاته، تماما كما أن احباطات السلطة حجبت عنا اشراقات المجتمع.
(1)
أتحدث عن الحراك الصامت الذي لم يتوقف في عمق المجتمع المصري. لا اقصد الحراك السياسي الذي يناطح السلطة ويدعو إلى التغيير (رغم أن للسياسات طواويسها، أيضا)، لكني أتحدث عن أناس لم ينتظروا شيئا من السلطة ومارسوا بأنفسهم عملية التغيير في الواقع فيما قدروا عليه. لم يكترثوا بالطوارئ التي استهدفت تشديد القبضة على المجتمع وإطلاق يد السلطة لتتحكم في مصيره وتعبث به.لكنهم من جانبهم بادروا إلى إعلان «طوارئ» من نوع آخر، لهدف أشرف وأنبل. ذلك أنهم استنهضوا همتهم واختاروا مفاصلة أهل الأهواء والأضواء، وانصرفوا إلى صناعة أحلامهم بأيديهم. لم ينتظروا خبراً في صحف الصباح، ولا صورة على شاشة التلفزيون، ولا شيئا من جوائز الدولة وعطاياها التي تتقاسمها شلل المنتفعين والمهللين.
أتحدث عن أولئك النفر من الشرفاء المجهولين، الذين اختاروا أن يعيشوا مع الفقراء ويأخذوا بأيديهم، تاركين طواويس المدينة يسبحون في أضوائها فرحين بما أوتوا. أولئك الذين ظلوا مهجوسين بالغرس والزرع دون أن ينتظروا من أحد جزاء ولا شكورا. تركوا للطواويس التيه والمجد، وقعدوا بعيدا في الظل ينسجون الحلم ويبنون في هدوء، متخذين من مثابرة النمل وتواضعه نموذجا ومثلا أعلا.
(2)
في صنعاء سمعت لأول مرة اسم الدكتور محمد غنيم ومركز الكلى الذي إقامة في مدينة المنصورة. شعرت بالخجل والاعتزاز عندما حدثني عنهما بانبهار شديد صديق كان شقيقا لأحد مرضاه. إذ لم يخطر على بالي أن يكون في مصر صرح طبي بالتميز الذي سمعت به.
وطوال السنوات العشر الأخيرة ظللت أتابع أداء الرجل الذي وقف وراء ذلك العمل الكبير. وكان أكثر ما قدرته فيه، فضلا عن مكانته العلمية الرفيعة، عزوفه عن الأضواء وحرصه على إن يؤدي رسالته الجليلة في صمت. ولا اعرف كيف قاوم ذلك العالِم الزاهد فتنة الشهرة والثراء التي استسلم لها ولهث وراءها غيره، وكيف إنه قرر أن يقيم صرحه الطبي في قلب الدلتا بعيدا عن جاذبية القاهرة وإغراءاتها.
كذلك سمعت في الفترة ذاتها باسم «لجنة الإغاثة» في نقابة الأطباء، مرة في السودان وأخرى في البوسنة وثالثة في أذربيجان.وعلى الرغم من أن اسمها ليس مألوفا في مصر، سواء لان القائمين عليها آثروا إثبات الحضور في ارض الواقع بأكثر من حضورهم في وسائل الإعلام، أو لان أكثر نشاطها موجه إلى الخارج، فإنني وجدت في أداء تلك اللجنة نموذجا آخر للذين نذروا أنفسهم للتفاني في إغاثة الفقراء والملهوفين وتوظيف المعرفة في الخدمة المباشرة للناس.
أما الذي فعله الدكتور مجدي يعقوب فقد كان مدهشا حقا.إذ فاجأنا ذلك الجراح النابه الذي هاجر من مصر وذاع صيته في انجلترا، حتى منحته الملكة لقب «سير»، بأنه قرر إقامة مركز لجراحة القلب في أقصى صعيد مصر. وكأنه حين اختار أسوان فانه أراد أن يعمل في ابعد نقطة عن أضواء القاهرة، وان يعطي لغيره درساً عملياً في الوفاء والمسؤولية. أن بعضا من هؤلاء النابهين المهاجرين يأتون إلى مصر للسياحة حينا، ولإعطائنا النصائح والمواعظ حينا آخر، وللظهور في برامج التلفزيون وحضور الحفلات والمنتديات في حين ثالثة. لكن الدكتور مجدي يعقوب عزف عن كل ذلك. وبدا كأنه نسيج وحده.فلم يكتف بإقامة الصرح الطبي، فحسب، ولكن النموذج النبيل الذي قدمه، شجع آخرين من العلماء المصريين المهاجرين على الانضمام إليه، والإسهام فيما يقدمه المركز من خدمات. علمت أن المركز يجري 600 عملية قلب مفتوح بالمجان سنوياً. منها 300 عملية للأطفال (لاحظ أن العملية في الظروف العادية تتكلف عدة ألوف من الجنيهات). ذلك بالإضافة إلى دوره في البحوث والتدريس وتقديم الخدمات الصحية المتميزة لمرضى القلب في مصر والدول العربية والإفريقية. إذ خلال الأشهر الماضية أجرى المركز 240 عملية جراحية مجانية، 50%منها للأطفال من مختلف محافظات مصر، وبعض الدول الأخرى.علمت أيضا أن المركز استضاف فريقا طبيا مصريا- كنديا، أجرى خبراؤه 70 عملية جراحية. ولا يزال يؤدي رسالته النبيلة قانعا بالصمت وراضيا بالظل.
(3)
في الأسبوع الماضي عادت الابتسامات إلى وجوه أهالي قرية كفر العرب بمحافظة دمياط، التي كان الحزن قد خيم عليها خلال السنوات الأخيرة، بعدما ضاقت عليهم أبواب الرزق، وبدا كان الدنيا اسودت في وجوههم. ذلك أن أهالي القرية التي اشتهرت بتربية الماشية وتصنيع الأجبان أدركوا أن أسعار الأعلاف زادت بحيث تجاوزت حدود احتمالهم. فما كان من المربيين إلا أن اتجهوا إلى التخلص من قطعان الماشية بالذبح. وأدى ذلك إلى إغلاق نصف مصانع منتجات الألبان في القرية. لكن أزمتهم بدأت في الحل بعدما نجح بعض الباحثين في تصنيع علف جديد للماشية بجودة عالية، من البواقي الزراعية في القرية التي كانت تحرق أو تُلقى كمهملات في كل موسم.
هذا الجهد وراءه قصة غريبة ومدهشة أيضا، أبطالها مجموعة من الباحثين المغمورين الذين اختاروا منذ سنوات أن يحاربوا الفقر في معاقله، وبأيدي الفقراء أنفسهم، فشمروا عن سواعدهم واستخدموا معارفهم العملية وخبراتهم لحفر مسار جديد للتفكير والتطبيق، وبدؤوا رحلتهم منذ نحو عشرين عاما. صحيح أنهم لم يغيروا شيئا في أوضاع المجتمع المصري، لكنهم زرعوا «فسائل» للأمل في بعض أنحاء مصر، والتزموا بنهج النمل في التحرك والبناء.  
الفكرة المحورية في مشروعهم كالتالي: أن مصر بلد زراعي في الأساس، وريفها هو الأكثر معاناة من الفقر والتخلف والبطالة، والزراعة لها مخلفاتها التي تهمل وتحرق وتتحول إلى نقمة أحيانا، على الرغم من أنها تشكل ثروة لمن يعرف قيمتها.ولأنهم يعرفون جيدا قيمة تلك الثروة، فقد اتجهوا إلى تصنيع البواقي الزراعية، منطلقين من أنها تمثل شريانا للإنعاش الاقتصادي في مصر الأخرى.
في دراستهم المرجعية وجدوا أن البواقي الزراعية في مصر تقدر سنوياً بحوالي 72مليون طن كأحطاب (حطب الذرة والقطن) أو عروش (بنجر السكر والطماطم والبطاطس) أو قشر (القمح والأرز)- وللعلم فان مصاص القصب وحده يقدر بحوالي 30 مليون طن. أضف إلى ذلك أن الفلاحين يلجئون عادة إلى تشوين تلك البواقي في حواف الحقول تمهيدا للتخلص منها، بما يقتطع من الرقعة الزراعية نحو 88 ألف فدان، كان من الممكن أن تزرع قمحا. هؤلاء الباحثون المغمورون، الذين لم تعرف لهم أسماء ولم تر لهم صور، يجوبون أرجاء «مصر الأخرى» منذ بداية التسعينيات، باحثين عن الكيفية التي يمكن بها إحياء الموات في القرى الفقيرة، بحيث يتحول أهلها من قاعدين خاملين إلى منتجين، ومن يائسين إلى فاعلين.
في عام 1993 أقاموا معرضا لتصنيع ألواح خشب «الكونتر» من جريد النخيل. ونجحوا في إقناع سكان القرى الغنية بالنخيل بان الجريد الذي يجفف ويحرق يمكن أن يكون خامة لصناعة تدر عليهم دخلا طيبا، وتغنى عن استيراد خشب الكونتر من الخارج. وحين نجحت تجاربهم وظهرت ألواح الخشب الكونتر إلى النور، فأنهم حصلوا على شهادات بجودة المنتج من معهد بحوث الأخشاب في ميونيخ، وحصلوا على جائزة من مؤتمر المواد الذي انعقد في ماسترخت بهولندا عام 1997. وأقاموا معرضا لمشروعات منتجات المشربية (الارابيسك أو الخرط العربي) في كل من محافظتي الوادي الجديد والفيوم.
أيضا في عام 2006 نجحوا في استخدام حطب القطن كمادة صناعية. واستطاعوا تشغيل احد مصانع الإسكندرية للخشب الحبيبي بذلك الحطب، بديلا لأخشاب الكازوارينا التي أشرفت كمياتها المتاحة على النضوب. من ثم، فبدلا من الحرق المكشوف للحطب المسبب للسحابة السوداء، فان ذلك الحطب أصبح له سعر وفائدة.
في عام 1998 نفذوا مشروعا لاستخدام نواتج تقليم أشجار الفاكهة بديلا للأخشاب المستوردة.ووظفوا في ذلك أخشاب 7 أنواع من الفاكهة وصنعوا منها أخشابا تنافس خواص خشب الزان الذي تستورده مصر بما قيمته 4 مليارات جنيه سنوياً.
في عام 2006 قاموا بتجربة ناجحة أخرى.ذهبوا إلى بلدة شماس بمرسى مطروح، التي تعد واحدة من أفقر عشر قرى في مصر، ووجدوا أن التين فيها بلا ثمن لكثرته، ولاحظوا أن الفائض منه يلقى في الشوارع، فرتبوا لبعض سيدات القرية بالتعاون مع كلية الزراعة بجامعة الإسكندرية، كيف يمكن أن يتحول التين إلى مربى. واستطاعت ثلاث سيدات تصنيع 15 طن مربى في شهرين، حققت المواصفات العالمية في الغذاء.
ذلك كله لم يشعر أو يسمع به احد.لكن فريق النمل الذي يقوده الدكتور حامد الموصلي الأستاذ غير المتفرغ بهندسة عين شمس لم يتوقف عن السفر مع مساعديه إلى قرى الفقراء ومحاولة استخراج الأمل من البؤس واليأس.وهم يحلمون بنشر فكرة تصنيع البواقي الزراعية (البيو فيبرز) التي تستثمر تلك الثروة المجهولة في العديد من الصناعات المهمة التي تشكل نقلة مهمة ليس فقط في حياة القرى الفقيرة، ولكن أيضا في مسار النهوض بالمجتمع وتطوره.
(4)
اكتشفت أن الجمعية الشرعية في مصر تقف على رأس جيوش النمل التي ما برحت تبنى في صمت منذ مائة عام. ونبهني إلى ذلك أن القائمين عليها أقاموا احتفالا متواضعا بهذه المناسبة في مقرهم بالقاهرة، تجاهلته وسائل الإعلام، ونشرت وقائعه مجلتهم «التباين» في عددها الشهري الأخير. وآثار انتباهي في أنشطة الجمعية حجم الدور التنموي الذي تقوم به، جنبا إلى جنب مع دورها الدعوي التقليدي. بدا ذلك الدور التنموي مفاجئا ومدهشا. فهم يكفلون 560 ألف يتيم في مصر، وينفذون من أموال الزكاة مشروعا للمراكز الطبية المتخصصة، التي لا تعالج الفقراء فحسب، ولكن غير القادرين أيضا، بغير تمييز بين المسلمين والمسيحيين. (جلسة الكيماوي الواحدة لمرضى السرطان تتكلف 5 آلاف جنيه). وتقدم خدماتها يوميا لمائة مريض بالعلاج الإشعاعي و30 مريضا بالكيماوي. والاخيرون يكلفون الجمعية ما يجاوز 5 ملايين جنيه كل شهر.
ومن خلال لجنة الإغاثة بنقابة الأطباء، فأنهم أوصلوا المعونات إلى العديد من دول إفريقيا وآسيا. في ذات الوقت فأنهم يكفلون عشرة آلاف طالب وافد، فيقدمون لهم رواتب شهرية إلى جانب الإقامة الكاملة والرعاية الصحية، ويعلمونهم العربية. وقد حصل 50 واحدا منهم على شهادة الدكتوراه. قائمة العطاء طويلة. فلديهم مشروع لتنمية رؤوس الماعز، التي يتم توزيعها على الفقراء والمعدمين (لديهم 82 وحدة تستوعب الواحدة 215 رأسا). كما أنشأت الجمعية 50 محطة لمياه الشرب، تكلفت الواحدة 150 ألف جنيه، وتغذي 12 ألف نسمة.
 لست أشك في أن مصر تحفل بمثل هؤلاء البنائين العظام الذين لم ينتظروا منا تشجيعيا ولا تصفيقا، فمن واجبنا أن نسجل أسماءهم بحروف من نور، وان نقول لهم شكرا، ليس فقط لما يعملونه، ولكن أيضا لأنهم ذكرونا بأنه لا يزال فينا خير كثير، يمنحنا شعاع أمل وسط الظلمة التي نغرق فيها.
...................
فهمي هويدي

الخميس، 29 أبريل 2010

أطفالنا وأطفالهم

الطفل اليهود: إن أبي اخبرني أنكم انتم العرب 
حيوانات إرهابيون شريرون.
 الطفل الفلسطيني: إن أبي لم يخبرني أي شيء لأن أباك قتله