الأحد، 15 أكتوبر 2017

كتاب علم أصول الفقه - تأليف عبد الوهاب خلاف - بصيغة وورد - الجزء الثالث والأخير




القاعدة الثالثة- في الواضح الدلالة ومراتبه:

الواضح الدلالة من النصوص:
هو ما دلّ على المراد منه بنفس صيغته من غير توقف على أمر خارجي. فإن كان يحتمل التأويل والمراد منه ليس هو المقصود أصالة من سياقه، سمّى الظاهر؛ وإن كان يحتمل التأويل والمراد منه هو المقصود أصالة من سياقه، سمّي النص؛ وإن كان لا يحتمل التأويل ويقبل حكمه النسخ، سمّي المفسر؛ وإن كان لا يحتمل التأويل ولا يقبل حكمه، سمّي المحكم.
وكل نصّ واضح الدلالة يجب العمل بما هو واضح الدلالة عليه، ولا يصح تأويل ما يحتمل التأويل منه إلا بدليل.
هذا القاعدة والقاعدة الرابعة الآتية، خاصتان ببيان الواضح الدلالة من النصوص الشرعية، وغير الواضح الدلالة منها، وبيان مراتب وضوح الواضح، ومراتب خفاء غير الواضح، وما يزال به هذا الخفاء.
وأساس التفريق بين الواضح وغير والواضح هو:
دلالة النص بنفسه على المراد منه من غير توقف على أمر خارجي أو توقفه على أمر خارجي، فما فهم المراد منه بنفس صيغته من غير توقف على أمر خارجي فهو الواضح الدلالة، وما لم يفهم المراد منه إلا بأمر خارجي فهو غير الواضح الدلالة.
وأساس التفاوت في مراتب الوضوح هو:
احتمال التأويل وعدم احتماله، فما فهم معناه من نفس صيغته ولا يحتمل أن يفهم منه معنى غيره، أوضح دلالة مما فهم معنى منه ويحتمل أن يفهم منه معنى غيره.
وأساس التفاوت في مراتب الخفاء هو القدرة على إزالة الخفاء وعدمها، فما في دلالته خفاء، ولا سبيل إلى إزالة خفائه إلا بالرجوع إلى مصدره وهو الشارع، أخفى مما في دلالته خفاء، والطريق ممهدة لإزالة خفائه بالبحث والاجتهاد.

وقد قسم علماء الأصول الواضح الدلالة إلى أربعة أقسام:
الظاهر، والنص، والمفسر، والمحكم: وهي في وضوح دلالتها على هذا الترتيب. فالمحكم أوضحها دلالة، ويليه المفسر، ثم النص، ثم الظاهر، وتظهر ثمرة هذا التفاوت عند التعارض.
1- الظاهر:
الظاهر في اصطلاح الأصوليين هو ما دل على المراد منه بنفس صيغته من غير توقف فهم المراد منه على أمر خارجي، ولم يكن المراد منه هو المقصود أصالة من السياق، ويحتمل التأويل.
فمتى كان المراد يفهم من الكلام من غير حاجة إلى قرينة، ولم يكن المقصود الأصلي من سياقه، يعتبر الكلام ظاهرا فيه.
فقوله تعالى: )وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا( [البقرة: 275]، ظاهر في إحلال كل بين وتحريم كل ربا؛ لأن هذا معنى يتبادر فهمه من لفظي "أحلّ وحرّم" من غير حاجة إلى قرينة، وهو غير مقصود أصالة من سياق الآية، لأن الآية كما قدمنا مسوقة أصالة لنفي المماثلة بين البيع والربا ردا على الذين قالوا : )إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا( [البقرة: 275] لا بيان حكميهما.
وقوله تعالى: )فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً( [النساء: 4]، ظاهر في إباحة نكاح ما حل من النساء لأن هذا معنى يتبادر فهمه من لفظ، فانكحوا ما طاب لكم منهن من غير توقف على قرينة، وهو غير مقصود أصالة من سياق الآية؛ لأن المقصود أصالة من سياقها هو قصير العدد على أربع أو واحدة كما قدمنا.
وقوله تعالى: )وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا( [الحشر: 7] ظاهر في وجوب طاعة الرسول في كل ما أمر به وكل ما نهى عنه؛ لأنه يتبادر فهمه من الآية، وليس هو المقصود أصالة من سياقه، لأن المقصود أصالة من سياقه هو: ما آتاكم الرسول من الفيء حين قسمته فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا.
وقوله في البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته"، ظاهر في حكم ميتة البحر، لأن ليس المقصود أصالة من السياق، إذ السؤال خاص بماء البحر.
وحكم الظاهر:
أنه يجب العمل بما ظهر منه ما لم يقم دليل يقتضي العمل بغير ظاهره، لأن الأصل عدم صرف اللفظ عن ظاهره إلا إذا اقتضى ذلك دليل.
وأنه يحتمل التأويل أي صرفه عن ظاهره وإرادة معنى آخر منه، فإن كان الظاهر عاماً يحتمل أن يخصص، وإن كان مطلقاً أن يقيد، وإن كان حقيقة يحتمل أن يراد به معنى مجازي، وغير ذلك من وجوه التأويل.
وأنه يقبل النسخ، أي أن حكمه الظاهر منه يصح في عهد الرسالة وفي زمن التشريع، وأن ينسخ ويشرع حكم بدله متى كان من الأحكام الفرعية الجزئية التي تتغير بتغير المصالح وتقبل النسخ.

2- النص:
النص في اصطلاح الأصوليين:
هو ما دل بنفس صيغته على المعنى المقصود أصالة من سياقه، ويحتمل التأويل. فمتى كان المراد متبادراً فهمه من اللفظ، ولا يتوقف فهمه على أمر خارجي، وكان هو المقصود أصالة من السياق، يعتبر اللفظ نصاً عليه.
فقوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) [البقرة: 275] نص على نفي المماثلة بين البيع والربا، لأنه معنى متبادر فهمه من اللفظ ومقصود أصالة من سياقه.
وقوله تعالى: (فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ) [النساء: 4] نص على قصر أقصى عدد الزوجات على أربع، لأنه معنى متبادر فهمه من اللفظ ومقصود أصالة من سياقه .
وقوله تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) [الحشر: 7].
نص على وجوب طاعة الرسول في قسمة الفيء إعطاءً ومنعاً لأنه المقصود من سياقه.
وحكمه حكم الظاهر، فيجب العمل بما هو نص عليه، ويحتمل أن يؤول أي يراد منعه غير ما هو نص عليه، ويقبل النسخ على ما بينا في الظاهر.
ولهذا أخذ من قوله تعالى: (فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم ...) [النساء: 4]، إباحة الزواج وقصر العدد على أربع أو واحدة.
فكل من الظاهر والنص واضح الدلالة على معناه، أي لا يتوقف فهم المراد من كل منهما على أمر خارجي، ويجب العمل بما وضحت دلاله عليه إذا ما وجد ما يقضي هذا التأويل.
والتأويل معناه في اللغة:
بيان ما يؤول إليه الأمر، وقال تعالى: (ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء: 59]، ومنه المآل.
ومعناه في اصطلاح الأصوليين:
صرف اللفظ عن ظاهره بدليل، ومن المقرر أن الأصل عدم صرف اللفظ ظاهره، وأن تأويله أي صرفه عن ظاهره، ولا يكون صحيحاً إلا إذا بني على دليل شرعي من نص أو قياس، أو روح التشريع أو مبادئه العامة، وإذا لم يبن التأويل على دليل شرعي صحيح بل بني على الأهواء والأغراض والانتصار لبعض الآراء، كان تأويلاً غير صحيح، وكان عبثاً بالقانون ونصوصه، وكذلك إذا عارض التأويل نصاً صريحاً، أو كان تأويلاً إلى ما لا يحتمله اللفظ.
من أمثلة التأويل الصحيح:
تخصيص عموم البيع في قوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ) [البقرة: 275]، بالأحاديث التي نهت عن بيع الغرر، وعن بيع الإنسان ما ليس عنده، وعن بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحه، وهذا من تأويل الظاهر، لأن الآية كما قدمنا، نص ظاهر في إحلال كل بيع ونص في المماثلة. وتخصيص عموم المطلقات في قوله تعالى: (وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ) [الطلاق: 4]. وتقييد الدم المطلق في قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ) [المائدة: 3]، بقوله تعالى: (أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً) [الأنعام: 145]. وهكذا من كل تخصيص أو تقييد، قضى به التوفيق بين نصوص القرآن والسنة.
وكذلك تأويل الشاة في قوله: "في كل أربعين شاة شاة"، والصاع من تمر في حديث المصرة: "من اشترى شاة مصراة فهو بالخيار بين أن يمسكها وبين أن يردها وصاعا من تمر"، فإن ظاهر الحديث الأول أنه لا يجزئ في زكاة الأربعين شاة إلا واحدة منها، ولا تجزئ قيمتها، وظاهر الحديث الثاني أنه إذا رد المشتري الشاة المصراة لا يجزئ في تعويض البائع عما احتلب من لبنها إلا صاع من تمر.
وهذا الظاهر، تقتضي حكمة التشريع والأصول العامة في التضمين تأويله وصرفه عن ظاهره، وإرادة معنى آخر يتفق معهما، لأن الغرض من إيجاب الشاة زكاة للأربعين دفع حاجة الفقراء، وقد تكون دفع حاجة الفقير بقيمة الشاة أكثر توافراً، فيراد بالشاة شاة، أو ما يعادلها من كل مال متقوم، ولأن الغرض من إيجاب صاع من تمر هو تعويض البائع عما أتلفه من لبن شاته. وقد يتراضيان على التعويض بقيمة اللبن، أو بأي تعويض آخر غير الصاع من التمر، والمقصود هو مثل ما أتلف أو قيمته، وهذا هو الأصل العام شرعاً في ضمان المتلفات. وكذلك تأويل الثلث للأم بثلث ما بقي بعد فرض أحد الزوجين في إحدى المسألتين الغراوين، منعاً من زيادة نصيبها في الإرث عن نصيب الأب.
ومن أمثلة ذلك في القانون الجنائي:
لفظ الليل في جعله جريمة السرقة وفي جريمة إتلاف المزروعات ظرفاً مشدداً، فإذا أخذ بظاهر النص أريد بالليل من غروب الشمس، إلى شروقها، ولكن هذا ربما لا يتفق وحكمة الشارع في جعل الليل ظرفاً مشدداً، لأن الغرض تشديد العقوبة على من يغتنم الظلام فرصة لارتكاب جريمته، فيراد بالليل إذا خيم الظلام، وربما لا يكون ذلك أثر غروب الشمس مباشرة.
ومن التأويل الذي هو موضع نظر:
تأويل قوله تعالى: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ) [المائدة: 89]، بإرادة عشرة مساكين أو مسكيناً واحد عشر مرات.
وقوله تعالى: (فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) (المجادلة:4)، بإرادة ستين مسكيناً أو مسكيناً واحد ستين مرة.
وقوله تعالى: (َإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا) [النساء: 86] بإرادة الهبة، أي إذا وهب أحدكم هبة فليعوض الواهب خيراً منها أو مثلها.
وإغلاق باب التأويل كله والأخذ بالظاهر دائماً، كما هو مذهب الظاهرية، قد يؤدي إلى البعد عن روح التشريع والخروج عن أصوله العامة، وإظهار النصوص متخالفة.
وفتح باب التأويل على مصراعيه بدون حذر واحتياط، قد يؤدي إلى الزلل والعبث بالنصوص ومتابعة الأهواء، والحق هو في احتمال التأويل الصحيح وهو ما دل عليه دليل من نص أو قياس أو أصول عامة، ولا يأباه اللفظ بل يحتمل الدلالة عليه بطريق الحقيقة أو المجاز، ولم يعارض نصاً صريحاً.

3- المفسر في اصطلاح الأصوليين:
هو ما دل بنفسه على معناه المفصل تفصيلاً لا يبقى معه احتمال للتأويل. فمن ذلك، أن تكون الصيغة دالة بنفسها دلالة واضحة على معنى مفصل، وفيها ما ينفي احتمال إرادة غير معناها، كقوله تعالى في قاذفي المحصنات: (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) [النور: 4]، فإن العدد المعين لا يحتمل زيادة ولا نقصاً، وقوله تعالى: (وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً) [التوبة: 36]، فإن كلمة كافة تنفي احتمال التخصيص، وكثير من مواد العقوبات التي حددت العقوبات على جرائم معينة، ومواد القانون المدني التي حصرت أنواعاً من الديون أو الحقوق أو فصلت أحكاماً تفصيلاً لا احتمال معه للتأويل.
ومن ذلك أن تكون الصيغة قد وردت مجملة، وألحقت من الشارع بيان تفسيري قطعي أزال إجمالها، وفصلها حتى صارت مفسرة لا تحتمل التأويل، كقوله تعالى: (وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ) [البقرة: 43]، وكقوله: (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) [آل عمران: 97]، وكقوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) [البقرة: 275]، فالصلاة والزكاة والحج والربا، كل هذه ألفاظ مجملة لها معان شرعية لم تفصل بنفس صيغة الآية. وقد فصل الرسول معانيها بأفعاله وأقواله، فصلى وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، وحج وقال: "خذوا عني مناسككم"، وحصل الزكاة وفصل الربا المحرم. وهكذا كل مجمل في القرآن، مكملً له مادام قطعياً، وهذا ما يسمى في الاصطلاح الحديث: التفسير التشريعي، أي الذي مصدره الشارع نفسه، فإن الرسول أعطاه الله سلطة التفسير والتفصيل بقوله سبحانه: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل: 44].

وحكم المفسر:
أنه يجب العمل به كما فصل، ولا يحتمل أن يصرف عن ظاهره، ويقبل حكمه النسخ إذا كان مما بيناه في الظاهر، أي حكماً فرعياً يقبل التبديل.
فالتفسير الذي ينفي احتمال التأويل هو التفسير المستفاد من نفس الصيغة، أو المستفاد من بيان تفسيري قطعي ملحق بالصيغة صادر من المشرع نفسه، لأن هذا البيان من القانون. وأما تفسير الشراًح والمجتهدين، فلا يعتبر جزءاً مكملاً للقانون ولا ينفي احتمال التأويل، وليس لأحد غير الشارع نفسه أن يقول فيما يحتمل التأويل المراد منه هو كذا لا غير.
ويظهر من مقارنة التفسير بالتأويل، أن كلاً منهما تبيين للمراد من النص، ولكن التفسير تبيين للمراد بدليل قطعي من الشارع نفسه، ولهذا ليحتمل أن يراد غيره.

4- المحكم:
المحكم في إصلاح الأصوليين:
هو ما دل على معناه الذي لا يقبل إبطالاً ولا تبديلاً بنفسه دلاله واضحة لا يبقى معها احتمال للتأويل، فهو لا يحتمل التأويل أو إرادة معنى آخر غير ما ظهر منه، لأنه مفصل ومفسر تفسيراً لا مجال معه للتأويل، ولا يقبل النسخ في عهد الرسالة وفترة التنزيل ولا بعدها، لأن الحكم المستفاد منه، إما حكم أساسي من قواعد الدين لا يقبل التبديل: كعبادة الله وحده، والإيمان برسله وكتبه، أو من أمهات الفضائل التي لا تختلف باختلاف الأحوال: كبر الوالدين، والعدل، أو حكم فرعي جزئي، ولكن دل الشارع على تأييد تشريعه كقوله تعالى في قاذفي المحصنات: (وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً) [النور: 4]، وقول الرسول: "الجهاد ماض إلى يوم القيامة".

وحكمه:
أنه يجب قطعاً العمل به، ولا يحتمل صرفه عن ظاهره ولا نسخه، وإنما قلنا لا يقبل النسخ، لأنه بعد عهد الرسول وانقطاع الوحي والتنزيل، صارت الأحكام الشرعية التي جاءت في القرآن والسنة كلها محكمة لا تقبل نسخاً، ولا إبطالاً، إذ لا توجد بعد الرسول سلطة تشريعية، تملك إبطال ما جاء به أو تبديله، وسيأتي توضيح هذا في مبحث النسخ.
وهذه الأنواع الأربعة للواضح الدلالة، متفاوتة في وضوح دلالتها على المراد منها كما قلنا، ويظهر اثر هذا التفاوت عند التعارض.
فإذا تعارض ظاهر ونص يرجح النص، لأنه أوضح دلالة من الظاهر من جهة أن معنى النص مقصود أصالة من السياق، ومعنى الظاهر غير مقصود أصالة من السياق، ولاشك في أن المقصود أصالة يتبادر إلى الفهم قبل غيره. فلهذا كانت دلالة النص أوضح من دلالة الظاهر، ولهذا يرجح الخاص على العام عند التعارض، لأن الخاص مقصود أصالة بالحكم، فاللفظ نص فيه، وهو في العام غير مقصود أصالة بل في ضمن أفراد.
ومثال هذا قوله تعالى بعد عد المحرمات من النساء: (وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ) [النساء: 24]، مع قوله تعالى: (فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ) [النساء: 3]. فالآية الأولى ظاهرة في إحلال زواج خامسة لأنها مما وراء ذلكم، والآية الثانية نص في قصر إباحة الزواج على أربع، فلما تعارضا رجح النص لقوته في وضوح دلالته، وحرم زواج ما زاد على أربع.
وإذا تعارض نص ومفسر يرجح المفسر، لأنه أوضح دلالة من النص من جهة أن تفسيره جعله غير محتمل للتأويل وجعل المراد منه متعيناً.
ومثال هذا قوله: :المستحاضة تتوضأ لكل صلاة"، مع قوله: "المستحاضة تتوضأ وقت كل صلاة"، فالأول: نص في إيجاب الوضوء لكل صلاة، لأنه يفهم من لفظه ومقصود من سياقه، والثاني مفسر لا يحتمل تأويلاً، لأن الأول يحتمل إيجاب الوضوء لكل صلاة ولو في وقت واحد، أو لوقت كل صلاة، ولو أدى في الوقت عدة صلوات، ولكن الثاني قطع هذا الاحتمال، فيرجح، وصار الحكم الشرعي هو إيجاب الوضوء للوقت وتصلي فيه ما شاءت من الفرائض والنوافل.




القاعدة الرابعة- في غير الواضح الدلالة ومراتبه:

"غير الواضح الدلالة من النصوص وهو ما يدل على المراد منه بنفس صيغته، بل يتوقف فهم المراد منه على أمر خارجي، إن كان يزال خفاؤه بالبحث و الاجتهاد فهو الخفي أو المشكل، وإن كان لا يزال خفاؤه إلا بالاستفسار من الشارع نفسه فهو المجمل، وإن كان لا سبيل إلى إزالة خفائه أصلاً فهو المتشابه".
قدمنا في القاعدة الثالثة أن مراتب الواضح الدلالة تتفاوت في وضوحها، وبينا في تلك القاعدة أقسام الواضح الدلالة، ونبين في هذه القاعدة أقسام الواضح الدلالة ومراتب خفائه وما يزال به الخفاء.
وقد قسم الأصوليون غير الواضح الدلالة إلى أربعة أقسام أيضاً: الخفي والمشكل، والمجمل، والمتشابه.

1- الخفي:
المراد بالخفي في اصطلاح الأصوليين:
اللفظ الذي يدل معناه دلالة ظاهرة، ولكن في انطباق معناه على بعض الأفراد نوع غموض وخفاء تحتاج إزالته إلى نظر وتأمل، فيعتبر اللفظ خفياً بالنسبة إلى البعض من الأفراد. ومنشأ هذا الغموض أن الفرد فيه صفة زائدة على سائر الأفراد أو ينقص عنها صفة، أو يكون له اسم خاص، فهذه الزيادة أو النقص أو التسمية الخاصة تجعله موضع اشتباه، فيكون اللفظ خفياً بالنسبة إلى الفرد، لأن تناوله له يفهم من نفس اللفظ، بل لابد له من أمر خارجي.
مثال ذلك: لفظ السارق معناه ظاهر، وهو آخذ المال المتقوم المملوك للغير خفية من حرز مثله. ولكن في انطباق هذا المعنى على بعض الأفراد نوع غموض، كالنشال (الطرّار) فإنه آخذ المال في حاضر يقظان بنوع من المهارة وخفة اليد ومسارق الأعين، فهو يغاير السارق بوصف زائد فيه جرأة المسارقة، ولذا سمي باسم خاص. فهل يصدق عليه لفظ السارق فتقطع يده، أولا يصدق عليه فيعاقب تعزيزاً؟ وقد ثبت بالاجتهاد اتفاقاً وجوب قطع يده من طريق دلالة النص، لأنه أولى بالحكم من جهة أن علة القطع أكثر توافراً فيه.
وكالنباش، فإنه أخذ مال غير مرغوب فيه عادة من قبور الموتى، كأكفانهم وثيابهم، فهو يغاير السارق من جهة أنه لا يأخذ مملوكاً من حرز، ولذا سمي باسم خاص به، فهل يصدق عليه لفظ السارق فتقطع يده، أو لا يصدق فيعاقب تعزيزاً؟!
وقد ثبت للشافعي وأبي يوسف أنه سارق فتقطع يده، وثبت لسائر أئمة الحنفية أنه غير سارق فيعاقب تعزيزاً بما يردعه ولا تقطع يده، لأن أخذه مالاً غير مرغوب فيه ولا مملوك لأحد، ومن غير حرز، شبهة يسقط الحد.
وكذا لفظ القاتل في حديث "لا يرث القاتل"، هل يتناول القاتل خطأ أو بالتسبب أو لا يتناوله؟ والبائع إذا أخذ من المشتري نقوداً على أن يأخذ منها ثمن البيع ويرد الباقي فاختفى، هل يصدق عليه أنه سارق أو خائن الأمانة؟ وكذا كل لفظ دل دلالة ظاهرة على معناه ولكن وجد خفاء واشتباه في انطباق معناه على بعض الأفراد يعتبر اللفظ خفياً بالنسبة إلى الأفراد.
وأمثلة هذا في القوانين الشرعية والوضعية كثيرة، ومن أظهرها بعض الجرائم التي يشتبه في أنها جناية أو جنحة، أي في انطباق أحد اللفظين عليها.
والطريق لإزالة هذا الخفاء هو بحث المجتهد وتأمله. فإن رأى اللفظ يتناول هذا الفرد ولو بطريق الدلالة جعله من مدلولاته فأخذ حكمه، وإن رأى اللفظ لا يتناوله بأي طريق من طرق الدلالة لم يجعله من مدلولاته فلا يأخذ حكمه، وهذا مما تختلف فيه أنظار المجتهدين.
ولذلك جعل بعضهم النباش سارقاً ولم يجعله آخرون، ومرجعهم في اجتهادهم لإزالة هذا الخفاء هو علة الحكم، وحكمته، وما ورد في هذا الشأن من النصوص، فقد تكون العلة أكثر توافراً في هذا الفرد، وربما لا تكون متحققة فيه، وقد يدل على حكمه نص آخر يتناوله بوضوح.

2- المشكل:
المراد بالمشكل في اصطلاح الأصوليين:
اللفظ الذي لا يدل بصيغته على المراد منه، بل لابد من قرينة خارجية تبين ما يراد منه، وهذه القرينة في متناول البحث.
فسبب الخفاء في الخفي ليس من نفس اللفظ، ولكن من اشتباه في انطباق معناه على بعض الأفراد لعوامل خارجية، وأما سبب الخفاء في المشكل فمن نفس اللفظ لكونه موضوعاً لغة لأكثر من معنى، ولا يفهم المعنى المراد منه بنفسه أو لتعارض ما يفهم من نص مع ما يفهم من نص آخر.
وقد ينشأ الإشكال في النص من لفظ مشترك فيه، فإن اللفظ المشترك موضوع لغة لأكثر من معنى واحد، ليس في صيغته دلالة على معنى معين مما وضع له، فلابد من قرينة خارجية تعينه، كلفظ القرء في قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ) [البقرة: 228]، فإنه موضوع في اللغة للطهر وللحيض، فأي المعينين هو المراد في الآية؟ وهل تنقضي عدة المطلقة بثلاث حيضات أو بثلاث أطهار؟
ذهب الشافعي وبعض المجتهدين إلى أن القرء في الآية المراد منه الطهر، والقرينة هي تأنيث اسم العدد لأنه يدل لغة على أن المعدود مذكر وهو الأطهار ولا الحيضات.
وذهبت الحنفية وفريق آخر من المجتهدين إلى أن القرء في الآية هو الحيض والقرينة:
أولاً- حكمة تشريع العدة، فإن الحكمة في إيجاب العدة على المطلقة يعرف براءة رحمها من الحمل، والذي يعرف هذا هو الحيض لا الطهر.
وثانياً- قوله تعالى: (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) [الطلاق: 4]، فإنه جعل مناط الاعتداد بالأشهر عدم الحيض، فدل على أن الأصل هو الاعتداد بالحيض.
وثالثاً- قول الرسول "طلاق الأمة ثنتان وعدتها حيضتان"، فالتصريح بأن عدة الأمة بالحيض بيان للمراد بالقرء في اعتداد الحرة، أما تأنيث اسم العدد فلمراعاة تذكير لفظ المعدود وهو القرء.
وقد ينسأ الإشكال في النصوص بعضها ببعض، أي يكون كل نص حدته ظاهر الدلالة على معناه ولا إشكال في دلالته، ولكن الإشكال في التوفيق والجمع بين هذه النصوص. ومثال قوله تعالى: (مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ) [النساء: 79]، مع قوله سبحانه: (قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ) [النساء: 78]، وقوله تعالى: (إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء) [الأعراف: 28]، مع قوله سبحانه: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً) [الإسراء: 16]، وسائر النصوص ظاهرها التعارض.
والطريق لإزالة إشكال المشكل هو الاجتهاد. فعلى المجتهد، إذا ورد في النص لفظ مشترك أن يتواصل بالقرائن والأدلة التي نصبها الشارع إلى إزالة إشكاله وتعيين المراد منه، كما تبين من اجتهاد المجتهدين تعيين المراد بلفظ القرء في للآية واختلاف وجهة نظرهم في هذا التعيين. وإذا وردت نصوص ظاهرها التخالف والتعارض، فعلى المجتهد أن يؤولها تأويلاً صحيحاً يوفق بينها، ويزيل ما في ظاهرها من اختلاف، وهاديه في هذا الدليل: إما نصوص أخرى، أو قواعد الشرع أو حكمة التشريع.

3- المجمل:
المراد بالمجمل في اصطلاح الأصوليين:
اللفظ الذي لا يدل بصيغته على المراد منه، ولا يوجد قرائن لفظية أو حالية تبينه، فسبب الخفاء فيه لفظي لا عارض.
فمن مجمل الألفاظ التي نقلها الشارع عن معانيها اللغوية ووضعها لمعان اصطلاحية شرعية خاصة، كألفاظ الصلاة والزكاة والصيام والحج والربا، وغير هذا من كل لفظ أراد به الشارع معنى شرعياً خاصاً لا معناه اللغوي.
فإذا ورد لفظ منها في نص شرعي كان مجملاً حتى يفسره الشارع نفسه. ولذا جاءت السنة العملية والقولية بتفسير الصلاة وبيان أركانها وشروطها وهيئاتها، وقال الرسول "صلوا كما رأيتموني أصلي"، وكذلك فسر الزكاة والصيام والحج والربا وكل ما جاء مجملاً في نصوص القرآن.
ومن المجمل اللفظ الغريب الذي فسره النص نفسه بمعنى خاص، كلفظ القارعة في قوله تعالى: (الْقَارِعَةُ *مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ) [القارعة: 1 : 4]، ولفظ الهلوع في قوله تعالى: (إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) [المعارج: 19 : 21].
ومن المجمل في نصوص القوانين الوضعية كلمة "أصل الأوقاف" الواردة بالمادة (16) من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية، فإن الشارع أراد بها معنى أجمله ولم يفصله، ولذا ظل السنين العديدة مثار الخلاف بين الهيئات القضائية في مصر حتى فصلها الشارع المصري بعض التفاصيل في الفقرة 2 من المادة 28 من لائحة التنظيم القضائي للمحاكم المختلطة الصادرة في سنة 1927 ونصها: "كذلك لا تخص المحاكم المختلطة بالمنازعات المتعلقة مباشرة أو بالواسطة بأصل الوقف أو بصحته أو بتفسير أو تطبيق بعض شروطه أو بتعيين النظار وعزلهم".
وكلمة الأحوال الشخصية الواردة في عبارة: "وغير ذلك مما يتعلق بالأحوال الشخصية في المادة 16 من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية"، فإن المراد منها مجمل فسره الشارع المصري أخيراً في المادة 2 من القانون رقم 91 سنة 1938م لتي بينت المراد من الأحوال الشخصية.
وكلمات ضبط الاشهادات وكتابة سنداتها وتسجيلها الواردة في المادة 363 من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية، ولهذا فسر الشارع كل كلمة منها بمادة.
* فكل لفظ لا يفهم المراد منه بنفسه بسبب وضعه لغة لأكثر من معنى إذا حفت به قرائن يمكن أن يتوصل بها إلى تعيين المراد منه فهو المشكل.
* وكل لفظ لا يفهم منه المراد بنفسه إذا لم تحف به قرائن يتوصل بها إلى فهم المراد منه فهو المجمل.
فسبب إجمال اللفظ إنا كونه من المشترك الذي لا تحف به قرينة تعين أحد معانيه، أو إرادة الشارع منه معنى خاصاً غير معناه اللغوي، أو غرابة اللفظ وغموض المراد منه.
والمجمل بأي سبب من هذه الأسباب الثلاثة لا سبيل إلى بيانه وإزالة إجماله وتفسير المراد منه إل بالرجوع إلى الشارع الذي أجمله، لأنه هو الذي أبهم مراده ولم يدل عليه لا بصيغة لفظية ولا بقرائن خارجية، فإليه يرجع في بيان ما أبهمه.
وإذا صدر من الشارع بيان للمجمل ولكنه بيان غير واف بإزالة الإجمال صار به المجمل من المشكل، وفتح الطريق للبحث والاجتهاد لإزالة إشكاله، ولم يتوقف بيانه على الرجوع إلى الشارع، لأن الشارع لما بين ما أجمله بعض التبيين فتح الباب للبيان بالتأمل والاجتهاد. ومثال ذلك الربا، ورد في القرآن مجملاً وبينه الرسول بحديث الأموال الربوية الستة، ولكن هذا البيان ليس وافياً لأنه لم يحضر الربا فيها، وبهذا فتح الباب لبيان مت يكون فيه الربا قياسا على ما ورد في الحديث. ولفظ أصل الوقوف ورد في القانون مجملاً، وبينه الشارع في الفقرة 2 من المادة 28 المشكل، وفتح الطريق لبيانه بالاجتهاد.

4- المتشابه:
المراد بالمتشابه في اصطلاح الأصوليين:
اللفظ الذي لا تدل صيغته بنفسها على المراد منه، ولا توجد قرائن خارجية تبينه، واستأثر الشارع بعلمه فلم يفسره.
والمتشابه بهذا المعنى ليس في النصوص منه شيء، فلا يوجد في آيات الأحكام أو أحاديث الأحكام لفظ متشابه لا سبيل إلى علم المراد منه، وإنما يوجد في مواضع أخرى من النصوص مثل الحروف المقطعة في أوائل بعض السور: (الم) [البقرة: 1]، (ص) [ص: 1]، (حم) [غافر: 1]، ومثل الآيات التي ظاهرها أن الله يشبه خلقه في أن له يداً وعيناً ومكاناً، مثل قوله تعالى: (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [الفتح: 10]، وقوله: (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا) [هود: 37]، وقوله: (مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا) [المجادلة: 7]، فالحروف الهجائية المقطعة في أوائل بعض السور لا تدل بنفسها على المراد منها، ولم يفسر الله ما أراده منها فهو أعلم بمراده. وكذلك الآيات الموهم ظاهرها تشبيه الخالق بخلقه لا يمكن أن يفهم منها معنى ألفاظها اللغوية، لأن الله سبحانه منزه عن اليد والعين والمكان وكل ما يشبه خلقه، فليس كمثله شيء وهو السميع البصير، ولم يبين الشارع ما أراد منها فهو أعلم بمراده. هذا هو رأي السلف في معنى المتشابه، فهم يفوضون إلى الله علمه ويؤمنون به ولا يبحثون تأويله. وأما رأي الخلف في أن هذه الآيات ظاهرها مستحيل، لأن الله لا يد له ولا عين ولا مكان، ويراد به معنى يحتمله اللفظ ولو بطريق المجاز، وليس فيه تشبيه الخالق بخلقه. فقوله تعالى: (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [الفتح: 10]، تأويله: قدرة الله فوق قدرتهم، وقوله: (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا) [هود: 37]، واصنع الفلك برعايتنا وإحاطتنا، وقوله: (مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ) [المجادلة: 7]، وتأويله: أنه سبحانه مع كل من يتناجون بعلمه وإحاطته وهكذا.
ومنشأ هذا الخلاف اختلافهم في قوله تعالى في شأن المتشابهات: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا) [آل عمران: 7]، فمن جعل الوقف على لفظ الجلالة قال لا يعلم تأويل المتشابه إلا الله، فنؤمن به ونفوض علمه له ولا نبحث في تأويله، ومن جعل الوقف على: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) [آل عمران: 7]، قال: )وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ(، فهم يعلمون تأويله بإرادة معنى يحتمله اللفظ، ويتفق وتنزيه الخالق عن مشابهة خلقه.
والذي يظهر لي أنه الحق: هو تفسير المتشابهات في القرآن بالمتشابهات أي المحتملات التي يكون احتمالها مجالاً للاختلاف في تأويلها، وهي تقابل المحكمات التي أحكمت عباراتها وحفظت من الاشتباه واحتمال التأويل. فعلى هذا ليس في القرآن ما لا سبيل إلى علم المراد منه، وإنما فيه ألفاظ تدل على المراد منها بنفسها من غير اشتباه ولا احتمال للتأويل والاختلاف، وفيه ألفاظ تدل على معنى ويحتمل أن يراد منها غيره، وهذه مجال البحث والاجتهاد لإزالة الاحتمال وتعيين المراد، وفيه ألفاظ لا تدل على المراد منها بنفسها ولكن أحاطها الشارع بقرائن أو ألحقها ببيان يفسر ما أراد منها، لأن الله انزل القرآن للتدبر والذكر فكيف يكون في آياته ما لا سبيل إلى فهمه مطلقاً؟! والمقطعات في أوائل بعض السور ذكرت للدلالة على أن القرآن الذي أعجز الناس هو مكون من حروفهم وليس من حروف أخرى غريبة عنهم، ولهذا يرى أن أكثر السور المبدوءة بهذه المقطعات فيها ذكر الكتاب بعد سرد هذه الحروف.



القاعدة الخامسة: في المشترك ودلالته

"إذا ورد في النص الشرعي لفظ المشترك، فإن كان مشتركاً بين معنى لغوى ومعنى اصطلاحي شرعي، وجب حمله على المعنى الشرعي، وإن كان مشتركاً بين معنيين أو أكثر من المعاني اللغوية وجب حمله على معنى واحد منها بدليل يعينه، ولا يصلح أن يراد بالمشترك مبانيه أو معانيه معاً".
هذه القاعدة الخامسة والقاعدتان السادسة والسابعة الآتيتان خاصة ببيان الألفاظ الثلاثة التي ترد كثيراً في النصوص الشرعية والقوانين الوضعية، وهي اللفظ المشترك، واللفظ العام، واللفظ الخاص، وبيان ما يدل عليه كل واحد منهما إذا ورد في النص.

والفرق الجوهري بين هذه الألفاظ الثلاثة من حيث المعنى:
أن "المشترك" لفظ وضع لمعان متعددة بأوضاع متعددة: كلفظ السنة وضع للهجرية وللميلادية، ولفظ اليد اليمنى واليسرى، ولفظ القرش للعشرة مليمات والخمسة.
وإن "العام" لفظ وضع لمعنى واحد، وهذا المعنى الواحد يتحقق في أفراد كثيرين غير محصورين في اللفظ وإن كانوا في الواقع محصورين، أي أنه بحسب وضعه اللغوي لا يدل على عدد محصور من هذه الأفراد، وإنما يدل على شمول جميع هذه الأفراد كلفظ الطلبة يدل على معنى يتحقق في أفراد غير محصورين ويشملهم جميعاً.
وإن "الخاص" لفظ لمعنى يتحقق في فرد واحد أو أفراد محصورين كلفظ محمد أو الطالب، أو الطلاب العسرة، أو مائة أو ألف.
فالاشتراك يتحقق بتعدد المعاني التي وضع لها اللفظ بأوضاع متعددة. والعموم يتحقق بدلالة اللفظ على شمول جميع الأفراد التي يصدق عليها من غير حصر. والخصوص يتحقق بدلالة اللفظ على الفرد أو الأفراد المحصورين التي يصدق عليها من غير شمول.
فاللفظ المشترك، وهو ما وضع لمعنيين أو أكثر بأوضاع متعددة، يدل على ما وضع له على سبيل البدل، أي يدل على هذا المعنى أو ذاك، كلفظ العين وضع في اللغة للباصرة، ولعين الماء النابع، وللجلوس. ولفظ القرء وضع في اللغة للطهر، وللحيض. ولفظ السنة، ولفظ اليد.
وأسباب وجود الألفاظ المشتركة في اللغة كثيرة، وأهمها اختلاف القبائل في استعمال الألفاظ للدلالة على معان، فبعض القبائل تطلق اليد على الذراع كله، وأخرى تطلق اليد على الساعد والكف، وأخرى تطلقها على الكف خاصة، فنقلة اللغة يقررون أن اليد في اللغة العربية لفظ مشترك بين المعاني الثلاثة. ومنها أن يوضع اللفظ على سبيل الحقيقة لمعنى، ثم يستعمل في غير ما وضع له مجازاً، ثم يشتهر استعمال هذا اللفظ في المعنى المجازي حتى يتناسى أنه مجازي، فيقرر علماء اللغة أن اللفظ موضوع لهذا ولهذا: كلفظ السيارة، ولفظ الدراجة، ولفظ المسرة. ومنها أن يوضع اللفظ لمعنى ثم يوضح اصطلاح شرعي أو قانوني لمعنى آخر، كلفظ الصلاة أو لفظ الدفع.
وأيا كان سبب وقوع الاشتراك في الألفاظ لفة فإن الألفاظ المشتركة بين معينين أو أكثر ليست قليلة في اللغة، وواردة في النصوص الشرعية من آي القرآن وأحاديث الرسول، وهي كما قدمنا من باب المشكل ما دامت توجد قرائن يتوصل بها إلى ترجيح أحد المعاني، وعلى المجتهد أن يزيل إشكالها ويعين المراد من كل لفظ منها إذا ورد في نص شرعي.
والمشترك قد يكون اسماً كما مثلنا، أو فعلاً كصيغة الأمر للإيجاب وللندب، أو حرفا مثل الواو للعطف وللحال.
فإذا كان اللفظ المشترك الوارد في النص الشرعي مشتركاً بين معنى لغوي ومعنى اصطلاحي شرعي. فلفظ الصلاة وضع لغة للدعاء، ووضع شرعاً للعبادة المخصوصة، ففي قوله تعالى: (أَقِيمُواْ الصَّلاةَ) [الأنعام: 72]، يراد منه معناه الشرعي وهو العبادة المخصوصة لا معناه اللغوي وهو الدعاء. ولفظ الطلاق وضع لغة لحل أي قيد، ووضع شرعاً لحل قيد الزوجية الصحيحة، ففي قوله تعالى: (الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ) [البقرة: 229]، يراد منه معناه الشرعي لا اللغوي.
وهكذا كل لفظ مشترك بين معنى لغوي ومعنى شرعي إذا ورد في نص شرعي، فمراد الشارع منه معناه الذي وضعه له، لأنه لما نقل هذا اللفظ عن معناه اللغوي إلى المعنى الخاص الذي استعمله فيه، كان اللفظ في لسان الشارع الدلالة على ما وضعه الشارع له.
وكذلك في نصوص القوانين الوضعية إذا كان اللفظ الوارد في النص له معنيان: معنى في اللغة ومعنى في الاصطلاح القانوني، وجب أن يراد به معناه القانوني لا اللغوي لسبب الذي بيناه، فلفظ الدفع ولفظ الحلول وغيرهما، يراد بها المعنى القانوني لا المعنى اللغوي، وكذا لفظ الضبط، ولفظ التسجيل.
وإذا كان اللفظ المشترك الوارد في النص الشرعي مشتركاً بين عدة معان لغوية، وجب الاجتهاد لتعيين المعنى المراد منها، لأن الشارع ما أراد باللفظ إلا أحد معانيه، وعلى المجتهد أن يستدل بالقرائن والأمارات والأدلة على تعيين هذا المراد.
فلفظ القرء في قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ) [البقرة: 228]، مشترك بين الطهر والحيض، وقد بينا في الكلام على المشكل ما استدل به بعض المجتهدين على أن المراد به الطهر، وما استدل به آخرون على أن المراد به الحيض.
ولفظ اليد في قوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا) [النساء: 38]، مشترك بين الزراع "من رؤوس الأصابع إلى المناكب"، وبين الكف والساعد "من رؤوس الأصابع إلى المرافق"، وبين الكف "من رؤوس الأصابع إلى الرسغين"، وبين اليمنى واليسرى، وقد استدل جمهور المجتهدين بالسنة العلمية على تعيين المراد منها في الآية، وهو المعنى الأخير أي من رؤوس الأصابع إلى الرسغين في اليمنى.
ولفظ الكلالة في قوله تعالى: (وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ) [النساء: 12]، يطلق لغة على من لم يخلف ولداً ولا والداً، وعلى من ليس بولد ولا بوالد من المخلفين، وعلى القرابة من جهة غير الولد والوالد. وقد استدل جمهور المجتهدين باستقرار آيات التوريث على تعيين أن المراد في الآية هو المعنى الأول.
ولفظ الواو في قوله تعالى: (وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) [الأنعام: 121]، ومشترك، يستعمل للعطف ويستعمل للحال، فإن أريد به هنا الحال كان النهي وارداً على ما لم يذكر اسم الله عليه، والحال أنه فسق، أي ذكر عليه حين ذبحه اسم غير الله، وإن أريد به العطف كان النهي وارداً على ما لم يذكر اسم الله عليه مطلقاً، سواء ذكر عليه حين الذبح اسم غير الله أم لم يذكر.
والمجتهدون انقسموا في تعيين المراد منها في الآية إلى رأيين، ولكل وجهة.
ولا يصح أن يراد باللفظ معنيان أو أكثر من معانيه معا، بحيث يكون الحكم الذي ورد في النص متعلقً وقت واحد بأكثر من معنى، لأن اللفظ ما أراد به الشارع إلا معنى واحد من معانيه، ووضعه لمعان متعددة إنما هو على سبيل البدل، أي أنه إما أن يدل على هذا أو ذاك. فأما دلالته على هذا وذاك في وقت واحد، فهو تحميل اللفظ ما لا يدل عليه لا بطريق الحقيقة ولا بطريق المجاز، فلا يصح أن يراد بالقرء في الآية الطهر والحيض معاً، بحيث أن المطلقة إن شاءت تربصت ثلاثة أطهار، وإن شاءت تربصت ثلاثة حيضات، لأن اللفظ لا يدل على هذا بأي طريق من طرق الدلالة.
وكذلك الحال في نصوص القوانين الوضعية إذا ورد فيها لفظ مشترك بين عدة معان لغوية، ولم يبين الشارع المعنى الذي أراده منه، وجب الاجتهاد في تعيين المعنى، إما بواسطة نصوص أخرى في القانون، وإما بالرجوع إلى قواعد التشريع، ولا يصح أن يراد من لفظ مشترك في نص أكثر من معنى واحد، لأن اللفظ المشترك ما وضع إلا لمعنى واحد ولكنه دائر بين اثنين أو أكثر.




القاعدة السادسة: في العام ودلالته

"إذا ورد في النص الشرعي لفظ عام ولم يقم دليل على تخصيصه، وجب حمله على عمومه وإثبات الحكم لجميع أفراده قطعاً، فإن قام دليل على تخصيصه وجب حمله على ما بقي من أفراده بعد التخصيص. وإثبات الحكم لهذه الأفراد ظنا لا قطعاً. ولا يخصص عام إلا بدليل يساويه أو يرجحه في القطعية أو الظنية".

تعريف العام:
العام:
هو اللفظ الذي يدل بحسب وضعه اللغوي على شموله واستغراقه لجميع الأفراد، التي يصدق عليها معناه من غير حصر في كمية معينة منها، فلفظ "كل عقد" في قول الفقهاء: كل عقد يشترط لانعقاده أهلية العاقدين، لفظ عام يدل على شمول كل ما يصدق عليه أنه من غير عقد من غير حصر في عقد معين أو عقود معينة. ولفظ "من ألقى" في حديث: "من ألقى سلاحه فهو آمن"، لفظ عام يدل على استغراق كل فرد من غير سلاحه من غير حصر في فرد معين أو أفراد معينين.
ومن هذا يؤخذ أن العموم من صفات الألفاظ لأنه دلالة اللفظ على استغراقه لجميع أفراده. وأن اللفظ إذا دل على فرد واحد كرجل، أو اثنين كرجلين، أو كمية محصورة من الأفراد كرجال ورهط ومائة وألف، فليس من ألفاظ العموم . وأن الفرق بين العام والمطلق، هو أن العام يدل على شمول كل فرد من أفراده، وأما المطلق فيدل على فرد شائع أو أفراد شائعة لا على جميع الأفراد. فالعام يتناول دفعة واحدة كل ما يصدق عليه من الأفراد، والمطلق لا يتناول دفعة واحدة إلا فرداً شائعاً من الأفراد. وهذا هو المراد بقول الأصوليين: "عموم العام شمولي، وعمومي المطلق بدلي".

ألفاظ العموم:
باستقرار المفردات والعبارات في اللغة العربية دل على أن الألفاظ التي تدل بوضعها اللغوي على العموم والاستغراق لجميع أفرادها هي:
1- لفظ "كل"، ولفظ "جميع": "كل راع مسئول عن رعيته"، (خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً) [البقرة: 29]، "كل خطأ يحدث ضرراً بالغير يلزم فاعله بالتعويض".
2- المفرد المعرف بـ: "أل" تعريف الجنس: (الزانية والزاني) [النور: 2]، (السارق والسارقة) [المائدة: 38]، (واحل الله البيع وحرم الربا) [البقرة: 275]، "البيع ينقل الملكية"، لأن الجنس يتحقق في كل فرد من أفراده لا في فرد خاص أو أفراد مخصوصين.
3- الجمع المعرف بـ: "أل" تعريف الجنس: (والمطلقات يتربصن ...) [البقرة: 228]، (والمحصنات من النساء) [النساء: 24]، والجمع المعرف بالإضافة: (خذ من أموالهم صدقة) [التوبة: 103]، (حرمت عليكم أمهاتكم) [النساء: 23].
4- الأسماء الموصولة: (والذين يرمون المحصنات) [النور: 4]، (واللأئي يئسن من المحيض) [الطلاق: 4], (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) [الطلاق: 4]، (وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ) [النساء: 24].
5- أسماء الشرط: (وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ( [النساء: 92]، (مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً) [البقرة: 245].
6- النكرة في سياق النفي أي النكرة المنفية: "لا ضرر ولا ضرار"، "لا هجرة بعد الفتح"، (فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ) [البقرة: 233].
فلكل لفظ من هذه الألفاظ موضوع في اللغة وضعاً حقيقياً للدلالة على استغراق جميع أفراده، وإذا استعمل في غير هذا الاستغراق كان استعمالاً مجازياً، لابد له من قرينة تدل عليه وتصرفه عن المعنى الحقيقي.

دلالة العام:
لم يختلف الأصوليين في أن كل لفظ من ألفاظ العموم التي بيناها موضوع لغة لاستغراق جميع ما يصدق عليه من الأفراد، ولا أنه إذا ورد في نص شرعي دل على ثبوت الحكم المنصوص عليه لكل ما يصدق عليه من الأفراد، إلا إذا قام دليل تخصيص على الحكم ببعضها. وإنما اختلفوا في صفة دلالة العام الذي لم يخصص على استغراقه لجميع أفراد، هل هي دلالة قطعية أو دلالة ظنية.
فذهب فريق منهم وفيهم الشافعية إلى أن العام الذي لم يخصص ظاهر العموم لا قطعي فيه، فهو ظني الدلالة على استغراقه لجميع أفراده، وإذا خصص كان ظني الدلالة أيضاً على ما بقي من أفراده بعد التخصيص، فهو ظني الدلالة قبل التخصيص وبعده.
ويترتب على هذا أنه يصح تخصيص العام بالدليل الظني مطلقاً، سواء كان أول تخصيص أو ثاني تخصيص، لأن الظني يخصص بالظني، وانه لا يتحقق التعارض بين الدليلين أن يكونا قطعيين أو ظنيين، بل يعمل بالخاص فيما دل عليه، ويعمل بالعام فيما عداه. وحجتهم على ما ذهبوا إليه أن استقرار النصوص الشرعية التي وردت فيها ألفاظ العموم دل على أنه ما من عام إلا وخُصِّص، وعلى أن العام الذي بقي على عمومه نادر جداً، وما استفيد بقاؤه على عمومه إلا من قرينة صاحبته. وإذا كان هذا الشأن والكثير فهو بناء على عام الكثير الغالب محتمل للتخصيص، وعلى هذا فالعام المطلق عن دليل يخصصه ظاهر في العموم لا قطعي فيه.
وذهب فريق منهم وفيهم الحنفية إلى أن العام الذي لم يخصص قطعي في العموم، فهو قطعي الدلالة على استغراقه لجميع أفراده، وإذا خصص صار ظاهراً في دلالته على ما بقي بعد التخصيص، أي ظني الدلالة عليه. ففي هذا المذهب: العام الذي لم يخصص قطعي الدلالة على استغراقه جميع الأفراد، وإذا خصص صار ظني الدلالة على ما بقي من أفراده بعد التخصيص.
ويترتب على هذا أنه أن يصح العام أول تخصيص بدليل ظني، لأن الظني لا يخصص القطعي، وأنه يصح أن يخصص ثانياً وثالثاً بدليل ظني، لأنه بعد التخصيص الأول صار ظنياً، والظني يخصص الظني، وأنه يتحقق التعارض بين العام الذي لم يخصص، وبين الخاص القطعي لأنهما قطعيان. وحجتهم على ما ذهبوا إليه "أن اللفظ العام موضوع حقيقة لاستغراق جميع ما يصدق عليه معناه من الأفراد". واللفظ حين إطلاقه يدل على معناه الحقيقي قطعاً، فالعام المطلق عن قرينة تخصصه يدل على العموم قطعاً، ولا يصرف عن معناه الحقيقي إلا بدليل، ولهذا استدل الصحابة والتابعون والأئمة والمجتهدون بعموم الألفاظ العامة التي وردت في النصوص مطلقة عن التخصيص، واستنكروا تخصيصها من غير دليل، فإذا خصص العام بدليل دل هذا على صرفه عن متناه الحقيقي وهو العموم، واستعماله معنى مجازي وهو الخصوص، وصار محتملاً لتخصيص ثان قياسياً على التخصيص الأول، لأن علة التخصيص الأول قد تتحقق في أفراد أخرى. ولهذا صار العام الذي خصص ظني الدلالة على ما بقي بعد التخصيص.
والذي يظهر لي بعد المقارنة بين أدلة الفريقين وأمثلتهما وشواهدهما أنه ليس بين رأييهما اختلاف جوهري من الناحية العلمية، لأنه لا خلاف بينهما في أن العام يجب العمل بعمومه حتى يقوم على تخصيصه دليل، ولا في العام يحتمل أن يخصص بدليل، وأن تخصيصه بغير دليل تأويل غير مقبول. والقائلون بأن العام الذي لم يقم دليل على تخصيصه قطعي الدلالة على العموم، ما أرادوا بكونه قطعي الدلالة أنه لا يحتمل التخصيص مطلقاً، وإنما أرادوا أنه ل يخصص إلا بدليل والقائلون بأنه ظني الدلالة على العموم ما أرادوا أنه يخصص مطلقاً، وإنما أرادوا أنه يخصص بالدليل.

أنواع العام:
وقد ثبت باستقراء النصوص أن العام ثلاثة أقسام:
1- عام يراد به قطعاً العموم:
وهو العام الذي صحبته قرينة تنفي احتمال تخصيصه، كالعام في قوله تعالى: (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا) [هود: 6]، وفي قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) [الأنبياء: 30]، ففي كل واحدة من هاتين الآيتين، تقرير سنة إلهية عامة لا تتخصص ولا تتبدل، فالعام فيهما قطعي الدلالة على العموم، ولا يحتمل أن يراد به الخصوص.
2- وعام يراد به قطعاً الخصوص:
وهو العام الذي صحبته قرينة تنفي بقاءه على عمومه وتبين أن المراد منه بعض أفراد، مثل قوله تعالى: (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) [آل عمران: 97]، فالناس في هذا النص عام، ومراد به خصوص المكلفين لأن العقل يقضي بخروج الصبيان والمجانين، مثل قوله تعالى: (مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ) [التوبة: 120]، فأهل المدينة والأعراب في هذا النص لفظان عامان مراد بكل منهما خصوص القادرين، لأن العقل لا يقضي بخروج العجزة، فهذا عام مراد به الخصوص، ولا يحتمل أن يراد به العموم.
3- عام مخصوص:
وهو العام المطلق الذي لم تصحبه قرينة تنفي احتمال تخصيصه، ولا قرينة تنفي دلالته على العموم، مثل أكثر النصوص التي وردت فيها صيغ العموم، مطلقه عن قرائن لفظية أو عقلية أو عرفية تعين العموم أو الخصوص، وهذا ظاهر في العموم حتى يقوم الدليل على تخصيصه، مثل: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ) [البقرة: 228].
قال الشوكاني في التفريق بين العام الذي يراد به الخصوص، والعام المخصوص: العام الذي يراد به الخصوص هو العام الذي صاحبته حين النطق به قرينة دالة على انه مراد به الخصوص لا العموم، مثل خطابات التكليف العامة، فالمراد بالعام فيها خصوص من هم أهل للتكليف لاقتضاء العقل إخراج من ليسوا مكلفين، (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا) [الأحقاف: 25]، فالمراد كل شيء مما يقبل التدمير. وأما العام المخصوص فهو الذي لم تصحبه قرينة دالة على أنه مراد به بعض أفراده، وهذا ظاهر في دلالته على العموم حتى يقوم دليل على تخصيصه.

تخصيص العام:
تخصيص العام في اصطلاح الأصوليين:
هو تبيين أن مراد الشارع من العام ابتداء بعض أفراده لا جميعها، أو هو تبيين أن الحكم المتعلق بالعام هو من ابتداء تشريعه حكم لبعض أفراده. فحديث: "لا قطع في أقل من ربع دينار"، تخصيص للعام في قوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا) [المائدة: 38]، لأنه تبيين لأن حكم القطع ما شرع لكل سارق وسارقة، وحديث: "ليس للقاتل ميراث" تخصيص لعموم الوارث في آيات المواريث، لأنه تبيين لأن حكم الإرث ما شرع لكل قريب.
أما إذا شرع الحكم ابتداء متعلقاً بكل أفراد العام، ثم قضت المصلحة بقصر الحكم على بعض أفراده، وقام الدليل على هذا القصر فلا يسمى هذا في اصطلاح الأصوليين تخصيصاً، وإنما يسمى نسخاً جزئياً، لأنه إبطال العمل بحكم العام بالنسبة لبعض أفراده. فقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) [النور: 6]، هو نسخ جزئي للعام في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) [النور: 4]، لأن هذه الآية الثانية بعمومها تشمل كل قاذف سواء قذف زوجته أو غيرها، وقد شرع الحكم ابتداء عاماً، ثم قام الدليل وهو آيات اللعان على قصر الجلد على القاذف الذي يقذف غير زوجته. ودل على هذا حديث ابن مسعود قال: كنا جلوس في المسجد ليلة الجمعة إذ دخل أنصاري فقال يا رسول الله، أرأيتم الرجل يجد من زوجته رجلاً، فإن قتله قتلتموه، وإن تكلم جلدتموه، وإن سكت سكت على غيظ؟ ثم قال "اللهم افتح"، فنزلت آية اللعان في سورة النور: (والذين يرمون أزواجهم ...) [النور: 6] الآيات.
ومن هذا ينتج أن التخصيص في اصطلاح الأصوليين لابد أن يكون بدليل مقارن للتشريع العام، لأنه بهذا المقارنة يتبين أن المراد ابتداء من العام بعض أفراده، وأما إذا كان متأخراً عنه فهو نسخ جزئي له.

دليل التخصيص:
ودليل التخصيص قد يكون غير مستقل لفظاً عن نص العام بأن يكون متصلاً به كالجزء منه. وقد يكون مستقلاً عن نص العام، ومنفصلاً عنه.
ومن أظهر الأدلة المتصلة غير المستقلة: الاستثناء، والشرط، والوصف، والغاية.
فالاستثناء كقوله تعالى في آية المداينة، بعد أن أمر بكتابة الدين المؤجل: (إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا) [البقرة: 282].
والشرط كقوله تعالى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ) [النساء: 101].
والوصف كقوله تعالى: (مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ) [النساء: 23].
والغاية كقوله تعالى: (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) [المائدة: 6].
ومن أظهر أدلة التخصيص المستقلة المنفصلة: العقل، والعرف، والنص، وحكمة التشريع.
فمن التخصيص بالعقل، ما بيناه من قبل من تخصيص الناس في قوله تعالى: (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) [آل عمران: 97]، بمن عدا فاقدي الأهلية من الصبيان والمجانين، وتخصيص العام في كل خطاب تكليفي بمن هم أهل للتكليف، وتخصيص أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب القادرين على الجهاد مع الرسول، لأن العقل يقضي بأن يوجه الخطاب إلى من هم أهل له، وأن يخص الذي يقتضيه العقل، وعلى هذا أصول القوانين الوضعية.
ومن التخصيص بالعرف، تخصيص الوالدات في قوله تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ) [البقرة: 233]، بمن عدا الوالدة الرفيعة القدر، التي ليس من عادة مثلها أن تلزم بإرضاع ولدها، كما ذهب إلى هذا الإمام مالك. وتخصيص الطعام في حديث نهي رسول الله عن بيع الطعام بجنسه متفاضلاً بالطعام الذي كان متعارفاً إطلاق لفظ الطعام عليه وقت التشريع. وتخصيص كل شيء في قوله تعالى: (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا) [الأحقاف: 25]، بكل شيء قابل للتدمير. وبعض الأصوليين يعتبر دليل التخصيص في المثال الأخير الحس، وبعضهم يعتبره العقل والنتيجة واحدة، وعلى هذا أصول القوانين الوضعية، فكثيراً ما يخصص العرف بعض الألفاظ العامة في مواد القانون، وكثيراً ما يخصص العرف التجاري بعض النصوص العامة في صيغ العقود.
ومن التخصيص بالنص، ما أشرنا إليه من قبل في مواضع كثيرة، كقوله تعالى في المطلقات قبل الدخول: (فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا) [الأحزاب: 49]، الذي خصص عموم قوله سبحانه: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ) [البقرة: 228].
ولا خلاف بين الأصوليين، في أنه يجوز تخصيص عام القرآن بالقرآن وبالسنة المتواترة، لأن نصوص القرآن والسنة المتواترة قطعية الثبوت، فيخصص الأصوليين على بعضها بعضاً، وأما تخصيص القرآن بالسنة غير المتواترة، فذهب جمهور الأصوليين إلى أنه سائغ، واحتجوا بوقوعه والاتفاق على العمل به، فحديث "هو الطهور ماؤه الحل ميتته"، خصص عموم قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) [المائدة: 3]، وحديث: "ليس للقاتل ميراث" خصص عموم الوارث في آيات المواريث، وحديث الرجم خصص عموم الزاني والزانية، وحديث "لا قطع في أقل من ربع دينار" خصص عموم السارق والسارقة، وحديث "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" خصص عموم (وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ) [النساء: 24]. ودعوى تواتر بعض هذه الأحاديث أو شهرتها لا يقوم عليها دليل، وهذا المذهب هو السديد، والذين منعوا تخصيص عام الكتاب بالسنة غير المتواترة يصطدمون بعدة تخصيصات نبوية، لا سبيل لهم إلى إنكارها، ولا إلى تأويلها، ولا إلى إثبات تواترها.
وتخصيص نصوص في القوانين الوضعية لنصوص فيها كثير. فمن ذلك المادة 164 من القانون المدني، التي تجعل التمييز مناط المسؤولية عن العمل غير المشروع وتعويض ما ينجم عنه من ضرر، وقد خصت بفقرتها الثانية إذ تقرر انه إذا وقع الضرر من شخص عديم التمييز ولم يكن من يسال عنه، أو تعذر الحصول على تعويض من المسئول، فإنه يجوز للقاضي إلزام من وقع منه الضرر بتعويض عادل.

العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب:
إذا ورد النص الشرعي بصيغة عامة وجب العمل بعمومه الذي دلت عليه صيغته، ولا اعتبار لخصوص السبب الذي ورد الحكم بناء عليه، سواء كان السبب سؤالاً أم واقعة حدثت. لأن الواجب على الناس إتباعه، هو ما ورد به نص الشارع، وقد ورد نص الشارع بصيغة العموم فيجب العمل بعمومه، ولا يعتبر خصوصيات السؤال أو الواقعة التي ورد النص بناء عليها، لأن عدول الشارع في نص جوابه أو فتواه عن الخصوصيات، إلى التعبير بصيغة العموم قرينة على عدم اعتباره تلك الخصوصيات.
روي أن قوماً قالوا: يا رسول الله إنا نركب البحر، ولو توضأنا بما معنا من الماء خشينا العطش، أنتوضأ بماء البحر؟ فقال الرسول: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته"، فهذه الصيغة العامة ـ هو الطهور ماؤه ـ تدل بعمومها على أن ماء البحر مطهر كل أنواع الطهور في حال الضرورة والاختيار. فيجب العمل بعمومها، ولا عبرة بكون السؤال ورد خاصاً عن التوضؤ، ولا بكون السائلين سألوا عن حال ضرورتهم من الماء خشية العطش.
وروى أن امرأة سعد بن الربيع قالت: يا رسول الله، هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قتل أبوهما معك في أحد، وقد أخذ عمهما مالهما، ولا تنكحان إلا ولهما مال، فقال الرسول لعم البنتين: "أعط البنتين الثلثين وللزوجة الثمن، وما بقي فهو لك"، فهذا الحديث يدل على أن لبنتي المتوفى الثلثين، ولا اعتبار لكونهما لا مال لهما أو لكون أبيهما قتل في أحد.
وروى انه مر بشاة ميمونة وهي ميتة فقال: "أيما إهاب دبغ فقد طهر"، فكل جلد دبغ صار طاهراً ولا اعتبار لخصوص جلد الشاة.
قال الآمدي في الإحكام: أكثر العموميات وردت على أسباب خاصة. فآية السرقة نزلت في سرقة المجن أو رداء صفوان، وآية الظهار نزلت في حق مسلمة بن صخر، وآية اللعان نزلت في حق هلال بن أمية، إلى غير ذلك. والصحابة عمموا أحكام هذه الآيات من غير نكير، فدل ذلك على أن السبب غير مسقط للعموم.
نعم إذا ورد جواباً غير مستقل بنفسه عن السؤال بأن كان الجواب نعم، أو لا، أو ما في معنى أحدهما، فمثال ما روي أن رسول الله سئل عن بيع الرطب بالتمر، فقال: "أينقص الرطب إذا يبس؟" قالوا: نعم، قال: "فلا إذا"، وأما في خصوصه فمثاله قول الرسول لأبي بردة وقد سأله عن الأضحية بجزعة من المعز: "تجزئك ولا تجزئ أحدا بعدك"، فما دام الجواب الشرعي عن السؤال ورد تابعاً للسؤال في عمومه وخصوصه، وكان السؤال معاد في الجواب.
وأما الجواب المستقل إذا ورد عاماً فهو عام ولا عبرة بخصوصيات سببه، وعلى هذا أصول القوانين الوضعية، فمادة تحديد سن الزواج عامة، ولا عبرة بخصوصيات الواقعة، أو الوقائع التي كانت سبب في تشريعها. والمواد التي منعت سماع دعوى الزواج أو الطلاق أو النفقة في بعض الحالات عامة، ولا عبرة بخصوصيات الوقائع التي كانت سبباً في تشريعها. والمادة 115 من الدستور التي كانت التجديد النصفي كل خمس سنوات عامة، ولا عبرة بخصوصيات السبب الذي بني عليه تشريعها، لأن السبب كما قال الشافعي لا يصنع شيئاً، إنما تصنع الألفاظ.
ويلاحظ الفرق بين حكمة تشريع النص وبين ما ورد النص بناء عليه من سؤال أو واقعة، فإن حكمة تشريع العام قد تخصصه بلا خلاف، وأما ما ورد النص بناء عليه فهو المراد بقولهم: لا عبرة بخصوص السبب مع عموم اللفظ.




القاعدة السابعة: في الخاص ودلالته

"إذا ورد في النص خاص ثبت الحكم لمدلوله قطعاً، ما لم يقم دليل على تأويله وإرادة معنى آخر منه، فإن ورد مطلقاً أفاد ثبوت الحكم على الإطلاق ما لم يوجد دليل يقيده، وإن ورد على صيغة الأمر أفاد لإيجاب المأمور به ما لم يوجد دليل يصرفه عن الإيجاب، وإن ورد على صيغة النهي أفاد تحريم المنهي عنه ما لم يوجد دليل يصرفه عن التحريم".

اللفظ الخاص:
هو لفظ وضع للدلالة على فرد واحد بالشخص مثل محمد، أو واحد بالنوع مثل رجل، أو على أفراد متعددة محصورة مثل ثلاثة وعشرة ومائة وقوم ورهط وجمع وفريق، وغير ذلك من الألفاظ التي تدل على عدد من الأفراد ولا تدل على استغراق جميع الأفراد.
وقد يرد اللفظ الخاص مطلقاً من أي قيد، وقد يرد مقيداً بقيد، وقد يكون على صيغة طلب الفعل، مثل: "اتق الله"، وقد يكون على صيغة النهي عن الفعل، مثل: "ولا تجسسوا"، فيندرج في الخاص المطلق، والمقيد والأمر والنهي.
وحكم الخاص على وجه الإجمال، أنه إذا ورد نص شرعي دل دلالة قطعية على معناه الخاص الذي وضع له حقيقة، وثبت الحكم لمدلوله على سبيل القطع لا الظن.
فالحكم المستفاد من قوله تعالى: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ) [المائدة: 89]، هو وجوب إطعام عشرة مساكين، ولا تحتمل العشرة نقصاً ولا زيادة. والحكم المستفاد من حديث: "في كل أربعين شاة شاة" هو تقدير النصاب الذي تجب الزكاة فيه من الغنم بأربعين، وتقدير الواجب بشاة بلا احتمال زيادة أو نقص في هذا أو ذاك.
ولكن إذا قام دليل يقضي تأويل هذا الخاص، أي إرادة معنى آخر منه يحتمل على ما اقتضاه الدليل. ومثال هذا ما قدمناه في تأويل علماء الحنفية الشاة في الحديث السابق بما يعم الشاة وقيمتها، وتأويلهم الصاع من تمر أو شعير في صدقة الفطر بما يعم الصاع وقيمته، وتأويلهم الصاع من تمر في حديث المصراة بما يشمله ويشمل أي عوض يماثل المتلف.
فإذا ورد الخاص مطلقاً حمل على إطلاقه، وإذا ورد مقيداً حمل على تقييده.
والفرق بين اللفظ المطلق واللفظ المقيد: أن المطلق هو ما دل على فرد غير مقيد لفظاً بأي قيد، مثل: مصري، ورجل، وطائر، والمقيّد هو ما دل على فرد مقيد لفظاً بأي قيد، مثل: مصري مسلم، ورجل رشيد، وطائر أبيض.
فالمطلق يفهم على إطلاقه إلا إذا قام دليل على تقييده، فإن قام الدليل على تقييده كان هذا الدليل صارفاً له عن إطلاقه ومبيناً المراد منه.
ففي قوله تعالى: (مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) [النساء: 11]، الوصية مطلقة قيدت بالحديث، الذي دل على انه لا وصية بأكثر من الثلث، فصار المراد في الآية الوصية التي في حدود ثلث التركة.
وإذا ورد اللفظ مطلقاً في نص شرعي، وورد هو نفسه مقيداً في نص آخر، إن كان موضوع النصين واحداً بأن كان الحكم الوارد فيهما متحداً، والسبب الذي بني عليه الحكم متحداً، حمل المطلق على المقيد، أي: كان المراد من المطلق هو المقيد لأنه مع اتحاد الحكم والسبب، لا يتصور الاختلاف بالإطلاق والتقييد، فيكون المطلق مقيداً بقيد المقيد.
مثال هذا: قوله تعالى في سورة المائدة: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ...) [المائدة: 3] الدم هنا مطلق القيد.
وقوله تعالى في سورة الأنعام: (قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ) [الأنعام: 145]، الدم هنا مقيد بالمسفوح، فالمراد بالدم في آية المائدة الدم المسفوح المنصوص على تحريمه في آية الأنعام، لأن الحكم في الآيتين واحد وهو التحريم، والسبب الذي بني عليه الحكم فيهما واحد وهو كونه دماً، فلو كان الدم محرم مطلق الدم خلا القيد وهو "مسفوحاً" من الفائدة.
أما إذا اختلف النصاب في الحكم، أو في السبب، أو فيهما معاً، فلا يحتمل المطلق على المقيد بل يعمل بالمطلق على إطلاقه في موضعه، وبالمقيد على قيده في موضعه، لأن اختلاف الحكم أو السبب أو أحدهما قد يكون هو علة الاختلاف إطلاقاً وتقييداً. وهذا مذهب الحنفية وأكثر المالكية، وأما إذا اختلفا في السبب واتحد في الحكم فيحمل المطلق على المقيد.
مثال النصين المختلفين حكماً مع اتحاد السبب قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) [الأنعام: 6]، وقوله تعالى: (فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ) [المائدة: 6]، والسبب في الآيتين واحد وهو التطهير لإقامة الصلاة، والحكم في الأول وجوب الغسل وفي الثانية وجوب المسح، ومثله قوله: (وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ) [النساء: 23]، وقوله (وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ) [النساء: 23].
ومثال النصين المتحدين حكما المختلفين سبباً، قوله تعالى في كفارة القتل خطأ: (وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ) [النساء: 92]، وقوله تعالى في كفارة الظهار: (وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا) [المجادلة: 3]. وقوله في شهود المداينة: (وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ) [البقرة: 282]. وقوله في شهود المراجعة: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ) [الطلاق: 2]. ففي الآيتين الحكم واحد وهو وجوب تحرير رقبة، والسبب في الوجوب مختلف لأنه في إحداهما المداينة، والثانية المراجعة.
فلا يعتبر المقيد بياناً ويحمل المطلق عليه إلا في صورة واحدة، وهي ما إذا اتحد موضوعهما حكماً وسبباً. وأما إذا اختلف حكماً، أو سبباً، أو اختلفا حكماً وسبباً، فلا يحمل المطلق على المقيد بل يفهم المطلق في موضعه على إطلاقه، ويفهم المقيد في موضعه على قيده، لأن اختلاف الحكم قد يكون سبباً في الاختلاف بالإطلاق والتقييد، أي أنه لما كان الحكم في آية الوضوء وجوب غسل الأيدي، أطلقها ولم يقيدها بكونها إلى المرافق، لأن التيمم رخصة شرعت للتخفيف عند عدم وجود الماء، فيناسبه التخفيف أيضاَ في إطلاق اليد فيجزئ كل ما يصدق عليه لفظ يد، وكذلك الحال إذا اختلف السبب فقد يكون القتل خطأ اقتضى تقييد الرقبة بالإيمان تشديداً للعقوبة، وإرادة المظاهر العودة لم يقتض هذا التشديد فيجزئ تحرير أية رقبة.

صيغة الأمر:
وإذا ورد اللفظ الخاص في النص الشرعي على صيغة الأمر أو صيغة الخبر الذي في معنى الأمر أفاد الإيجاب، أي طلب الفعل المأمور به أو المخبر عنه على وجه الإلزام. فقوله تعالى: (فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا) [المائدة: 38]، أفاد إيجاب قطع يد السارق والسارقة، وقوله: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ) [البقرة: 228]، أفاد إيجاب تربص المطلقة ثلاث قروء. واللفظ عند إطلاقه يدل على معناه الحقيقي الذي وضع له، ولا يصرف معناه الحقيقي غلا بقرينة، فإن وجدت قرينة تصرف صيغة الأمر عن الإيجاب إلى معنى آخر فهم منها ما دلت عليه القرينة كالإباحة في قوله: (كلوا واشربوا) [البقرة: 187]، والندب في قوله: (إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ ...) على قوله: (... مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) [البقرة: 282]، والتهديد في قوله: ( اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ) [فصلت: 40]، والتعجيز في قوله: (فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ) [البقرة: 23]، وغير ذلك مما تدل عليه صيغة الأمر بالقرائن. وإذا لم توجد قرينة اقتضى الأمر الإيجاب. وبعض الأصوليين ذهبوا إلى أن صيغة الأمر مشترك بين عدة معان ولابد من قرينة لتعيين احد معانيه شأن كل مشترك، فهو موضوع لمعان متعددة.
وصيغة الأمر لا تدل لغة على أكثر من طلب إيجاد الفعل المأمور به، ولا تدل على طلب تكرير الفعل المأمور به، ولا على وجوب فعله فوراً، فالتكرير أو المبادرة بالفعل لا تدل الصيغة عند إطلاقها على واحد منهما، لأن المقصود الآمر هو حصول المأمور به، وهذا المقصود يتحقق بوقوعه مرة في أي وقت، فإن وجدت قرينة تدل على التكرير كان هذا التكرير مستفاداً من القرينة لا من الصيغة. وكذلك إن وجدت قرينة تدل على المبادرة، ففي قوله تعالى: (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة: 185]، استفيد تكرير طلب الصيام من تعليق الأمر به بشرط متكرر وهو شهود الشهر، كأنه قال: فكلما شهد أحدكم الشهر أحدكم الشهر وجب عليه الصيام، وكذا في قوله: (أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) [الإسراء: 78].
وفي الواجبات المحددة بأوقات استفيدت المبادرة من تحديد وقت للواجب يفوت بانتهائه.
وفي الأوامر بالخيرات استفيدت المبادرة من قوله تعالى: (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ) [آل عمران: 123]، وقوله: (فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ) [البقرة: 148].

صيغة النهي:
وإذا ورد اللفظ الخاص في النص الشرعي على صيغة النهي أو صيغة الخبر التي في معنى النهي أفاد التحريم، أي طلب الكف عن المنهي عنه على وجه الإلزام والختم. فقوله تعالى: (وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) [البقرة: 221]، أفاد تحريم زواج المسلم بالمشركات، وقوله تعالى: (وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) [البقرة: 229]، أفاد تحريم أخذ عوض من المطلقات، لأن صيغة النهي على الرأي الراجح، موضوعة لغة للدلالة على التحريم فيفهم منها عند الإطلاق. وإذا وجدت قرينة تصرفها عن المعنى الحقيقي إلى معنى مجازي، فهم منها ما دلت عليه القرينة، كالدعاء في قوله: (رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا) [آل عمران: 8]، والكراهة في قوله: (لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) [البقرة: 101].وبعض الأصوليين ذهبوا إلى أن صيغة النهي من باب المشترك هي كالأمر والخلاف فيهما واحد.
والنهي يقتضي طلب الكف دائماً وفوراً، لأنه لا يتحقق المطلوب وهو الكف ألا إذا كان دائماً، بمعنى انه كلما دعت المكلف نفسه إلى فعل المنهي عنه كفها، فالتكرير ضروري لتحقق الامتثال في النهي، وكذلك المبادرة لأن النهي عن الفعل إنما هو تحريمه لتلاقي ما فيه من مضار، وهذا واجب في الحال, لأن من نهي عن شيء إذا فعله ولو مرة في أي وقت لا يتحقق أنه امتثل، فتكرير الكف وكونه على الفور من مقتضيات النهي، فصيغة النهي المطلق تقتضي الفور والتكرير، وصيغة الأمر المطلق لا تقتضي فوراً ولا تكريراً.




القسم الرابع
في القواعد الأصولية التشريعية

هذه القواعد التشريعية استمدها علماء أصول الفقه الإسلامي من استقراء الأحكام الشرعية، ومن استقراء عللها وحكمها التشريعية، ومن النصوص التي قررت مبادئ تشريعية عامة وأصولً تشريعية كلية، وكما تجب مراعاتها في استنباط الأحكام من النصوص تجب مراعاتها في استنباط الأحكام فيما لا نص فيه، ليكون التشريع محققاً ما قصد به موصلاً إلى تحقيق مصالح الناس والعدل بينهم:




القاعدة الأولى- في المقصد العام من التشريع

"والمقصد العام للشارع من تشريعه الأحكام هو تحقيق مصالح الناس بكفالة ضرورياتهم، وتوفير حاجياتهم وتحسينياتهم.
فكل حكم شرعي ما قصد به إلا واحد من هذه الثلاثة التي تتكون منها مصالح الناس.
ولا يراعى تحسيني إذا كان في مراعاته إخلال بحاجي، ولا يراعى حاجي وتحسيني إذا كان في مراعاة أحدهما إخلال بضروري".

هذه القاعدة الأولى بيَّنت المقصد العام للشارع من تشريع الأحكام الشرعية، سواء أكانت تكليفية أم وضعية، وبينت مراتب الأحكام باعتبار مقاصدها، ومعرفة المقصد العام للشارع من التشريع من أهم ما يستعان به على فهم نصوصه حق فهمها، وتطبيقها على الوقائع واستنباط الحكم فيما لا نص فيه.
لأن دلالة الألفاظ والعبارات على المعاني، قد تحتمل عدة وجوه، والذي يرجح واحداً من هذه الوجوه هو الوقوف على مقصد الشارع، لأن بعض النصوص قد تتعارض ظواهرها، والذي يرفع هذا التعارض ويوفق بينها أو يرجح أحدها هو الوقوف على مقصد الشارع. لأن كثيراً من الوقائع التي تحدث ربما لا تتناولها عبارات النصوص، وتمس الحاجة إلى معرفة أحكامها بأي دليل من الأدلة الشرعية بنصوصه وروحه ومعقوله.
وكذلك نصوص الأحكام التشريعية لا تفهم على وجهها الصحيح إلا إذا عرف المقصد العام للشارع من تشريع الأحكام، وعرفت الوقائع الجزئية التي من أجلها نزلت الأحكام القرآنية، أو وردت السنة القولية أو الفعلية.
فالمقصد العام للشارع من التشريع هو المبين في هذه القاعدة الأصولية الأولى وأما الوقائع الجزئية التي شرعت لها الأحكام فهي مبينة في كتب التفسير وأسباب النزول وصحاح السنة.

ومنطوق هذه القاعدة:
أن المقصد العام للشارع من تشريع الأحكام هو تحقيق مصالح الناس في هذه الحياة، بجلب النفع لهم ودفع الضرر عنهم، لأن مصالح الناس في هذه الحياة تتكون من أمور ضرورية لهم، وأمور حاجية وأمور تحسينية، فإذا توافرت لهم ضرورياتهم وحاجياتهم وتحسيناتهم فقد تحققت مصالحهم. والشارع الإسلامي شرع أحكاماً في مختلف أبواب أعمال الإنسان لتحقيق أمهات الضروريات والحاجيات والتحسينات للأفراد والجماعات، وما أهمل ضروريا ولا حاجيا ولا تحسينيا من غير أن يشرع حكماً لتحقيقه وحفظه، وما شرع حكماً إلا لإيجاد وحفظ واحد من هذه الثلاثة، فهو ما شرع حكماً إلا لتحقيق مصالح الناس وما أهمل مصلحة اقتضاها حال الناس لم يشرع لها حكماً.
أما البرهان على أن مصالح الناس لا تعدو هذه الأنواع الثلاثة: فهو الحس والمشاهدة، لأن كل فرد أو مجتمع تتكون مصلحته من أمور ضرورية وأمور حاجية وأمور كمالية، مثلاً: الضروري لسكنى الإنسان مأوى يقيه حر الشمس وزمهرير البرد ولو مغارة في جبل، والحاجي أن يكون المسكن مما تسهل فيه السكنى بأن تكون له نوافذ تفتح وتغلق حسب الحاجة، والتحسيني أن يجمل ويؤثث وتوفر فيه وسائل الراحة، فإذا توافر له ذلك فقد تحققت مصلحته في سكناه، وهكذا طعام الإنسان ولباسه وكل شأن من شئون حياته، تتحقق مصلحته فيه بتوافر هذه الأنواع الثلاثة له. ومثل الفرد والمجتمع، فإذا توافر لأفراده ما يكفل إيجاد وحفظ ضرورياتهم وحاجيتهم وتحسيناتهم، فقد تحقق لهم ما يكفل مصالحهم.
أما البرهان على أن كل حكم في الإسلام إنما شرع لإيجاد واحد من هذه الأمور الثلاثة وحفظه فهو: استقراء الأحكام الشرعية الكلية والجزئية في مختلف الوقائع والأبواب، واستقراء العلل والحكم التشريعية التي قرنها الشارع بكثير من الأحكام.
وقبل أن نعرض أمثلة من هذا الاستقراء نبين المراد شرعاً بالضروري والحاجي والتحسيني.

فأما الضروري:
فهو ما تقوم عليه حياة الناس ولابد منه لاستقامة مصالحهم، وإذا فقد اختل نظام حياتهم، ولم تستقم مصالحهم، وعمت فيهم الفوضى، والمفاسد.
والأمور الضرورية للناس بهذا المعنى ترجع إلى حفظ خمسة أشياء:
الدين والنفس، والعقل، والعرض، والمال، فحظ كل واحد منهما ضروري للناس.

وأما الأمر الحاجي: 
فهو ما تحتاج إليه الناس لليسر والسعة، واحتمال مشتاق التكليف، وأعباء الحياة، وإذا فقد لا يختل نظام حياتهم ولا تعم فيهم الفوضى، كما إذا فقد الضروري، ولكن ينالهم الحرج والضيق.
والأمور الحاجية للناس بهذا المعنى ترجع إلى رفع الحرج عنهم، والتخفيف عليهم ليحتملوا مشاق التكليف، وتيسر لهم طرق التعامل والتبادل وسبل العيش.

وأما التحسيني:
فهو ما تقتضيه المروءة والآداب وسير الأمور على أقدام منهاج، وإذا فقد لا تختل حياة الناس كما إذا فقد الأمر الضروري، ولا ينالهم حرج، كما إذا فقد هذا الأمر الحاجي، ولكن تكون حياتهم مستنكرة في تقدير العقول الراجحة والفطر السليمة.
والأمور التحسينية للناس بهذا المعنى ترجع إلى مكارم الأخلاق ومحاسن العادات وكل ما يقصد به سير الناس في حياتهم على أحسن منهاج.

ما الذي شرعه الإسلام للأمور الضرورية للناس؟
الأمور الضرورية للناس كما قدمنا ترجع إلى خمسة أشاء: الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال، وقد شرع الإسلام لكل واحد من هذه الخمسة أحكاماً تكفل إيجاده وتكوينه، وأحكاماً تكفل حفظه وصيانته، وبهذين النوعين من الأحكام حقق للناس ضرورياتهم.
فالدين:
هو مجوع العقائد والعبادات والأحكام والقوانين التي شرعها الله سبحانه لتنظيم علاقة الناس بربهم، وعلاقاتهم بعضهم ببعض. وقد شرع الإسلام لإيجاده وإقامته: إيجاب الإيمان وأحكام القواعد الخمس التي بني عليها الإسلام، وهي: شهادة أن لا اله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، وسائر العقائد، وأصول العبادات، التي قصد الشارع بتشريعها، إقامة الدين و وتثبيته في القلوب باتباع الأحكام التي لا يصلح الناس إلا بها، وأوجب الدعوة إليه، وتأمين الدعوة إليه من الاعتداء عليها وعلى القائمين بها، ومن وضع عقبات في سبيلها.
وشرع لحفظه وكفالة بقائه وحمايته من العدوان عليه: أحكام الجهاد، لمحاربة من يقف عقبة في سبيل الدعوة غليه، ومن يفتن متديناً ليرجع عن دينه، وعقوبة من يرتد عن دينه، وعقوبة من يبتدع و يحدث في الدين ما ليس منه، أو يحرف أحكامه عن مواضعها، والحجر على المفتي الماجن الذي يحل المحرم.
والنفس:
شرع الإسلام لإيجادها الزواج للتوالد والتناسل، وبقاء النوع على أكمل وجوه البقاء.
وشرع لحفظها وكفالة حياتها، إيجاب تناول ما يقيمها من ضروري الطعام والشراب واللباس والسكن، وإيجاب القصاص والدية والكفارة على من يعتدي عليها، وتحريم الإلقاء بها إلى التهلكة، وإيجاب دفع الضرر عنها.
وشرع لحفظ العقل تحريم الخمر وكل مسكر، وعقاب من يشتريها أو يتناول أي مخدر.
وشرع لحفظ العرض حد الزاني والزانية وحد القاذف.
شرع الإسلام المال لتحصيله وكسبه: إيجاب السعي للرزق وإباحة المعاملات والمبادلات والتجارة والمضاربة.
وشرع لحفظه وحمايته: تحريم السرقة، وحد السارق والسارقة، وتحريم الغش والخيانة وأكل أموال الناس بالباطل، وإتلاف مال الغير، وتضمين من يتلف مال غيره، والحجر على السفيه وذي الغفلة، ودفع الضرر وتحريم الربا.
وكفل حفظ الضروريات كلها بأن أباح المحظورات للضرورات.
فمن هذا يتبين أن الإسلام شرع أحكاماً في مختلف أبواب العبادات والمعاملات والعقوبات تقصد إلى كفالة ما هو ضروري للناس بإيجاده وبحفظه وحمايته.
وقد دل على هذا القصد بما قرنه ببعض هذه الأحكام من العلل والحكم التشريعية، كقوله تعالى في إيجاب الجهاد: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ) [البقرة: 193]، وقوله في إيجاب القصاص: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) [البقرة: 179]، وقوله سبحانه: (لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ) [البقرة: 188]، وقول الرسول في تعليل النهي عن بيع التمر قبل أن يبدو صلاحه: "أرأيت إذا منع الله الثمر بم يأخذ أحدكم مال أخيه"، إلى غير ذلك من العلل التي تدل على قصد الشارع حماية الدين والأنفس والأموال وكل ما هو ضروري للناس.

ما الذي شرعه الإسلام للأمور الحاجية للناس؟
الأمور الحاجية للناس، كما قدمنا ترجع إلى ما يرفع الحرج عنهم، ويخفف عليهم أعباء التكليف، وييسر لهم طرق المعاملات والمبادلات، وقد شرع الإسلام في مختلف أبواب العبادات والمعاملات والعقوبات جملة أحكام المقصود بها رفع الحرج، واليسر بالناس.
ففي العبادات، شرع الرخص ترفيهاً وتخفيفاً عن المكلفين إذا كان في العزيمة مشقة عليهم، فأباح الفطر في رمضان لمن كان مريضاً أو على سفر، وقصر الصلاة الرباعية للمسافر، ولصلاة قاعداً لمن عجز عن القيام، وأباح التيمم لمن لم يجد الماء، والصلاة في السفينة ولو كان الاتجاه لغير القبلة، وغير ذلك من الرخص التي شرعت لرفع الحرج عن الناس في عباداتهم.
وفي المعاملات، شرع كثيراً من أنواع العقود والتصرفات التي تقتضيها حاجات الناس، كأنواع البيوع والإيجارات والشركات والمضاربات ورخص في عقود لا تنطبق على القياس، وعلى القواعد العامة في العقود، كالسلم وبيع الوفاء والاستصناع، والمزارعة، والمساقاة، وغير ذلك مما جرى عليه عرف الناس ودعت إليه حاجتهم. وشرع الطلاق للخلاص من الزوجية عند الحاجة، وأحل الصيد وميتة البحر والطيبات من الرزق، وجعل الحاجات مثل الضروريات في إباحة المحظورات.
وفي العقوبات جعل الدية على العاقلة تخفيضاً عن القاتل خطأ، ودرأ الحدود بالشبهات، وجعل لولي المقتول حق العفو عن القصاص من القاتل.
وقد دل على ما قصده بهذه الأحكام من التخفيف ورفع الحرج بما قرنه ببعضها من العلل والحكم التشريعية، وكقوله تعالى: (مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ) [المائدة: 6]، وقوله سبحانه: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج: 78]، وقوله تعالى: (يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185]، وقوله: (يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً) [النساء: 28]، وقول الرسول: "بعثت بالحنيفة السمحة".

ما الذي شرعه الإسلام للأمور التحسينية للناس؟
الأمور التحسينية للناس ـ كما قدمنا ـ ترجع إلى كل ما يحمل حالهم ويجعلها على وفاق ما تقتضيه المروءة ومكارم الأخلاق. وقد شرع الإسلام في مختلف أبواب العبادات والمعاملات والعقوبات أحكاماً تقصد إلى هذا التحسين والتجميل وتعود الناس أحسن العادات، وترشدهم إلى أحسن المناهج وأقومها.
ففي العبادات شرع الطهارة للبدن، والثوب، والمكان، وستر العورة، والاحتراز عن النجاسات، والاستنزاه من البول. وندب إلى أخذ الزينة عند كل مسجد، وإلى التطوع بالصدقة والصلاة والصيام، وفي كل عبادة شرع مع أركانها وشروطها آداباً لها، ترجع إلى تعويد الناس أحسن العادات.
وفي المعاملات حرم الغش والتدليس والتغرير والإسراف والتقتير، وحرم التعامل في كل نجس وضار، ونهى عن بيع الإنسان على بيع أخيه، وعن تلقي الركبان، وعن التسعير، وغير ذلك مما يجعل معاملات الناس على أحسن منهاج.
وفي العقوبات، يحرم في الجهاد قتل الرهبان والصبيان والنساء، ونهى عن المثلة والغدر، وقتل الأعزل، وإحراق ميت أو حي.
وفي أبواب الأخلاق وأمهات الفضائل، قرر الإسلام ما يهذب الفرد والمجتمع ويسير بالناس في أقوم السبل. وقد دل سبحانه على قصده هذا التحسين والتجميل بالعلل والحكم التي قرنها ببعض أحكامه، كقوله تعالى: (لَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) [المائدة: 6]، وقول الرسول: "وإنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، وقوله عليه الصلاة والسلام: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا".
فاستقراء الأحكام الشرعية والعلل والحكم الشرعية في مختلف الأبواب والوقائع ينتج أن الشارع الإسلامي ما قصد من تشريعه الأحكام إلا حفظ ضروريات الناس وحاجيتهم وتحسينياتهم، وهذه هي مصالحهم.
وقد أفاض الإمام أبو إسحاق الشاطبي في أول الجزء الثاني من كتاب "الموافقات" في إثبات هذا بما لا مزيد عليه، وبعد أن أتى بأمثلة عديدة من أحكام الشريعة وحكم تشريعها تدل على أن كل حكم شرعي، إنما قصد بتشريعه حفظ واحد من هذه الثلاثة التي تتكون منها مصالح الناس، قال ما نصه: "إن الظواهر، والعمومات، والمطلقات، والمقيدات، والجزئيات الخاصة في أعيان مختلفة ووقائع مختلفة في كل باب من كل أبواب الفقه وكل نوع من أنواعه، ويؤخذ منها أن التشريع دائر حول حفظ هذه الثلاث التي هي أسس مصالح الناس".
وقد اقتضت حكمة الشارع الإسلامي وما أراده من حفظ هذه الأنواع الثلاثة على أتم وجه، أن شرع مع الأحكام التي تحفظ كل نوع منها أحكاماً تعتبر مكملة لها في تحقيق هذه المقاصد.
ففي الضروريات لما شرع إيجاب الصلاة لحفظ الدين، شرع أداءها جماعة وإعلانها بالأذان، لتكون إقامة الدين وحفظه أتم بإظهار شعائره والاجتماع عليها.
ولما أوجب القصاص لحفظ النفوس، شرع التماثل فيه ليؤدي إلى الغرض منه من غير أن يثير العداوة والبغضاء، لأن قتل القاتل بصورة أفظع مما قد يؤدي على سفك الدماء وإلى نقيض المقصود من القصاص.
ولما حرم الزنا لحفظ العرض حرم الخلوة بالأجنبية سداً للذريعة.
ولما حرم الخمر حفظاً للعقل حرم القليل منه ولو لم يسكر.
وجعل كل ما لا يتم الواجب إلا به واجباً، وكل ما يؤدي إلى المحظور محظوراً، وحذر من كثير من المباحات وقيد كثيراً من المطلقات، وخصص كثيراً من المطلقات، وخصص كثير من العمومات سداً للذرائع . ولما شرع الزواج للتوالد والتناسل، اشترط الكفاءة بين الزوجين تكميلاً للوفاق وحسن المعاشرة، فالأحكام التي شرعها لحفظ الضروريات كملها بتشريع أحكام تحقق هذا المقصد على أكمل وجوهه.
وفي الحاجيات لما شرع أنواع المعاملات من بيوع وإيجارات وشركات ومضاربات، كملها بالنهي عن الغرر والجهالة وبيع المعدوم، وبيان ما يصح اقتران العقد به من شروط و ما لا يصح، وغير ذلك مما يقصد به أن تكون المعاملات فيها سر حاجة الناس من غير أن تثير الخصومات والأحقاد.
وفي التحسينيات لما شرط ندب فيها عدة أشياء تكلمها، ولما ندب إلى التطوع جعل الشروع فيه موجباً له، حتى لا يعتاد المكلف إبطال عمله الذي شرع فيه قبل أن يتمه، ولما ندب إلى الإنفاق ندب أن يكون الإنفاق من طيب الكسب.
فمن حقق النظر في أحكام الشريعة الإسلامية، يتبين أن المقصود من كل حكم شرع فيها: حفظ ضروري للناس، أو حاجي لهم، أو تحسيني، أو مكمل لما يحفظ واحداً منها.

ترتيب الأحكام الشرعية بحسب المقصود منها:
مما قدمنا في بيان المراد من الضروري والحاجي والتحسيني يتبين أن الضروريات أهم هذه المقاصد لأنها على فقدها اختلال نظام الحياة، وشيوع الفوضى بين الناس و ضياع مصالحهم. وتليها الحاجيات، لأنه يترتب على فقدها وقوع الناس في الحرج والعسر، واحتمال المشقات التي قد تنوء بهم، وتليها التحسينيات، لأنه لا يترتب على فقدها اختلال نظام الحياة ولا وقوع الناس في الحرج، ولكن يترتب على فقدها خروج الناس على مقتضى الكمال الإنساني والمروءة وما تستحسنه العقول السليمة.
وعلى هذا: فالأحكام الشرعية التي شرعت لحفظ الضروريات أهم الأحكام وأحقها بالمراعاة، وتليها الأحكام التي شرعت لتوفير الحاجيات، ثم الأحكام التي شرعت للتحسين والتجميل، وتعتبر الأحكام التي شرعت للتحسينيات كالمكملة التي شرعت للحاجيات. وتعتبر الأحكام التي شرعت للحاجيات كالمكملة للتي شرعت لحفظ الضروريات.
فلا يراعى حكم تحسيني إذا كان في مراعاته إخلال بحكم ضروري أو حاجي، لأن المكمل لا يراعى إذا كان في مراعاته ‘خلال بما هو مكمل له، ولذا أبيح كشف العورة إذا اقتضى هذا علاج أو عملية جراحية، لأن ستر العورة تحسيني، والعلاج ضروري. وأبيح تناول النجس إذا كان دواء أو اضطر إليه، لأن الاحتراز عن النجاسات تحسيني، والمداواة ودفع الضروريات ضروري. وكذلك أبيح بيع المعدوم في السلم والاستصناع، واغتفرت الجهالة في المزرعة والمساقاة وبيع الغائب، لأن حاجة الناس قضت بأن تراعى هذه التحسينات.
ولا يراعى حكم حاجي إذا كان في مراعاته إخلال بحكم ضروري، ولهذا تجب الفرائض والواجبات على المكلفين الذين ليسوا في حال تبيح الرخصة وإن شق عليهم ما كلفوا به، وإذ كل تكليف فيه إلزام بما فيه كلفة ومشقة، فلو روعي أن لا تنال المكلف أية مشقة لأهملت عدة من الأحكام الضرورية من عبادات وعقوبات وغيرها، لن كل ما أمر به المكلف أو نهى عنه لحفظ الضروريات لا يخلو امتثاله من مشقة عليه، ولكن احتملت هذه المشقة في سبيل حفظ الضروريات للمكلفين.
وأما الأحكام الضرورية فتجب مراعاتها، ولا يجوز الإخلال بحكم منها إلا إذا كانت مراعاة ضروري تؤدي إلى الإخلال بضروري أهم منه. ولهذا أوجب الجهاد حفظاً للدين وإن كان فيه تضحية النفس، لأن حفظ الدين أهم من حفظ النفس، وأبيح شرب الخمر إذا أكره على شربها بإتلاف نفسه أو عضو منه أو اضطر إليها في ظمأ شديد، لأن حفظ النفس أهم من حفظ العقل. وإذا أكره على إتلاف مال غيره، أبيح له أن يقي نفسه الهلاك بإتلاف مال غيره. فهذه الأحكام فيها إهمال حكم ضروري مراعاة لحكم ضروري أهم منه.
فقد ثبت بالبرهان أن مقاصد الشارع مما شرعه من الأحكام، لا تعدو حفظ واحد من الثلاثة أو ما يكمله، وأن هذه المقاصد مرتبة في مراعاتها حسب أهميتها، وعلى ترتيبها رتبت الأحكام التي شرعت لتحقيقها.
وعلى هذه القاعدة الأصولية التشريعية الأولى، وضعت المبادئ الشرعية الخاصة بدفع الضرر، والمبادئ الشرعية الخاصة برفع الحرج، وعن كل مبدأ من هذه المبادئ تفرغت عدة فروع واستنبطت جملة أحكام.
وهذه بيان المبادئ الخاصة بدفع الضرر، وأمثلة مما تفرع عن كل مبدأ منها:
1- الضرر يزال شرعاً، من فروعه: 
ثبوت حق الشفعة للشريك أو الجار، وثبوت الخيار للمشتري في رد المبيع بالعيب وسائر أنواع الخيارات، والجبر على القسمة إذا امتنع الشريك، ووجوب الوقاية والتداوي من الأمراض، وقتل الضار من الحيوان، وتشريع العقوبات على الجرائم من حدود وتعازير وكفارات.
2- الضرر لا يزال بالضرر، من فروعه: 
لا يجوز للإنسان أن يدفع الغرق عن أرضه بإغراق أرض غيره، ولا أن يحفظ ماله بإتلاف مال غيره، ولا يجوز للمضطر أن يتناول طعام مضطر آخر.
3- يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام، من فروعه: 
يقتل القاتل لتأمين الناس على نفوسهم، وتقطع يد السارق لتأمين الناس على أموالهم، ويهدم الجدار الآيل للسقوط في الطريق العام، ويحجر على المفتي الماجن، والطبيب الجاهل، والمكاري المفلس، يباع مال المدين جبراً عنه إذا امتنع عن بيعه وأداء دينه، تسعير أثمان الحاجيات إذا غلا أربابها في أثمانها، يباع الطعام جبراً على مالكه إذا احتكر واحتاج الناس إليه وامتنع عن بيعه، يمنع اتخاذ حانوت حداد بين تجار الأقمشة.
4- يرتكب أخف الضررين اتقاء لأشدهما، من فروعه: 
يحبس الزوج إذا ماطل في القيام بنفقة زوجته، ويحبس القريب إذا امتنع عن الإنفاق على قريبه، تطلق الزوجة للضرر وللإعسار، إذا اضطر المريض إلى تناول الميتة أو مال الغير تناوله، إذا عجز مريد الصلاة عن التطهير أو استقبال القبلة صلى كما قدر، لأن ترك هذه الشروط أخف من ترك الصلاة.
5- دفع المضار مقدم على جلب المنافع:
ولذا جاء في الحديث: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم"، ومن فروعه: يمنع أن يتصرف المالك في ملكه إذا كان تصرفه يضر بغيره، ويكره للصائم أن يبالغ في المضمضة أو الاستنشاق.
6- الضرورات تبيح المحظورات، من فروعه: 
من اضطر إلى مخمصة إلى ميتة أو دم أو أي محرم فلا إثم عليه في تناوله، من لم يستطيع الدفاع عن نفسه إلا بالإضرار بغيره فلا إثم عليه في الدفاع به، من امتنع من أداء دينه يؤخذ الدين من ماله بغير إذنه.
7- الضرورات تقدر بقدرها، من فروعه: 
ليس للمضطر أن يتناول من المحرم إلا قدر ما يسد الرمق، ولا يعفى من النجاسة إلا القدر الذي لا يمكن الاحتراز منه، وأحكام الرخص تبطل إذا زالت أسبابها، فالتيمم يبطل إذا تيسر التطهير بالماء، والفطر يحرم في رمضان إذا أقام المسافر الصحيح، وكل ما جاز لعذر يبطل زواله.

وهذا بيان المبادئ الخاصة برفع الحرج وأمثلة مما يتفرع عنها:
1- المشقة تجلب التيسير، من فروعها:
جميع الرخص التي شرعها الله ترفيهاً وتخفيفاً عنة المكلف لسبب من الأسباب التي تقتضي هذا التخفيف.

وهذه الأسباب بالاستقراء سبعة:
السفر: ومن أجله أبيح الفطر في رمضان، وقصر الصلاة الرباعية، وسقوط الجمعة، والجماعة، والتيمم.
المرض: ومن أجله أبيح الفطر في رمضان، التيمم، والصلاة قاعداً، وتناول المحرم للعلاج.
الإكراه: ومن أجله أبيح للمكره التلفظ بكلمة الكفر، وترك الواجب، وإتلاف مال الغير، وأكل الميتة، وشرب الخمر.
النسيان: ومن أجله رفع الإثم عمن ارتكب معصية ناسياً، ولم يبطل صوم من أكل في نهار رمضان أو شرب ناساً، ولم تحرم ذبيحة من ترك التسمية عليها عند ذبحها ناسياً.
الجهل: ومن أجله ساغ رد المبيع بالعيب لمن اشتراه جاهلاً بعيبه، و ساغ فسخ الزواج بالعيب لمن تزوج جاهلاً به، واغتفر التناقض في دعوى النسب للجهل، وكذلك اغتفر التناقض للوراث والوصي وناظر الوقف للجهل.
عموم البلوى: ومن أجله عفي عن رشاش النجاسات من طين الشوارع وغيره مما لا يمكن الاحتراز عنه، وعفي عن الغبن اليسير في المعاوضات.
النقص، ومن فروعه: رفع التكليف عن فاقد الأهلية كالطفل والمجنون، ورفع بعض الواجبات عن الأرقاء وعن النساء، ولذا لا تجب عليهن الجمعة ولا الجماعة، ولا الجهاد.
2- الحرج شرعاً مرفوع، من فروعه:
قبول شهادة النساء وحدهن فيما لا يطلع عليه الرجال من عيوب النساء وشؤونهن، والاكتفاء بغلبة الظن دون التزام الجزم والقطع في استقبال القبلة وطهارة المكان والماء والقضاء والشهادة، ومن فروعه: ما قرروه من انه إذا ضاق الأمر اتسع.
3- الحاجات تنزل منزله الضرورات في إباحة المحظورات، ومن فروعه:
الترخيص في السلم، وبيع الوفاء، والاستصناع، وضمان الدرك، وجواز الاستقراض بالربح للمحتاج، وغير ذلك مما فيه العقد أو التصرف على مجهول أو معدوم، ولكن قضت به حاجة الناس.
ومما يتفرع على هذا المبدأ حكم كثير من عقود المعاملات وضروب الشركات التي تحدث بين الناس وتقتضيها تجارتهم، فإنه إذا قام البرهان الصحيح، ودل الاستقراء التام على أن نوعاً من هذه العقود والتصرفات صار حاجياً للناس بحيث ينالهم الحرج والضيق إذا حرم عليهم هذا النوع من التعامل، أبيح لهم قدر ما يرفع الحرج منه ولو كان محظوراً لما فيه من الربا أو شبهته، بناء على أن الحاجيات تبيح المحظورات كالضرورات، وتقدر بقدرها كالضرورات.
قال صاحب الأشباه والنظائر: "ومن ذلك الإفتاء بصحة بيع الوفاء حين كثر الدين على أهل بخارى، وهكذا مصر، وقد سموه بيع الأمانة ... وفي القنية والبغية: يجوز للمحتاج الاستقراض بالربح".




القاعدة الثانية- فيما هو حق الله، وما هو حق المكلف

"أفعال المكلفين التي تعلقت بها الأحكام الشرعية، إن كان المقصود بها مصلحة المجتمع عامة فحكمها حق خالص لله وليس للمكلف فيه خيار، وتنفيذه لولي الأمر. وإن كان المقصود بها مصلحة المكلف خاصة، فحكمها حق خالص للمكلف وله في تنفيذه الخيار. وإن كان المقصود بها مصلحة المجتمع والمكلف معاً، ومصلحة المجتمع فيها أظهر، فحق الله فيها الغالب، وحكمها كحكم ما هو حق خالص لله، وإن كانت مصلحة المكلف فيها أظهر، فحق المكلف فيها الغالب، وحكمها كحكم ما هو خالص للمكلف".

القاعدة التشريعية الأولى تضمنت أن أحكام الإسلام بوجه عام إنما قصد بها تحقيق مصالح الناس، وهذه القاعدة التشريعية الثانية تضمنت أن المصلحة التي قصد بتشريع الحكم تحقيقها قد تكون مصلحة عامة للمجتمع، وقد تكون مصلحة خاصة للفرد، وقد تكون مصلحة لهما معاً.

المراد بما هو حق الله:
ما هو حق المجتمع وشرع حكمه للمصلحة العامة لا لمصلحة فرد خاص، فلكونه من النظام العام، ولم يقصد به نفع فرد بخصوصه نسب إلى رب الناس جميعهم، وسمي حق الله.

المراد بما هو حق المكلف ما هو حق الفرد:
وشرع حكمه لمصلحته خاصة، وقد ثبت بالاستقراء أن أفعال المكلفين التي تعلقت بها الأحكام الشرعية، منها ما هو حق خالص لله، ومنها ما هو حق خالص للمكلف، ومنها ما اجتمع فيه الحقان، حق الله غالب، ومنها ما اجتمع فيه الحقّان، وحق المكلف غالب.

فأما ما هو حق خالص لله فهو منحصر بالاستقراء فيما يأتي:
1- العبادات المحضة:
كالصلاة والصيام والزكاة والحج، وما بنيت عليه هذه العبادات من الإيمان والإسلام، فأن هذه العبادات وأسسها مقصود بها إقامة الدين وهو ضروري لنظام المجتمع، وحكمة تشريع كل عبادة منها على أنها لمصلحة عامة ى لمصلحة المكلف وحده.
2- العبادات التي فيها معنى المؤونة:
كصدقة الفطر، فإنها عبادة من جهة أنها تقرب إلى الله بالصدقة للفقراء والمساكين، ولكنها ليست عبادة محضة بل فيها معنى الضريبة على النفس، لبقائها وحفظها، وهذا مرادهم بأن فيها معنى المؤونة، ولهذا لا تجب على الإنسان عن نفسه فقط، بل تجب عليه عن نفسه وعمن يعولهم منن هم في ولايته، كابنه الصغير وخادمه. ولو كانت عبادة محضة ما وجبت على الإنسان إلا على نفسه، وكان ينبغي أن تعد الزكاة من هذا النوع من الأول وهو العبادات المحضة، لأن الزكاة عبادة فيها معنى الضريبة على المال لبقائه وحفظه، ولهذا تجب على رأي جمهور المجتهدين في مال فاقد الأهلية كالصبي، والمجنون، ولو كانت عبادة محضة ما وجبت إلا على البالغ العاقل.
3- الضرائب التي فرضت على الأرض الزراعية:
سواء أكانت عشرية أم خراجية، وسواء أكان المفروض على الأرض العشرية العشر أم نصف العشر، والمفروض على الأرض الخراجية خراج وظيفة أم خراج مقاسمة، فإن المقصود من هذه الضرائب صرفها في المصالح العامة التي يقتضيها بقاء الأرض في يد أربابها واستثمارها كإصلاح طرق الري والصرف، وإقامة الجسور، وتمهيد الطرق وحمايتها من العدوان عليها، ومعونة الفقراء، والمساكين، وغير ذلك مما تستوجبه المصلحة العامة والتأمين الاجتماعي.
وقد أطلق الأصوليين على ضريبة الأرض العشرية أنها مؤونة فيها معنى العبادة، وعلى ضريبة الأرض الخراجية أنها مؤونة فيها معنى العقوبة. أما العلة في أن كلاً منهما مؤونة فظاهرة، لن مؤونة الشيء ما به بقاؤه، وهذه الضريبة بها الأرض في أيدي أهلها مستثمرة غير معتدى عليها. وأما العلة في أن ضريبة الأرض العشرية فيها معنى العبادة فظاهرة أيضاً، لأن زكاة الخارج من الأرض تصرف مصارف الزكاة. وأما العلة في أن ضريبة الأرض الخراجية فيها معنى العقوبة فغير ظاهرة، لأن الخراج ضريبة وضعها عمر بن الخطاب على الأرض الزراعية التي استبقيت في أيدي غير المسلمين ليصرفها في المصالح العامة نظير الضريبة التي فرضها الله على الأرض التي في أيدي المسلمين لصرفها في المصالح العامة. والآراء التي تبودلت بين عمر وكبار الصحابة في وضع هذه الضريبة لا يؤخذ منها أن فيها معنى العقوبة.
4- الضرائب التي فرضت فيما يغنم بالجهاد:
وفيما يوجد في باطن الأرض من الكنوز والمعادن، فإن الشارع جعل أربعة أخماس الغنيمة للغانمين وخمسها لمصالح عامة بينها الله في القرآن بقوله: (وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) [الأنفال: 41]، وجعل أربعة أخماس ما يوجد من المعادن والكنوز للواجد، وخمسة لمصالح عامة بينها.
5- أنواع من العقوبات الكاملة:
وهي، حد الزنا، وحد السرقة، وحد البغاة الذين يحاربون الله ورسوله، ويسعون في الأرض فساداً فهي لمصلحة المجتمع كله.
6- نوع من العقوبات القاصرة:
وهو حرمان القاتل من الإرث فهو عقوبة قاصرة، لأنه عقوبة سلبية لم يلحق القاتل بها تعذيب بدني، أو غرم مالي، وهو حق الله لأنه ليس فيه نفع للمقتول.
7- وعقوبات فيها معنى العبادة:
كالكفارة لمن حنث في يمينه، والكفارة لمن أفطر في رمضان عمداً، والكفارة لمن قتل خطأ أو ظاهر زوجته، فهي عقوبة لأنها وجبت جزاء على معصية، ولهذا سميت كفارة، أي ستارة للإثم، وفيها معنى العبادة لأنها تؤدي بما هو عبادة من صوم، أو صدقة، أو تحرير رقبة.
فهذه الأنواع كلها حق خالص لله، وتشريعها لتحقيق مصالح الناس العامة، وليس للمكلف الخيرة فيها، وليس له إسقاطها، لأن المكلف لا يملك أن يسقط إلا حق نفسه، ولا يملك أن يسقط صلاة أو صوماً أو حجاً أو زكاة أو صدقة واجبة، أو ضريبة مفروضة، أو عقوبة من هذه العقوبات لأنها ليست حقه.

وأما ما هو حق خالص للمكلف فمثاله:
تضمين من أتلف المال بمثله أو قيمته، هو حق خالص لصاحب المال عن شاء ضمن وإن شاء ترك، وحبس العين المرهونة حق خالص للمرتهن، واقتضاء الدين حق خالص للدائن. فالشارع أثبت هذه الحقوق لأربابها، وهم لهم الخيرة إن شاءوا استوفوا حقوقهم، وإن شاءوا أسقطوها، ونزلوا عنها، لأن لكل مكلف الحق في أن يتصرف في حق نفسه، وهذه ليست من المصالح العامة.

وأما ما اجتمع فيه الحقان وحق الله فيه غالب:
فهو حد القذف، لأنه من جهة أنه صيانة لأغراض الناس، ومنع من التعادي والتقاتل يحقق مصلحة عامة، فيكون من حق الله، ومن جهة أنه دفع للعار عن المحصنة التي قذفت وإعلان لشرفها وحصانتها يحقق مصلحة خاصة بها فيكون من حق الفرد، ولكن الجهة الأولى أظهر في العقوبة، فلهذا كان حق الله غالباً فيها، فليس للمقذوفة أن تسقط الحد عن قاذفها لأنها لا تملك إسقاط حد غلب حق الله فيه، وليس لها أن تقيم الحد بنفسها لأن الحدود التي هي حق خالص لله أو يغلب فيها حق الله لا يقيمها إلا الحكومة، وليس للمجني عليه أن يقيمها بنفسه.

وأما ما اجتمع فيه الحقان، وحق المكلف فيه غالب:
فهو القصاص من القاتل العامد، فإن القصاص من جهة أن فيه حياة الناس بتأمينهم على أنفسهم يحقق مصلحة عامة، ومن جهة أن فيه شفاء صدور أولياء المقتول، وإطفاء نار غضبهم وحقدهم على القاتل يحقق مصلحة خاصة، ولكن الجهة الثانية غلبت، ولهذا كان حق المكلف غالباً معه، ولو جاز لولي المقتول أن يعفو فلا يقتص منه، ولا يقتص من القاتل ألا بناء على طلب ولي المقتول.
ومن هذا يؤخذ أن العقوبات المقدرة في القرآن وهي الحدود الشرعية الخمسة، منها ما هو حق خالص لله، وهي حد الزنا، وحد السرقة، وحد السعي في الأرض فساداً بالخروج على الجماعة، ومنها ما اجتمع فيه الحقان وحق الله غالب فيه، وهو حد قذف المحصنات. وفي هذين لا يملك المجني عليه العفو عن الجاني، ولا يملك أن يتولى عقابه بنفسه، لأن حق الله خالصاً أو غالباً لا يملك المكلف إسقاطه، والمنوط باستيفائه الإمام العام "الحكومة". ومنها ما اجتمع فيه الحقان وحق المكلف غالب فيه، وهو القصاص، فللمجني عليه أن يعفوا عن القاتل، وإذا حكم على القاتل بالقصاص كان له أن يتولى تنفيذ الحكم، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) [البقرة: 178].

ومما تقدم يتبين أمران:
أولهما- أن كل حدّ من الحدود الشرعية فيه حق لله، أي للمجتمع، ولكن هذا الحق قد يكون خالصاً، وقد يكون معه حق للفرد، إما راجحاً وأما مرجوحاً.
وثانيهما- أن الشريعة الإسلامية تفترق والنظرية الجنائية في قوانيننا الوضعية في عقوبة القصاص من القاتل العامد، وفي عقوبة الزوجة التي ثبت زناها.
ففي عقوبة القصاص من القاتل العامد:
الشريعة الإسلامية جعلت هذه العقوبة فيها حق للمجني عليه وهو ولي المقتول، وفيها حق الله أي المجتمع، وجعلت حق المجني عليه أرجح، ورتبت على أن فيها حقاً راجحاً للمجني عليه أنها جعلت الحق له في رفع الدعوى بطلب الحكم بالقصاص، وجعلت له الحق إذا حكم بالقصاص أن يعفو، وأن يتولى التنفيذ. ورتبت على أن فيها حقاً لله وأن للحكومة في حال عفو المجني عليه أن تعاقب الجاني بما تراه رادعاً له ولغيره، لأن نزول أحد صاحبي الحق عن حقه لا يسقط حق الآخر.
وأما القوانين الوضعية فقد جعلت هذه العقوبة حقاً خالصاً للمجتمع، وجعلت رفع الدعوى على القاتل من اختصاص النيابة العمومية، ولا يملك المجني عليه عفواً ولا مباشرة تنفيذ، وحق العفو ومباشرة التنفيذ هو لولي الأمر العام.
وفي عقوبة الزوجة التي ثبت زناها:
الشريعة الإسلامية جعلت هذه العقوبة حقاً خالصاً لله أي للمجتمع، وجعلت رفع الدعوى على الزانية من اختصاص النيابة العمومية، وتنفيذ الحكم من اختصاص السلطة التنفيذية، ولا يملك زوجها ولا أي فرد غيره وقف إجراءات الدعوى عليها، ولا وقف تنفيذ الحكم عليها بعد صدوره.
وأما في القوانين الوضعية، فلا ترفع الدعوى إلا بشكوى من زوجها، وله أن يوقف إجراءات الدعوى عليها، وإذا حكم عليها، فله أن يوقف تنفيذ الحكم برضاه بمعاشرتها.




القاعدة الثالثة- فيما يسوغ الاجتهاد فيه

"لا مساغَ للاجتهاد فيما فيه نص صريح قطعي"

الاجتهاد في اصطلاح الأصوليين:
هو بذل الجهد للوصول إلى الحكم الشرعي من دليل تفصيلي من الأدلة الشرعية.
فإن كانت الواقعة التي يراد معرفة حكمها قد دل على الحكم الشرعي فيها دليل صريح قطعي الورود والدلالة فلا مجال للاجتهاد فيها، والواجب لأن ينفذ فيها ما دل عليه النص، لأنه ما دام قطعي الورود فليس ثبوته وصدوره عن الله أو رسوله موضع بحث وبذل جهد. وما دام قطعي الدلالة فليست دلالته على معناه واستفادة الحكم منه موضع بحث واجتهاد. وعلى هذا فآيات الأحكام المفسرة التي تدل على المراد منها دلالة واضحة، وتحتمل تأويلاً يجب تطبيقها، ولا مجال للاجتهاد في الوقائع التي تطبق فيها، ففي قوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ) [النور: 2]، لا مجال للاجتهاد في عدد الجلدات. وكذلك في كل عقوبة أو كفارة مقدرة. وفي قوله تعالى: (وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ) [البقرة: 43]، بعد أن فسرت السنة العلمية المراد من الصلاة أو الزكاة، لا مجال للاجتهاد في تعرف المراد من أحدهما. فما دام النص صريحاً مفسراً بصيغة أو بما ألحقه الشارع به من تفسير وبيان، فلا مساغ للاجتهاد فيما ورد فيه. ومثل هذه الآيات القرآنية المفسرة السنن المتواترة المفسرة، كحديث الأموال الواجبة فيها الزكاة ومقدار النصاب من كل مال منها ومقدار الواجب فيه.
أما إذا كانت الواقعة التي يراد معرفة حكمها قد ورد فيها نص ظني الورود والدلالة أو أحدهما ظني فقط ففيهما للاجتهاد مجال، لأن المجتهد عليه أن يبحث في الدليل الظني الورود من حيث سنده، وطريق وصوله إلينا عن الرسول، ودرجة رواته من العدالة والضبط والثقة والصدق، وفي هذا يختلف تقدير المجتهدين للدليل. فمنهم من يطمئن إلى روايته ويأخذ به، ومنهم من لا يطمئن إلى روايته ولا يأخذ به. وهذا باب من الأبواب التي اختلف من أجلها المجتهدون في كثير من الأحكام العلمية.
فإن أداة اجتهاده في سند الدليل إلى الاطمئنان لروايته، وصدق رواته، واجتهد في معرفة ما يدل عليه الدليل من الأحكام وما يطبق فيه من الوقائع، لأن الدليل قد يدل ظاهره على معنى، ولكنه ليس هو المراد. وقد يكون عاماً، وقد يكون مطلقاً، وقد يكون على صيغة الأمر والنهي، فالمجتهد يصل باجتهاده إلى معرفة أن الظاهر على ظاهره أو هو مؤول، وأن العام باق على عمومه أو هو مخصص، وكذلك المطلق على إطلاقه أو هو مقيد، والأمر للإيجاب أو لغيره، والنهي للتحريم أو لغيره. وهاديه في اجتهاده القواعد الأصولية اللغوية، ومقاصد الشارع ومبادئه العامة، وسائر نصوصه التي بينت أحكاماً، وبهذا يصل إلى أن النص يطبق في هذه الواقعة أو لا يطبق.
وكذلك إذا كانت الواقعة لا نص على حكمها أصلاً ففيها مجال متسع للاجتهاد، لأن المجتهد يبحث ليصل إلى معرفة حكمها بواسطة القياس، أو الاستحسان أو الاستصحاب أو مراعاة العرف أو المصالح المرسلة.
فالخلاصة:
أن مجال الاجتهاد أمران:
ما لا نص فيه أصلاً، وما فيه نص غير قطعي، ولا مجال للاجتهاد فيما فيه نص قطعي.
وعلى هذا أصول التقنين الوضعي، فقد جاء كتاب أصول القوانين: الأصل، أنه ما دام القانون صريحاً فلا يجوز تأويله وتغيير نصوصه، لبناء على أن روح القانون تدعو لذلك التغيير، حتى لو كان رأي القاضي الشخصي أن النص غير عادل، لأن مرجع ذلك إلى المشرع نفسه، ومأمورية القاضي قاصرة على الحكم بمقتضى القانون لا الحكم على القانون.
وجاء في المادة 29 من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية أنه: "إن لم يوجد نص صريح بالقانون يحكم بمقتضى قواعد العدل". فمادام في القانون نص صريح، فهو وحده الذي يقضي به.

الأهلية للاجتهاد:
بعد أن بينا ما فيه مجال للاجتهاد، وما ليس فيه مجال نبين من يكون أهلاً للاجتهاد.
يشترط لتحقيق الأهلية للاجتهاد شروط أربعة:
الأول: أن يكون الإنسان على علم باللغة العربية وطرق دلالة عباراتها ومفرداتها، وله ذوق في فهم أساليبها كسبه من الحذق في علومها وفنونها، وسعة الاطلاع على لآدابها وآثار فصاحتها من شعر ونثر غيرهما، لأن أول وجهة للمجتهد هي النصوص في القرآن والسنة وفهمها العربي الذي وردت هذه النصوص بلغته، وتطبيق القواعد الأصولية اللغوية في استفادة المعاني من العبارات والمفردات.
الثاني: أن يكون على علم بالقرآن، والمراد أن يكون عليماً بالأحكام الشرعية التي جاء بها القرآن، وبالآيات التي نصت على هذه الأحكام، وبطرق استثمار هذه الأحكام من آياتها، بحيث إذا عرضت له واقعة كان ميسوراً له أن يستحضر كل ما ورد في موضوع هذه الواقعة من آيات الأحكام في القرآن، وما صح من أسباب نزول كل آية منها، وما ورد في تفسيرها وتأويلها من آثار، وعلى ضوء هذا يستنبط حكم الواقعة.
وآيات الأحكام في القرآن ليست كثيرة، وقد خصها بعض المفسرين بتفسير خاص. ومن الممكن أن تجمع الآيات المرتبطة بموضوع واحد بعضها مع بعض، بحيث يتيسر للإنسان أن يرجع في مجموعة واحدة إلى كل الآيات القرآنية التي تضمنت أحكاماً في الطلاق، وكل الآيات التي تضمنت أحكاماً في الزواج، وفي الإرث، وفي العقوبات، وفي المعاملات، وفي غير ذلك من أنواع أحكام القرآن.
ومن الميسور أن يذكر مع كل آية ما ورد في الصحاح من سبب نزولها، وما ورد من الأحاديث التي فيها تبيين لمجملها، وما ورد من الآثار في تفسيرها، وبهذا تكون المجموعة القانونية في القرآن ميسوراً الرجوع إليها عند الحاجة، وميسوراً مقارنة مواد الموضوع الواحد بعضها ببعض، وفهم كل مادة على ضوء سائر مواد موضوعها لأن القرآن يفسر بعضه بعضاً، ومن الخطأ أن تفهم آية منه على أنها وحدة مستقلة.
الثالث: أن يكون على علم بالسنة كذلك، بأن يكون عليماً بالأحكام الشرعية التي وردت بها السنة بحيث يستطيع في كل باب من أبواب أعمال المكلفين أن يستحضر ما ورد في السنة من أحكام هذا الباب، ويعرف درجة سند هذه السنة من الصحة أو الضعف في الرواية. ولقد أدى العلماء للسنة النبوية خدمات جليلة، وعنوا بفحص أسانيدها ورواة كل حديث منها، حتى كفوا من جاء بعدهم مؤونة البحث في الأسانيد، وصار معروفاً في كل حديث أنه متواتر، أو مشهور، أو صحيح، أو حسن، أو ضعيف.
وكذلك عني العلماء بجمع أحاديث الأحكام، وترتيبها حسب أبواب الفقه وأعمال المكلفين، بحيث يتيسر للإنسان أن يرجع إلى ما ورد في السنة الصحيحة من أعمال البيع أو الطلاق أو الزواج أو العقوبات أو غيرها، ويستطيع أن يرجع إلى الآيات والأحاديث التي وردت في موضوع واحد من موضوعات الأحكام، وعلى ضوئها يفهم الحكم الشرعي. ومن خير الكتب التي يرجع إليها في هذا "كتاب نيل الأوطار" للإمام الشوكاني.
الرابع: أن يعرف وجوه القياس، وذلك بأن يعرف العلل والحكم التشريعية التي شرعت من أجلها الأحكام، ويعرف المسالك التي مهدها الشارع لمعرفة علل أحكامه، ويكون خبيراً بوقائع أحوال الناس ومعاملاتهم، حتى يعرف ما تتحقق فيه علة الحكم من الوقائع التي لا نص فيها، ويكون خبيراً أيضاً بمصالح الناس وعرفهم، وما يكون ذريعة إلى الخير والشر فيهم، حتى إذا لم يجد في القياس سبيلاً إلى معرفة حكم الواقعة، سلك سبيلاً أخرى من السبل التي مهدتها الشريعة للوصول إلى استنباط الحكم فيما لا نص فيه.

ومما ينبغي التنبيه إليه أمور ثلاثة:
أحدهما- أن الاجتهاد لا يتجزأ: أي انه لا يتصور أن يكون العالم مجتهداً في أحكام الطلاق وغير مجتهد في أحكام البيع، أو مجتهد في أحكام العقوبات، وغير مجتهد في أحكام العبادات، لأن الاجتهاد كما يؤخذ مما قدمناه أهلية وملكة يقتدر بها المجتهد على فهم النصوص واستثمار الأحكام الشرعية منها، واستنباط الحكم فيما لا نص فيه. فمن توافرت فيه شروط الاجتهاد وتكونت له هذه الملكة لا يتصور المدينات دون العقوبات أو في العقوبات دون المدنيات، ولكن لا يتصور أن يكون قادراً على الاجتهاد في هذا الموضوع من الأحكام دون هذا. ولأن عماد المجتهد في اجتهاده فهم المبادئ العامة وروح التشريع التي بثها الشارع في مختلف أحكامه وبني عليه تشريعه. وهذه الروح التشريعية والمبادئ العامة لا تخص باباً دون باب من أبواب الأحكام، وفهمها حق فهمها لا يتم غلا بأقصى ما يستطاع من استقراء الأحكام الشرعية وحكمها في مختلف الأبواب. وقد يكون هادي المجتهد في أحكام الزواج مبدأ أو تعليلاً تقرر في أحكام البيع. فلا يكون مجتهداً إلا إذا كان على علم تام بأحكام القرآن والسنة حتى يصل من مقارنة بعضها ببعض، ومن مبادئها العامة إلى الاستنباط الصحيح.
وثانيها- أن المجتهد مأجور: إن أصاب فله أجران: أجر على اجتهاده وأجر على إصابته الصواب، وإن أخطأ فله أجر واحد على اجتهاده، لأننا قدمنا أن الله سبحانه ما ترك الناس سدى، بل شرع لكل فعل من أفعال المكلفين حكماً، ونصب لكل حكم دليل يدل عليه، وطلب من أهل النظر في هذه الأدلة أن ينظروا فيها ليهتدوا إلى حكمه، فمن توافرت فيه أهلية النظر فيها، واجتهد حتى وصل إلى الحكم الذي أداه إليه اجتهاده، لأنه حكم الله حسب ظنه الراجح، والظن الراجح كما قدمنا، كاف في وجوب العمل. ولا يجب على غيره أن يقلده في العمل بما وصل إليه اجتهاده، لأن قول أي إنسان بعد الرسول المعصوم ليس حجة واجباً أتباعه على أي مسلم، وإنما يجوز للعامة الذين ليست لهم ملكة الاجتهاد واستثمار الأحكام من نصوصها، أن يتبعوا المجتهدين ويقلدهم مصداق قوله تعالى: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [الأنبياء: 7].
ثالثها- أن الاجتهاد لا ينقض بمثله: فلو مجتهد في واقعة وحكم فيها بالحكم الذي أداه إليه اجتهاده، ثم عرضت عليه صورة من هذه الواقعة فأداه اجتهاده إلى حكم آخر، فإنه لا يجوز له نقض حكمه السابق، كما لا يجوز لمجتهد آخر خالف في اجتهاده أن ينقض حكمه، لأنه ليس الاجتهاد الثاني بأرجح من الأول، ولا اجتهاد أحد المجتهدين أحق أن يتبع من اجتهاد الآخر، لأن نقض الاجتهاد بالاجتهاد يؤدي إلى أن لا يستقر حكم وإلى أن لا تكون للشيء المحكوم به قوة، وفي هذا مشقة وحرج.
وقد ورد أن عمر بن الخطاب قضى في حادثة بقضاء، ثم تغير اجتهاده فلم ينقض ما قضى به أولاً، بل قضى في مثل هذه الحادثة بالحكم الآخر الذي أداه غليه اجتهاده الثاني، وقال: ذلك على ما قضينا وهذا على ما نقضي. وقد قضى أبو بكر في مسائل وخالفه بعده عمر فيها ولم ينقض حكمه، وعلى هذا المعنى ينبغي أن يفهم قول عمر بن الخطاب في عهده لبي موسى الأشعري حين ولاه القضاء: "لا يمنعك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه نفسك، وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق، فإن مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل".




القاعدة الرابعة- في نسخ الحكم

"لا نسخ لحكم شرعي في القرآن أو السنة بعد وفاة الرسول. وأما في حياته، فقد اقتضت سنة التدرج بالتشريع، ومسايرته المصالح نسخ بعض الأحكام التي وردت فيهما ببعض نصوصها نسخاً كليا، أو نسخاً جزئيا".

النسخ في اصطلاح الأصوليين:
هو إبطال العمل بالحكم الشرعي بدليل متراخ عنه، يدل على إبطاله صراحة أو ضمناً، إبطالاً كلياً أو إبطالاً جزئياً لمصلحة اقتضته، أو إظهار دليل لاحق نسخ ضمناً العمل بدليل سابق.

حكمته:
وهذا النسخ وقع في التشريع الإلهي، ويقع في كل تشريع وضعي، لأن المقصود من كل تشريع سواء أكان إلهيا أم وضعيا تحقيق مصالح الناس. ومصالح الناس قد تتغير بتغير أحوالهم. والحكم قد يشرع لتحقيق مصالح اقتضتها أسباب، فإذا زالت هذه الأسباب فلا مصلحة في بقاء الحكم. كما ورد أن وفوداً من المسلمين وفدوا على المدينة في أيام عيد الأضحى، فأراد الرسول أن يقيموا بين إخوانهم في سعة، فنهى المسلمين عن ادخار لحوم الأضاحي حتى تجد الوفود فيها توسعة عليهم، فلما رحلوا أباح للمسلمين الادخار، وقال عليه السلام: "إنما نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الدافة ألا فادخروا"، ولأن عدالة التشريع تقتضي التدرج وعدم مفاجأة من يشرع لهم بما يشق عليهم فعله، أو ما يشق عليهم تركه، وهذا التدرج يقتضي التعديل والتبديل.
كما وقع في حكم الخمر، فإن الله سبحانه وتعالى لم يشرع تحريمها في ابتداء التشريع، ولكن بين سبحانه أن فيها إثماً كبيراً، ومنافع للناس، وأن أثمها أكبر من نفعها، وكان هذا تهيئة وتمهيداً إلى تحريمها، لن الذي ضرره أكبر من نفعه يجدر بالعقل أن يجتنبه، ثم أمر المسلمين أن لا يقربوا الصلاة وهم سكارى، فكان هذا تمهيداً ثانياً لتحريمها واجتنابها، لأن أوقات الصلاة متعددة ومتفرقة، فلا يأمن المسلمون إذا شربوها أن يدخل عليهم وقت الصلاة وهم سكارى. ثم بعد ذلك جاء النص الصريح على أنها رجس من عمل الشيطان، والأمر باجتنابها.
وكذلك نظام التوريث، بقي فترة في بدء الإسلام على ما كان عليه عند العرب في جاهليتهم، ثم أخذ الإسلام في تعديله بالتدريج، فنسخ أولاً الإرث بالتبني، ثم نسخ الإرث بالتحالف والتآخي، ثم شرعت للتوريث أحكام مفصلة، هدمت الأسس الجائزة التي كان عليها أهل الجاهلية في نظام توريثهم.

أنواعه:
قد يكون النسخ صريحاً، وقد يكون ضمنياً:
فالنسخ الصريح أن ينص الشارع صراحة في تشريعه اللاحق على إبطال تشريعه السابق، ومثال ذلك قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ * الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال: 66،65]. وقول الرسول: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم الحياة الآخرة"، وقوله عليه السلام: "إنما نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي لجل الدفة ألا فادخروا".
وهذا النسخ الصريح هو الكثير في التشريع الوضعي فإن القوانين التي تصدر معدلة لقوانين سابقة، ينص فيها صراحة على النصوص الملغاة في تلك القوانين السابقة أو على إلغاء كل حكم في قانون سابق مخالف ما نص عليه في هذا القانون، كما نص الأمر الملكي بدستور سنة 1930 صراحة على إلغاء دستور سنة 1923، وكما نص قانون التسجيل صراحة على إلغاء نصوص القانون المدني.
وأما النسخ الضمني فهو أن لا ينص الشارع صراحة في تشريعه اللاحق على إبطال تشريعه السابق، ولكن يشرع حكماً معارضاً حكمه السابق، ولا يمكن التوفيق بين الحكمين غلا بإلغاء أحدهما، فيعتبر اللاحق ناسخاً للسابق ضمناً.
وهذا النسخ الضمني هو الكثير في التشريع الإلهي، فقوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة: 180]، يدل على ذلك أن المالك إذا حضرته الوفاة عليه أن يوصي لوالديه وأقاربه من تركته بالمعروف. وقوله تعالى في آية التوريث: (يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ ...) [النساء: 11]، يدل على أن الله قسم تركة كل مالك بين ورثته حسبما اقتضت حكمته، ولم يعد التقسيم حقاً للمورث نفسهن وهذا الحكم يعارض الأول، فهو ناسخ له على رأي الجمهور، ولذا قال الرسول بعد ما نزلت آية المواريث: "إن الله أعطى لكل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث".
ومثاله في التشريع الوضعي: الأمر الملكي الصادر بدستور سنة 1923 فإنه تضمن أحكاماً كثيرة تخالف الحكام الدستورية السابقة عليه، ولم ينص صراحة على إلغائها فاعتبر ناسخاً لها ضمناً، وقانون العقوبات الجديد لم ينص صراحة على إلغاء ما خالف أحكامه من قوانين العقوبات السابقة، فاعتبر ناسخاً لها ضمناً.
ويرى بعض رجال التشريع الاكتفاء بهذا النسخ الضمني، والاستغناء عن التصريح بالنسخ، لأنه تأكيد في مقام لا يقتضي التأكيد، فإن تشريع الشارع حكماً معارضاً لحكم شرعه من قبل ولا يمكن الجمع بينهما هو عدول من الشارع عن حكمه السابق، وإبطال له من غير حاجة إلى التصريح بأنه عدل عنه أو أبطله؟

وقد يكون النسخ كليا، وقد يكون جزئيا:
فالنسخ الكلي أن يبطل الشارع حكماً شرعه من قبل إبطالاً كلياً بالنسبة إلى كل فرد من أفراد المكلفين، كما أبطل إيجاب الوصية للوالدين والأقربين بتشريع أحكام التوريث ومنع الوصية للوارث، وكما أبطل اعتداد المتوفى عنها زوجها حولاً باعتدادها أربعة أشهر وعشراً، فقد قال تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ) [البقرة: 240]، ثم قال سبحانه: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) [البقرة: 234].
والنسخ الجزئي أن يشرع الحكم عاماً شاملاً كل فرد من أفراد المكلفين، ثم يلغى هذا الحكم بالنسبة لبعض الأفراد، أو يشرع الحكم مطلقاً ثم يلغى بالنسبة لبعض الحالات. فالنص الناسخ لا يبطل العمل بالحكم الأول أصلاً، ولكن يبطله بالنسبة لبعض الأفراد أو بعض الحالات.
مثال ذلك قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) [النور: 4]، يدل على أن قاذف المحصنة الذي لم يقم بينة على ما قذف به يجلد ثمانين جلدة، سواء كان زوجها أم غيره. وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ...) [النور: 6]، يدل على أن القذف إذا كان الزوج لا يجلد بل يتلاعن وزوجته. فالنص الثاني نسخ حكم جلد القذف بالنسبة على الأزواج فقط.
وإنما يكون نسخاً جزئياً إذا شرع أولاً حكم العام على عمومه، أو المطلق على إطلاقه، ثم بعد ذلك بفترة حكم لبعض أفراده، أو بقيد. وأما إذا ورد العام في القانون وورد في القانون نفسه تخصيص بعض أفراده بحكم يكون هذا التخصيص بياناً للمراد من العام لا نسخاً، وكذلك يكون التقييد بياناً للمراد من المطلق لا نسخاً.
وهذا معنى قول الأصوليين إخراج بعض أفراد العام من حكمه، أو تقييد المطلق بقيد إذا كان بدليل مقارن تشريع حكم العام أو المطلق، ويعتبر بياناً للمراد العام أو المطلق بمنزلة الاستثناء ولا يعتبر نسخاً.
والأحكام الشرعية وإن كانت شرعت تدريجياً في اثنين وعشرين سنة وشهور، ولكن بعد وفاة الرسول واستقرار التشريع، صارت في حق المسلمين قانوناً واحداَ، فالخاص منه بيان للعام، والمقيد بيان للمطلق، من غير نظر إلى أن هذه الآية بعد هذه الآية في التلاوة، أو في سورة بعد السورة التي فيها الآية، إلا ما نص عليه من ناسخ ومنسوخ.
وقد يكون النسخ بتشريع حكم بدل حكم، كما نسخ إيجاب الوصية للوالدين والأقربين، بتقسيم الإرث، وكما نسخ الاتجاه على بيت المقدس في الصلاة بالاتجاه إلى الكعبة، وكما نسخ اعتداد المتوفى عنها زوجها بالتربص حولاً، باعتدادها بالتربص أربعة شهور وعشرة أيام، وقد يكون النسخ بمجرد إلغاء الحكم كنسخ زواج المتعة.
وكما يجوز أن يكون الحكم الذي شرع مساوياً الحكم الذي نسخ، أو أخف منه على المكلفين، ويجوز أن يكون اشق منه عليهم، لأن هذا الإلغاء والتبديل إنما قضت به مصالح المكلفين، وقد تقضي مصلحتهم حكماً اشق عليهم من المنسوخ، فتحريم الخمر والميسر اشق عليهم من إباحتهما، ولكن قصد به المصلحة، وقوله تعالى: (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) [البقرة: 106]، المراد بالخير ما يكون أصلح للمكلفين، سواء كان أشق عليهم أم مساوياً أم أخف، هذا إذا كان المراد آيات القرآن في قوله تعالى: (ما ننسخ من آية) [البقرة: 106].

ما يقبل النسخ وما لا يقبله:
ليس كل نص ورد في القرآن أو السنة، يقبل في عهد الرسول أن ينسخه نص لاحق، بل من النصوص نصوص محكمات لا تقبل النسخ أصلاً وهي:
أولاً- النصوص التي تضمنت أحكاماً أساسية لا تختلف باختلاف أحوال الناس ولا تختلف حسناً وقبحاً باختلاف التقدير، كالنصوص التي تضمنت إيجاب الإيمان بالله، ورسله وكتبه واليوم الآخر، وسائر أصول العقائد والعبادات، كالنصوص التي قررت أمهات الفضائل من بر الوالدين، والصدق، والعدل، وأداء الأمانات إلى أهلها، وغير ذلك مما لا يتصور أن يكون قبيحاً في أية حال وعلى أي تقدير، كالنصوص التي دلت على أسس الرذائل من الشرك بالله، وقتل النفس بغير حق، وعقوق الوالدين، والكذب والظلم، وغير ذلك مما لا يتصور أن يكون حسناً في أي حال.
ومن أمثلة هذا النوع في القوانين الوضعية: المادتان 158،156 من الدستور، فهما لا تقبلان النسخ.
ثانياً- النصوص التي تضمنت أحكاماً، ودلت بصيغتها على تأبيدها، لأن تأبيدها يقتضي عدم نسخها، كقوله تعالى في بيان حكم قاذفي المحصنات: (وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً) [النور: 4]، فإن لفظ أبداً يدل على أن هذا حكم دائم لا يزول، وكقوله الرسول "الجهاد ماض إلى يوم القيامة"، فإنه كونه ماضياً إلى يوم القيامة يدل على أنه باق ما بقيت الدنيا.
وثالثاً- النصوص التي دلت على وقائع وقعت وأخبرت عن حادثات كانت، كقوله تعالى: (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ * وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ) [الحاقة: 6،5]، وكقول الرسول: "نصرت بالرعب مسيرة شهر"، لأن نسخ النص الخبري تكذيب لمن أخبر به والكذب محال على الشارع.
فهذه الأنواع الثلاثة من النصوص التي لا تقبل النسخ، وما عاداها يقبله في بدء التشريع، أي في حياة الرسول لا فيما بعده.

ما يكون به نسخ:
الأصل العام أن النص لا ينسخه إلا نص في قوته أو أقوى منه.
وعلى هذا فنصوص القرآن قد ينسخ بعضها بعضاً، وقد تنسخ بالسنة المتواترة لأنها كلها قطعية وفي قوة واحدة.
ونصوص السنة غير المتواترة قد ينسخ بعضها بعضاً لأنها في قوة واحدة، وقد تنسخ بنصوص القرآن والسنة المتواترة لأنها أقوى منها.
فالنص القرآني الذي دل على اعتداد المتوفي عنها زوجها بحول، نسخ بالنص القرآني الذي دل على اعتدادها بأربعة أشهر وعشرة أيام.
والنص القرآني الذي دل على تحريم كل ميتة، خصص بالسنة العلمية المتواترة التي دلت على إباحة ميتة البحر والتي أكدها الرسول بقوله: "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته".
والنص القرآني الذي دل على وجوب تنفيذ أية وصية، قيد بالسنة العلمية التي منعت نفاذ الوصية بأكثر من الثلث وأكدها الرسول بقوله في حديث معاذ: "الثلث والثلث كثير".
وفي السنة النهي عن زيارة القبور ثم إباحتها، والنهي عن ادخار لحوم الأضاحي ثم إباحته، وغير ذلك.
وعلى هذا لا ينسخ نص قرآني أو سنة متواترة بسنة غير متواترة أو بقياس، لن الأقوى لا ينسخ بما هو أقل منه قوة، ومن أجل هذا تقرر انه لا نسخ لحكم شرعي في القرآن أو السنة بعد وفاة الرسول، لأنه بعد وفاة الرسول انقطع ورود النصوص واستقراء الأحكام، فلا يمكن أن ينسخ النص بقياس أو اجتهاد.
وما يكون به النسخ في القوانين الوضعية هو على هذا الأصل، فلا ينسخ النص القانوني إلا نص قانوني في قوته أو أقوى منه.
فنصوص القانون الدستوري لا ينسخها إلا نصوص قانون دستوري.
ونصوص القوانين التشريعية الرئيسية تنسخها قوانين السلطة التشريعية الرئيسية، لأنها في قوتها، وتنسخها نصوص القانون الدستوري لأنها أقوى منها.
ونصوص القوانين التشريعية الفرعية تنسخها قوانين السلطات التشريعية الرئيسية، ونصوص القانون الدستوري.

ويؤخذ مما قدمناه أن:
النص لا ينسخه إلا نص، وأن النص لا يتصور أن ينسخه الإجماع، لأن النص إذا كان قطعياً لا يمكن أن ينعقد إجماع على خلافة أصلاً، وإن كان ظنياً لا يمكن أن ينعقد إجماع على خلافته إلا مستنداً إلى نص، فيكون النص الذي استند إليه الإجماع هو الناسخ.
والحكم الثابت بالقياس لا ينسخ بمثله، لأن المجتهد إذا استنبط حكماً في واقعة بطريق القياس ثم استنبط بالقياس هو أو مجتهد آخر في مثل هذه الواقعة حكماً يخالف الأول، فإن هذا ليس نسخاً للحكم الأول، وإنما هو إظهار لبطلان الدليل الأول أي لخطأ القياس السابق.
والقياس لا ينسخ حكماً شرعياً ثابتاً بالنص أو الإجماع، لأنه ليس في مرتبتهما، فالقياس لا ينسخ حكمه ولا ينسخ حكماً.




القاعدة الخامسة- في التعارض والترجيح

"إذا تعارض النصان ظاهراً وجب البحث والاجتهاد في الجمع والتوفيق بينهما بطريق صحيح من طرق الجمع والتوفيق، فإن لم يمكن وجب البحث والاجتهاد في ترجيح أحدهما بطريق من طرق الترجيح، فإن لم يمكن هذا ولا ذاك وعلم تاريخ ورودهما كان اللاحق منهما ناسخاً للسابق، وإن لم يعلم تاريخ ورودهما توقف عن العمل بهما.
وإذا تعارض قياسان أو دليلان من غير النصوص ولم يمكن ترجيح احدهما، عدل عن الاستدلال بهما".

التعارض بين الأمرين معناه في اللغة العربية:
اعتراض كل واحد منها الآخر.

والتعارض بين الدليلين الشرعيين معناه في اصطلاح الأصوليين:
       اقتضاء كل واحد منهما في وقت واحد حكماً في الواقعة يخالف ما يقتضيه الدليل الآخر فيها.
مثلاً: قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) [البقرة: 234]، هذا النص يقتضي بعمومه، أن كل من توفى عنها زوجها تنقضي عدتها بأربعة أشهر وعشرة أيام، سواء أكانت حاملاً أم غير حامل.
وقوله تعالى: (وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) [الطلاق: 4]، هذا النص يقتضي بعمومه أن كل حامل تنقضي عدتها بوضع حملها، سواء كانت متوفى عنها زوجها أم مطلقة.
فمن توفى عنها زوجها وهي حامل، واقعة يقتضي النص الأول أن تنقضي عدتها بتربص أربعة أشهر وعشرة أيام، ويقتضي النص الثاني أن تنقضي عدتها بوضع حملها، فالنصان متعارضان في هذه الواقعة.
ولا يتحقق التعارض بين دليلين شرعيين إلا إذا كانا في قوة واحدة، أما إذا كان احد الدليلين أقوى من الآخر، فإنه يتبع الحكم الذي يقتضيه الدليل الأقوى ولا يتلف لخلافه الذي يقتضيه الدليل الآخر.
وعلى هذا يتحقق التعارض بين نص قطعي وبين نص  ظني، ولا يتحقق التعارض بين نص وبين إجماع أو قياس، ولا بين إجماع وبين قياس. ويمكن بين آيتين أو حدثين متواترين أو بين آية وحديث متواتر، أو حدثين غير متواترين أو بين قياسين.

ومما ينبغي التنبيه له:
انه لا يوجد تعارض حقيقي بين آيتين أو بين حديثين صحيحين أو بين آية وحديث صحيح، وإذا بدا تعارض بين نصين من هذه النصوص فإنما هو تعارض ظاهري فقط بحسب ما يبدو لعقولنا، وليس بتعارض حقيقي، لأن الشارع الواحد الحكيم لا يمكن أن يصدر عنه نفسه دليل آخر يقتضي في الواقعة نفسها حكماً خلافة في الوقت الواحد.
فإن وجد نصان ظاهرهما التعارض وجب الاجتهاد في صرفهما عن هذا الظاهر، والوقوف على حقيقة المراد منهما تنزيهاً للشارع العليم الحكيم عن التناقض في تشريعه، فإن أمكن إزالة التعارض الظاهري بين النصين بالجمع والتوفيق بينهما، جمع بينهما وعمل بهما، وكان هذا بياناً لأنه لا تعارض في الحقيقة بينهما.
مثال 1: قوله تعالى في سورة البقرة: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة: 180].
وقوله تعالى في سورة النساء: (يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ ...) [النساء: 11] على آخر آية المواريث.
الآية الأولى توجب على المورث إذا قارب الموت أن يوصي من تركته لوالديه وأقاربه بالمعروف، والآية الثانية توجب لكل واحد من الوالدين والأولاد والأقربين حقاً من التركة بوصية الله لا بوصية المورث. فهما متعارضان ظاهراً.
ويمكن التوفيق بينهما بأن يراد في آية سورة البقرة الوالدان والأقربون الذين منع من إرثهم مانع كاختلاف الدين.
مثال 2: قوله تعالى (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) [البقرة: 234].
وقوله تعالى: (وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) [الطلاق: 4].
ويمكن التوفيق بينهما بان الحامل المتوفى عنها زوجها تعتد بأبعد الأجلين، فإن وضعت حملها قبل أربعة أشهر وعشرة أيام من تاريخ الوفاة، تربصت حتى تتم أربعة أشهر وعشرة أيام، وإن أمضت أربعة أشهر وعشرة أيام قبل أن تضع حملها تربصت حتى تضع حملها.

ومن طرق الجمع والتوفيق:
تأويل أحد النصين أي صرفه عن ظاهره، وبهذا لا يعارض النص الآخر.

ومن طرق الجمع والتوفيق:
اعتبار أحد النصين مخصصاً لعموم الآخر، أو مقيداً لإطلاقه، فيعمل بالخاص في موضعه وبالعام فيما عداه، ويعمل بالمقيد في موضعه وبالمطلق فيما عداه.
وأن لم يمكن الجمع والتوفيق بين النصين المتعارضين، نظر في ترجيح أحدهما على الآخر بطريق من طرق الترجيح، فإذا أظهر البحث رجحان أحدهما على الآخر عمل بما اقتضاه الدليل الأرجح، وكان هذا تبييناً، لأن النصين غير متساويين في المرتبة. وقد يكون الترجيح من جهة الدلالة فيرجح المدلول عليه بعبارة النص على المدلول عليه بإشارة النص. ويرجح المفسر على الظاهر أو النص، وتقدمت عدة أمثلة لهذا التعارض والترجيح.
وإن لم يمكن الجمع والتوفيق بين النصين، ولم يمكن ترجيح أحدهما على الآخر بطريق الترجيح، نظر في تاريخ صدورهما عن الشارع، فإذا علم أن أحدهما سابق كان التأخر منهما ناسخ للسابق فيعمل به، ويعلم هذا من الرجوع على أسباب نزول الآيات، وورود الأحاديث، وجمع الأمثلة التي قدمناها في نسخ بعض الآيات لأحكام بعض آيات أخرى، ثابت فيها أن الناسخ لاحق في وروده للمنسوخ.
وإن لم يمكن الجمع والتوفيق بين النصين ولا ترجيح أحدهما على الآخر، ولم يعلم تاريخ ورودها، نوقف عن الاستدلال بهما، ونظر في الاستدلال على حكم الواقعة التي فيها التعارض بدليل غيرهما كأنها واقعة لا نص فيها. وهذه صورة فرضية لا وجود لها.
وإن كان التعارض بين دليلين شرعيين ليسا نصين، كالتعارض بين قياسين، فهذا قد يكون تعارضاً حقيقياً، لأنه قد يكون أحد القياسين خطأ، فإن أمكن ترجيح أحد القياسين على الآخر عمل به.
ومن طرق ترجيح أحد القياسين على الآخر أن تكون علة أحدهما منصوصاً عليها، وعلة الآخر مستنبطة، أو تكون علة أحدهما مستنبطة بطريق إشارة النص، وعلة الآخر مستنبطة بطريق المناسبة.
ومجال الأصوليين في طرق التوفيق أو الترجيح بين النصوص والأقيسة المتعارضة ذو سعة، ومن طرق الترجيح طرق موضوعية قرروا فيها مبادئ ترجيحية عامة، مثل قولهم: إذا تعارض المحرم والمبيح، رجح المحرم. وقولهم: إذا تعارض المانع والمقتضى، قدم المانع.
والله يوفق من يريد الحق، ويهدي من يشاء إلى طريق مستقيم.

=========================