الخميس، 10 مارس 2022

أحكام الوصية الواجبة في القانون الكويتي

 

أحكام الوصية الواجبة

في ضوء قانون الأحوال الشخصية (الكويتي)

 

النصوص القانونية:

تنص المادة (287 / مكرراً) من قانون الأحوال الشخصية (رقم 51 لسنة 1984) على أنه:

"إذا لم يوص الميت لفرع ولده الذي مات في حياته أو مات معه –ولو حكماً– بمقدار حصته مما كان يرثه أصله في تركته لو كان حيا عند موته، وجبت للفرع في التركة وصية مقدار هذه الحصة في حدود الثلث، بشرط أن يكون غير وارث، وألا يكون الميت قد أعطاه بغير عوض عن طريق تصرف آخر قدر ما يجب له، وإن كان ما أعطاه أقل منه، وجبت له وصية بقدر ما يملكه.

وتكون هذه الوصية لأهل الطبقة الأولى من أولاد البنات ولأولاده الأبناء من أولاد الظهور وإن نزلوا على أن يحجب كل أصل فرعه دون فرع غيره، وأن يقسم نصيب كل أصل على فرعه وإن نزل، قسمة الميراث كما لو كان أصله أو أصوله الذين يدلى بهم إلى الميت ماتوا بعده، وكان موتهم مرتبا كترتيب الطبقات".

 

وتنص المادة (287 / مكرراً "أ") من ذات القانون المذكور على أنه:

"إذا أوصى الميت لمن وجبت له الوصية بأكثر من نصيبه، كانت الزيادة وصية اختيارية، وإن أوصى له بأقل من نصيبه وجب له ما يكمله.

وإن أوصى لبعض من وجبت لهم الوصية دون البعض الآخر وجب لمن لم يوص له قدر نصيبه.

ويؤخذ نصيب من لم يوص له ويوفي نصيب من أوصى له بأقل مما وجب من باقي الثلث، فإن ضاق على ذلك فمنه ومما هو مشغول بالوصية الاختيارية".

 

وتنص المادة (287 / مكرراً "ب") من ذات القانون على أن:

"الوصية الواجبة مقدمة على غيرها من الوصايا.

فإذا لم يوص الميت لمن وجبت لهم الوصية وأوصى لغيرهم، استحق كل من وجبت لهم الوصية قدر نصيبه من باقي ثلث التركة إن وفى وإلا فمنه ومما أوصى به لغيرهم".

 

تطبيقات قضائية:

       من المقرر في قضاء محكمة التمييز أن:

       "المشرع قرر وصية واجبة في حدود ثلث التركة للأحفاد الذين يموت آباؤهم في حياة أحد ولديهم طالما لم يوص الجد لفرع ولده المتوفى بمثل نصيب ذلك الولد، وبشرط أن يكون الفرع غير وارث، وألا يكون الميت قد أعطاهم بغير عوض ما يساوي الوصية الواجبة. مما مفاده أنه إذا كان أعطى للفرع بعوض فإنه لا يمنع من استحقاق الفرع لوصية واجبة إذا ما توافرت باقي شروطها".

(الطعنين برقمي 181، 189 /2001 مدني/1 – جلسة 27/5/2002م)

 

ومن المقرر كذلك في قضاء محكمة التمييز أنه:

       "إذا لم يوصي الميت لفرع ولده الذي مات في حياته أو مات معه ولو حكما بمقدار ما كان يرثه الأب من تركة الجد لو كان حياً عند موته، وجبت للفرع في التركة وصية بمقدار هذه الحصة في حدود الثلث بشرط أن يكون الفرع غير وارث وألا يكون الميت قد أعطاه بغير عوض قدر ما يجب له، فإن كان ما أعطاه أقل منه وجبت له وصية بقدر ما يكمله. وكانت الأوراق قد خلت مما يفيد ايصاء جد المطعون ضدهم عدا الأخير بشيء من تركته لهم أو إعطائهم بغير عوض عن طريق تصرف آخر قدر ما كان يؤول لأبيهم من إرث في تركته، ولم يدع الطاعنون خلاف ذلك، وكان المطعون ضدهم المذكورون غير وارثين في تركة الجد، ومن ثم فإنهم يستحقون وصية واجبة في تلك التركة بقدر نصيب أبيهم، ويتعين إضافة أسمائهم إلى حصر الوراثة رقم 374 الصادر بتاريخ 20/11/2000م كمستحقين وصية واجبة في تركة جدهم لأبيهم".

(طعن بالتمييز رقم 148 لسنة 2009 أحوال/2 – جلسة 24/2/2011م)

 

شروح فقيه:

تُعدّ الوصية الواجبة من اجتهاد علماء الشريعة في العصر الحالي، ولم يرد لها دليل صريح في القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة([1])، وهي نصيب من التركة يستحقه فرع ولد الميت الذي مات قبل أصله أو معه، إن لم يكونوا وارثيـن، بضوابط خاصة يأخذونه إلزاماً بحكم القانون.

وقرّر المشرّع الكويتي أحكامها بضمّها في عدة نقاط:

-       منها ما يتعلق بالفرع المستحق للوصية،

-       ومنها ما يتعلق بالولد المتوفى.

 

فيما يتعلق بالفرع المستحق للوصية:

1-  إذ يشترط في الفرع المستحق للوصية أن يكون فرعاً للميت،

2-  وأن يكون غير وارث لجدّه،

3-  وألا يكون الجد المتوفى قد أعطى ذلك الفرع في حياته بغير عِوض ما يساوي الوصية الواجبة،

وفي حال إن كان قد أعطاه أقلّ مما وجب له في التركة، فيكمل له المقدار الواجب في الوصية،

وإن كان قد أعطاه أكثر مما وجب له بالوصية الواجبة، كان الزائد وصيّة اختيارية تطبّق عليها أحكام الوصية الاختيارية،

وإن كان أعطى أو وهب أو أوصى لبعض من وجبت لهم الوصية الواجبة دون البعض الآخر، وجبت وصية واجبة لمن لم يُعط أو يهب أو يوصِ له بقدر نصيبه الكامل من الوصية إن كان الثلث يسعُ الجميع، أمّا إذا ضاق الثلث كمل له نصيبه مما أوصى به لغيره،

4-  وأن يكون المستحق للوصية الواجبة موجوداً عند موت الموصّي،

وغير محجوب بأصله،

وكذلك غير ممنوع من إرث أصله،

5-  وأن يكون الفرع الوارث من أولاد الذكور مهما نزلوا، أما أولاد البنات فتكون الوصية الواجبة لأهل الطبقة الأولى فقط.

فأوجب القانون الوصية الواجبة لفرع الولد المتوفى في حياة أصله مهما نزل مادام من أولاد الظهور، أما إذا كان من أولاد البطون استحقها إذا كان من الطبقة الأولى فقط،

وأولاد الظهور هم من لا يدخل في نسبهم إلى الميت أنثى، كابن الابن وابن ابن الابن مهما نزل، وبنت الابن مهما نزل أبوها،

أما أولاد البطون هم من ينتسبون إلى الميت بأنثى، كابن البنت وابن بنت الابن.

أي أن الميت في حياة أصله إذا كان ذكرا استحق فرعه الوصية من غير تقييد بطبقة، أما إذا كان أنثى كانت الوصية لأولادها فقط دون أولاد أولادها.

 

وفيما يتعلق بالولد المتوفى:

ويشترط في الولد المتوفّى أن يكون قد مات في حياة المورث حقيقة أو حكماً، أو مات معه، وأن يكون مستحقاً للميراث على افتراض حياته ولم يمنعه مانع من موانع الإرث المنصوص عليها في المادة (227) من قانون الأحوال الشخصية رقم 51 لسنة 1984.

وقد حذا المشرّع الكويتي حذو القانون المصري في مقدار الوصية الواجبة، إذ قدّرها بمثل ما كان يستحقه الأصل من ميراث، على فرض أنه حي، بشرط ألا يزيد على ثلث التركة، وبذلك فالوصية الواجبة تقدّر بالأقل من القدرين، أي الميراث الذي كان يستحقه الفرع الذي توفي في حياة أصله والثلث، فإن كان الميراث هو الأقل قدّرت به، وإن كان الثلث هو الأقل قدّرت به، كما أن الوصية الواجبة تنفّذ على أساس أنها وصية لا ميراث، حيث إن الوصية تنفذ من كل التركة ومن رأسها، وبذلك يدخل النقص على نصيب كل وارث من الورثة.

 

مقدار الوصية الواجبة:

وتكون الوصية الواجبة للأحفاد بمقدار حصة أبيهم من الميراث فيما لو كان حياً، على ألّا يتجاوز ثلث التركة.

فإذا زاد مقدارها عن ثلث التركة فإن استحقاق الموصى لهم لمقدار تلك الزيادة يكون موقوفاً على إجازة باقي الورثة، فإن أجازوها نفذت في حقهم، وإن أجازها البعض ورفضها البعض الآخر، نفذت في حق من أجازها ولم تنفذ في حق من لم يجزها.

 

 طريقة حساب الوصية الواجبة:

أولاً- أن يفترض الولد الذى توفى في حياة أحد ابويه حيًا وارثًا وتقسم التركة عليه وعلى الورثة الموجودين كما لو كان الجميع احياء ليعرف مقدار نصيبه لو كان موجودًا.

 ثانياً- أن يخرج من التركة هذا القدر كما هو أن كان يساوى الثلث فأقل، وأن كان يزيد على الثلث رد الى الثلث، لان الوصية لا تزيد على الثلث وإنما أخرج أولا، لأن الوصية مقدمة على الميراث، ويقسم هذا المقدار على أولاده قسمة الميراث، للذكر ضعف الأنثى.

 ثالثاً- يقسم الباقي بعد إخراج مقدار الوصية الواجبة على الورثة الاحياء بتوزيع جديد من غير نظر الى الولد الذى فرض حيًا، لان هذا المقدار هو الميراث للأحياء، ويعطى كل وارث حقه كما هو الشأن في تقسيم التركات بعد اخراج الوصايا منها.

ومن ثم فإن تنفيذ الوصية الواجبة يكون على أساس أن الخارج وصية لا ميراث بمعنى أنها تنفذ على جميع الورثة حتى لا يتأثر بها البعض دون الأخر، أي أنه يعاد تقسيم الباقي من التركة بعد اخراج مقدار الوصية الواجبة على الورثة الموجودين –أي الأحياء بالفعل– تقسيمًا عاديًا.

 

مثال عملي:

       توفيت "أم" عن "ابنين" و "خمس بنات"، وكان أحد الابنين قد توفي حال حياة أمه. وكان الابن المتوفى حال حياة أمه قد أنجب "بنتاً"، ولم توص الأم (جدة الابنة) للابنة بأية وصية ولم تعطها أو تهبها أي نصيب من حصة تركة والدها (ابنها المتوفى حال حياتها) تركة الجدة.

       وتجرى العملية الحسابية على النحو التالي (بافتراض أن إجمالي تركة الجدة مقدره بمبلغ مليون دينار كويتي "مثلاً"):

أولاً- حساب تركة الأم باعتبار الابن المتوفى حياً:

       لما كان الورثة هما ابنان وخمس بنات، فتوزع التركة بينهم للذكر مثل حظ الانثيين، فتقسم التركة (24) قيراط على (9) أسهم، فيكون لكل أبن سهمان ولكل بنت من البنات الخمسة سهماً واحداً.

       ـ/1,000,000 د.ك ÷ 9 = 111/111,111 د.ك

       حصة كل ابن    = 222/222,222 د.ك

       حصة كل بنت    = 111/111,111 د.ك

(تنبيه: الأرقام تقريبية فقط لإيضاح المسألة، ليس أكثر)

ثانياً- التحقق من أن حصة الابن المتوفى لا تزيد على ثلث التركة:

       وطالما كانت حصة الابن المتوفى لا تزيد على ثلث مقدار التركة كاملة، لذا يستحق ورثته حصة والدهم كاملة دون نقصان.

       فيكون نصيب ابنة الابن المتوفى بموجب الوصية الواجبة (قانوناً) لها، قدرها = 222/222,222 د.ك

ثالثاً- إخراج حصة الابن المتوفى من التركة ومن ثم توزيع باقي التركة (بعد إخراج حصة الوصية الواجبة) على باقي الورثة الأحياء:

       فيكون باقي التركة بعد تنفيذ الوصية وإخراجها من التركة، قدرها = 778/777,7-77 د.ك

       ويتم توزيعها على سبعة أسهم، للابن سهمان، وللخمس بنات كل واحدة منهن سهماً واحداً.

       778/777,7-77 د.ك ÷ 7 = 111/111,111 د.ك

       حصة كل ابن    = 222/222,222 د.ك

       حصة كل بنت    = 111/111,111 د.ك

 

وعلى فرض أن أسهم التركة مقدارها (63) سهماً

فتوزع بنفس الخطوات السابقة، على النحو التالي:

63 ÷ 9   = 7 سهم

لكل ابن     = 14 سهم

ولكل بنت = 7 أسهم

وتكون الوصية الواجبة = 14 سهم

التركة بعد اخراج الوصية: 14 – 63 = 49 سهم

49 ÷ 7   = 7 أسهم

للابن       = 14 سهم

ولكل بنت = 7 أسهم

هذا إذا كان المتوفى حال حياة الجدة هو أحد الأبناء "الذكور"

أما إذا كان المتوفى حال حياة الجدة هي إحدى البنات "الإناث"

فيكون توزيع التركة على النحو التالي:

63 ÷ 9   = 7 سهم

لكل ابن     = 14 سهم

ولكل بنت = 7 أسهم

وتكون الوصية الواجبة = 7 سهم

التركة بعد اخراج الوصية: 7 – 63 = 56 سهم

56 ÷ 7   = 8 أسهم

للابن       = 16 سهم

ولكل بنت = 8 أسهم

 

هذا، والله أعلى وأعلم ،،،

 

 



([1]) لذا يوجد اختلاف بين الفقهاء وفي التشريعات القانونية (للدول الإسلامية) بشان أحكام وطريقة حساب الوصية الواجبة، فبعض التشريعات (مثل القانوني الكويتي) أخذ بتطبيق الوصية الواجبة على نحو ما قرره التشريع المصري، بينما هناك تشريعات أخرى تنظم الوصية الواجبة على نحو مختلف، فعلى سبيل المثال في تشريعات أغلب بلاد الشام نجد تقرير الوصية الواجبة لأبناء الظهور وأبناء البطون مهما نزلوا بدون تفرقة بين الذكور والإناث بعكس التشريع المصري، الذي قصر الوصية الواجبة للطبقة الأولى فقط من أبناء البطون، وهناك دول عربية وإسلامية أخرى لا تأخذ بالأساس بتطبيق الوصية الواجبة. فضلاً عن أن طريقة حساب الوصية الواجبة تختلف من تشريع لآخر، بحيث يمكننا القول بوجود ثلاث مدارس مختلفة واحدة في مصر (وهي أيسرها، وبصرف النظر عما ينتج عنها أحياناً من أن المستحق للوصية الواجبة قد تكون حصته أكبر من حصة بعض أصحاب الفروض)، وهناك مدرسة ثانية في الشام وثالثة في المغرب العربي (وإن كانت طريقة حسابها معقدة بعض الشيء).

الأربعاء، 9 مارس 2022

النفقة على الأبن




النفقة على الابن

 

النفقة في الفقه الإسلامي:

إن إنفاق الرجل على أولاده المحتاجين واجب بالإجماع، قال ابن المنذر رحمه الله: (وأجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم، على أن على المرء نفقة أولاده الأطفال الذين لا مال لهم؛ ولأن ولد الإنسان بعضُهُ، وهو بعضً والدهِ، فكما يجب عليه أن يُنفق على نفسه وأهله كذلك على بعضه وأصلِه). اهـ [المغني 8/171].

والأصل في وجوب النفقة على الولد الكتابُ والسنة والإجماع، أما الإجماع فقد تقدم.

وأما الكتاب فقول الله تعالى: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ([الطلاق : 6]. فأوجب أجر رضاع الولد على أبيه، وقال سبحانه: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) [البقرة : 233].

ومن السنة: قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ هند بنت عتبة : (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف). رواه البخاري ومسلم.

وعن وهب قال: إن مولى لعبد الله بن عمرو قال له: إني أريد أن أقيم هذا الشهر هاهنا ببيت المقدس، فقال له: تركت لأهلك ما يقوتهم هذا الشهر؟ قال: لا، قال: فارجع إلى أهلك فاترك لهم ما يقوتهم، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت). رواه أحمد وأبو داود.

فهذه النصوص الشرعية وغيرها تدل على وجوب أن ينفق الرجل على أهل بيته والقيام بمصالحهم، فلا يجوز للوالد التقصير في النفقة على الأولاد ولا تضييعها، بل يلزمه القيام بها على الوجه الأكمل.

والمتفق عليه في المذاهب الفقهية أن نفقة "الزوجة" و "الأبناء" تشمل كل من: المأكل والمشرب والملبس والمسكن والتطبيب والخدمة (للزوجة أن كانت ممن تخدم في أهلها) وما يعتبر من الضروريات (كالتعليم للأولاد)، مع مراعاة مشمولات النفقة من تكاليف سكنى المحضون وأجرة الحضانة ومصاريف الولادة والنفاس والعقيقة والتوسعة على العائلة في الأعياد ...الخ

والمقرر في مذهبي الإمام "مالك" والإمام "أحمد بن حنبل" –يرحمهما الله– "أن كل ما يرجع إلى تقدير النفقة وتحديد المسكن ونحو ذلك موكل إلى اجتهاد القاضي يرى فيه رأيه". وقال "خليل" يرحمه الله وهو من علماء المالكية إنه يجب على الأب النفقة على أولاده الذكور إلى أن يصلوا إلى سن البلوغ ويكونوا قادرين على كسب قوتهم وعلى البنات إلى حين الدخول بهنّ، وقال يرحمه الله: "وَنَفَقَةُ الْوَلَدِ الذَّكَرِ حَتَّى يَبْلُغَ عَاقِلًا قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ، وَالْأُنْثَى حَتَّى يَدْخُلَ زَوْجُهَا" [المختصر: 138]. وتكون النفقة والسكنى بحسب العرف، على قدر وسع الزوج أو الأب واستطاعته، قاله القاضي أبو بكر محمد بن عاصم الأندلسي الغرناطي [في التحفة]. وعلى هذا جرت المذاهب الفقهية الأخرى.

 

فقد أوجب الإسلام على الآباء لأولادهم:

(1) النفقة {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [سورة الطلاق – الآية 6] فقد أوجب الله عزّ وجلّ أُجره المُرضع لنفقة الولد.

يجب على الوالد –وإن علا– نفقة ولده –وإن سفل–.

فالأب مكلف بالإنفاق –على اختلاف أنواع النفقة– على أولاده ذكوراً وإناثاً، فإن لم يكن لهم أب، كلَّف بالإنفاق عليهم الجد أبو الأب القريب، ثم الذي يليه.

ودليل ذلك من الكتاب قول الله عز وجل: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [سورة الطلاق – الآية 6]

فإيجاب الأُجرة على الزوج لرضاعة أولاده، يقتضي إيجاب مؤونتهم المباشرة من باب أولى. وقال الله سبحانه وتعالى: }وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ{ [سورة البقرة  - الآية 233].

فإن نسبة الولد إلى أبيه بلام الاختصاص، وهي (له) تقتضي مسؤولية صاحب الاختصاص، وهو الأب، عن نفقة ولده ومؤونته. وكذلك وجوب نفقة المُرضِعة للوليد وكسوتها تدلّ على وجوب نفقة الولد وكسوته من باب أولى كما علمت.

وأما دليل ذلك من السنّة: فما رواه البخاري [النفقات، باب: إذا لم ينفق الرجل فللمرأة أن تأخذ. رقم: 5049]، ومسلم [الأقضية، باب: قضية هند، رقم: 1714[ عن عائشة رضي الله عنها، أن هند بنت عتبة قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي، إلا ما أخذت منه، وهو لا يعلم، فقال: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف".

يقصد: خذي من مال أبي سفيان.

هذا، ويلحق الأحفاد بالأولاد بجامع النسبة والحاجة في كل.

 

شروط وجوب نفقة الفروع على الأصول:

ويشترط لوجوب نفقة الفروع على الأصول تحقّق الشروط التالية:

أولاً- أن يكون الأصل موسراً بما يزيد عن قوت نفسه، وقوت زوجته مدّة يوم وليلة.

فلو كان الذي يملكه لا يكفي –خلال هذه المدة– غير نفسه هو، أو غير نفسه وزوجته، لم يكن مكلفاً بالإنفاق على فروعه.

ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "ابدأ بنفسك". رواه مسلم [الزكاة، باب: الابتداء في النفقة بالنفس …، رقم: 997].

 

ثانياً- أن يكون الفرع فقيراً، ويشترط مع فقره، واحد من الأوصاف الثلاثة:

1ـ فقر، وصغر.

2ـ فقر، وزمانة.

3ـ فقر، وجنون.

فالصغير الفقير يكلّف أبوه، بالإنفاق عليه، فإن لم يكن أبوه فجده.

وكذلك الفقير الزمن، وهو العاجز عن العمل.

وكذلك الفقير المجنون.

والمقصود بالفقر: العجز عن الاكتساب.

فلو كان الولد صحيحاً بالغاً، قادراً على الاكتساب، لم تجب نفقته على أبيه، وإن لم يكن مكتسباً بالفعل.

فإن عاقه عن الاكتساب اشتغال بالعلم مثلاُ، فإنه ينظر:

فإن كان العلم متعلقاً بواجباته الشخصية: كأمور العقيدة، والعبادة ، فذلك يُعدّ عجزاً عن الكسب، وتجب نفقته على أبيه.

أما إن كان العلم الذي يشتغل به من العلوم الكفائية التي يحتاج إليها المجتمع، كالطب، والصناعة، وغيرهما، فلا يخرج الولد بالاشتغال بها عن كونه قادراً على الكسب، والأب عندئذ مخيّر: بين أن يمكِّنه من العكوف على ذلك العلم الذي يشتغل به وينفق عليه، وبين أن يقطع عنه النفقة، ويلجئه بذلك إلى الكسب والعمل.

وقد اتفق العلماء على أن الوالد لا تلزمه نفقة ولده الذي له مال يستغني به ولو كان هذا الولد صغيراً، واختلفوا في لزوم النفقة على الوالد لابنه البالغ الفقير القادر على الكسب، فأكثر العلماء يرون أنه لا تلزمه نفقته لقدرته على الكسب.

وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: عن والد غني وله ولد معسر فهل يلزم الوالد الغني أن ينفق على ابنه المعسر؟

فأجاب رحمه الله: نعم، عليه نفقةُ ولدِهِ بالمعروف إذا كان الولدُ فقيراً عاجزاً عن الكسب والوالدُ مُوسراًاهـ [مختصر من الفتاوى الكبرى 3/363، ومجموع الفتاوى 34/105].

ومفهوم قول شيخ الإسلام: إذا كان الولد فقيراً عاجزاً عن الكسب أن غير العاجز عن الكسب – وهو القادر لا تجب نفقته.

واختلفوا أيضاً في البنت التي بلغت الحلم هل يلزم والدها النفقة عليها أم لا ؟

فذهب أكثر العلماء إلى أنه يلزمه أن ينفق عليها حتى تتزوج –وهو الأقرب، والله أعلم– لعجزها عن التكسب، ولأن إلزامها بالتكسب يفضي إلى مفاسد عظيمة.

هذا مجمل ما يفهم من كلام العلماء من الحنفية [في المبسوط 5/223]، والمالكية [في المدونة 2/263]، والشافعية [في الأم 8/340]، والحنابلة [في المغني 8/171] .

 

أنت ومالك لأبيك:

قد يتعلق البعض بقول المصطفى –صلى الله عليه وسلم: (أنت ومالُك لأبيك). رواه ابن ماجه [قال في الزوائد: إسناده صحيح ورجاله ثقات على شرط البخاري وله طرق وشواهد يصح بها.  انظر فتح الباري 5/211، ونصب الراية 3/337].

فالجواب أن اللام في الحديث: ليست للملك بل للإباحة.

قال ابن القيم: واللام في الحديث ليست للملك قطعاً، ومن يقول هي للإباحة أسعد بالحديث وإلا تعطلت فائدته ودلالته. [إعلام الموقعين 1/116].

ومما يدل على أنها ليست للملك أن الابن يرثه أولاده وزوجته وأمه، فلو كان ماله ملكاً لوالده لم يأخذ المال غير الأب.

وليست الإباحة على إطلاقها، بل هي بشروط أربعة:

الشرط الأول: ألا يكون في أخذه ضرر على الابن، فإن كان في أخذه ضرر (كما لو أخذ غطاءه الذي يتغطى به من البرد، أو أخذ طعامه الذي يدفع به جوعه)، فإن ذلك لا يجوز للأب، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار).

الشرط الثاني: أن لا تتعلق به حاجة الابن، فلو كان عند الابن سيارة يحتاجها في ذهابه وإيابه وليس لديه من الدراهم ما يمكنه أن يشتري بدلها، فليس له أن يأخذها بأي حال.

الشرط الثالث: أن لا يأخذ المال مِن أحد أبنائه ليعطيه لابنٍ آخر؛ لأن ذلك إلقاء للعداوة بين الأبناء، ولأن فيه تفضيلاً لبعض الأبناء على بعض.

قال ابن قدامة رحمه الله في المغني: وللأبٍ أن يأخذ من مال ولده ما شاء، ويتملكه مع حاجة الأب إلى ما يأخذه ومع عدمها، صغيراً كان الولدُ أو كبيراً، بشرطين: أحدهما: أن لا يُجحف بالابن، ولا يضر به، ولا يأخذ شيئاً تعلقت به حاجتُهُ. الثاني: أن لا يأخذ من مال ولده فيُعطيه الآخر، نص عليه أحمد، وذلك لأنه ممنوعٌ من تخصيص بعض ولده بالعطية من مال نفسه، فلأن يُمنع من تخصيصه بما أخذ من مال ولده الآخر أولى.

الشرط الرابع: أن تكون عند الأب حاجة للمال الذي يأخذه من ولده، وقد جاء مصرَّحاً بهذا الشرط في بعض الأحاديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أولادكم هبة الله لكم يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ ([سورة الشورى – الآية 49]. فهم وأموالهم لكم إذا احتجتم إليهارواه الحاكم والبيهقي.

والحديث صححه الألباني في السلسة الصحيحة برقم: 2564 وقال: (وفي الحديث فائدة فقهية هامة وهي أنه يبيِّن أن الحديث المشهور أنت ومالُك لأبيك. ليس على إطلاقه، بحيث إن الأب يأخذ من مال ابنه ما يشاء، كلا، وإنما يأخذ ما هو بحاجة إليه. والله أعلم).


الحث على النفقة على الأهل:

وقد ثبتت أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم تفيد الحث على النفقة على الأهل، وأنها من الأعمال الصالحة عند الله تعالى، كما جاء في حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أنفق المسلم نفقة على أهله وهو يحتسبها كانت صدقة له). رواه البخاري.

وعن ابن عمر قال: (إنما سماهم الله أبراراً لأنهم بروا الآباء والأبناء، كما أن لوالدك عليك حقّاً كذلك لولدك عليك حقّاً). [انظر الأدب المفرد: 94].

فينبغي لهذا الأب أن يتقي الله تعالى، وأن ينفق على أولاده مما أعطاه الله تعالى. والله أعلم.

 

 

=========================