الخميس، 18 نوفمبر 2021

مقاطع من كتاب: "العقيدة الواسطية" – لشيخ الإسلام ابن تيمية – شرح وتعليق الدكتور صالح الفوزان - ما يدخل في الإيمان باليوم الآخر

 

مقاطع من كتاب: "العقيدة الواسطية" – لشيخ الإسلام/ ابن تيمية – شرح وتعليق الدكتور/ صالح الفوزان

 

فصل: "ما يدخل في الإيمان باليوم الآخر"

 

( 1 ) – ما يكون في القبر:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله): فصل: ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلي الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت فيؤمنون بفتنة القبر وبعذاب القبر ونعيمه.

فأما الفتنة فان الناس يفتنون في قبورهم فيقال للرجل: من ربك وما دينك ومن نبيك. فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. فيقول المؤمن: (ربي الله والإسلام ديني ومحمد صلي الله عليه وسلم نبيي). وأما المرتاب فيقول: (هاه هاه لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته). فيضرب بمرزبة من حديد فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان ولو سمعها الإنسان لصعق. ثم بعد هذه الفتنة إما نعيم وإما عذاب إلى أن تقوم القيامة الكبرى.

 

الشرح:

 اليوم الآخر هو يوم القيامة والإيمان به أحد أركان الإيمان وقد دل عليه العقل والفطرة وصرحت به جميع الكتب السماوية ونادي به جميع الأنبياء والمرسلون وسمي باليوم الآخر لتأخره عن الدنيا.

وقد ذكر الشيخ رحمه الله هنا ضابطاً شاملاً لمعني الإيمان باليوم الآخر بأنه الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلي الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت فيدخل فيه الإيمان بكل ما دلت عليه النصوص من حالة الاحتضار وحالة الميت في القبر والبعث من القبور وما يحصل بعده ثم أشار الشيخ رحمه الله إلى أشياء من ذلك.

 منها ما يكون في القبر فقال: (فيؤمنون بفتنة القبر وبعذاب القبر ونعيمه) فذكر أمرين:

الأمر الأول - فتنة القبر:

و "الفتنة" لغةً: الامتحان والاختبار، والمراد بها هنا سؤال الملكين للميت، ولهذا قال: (فأما الفتنة فان الناس يفتنون في قبورهم فيقال للرجل) أي الميت سواء كان رجلاً أو امرأة. ولعل ذكر الرجل من باب التغليب.

ثم ذكر الأسئلة التي توجه إلى الميت وما يجيب به المؤمن وما يجيب به غير المؤمن وما يكون بعد هذه الإجابة من نعيم أو عذاب.

والإيمان بسؤال الملكين واجب لثبوته عن النبي صلي الله عليه وسلم في أحاديث يبلغ مجموعها حد التواتر.

ويدل على ذلك القرآن الكريم في قوله تعالي: (يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ) (سورة إبراهيم - الآية "27") فقد أخرج الشيخان من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: في قوله تعالي: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت) "نزلت في عذاب القبر" ـ زاد مسلم: (يقال له من ربك فيقول ربي الله ونبيي محمد فذلك قوله: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت).

والقول الثابت هو كلمة التوحيد التي ثبتت في قلب المؤمن بالحجة والبرهان. وتثبيت المؤمنين بها في الدنيا أنهم يتمسكون بها ولو نالهم في سبيلها ما نالهم من الأذى والتعذيب. وتثبيتهم بها في الآخرة توفيقهم للجواب عند سؤال الملكين.

وقوله: (وأما المرتاب) أي الشاك (فيقول) إذا سئل (هاه هاه) كلمة تردد وتوجع (لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته) لأنه غير مؤمن بما جاء به الرسول صلي الله عليه وسلم فيستعجم عليه الجواب ولو كان من أعلم الناس وأفصحهم كما قال تعالي: (ويضل الله الظالمين)، (فيضرب بمرزبة من حديد) وهي المطرقة الكبيرة (فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان)، ثم بيَّن الحكمة من عدم سماع الإنسان لها بقوله: (ولو سمعها الإنسان لصعق) أي خر ميتاً أو غشي عليه، ومن حكمة الله أيضاً أن ما يجري على الميت في قبره لا يحس به الأحياء لأن الله تعالي جعله من الغيب ولو أظهره لفاتت الحكمة المطلوبة وهي الإيمان بالغيب.

 

الأمر الثاني - مما يجري على الميت في قبره:

مما يجري على الميت في قبره ما أشار إليه الشيخ بقوله: (ثم بعد هذه الفتنة إما نعيم وإما عذاب إلى أن تقوم القيامة الكبرى) هذا فيه إثبات عذاب القبر أو نعيمه ومذهب أهل السنة والجماعة أن الميت إذا مات يكون في نعيم أو عذاب وأن ذلك يحصل لروحه وبدنه كما تواترت به الأحاديث عن رسول الله صلي الله عليه وسلم فيجب الإيمان به ولا يتكلم في كيفيته وصفته لأن ذلك لا تدركه العقول لأنه من أمور الآخرة وأمور الآخرة لا يعلمها إلا الله ومن أطلعهم الله على شيء منه وهم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم.

وأنكر عذاب القبر المعتزلة وشبهتهم في ذلك أنهم لا يدر كونه ولا يرون الميت يعذب ولا يسأل. والجواب عن ذلك أن عدم إدراكنا ورؤيتنا للشيء لا يدل على عدم وجوده ووقوعه فكم من أشياء لا نراها وهي موجودة ومن ذلك عذاب القبر أو نعيمه. وأن الله تعالي جعل أمر الآخرة وما كان متصلاً بها غيباً وحجبها عن إدراك العقول في هذه الدار ليتميز الذين يؤمنون بالغيب من غيرهم. وأمور الآخرة لا تقاس بأمور الدنيا ـ والله أعلم.

وعذاب القبر على نوعين ـ النوع الأول عذاب دائم وهو عذاب الكافر ـ كما قال تعالي: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً) (سورة غافر - الآية "46") النوع الثاني: يكون إلى مدة ثم ينقطع عنه العذاب بسبب دعاء أو صدقة أو استغفار.

 

 

( 2 ) – القيامة الكبرى وما يجري فيها:

إلي أن تقوم القيامة الكبرى فتعاد الأرواح إلى الأجساد. وتقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابه وعلى لسان رسوله وأجمع عليها المسلمون فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلا.

 

الشرح:

 أشار الشيخ رحمه الله في هذا وما بعده إلى ما يكون في الدار الآخرة وهي التي تبدأ بالقيامة الكبرى ـ فان الدور ثلاث: دار الدنيا. ودار البرزخ. والدار الآخرة ـ وكل دار من هذه الدور الثلاث لها أحكام تخصها وحوادث تجري فيها.

وقد تكلم الشيخ على ما يكون في دار البرزخ ـ وهنا أخذ يتكلم على ما يكون في الدار الآخرة فيقول: (ثم تقوم القيامة الكبرى) القيامة قيامتان:

قيامة صغري: وهي الموت وهذه القيامة تقوم على كل إنسان في خاصته من خروج روحه وانقطاع سعيه.

وقيامة كبري: وهذه تقوم على كل الناس جميعا وتأخذهم أخذة واحدة.

وسميت قيامة لقيام الناس من قبورهم لرب العالمين ولهذا قال (فتعاد الأرواح إلى الأجساد) وذلك عندما ينفخ إسرافيل في الصور قال تعالي: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ. قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا) (الآيتان "51"، "52" - من سورة يس)، وقال تعالي: (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ) (الآية "68" - من سورة الزمر).

والأرواح: جمع روح، وهي ما يحيا به الإنسان وغيره من ذوات الأرواح، ولا يعلم حقيقتها إلا الله. قال تعالي: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (الآية "85" - من سورة الإسراء).

وقوله: (وتقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابة وعلى لسان رسوله وأجمع عليها المسلمون) إشارة إلى أدلة البعث وأنه ثابت بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين والعقل والفطر السليمة. فقد أخبر الله عنه في كتابه وأقام الدليل عليه ورد على المنكرين للبعث في غالب سور القرآن. ولما كان نبينا محمد صلي الله عليه وسلم خاتم النبيين بيَّن تفاصيل الآخرة بياناً لا يوجد في كثير من كتب الأنبياء.

والجزاء على الأعمال ثابت بالعقل وواقع في الشرع فان الله نبه العقول إلى ذلك في مواضع كثيرة من القرآن حيث ذكرها أنه لا يليق بحكمته وحمده أن يترك الناس سدي أو يخلقهم عبثاً لا يؤمرون ولا ينهون ولا يثابون ولا يعاقبون. وأن يكون المحسن كالمسيء أو يجعل المسلمين كالمجرمين. فإن بعض المحسنين يموت قبل أن يجزي على إحسانه. وبعض المجرمين يموت قبل أن يجازي على إجرامه. فلابد أن هناك داراً يجازي فيها كل منهما. ومنكر البعث كافر ـ كما قال تعالي: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا) (الآية "7" - من سورة التغابن).

وقوله: (فيقوم الناس من قبورهم حفاة) جمع حاف وهو الذي ليس على رجله نعل ولا خف، (عراة) جمع عار وهو الذي ليس عليه لباس، (غرلا) جمع أغرل وهو الأقلف الذي لم يختن ـ وهذه الصفات الثلاث يكونون عليها حين قيامهم من قبورهم، وهذا ثابت في الصحيح عن النبي صلي الله عليه وسلم ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: (إنكم تحشرون إلي الله يوم القيامة حفاة عراة غرلا) الحديث.

 

 

ما يجري في يوم القيامة:

وتدنو منهم الشمس ويلجمهم العرق فتنصب الموازين فتوزن بها أعمال العباد: (فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ) (الآيتان "102"، "103" - من سورة المؤمنون)، وتنشر الدواوين ـ وهي صحائف الأعمال فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره ـ كما قال سبحانه وتعالي (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً. اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) (الآيتان "113"، "114" - من سورة الإسراء)، ويحاسب الله الخلائق ويخلو بعبده المؤمن فيقرره بذنوبه كما وصف ذلك في الكتاب والسنة وأما الكفار فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته فإنهم لا حسنات لهم ولكن تعد أعمالهم فتحصي فيوقفون عليها ويقررون بها.

 

الشرح:

 ذكر الشيخ رحمه الله في هذا الكلام بعض ما يجري في يوم القيامة مما ذكر في الكتاب والسنة فان تفاصيل ما يجري في هذا اليوم مما لا يدرك بالعقل وإنما يدرك بالنقول الصحيحة عن النبي صلي الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى (إن هو إلا وحي يوحي). ومن الحكمة في محاسبة الخلائق على أعمالهم ووزنها وظهورها مكتوبة في الصحف مع إحاطة علم الله بذلك ليري عباده كمال حمده وكمال عدله وسعة رحمته وعظمة ملكه وذكر الشيخ مما يجري في هذا اليوم العظيم على العباد.

 

( 1 ) - (أنها تدنوا منهم الشمس) أي تقرب من رءوسهم، كما روي مسلم عن المقداد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: (إذا كان يوم القيامة أدنيت الشمس من العباد حتى تكون قدر ميل أو ميلين). قوله: (ويلجمهم العرق) أي يصل إلى أفواههم فيصير بمنزلة اللجام يمنعهم من الكلام وذلك نتيجة لدنو الشمس منهم وذلك بالنسبة لأكثر الخلق ويستثني من ذلك الأنبياء ومن شاء الله.

 

( 2 ) - ومما ذكر في هذا اليوم: (وتنصب الموازين وتوزن بها الأعمال). الموازين: جمع ميزان ـ وهو الذي توزن به الحسنات والسيئات ـ وهو ميزان حقيقي له لسان وكفتان ـ وهو من أمور الآخرة نؤمن به كما جاء ولا نبحث عن كيفيته إلا على ضوء ما ورد من النصوص ـ والحكمة في وزن الأعمال إظهار مقاديرها ليكون الجزاء بحسبها (فمن ثقلت موازينه) أي رجحت حسناته على سيئاته (فأولئك هم المفلحون) أي الفائزون والناجون من النار المستحقون لدخول الجنة. (ومن خفت موازينه) أي ثقلت سيئاته على حسناته (فأولئك الذين خسروا أنفسهم) أي خابوا وصاروا إلى النار (في جهنم خالدون) أي ماكثون في النار. والشاهد من الآية الكريمة: أن فيها إثبات الموازين والوزن يوم القيامة.

وقد ورد ذكر الوزن والموازين في آيات كثيرة من القرآن وقد أفاد مجموع النصوص أنه يوزن العامل والعمل والصحف ولا منافاة بينها فالجميع يوزن ولكن الاعتبار في الثقل والخفة يكون بالعمل نفسه لا بذات العامل ولا بالصحيفة والله أعلم.

وقد تأول المعتزلة النصوص وإجماع سلف الأمة وأئمتها. قال الشوكاني: وغاية ما تشبثوا به مجرد الاستبعادات العقلية وليس في ذلك حجة على أحد. فهذا إذا لم تقبله عقولهم فقد قبلته عقول قوم هي أقوى من عقولهم من الصحابة والتابعين وتابعيهم حتى جاءت البدع كالليل المظلم وقال كل ما شاء وتركوا الشرع خلف ظهورهم، وأمور الآخرة ليست مما تدركها العقول والله أعلم.

 

( 3 ) - ومما ذكره الشيخ من حوادث هذا اليوم العظيم قوله (وتنشر الدواوين وهي صحائف الأعمال)، أي الصحائف التي كتبت فيها أعمال العباد التي عملوها في الدنيا وكتبتها عليهم الحفظة لأنها تطوي عند الموت وتنشر أي تفتح عند الحساب ليقف كل إنسان على صحيفته فيعلم ما فيها (فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره) هذا فيه بيان كيفية أخذ الناس لصحفهم كما جاء ذلك في القرآن الكريم، وهو على نوعين: آخذ كتابه بيمينه وهو المؤمن وآخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره وهو الكافر – بأن تلوى يده اليسرى من وراء ظهره ويعطي كتابه بها – كما جاءت الآيات بهذا وهذا ولا منافاة بينهما لأن الكافر تغل يمناه إلى عنقه وتجعل يسراه وراء ظهره فيأخذ بها كتابه.

ثم استدل الشيخ بقوله تعالى: (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ) الآية. وطائره: ما طار عنه من عمله من خير وشر، (في عنقه) أي يلزم به ويجازي به لا محيد له عنه فهو لازم له لزوم القلادة في العنق. (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً) أي نجمع له عمله كله في كتاب يعطاه يوم القيامة إما بيمينه إن كان سعيداً أو بشماله إن كان شقياً. (منشورا): أي مفتوحاً يقرؤه هو وغيره. وإنما قال سبحانه (يلقاه منشورا) تعجيلاً للبشرى بالحسنة والتوبيخ على السيئة، (اقْرَأْ كَتَابَكَ) أي نقول له ذلك – قيل يقرأ ذلك الكتاب من كان قارئا ومن لم يكن قارئا (كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) أي حاسبا وهو منصوف على التمييز – وهذا أعظم العدل حيث جعله حسيب نفسه ليرى جميع عمله لا ينكر منه شيئا والشاهد من الآية الكريمة: أن فيها إثبات إعطاء كل إنسان صحيفة عمله يوم القيامة يقرؤها بنفسه ويطلع عليها هو لا بواسطة غيره.

 

( 4 ) - ثم ذكر الشيخ رحمه الله الحساب فقال (ويحاسب الله الخلائق)، الحساب: هو تعريف الله عز وجل للخلائق بمقادير الجزاء على أعمالهم وتذكيره إياهم ما قد نسوه من ذلك، أو بعبارة أخرى: هو توقيف الله عباده قبل الانصراف من المحشر على أعمالهم خيراً كانت أو شراً – ثم ذكر الشيخ رحمه الله أن الحساب على نوعين:

النوع الأول - حساب المؤمن:

قال فيه: (ويخلو بعبده المؤمن فيقرره بذنوبه كما وصف ذلك بالكتاب والسنة) كما قال الله تعالى: (أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً) (الآيات "7"، "8"، "9" - من سورة الانشقاق)، وفي الصحيحين عن ابن عمر عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنَفهُ ويستره من الناس ويقرره بذنوبه ويقول له: أتعرف ذنب كذا. أتعرف ذنب كذا. أتعرف ذنب كذا. حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أن قد هلك قال فإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ثم يعطي كتاب حسناته). ومعنى يقرره بذنوبه: يجعله يقر أي يتعرف بها – كما في هذا الحديث: أتعرف ذنب كذا أتعرف ذنب كذا.

ومن المؤمنين من يدخل الجنة بغير حساب كما صح في حديث السبعين الألف الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب.

والحساب يختلف، فمنه اليسير: وهو العرض، ومنه: المناقشة – وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك)، فقلت: يا رسول الله أليس قد قال الله تعالى (فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما ذلك العرض وليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا عذب).

 

النوع الثاني - حساب الكفار:

وقد بينه بقوله (وأما الكفار فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته فانه لا حسنات لهم) أي ليس لهم حسنات توزن مع سيئاتهم لأن أعمالهم قد حبطت بالكفر فلم يبق لهم في الآخرة إلا سيئات فحسابهم معناه أنهم (تعد أعمالهم فتحصى فيوقفون عليها ويقررون بها ويجزون بها) أي يخبرون بأعمالهم الكفرية ويعترفون بها ثم يجازون عليها كما قال تعالى (فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ) (الآية "50" - من سورة فصلت)، وقال تعالى: (وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ) (الآية "37" - من سورة الأعراف)، وقال (فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ) (الآية "11" - من سورة الملك).

 

 

حوض النبي صلى الله عليه وسلم ومكانه وصفاته:

وفي عرصات القيامة الحوض المورود للنبي صلى الله عليه وسلم ماؤه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل. آنيته عدد نجوم السماء. طوله شهر وعرضه شهر. من يشرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً.

 

الشرح:

( 5 ) - مما يوجد في القيامة حوض النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكره الشيخ هنا وبيَّن أصافه، فقال: (وفي عرصات القيامة الحوض المورود للنبي صلى الله عليه وسلم)، كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال الإمام ابن القيم: وقد روى أحاديث الحوض أربعون صحابيا وكثير منها أو أكثرها في الصحيح "انتهى".

وتقدم بيان معنى العرصات.

والحوض لغة: مجمع الماء – وقد أجمع أهل السنة والجماعة على إثبات الحوض، وخالفت في ذلك "المعتزلة" فلم تقل بإثباته وأولوا النصوص الواردة فيه وأحالوها عن ظاهرها – ثم ذكر الشيخ رحمه الله أوصاف الحوض فقال: (ماؤه أشد بياضا من اللبن ...الخ)، وهذه الأوصاف ثابتة في الأحاديث كحديث عبد الله بن عمرو المتفق عليه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حوضي مسيرة شهر ماؤه أبيض من اللبن وريحه أطيب من المسك وكيزانه كنجوم السماء من شرب منه لا يظمأ أبدا).

 

 

الصراط ومعناه ومكانه وصفة مرور الناس عليه:

والصراط منصوب على متن جهنم وهو الجسر الذي بين الجنة والنار. يمر الناس عليه على قدر أعمالهم فمنهم من يمر كلمح البصر ومنهم من يمر كالبرق ومنهم من يمر كالريح ومنهم من يمر كالفرس الجواد ومنهم من يمر كركاب الإبل ومنهم من يعدو عدوا ومنهم من يمشي مشيا ومنهم من يزحف زحفاً ومنهم من يخطف ويلقي في جهنم. فإن الجسر عليه كلاليب تخطف الناس بأعمالهم.

 

الشرح:

( 6 ) - ذكر الشيخ رحمه الله في هذا أن مما يحصل يوم القيامة المرور على الصراط. والصراط: في اللغة هو الطريق الواضح، أما في الشرع فهو ما بيَّنه الشيخ بقوله: (هو الجسر الذي بين الجنة والنار) وبين مكانه بقوله (على متن جهنم) أي على ظهر النار.

ثم بيَّن صفة مرور الناس عليه بقوله: (يمر الناس عليه على قدر أعمالهم) ووقت المرور عليه بعد مفارقة الناس للموقف والحشر والحساب فان الصراط ينجو عليه المؤمنون من النار إلى الجنة ويسقط منه أهل النار فيها كما ثبت في الأحاديث.

ثم فصل الشيخ رحمه الله أحوال الناس في المرور على الصراط فقال: (فمنهم من يمر كلمح البصر) الخ أي أنهم يكونون في سرعة المرور وبطئه على حسب إيمانهم وأعمالهم الصالحة التي قدموها في الدنيا فبحسب استقامة الإنسان على دين الإسلام وثباته عليه يكون ثباته ومروره على الصراط فمن ثبت على الصراط المعنوي وهو الإسلام ثبت على الصراط الحسي المنصوب على متن جهنم ومن زل عن الصراط المعنوي زل عن الصراط الحسي. وقوله (يعدو عدوا) أي يركض ركضاً، وقوله (يزحف زحفاً) أي يمشي على مقعدته بدل رجليه. وقوله: (عليه كلاليب) جمع كلوب [بفتح الكاف واللام المشددة المضمومة] وهي حديدة معطوفة الرأس – وقوله: (تخطف) [بفتح الطاء ويجوز كسرها] من الخطف، وهو أخذ الشيء بسرعة. وقوله (بأعمالهم) أي بسبب أعمالهم السيئة فيكون اختطاف الكلاليب لهم على الصراط جهنم بحسب اختطاف الشبهات والشهوات لهم عن الصراط المستقيم.

وأهل السنة والجماعة يؤمنون بالصراط المنصوب على متن جهنم ومرور الناس عليه على ما جاءت به الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وخالف في ذلك القاضي عبد الجبار المعتزلي وكثير من أتباعه وقالوا المراد بالصراط المذكور طريق الجنة المشار إليه بقوله تعالى (سيهديهم ويصلح بالهم) (سورة محمد - الآية "5")، وطريق النار المشار إليه بقوله تعالى (فاهدوهم إلى صراط الجحيم) (سورة الصافات - الآية "23"). وهذا قول باطل ورد للنصوص الصحيحة بغير برهان. والواجب حمل النصوص على ظاهرها.

 

 

القنطرة بين الجنة والنار:

فمن مر على الصراط دخل الجنة. فإذا عبروا عليه وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض. فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة.

 

الشرح:

( 7 ) - ذكر الشيخ رحمه الله مما يكون يوم القيامة الوقوف على القنطرة فقال: (فمن مر على الصراط) أي تجاوزه وسلم من السقوط في جهنم (دخل الجنة) لأن من نجا من النار دخل الجنة، قال تعالى: (فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز) (سورة آل عمران - الآية "185")، وقال تعالى (فريق في الجنة وفريق في السعير) (سورة الشورى – الآية "7").

لكن قبل دخول الجنة لا بد من إجراء القصاص بين المؤمنين حتى يدخلوا الجنة وهو على أكمل حالة. قد خلصوا من المظالم وهذا ما أشار إليه الشيخ بقوله (فإذا عبروا) أي تجاوزوا الصراط ونجوا من السقوط في النار (وقفوا على قنطرة) هي الجسر وما ارتفع من البنيان – وهذه القنطرة قيل هي طرف الصراط مما يلي الجنة وقيل هي صراط آخر خاص بالمؤمنين (فيقتص لبعضهم من بعض) أي يجري بينهم القصاص في المظالم فيؤخذ للمظلوم حقه ممن ظلمه (فإذا هذبوا ونقوا) أي خلصوا من التبعات والحقوق (إذن لهم في دخول الجنة) وقد ذهب ما في قلوب بعضهم لبعض من الغل كما قال تعالى: (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين) (سورة الحجر - الآية "47").

 

 

أول من يستفتح باب الجنة وأول من يدخلها وشفاعات النبي صلى الله عليه وسلم:

وأول من يستفتح باب الجنة محمد صلى الله عليه وسلم وأول من يدخلها من الأمم أمته. وله صلى الله عليه وسلم في القيامة ثلاث شفاعات:

أما الشفاعة الأولى: فيشفع في أهل الموقف حتى يقضي بينهم بعد أن يتراجع الأنبياء أدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم عن الشفاعة حتى تنتهي إليه.

وأما الشفاعة الثانية: فيشفع في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة. وهاتان الشفاعتان خاصتان له.

وأما الشفاعة الثالثة: فيشفع فيمن استحق النار أن لا يدخلها. ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها.

 

 

الشرح:

( 8 ) - يبين الشيخ رحمه الله ما ينتهي إليه أمر المؤمنين يوم القيامة بعد اجتيازهم لتلك الأحوال التي مر ذكر أهمها فيقول (فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة) فهم لا يدخلون الجنة إلا بعد إذن من الله تعالى وطلب لفتح أبوابها (وأول من يستفتح باب الجنة محمد صلى الله عليه وسلم) كما في الصحيح (في صحيح "مسلم")، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح فيقول الخازن من أنت فأقول محمد فيقول بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك). والاستفتاح طلب الفتح وفي هذا تشريف له صلى الله عليه وسلم وإظهار لفضله (وأول من يدخلها من الأمم أمته) وذلك لفضلها على سائر الأمم. ودليل ذلك ما في حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم (نحن أول من يدخل الجنة).

قوله: (وله صلى الله عليه وسلم في القيامة ثلاث شفاعات)، والشفاعات: جمع شفاعة، والشفاعة لغة "الوسيلة"، وعرفاً: سؤال الخير للغير. مشتقة من الشفع الذي هو ضد الوتر. فكأن الشافع ضم سؤاله إلى سؤال المشفوع له بعد أن كان منفرداً.

وقول الشيخ رحمه الله (وله صلى الله عليه وسلم في القيامة ثلاث شفاعات) بيان للشفاعات التي يقوم بها النبي صلى الله عليه وسلم في يوم القيامة بإذن الله تعالى.

هكذا ذكر الشيخ رحمه الله أنواع الشفاعة هنا مختصرة، وهي على سبيل الاستقصاء ثمانية أنواع منها ما هو خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومنها ما هو مشترك بينه وبين غيره:

الشفاعة الأولى: الشفاعة العظمى (وهي المقام المحمود) وهي أن يشفع النبي صلى الله عليه وسلم أن يقضي الله سبحانه بين عباده بعد طوال الموقف عليهم وبعد مراجعتهم الأنبياء للقيام بها فيقوم بها نبينا صلى الله عليه وسلم بعد إذن ربه.

الشفاعة الثانية: شفاعته في دخول أهل الجنة الجنة بعد الفراغ من الحساب.

الشفاعة الثالثة: شفاعته صلى الله عليه وسلم في عمه أبي طالب أن يخفف عنه العذاب وهذه خاصة به. لأن الله أخبر أن الكافرين لا تنفعهم شفاعة الشافعين ونبينا أخبر أن شفاعته لأهل التوحيد خاصة. فشفاعته لعمه أبي طالب خاصة به وخاصة لأبي طالب.

          هذه الأنواع الثلاثة من الشفاعة خاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم.

الشفاعة الرابعة: شفاعته فيمن استحق النار من عصاة الموحدين أن لا يدخلها.

الشفاعة الخامسة: شفاعته صلى الله عليه وسلم فيمن دخل النار من عصاة الموحدين أن يخرج منها.

الشفاعة السادسة: شفاعته في رفع درجات بعض أهل الجنة.

الشفاعة السابعة: شفاعته صلى الله عليه وسلم فيمن استوت حسناتهم وسيئاتهم أن يدخلوا الجنة وهم أهل الأعراف (على قول).

الشفاعة الثامنة: شفاعته صلى الله عليه وسلم في دخول بعض المؤمنين الجنة بلا حساب ولا عذاب كشفاعته صلى الله عليه وسلم في عكاشة بن محصن رضي الله عنه، حيث دعا له النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون من السبعين الألف الذي يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب.

          وهذه الأنواع الخمسة الباقية يشاركه فيها غيره من الأنبياء والملائكة والصديقين والشهداء.

 

وأهل السنة والجماعة يؤمنون بهذه الشفاعات كلها لثبوت أدلتها وأنها لا تتحقق إلا بشرطين:

الشرط الأول: إذن الله للشافع أن يشفع. كما قال تعالى: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) (الآية "255" - من سورة البقرة)، (ما من شفيع إلا من بعد إذنه) (الآية "3" - من سورة يونس).

الشرط الثاني: رضا الله عن المشفوع له. كما قال تعالى: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) (الآية "28" - من سورة الأنبياء).

 ويجمع الشرطين قوله تعالى: (وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا. إلا من بعد يأذن الله لمن يشاء ويرضى) (الآية "26" - من سورة النجم).

 

وقد خالفت المعتزلة في الشفاعة لأهل الكبائر من المؤمنين فيمن استحق النار منهم أن لا يدخلها وفيمن دخلها أن يخرج منها (أي في النوع الخامس والسادس من أنواع الشفاعة).

ويحتجون بقوله تعالى: (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) (الآية "48" - من سورة المدثر). والجواب عنها: أنها واردة في حق الكفار، فهم الذين لا تنفعهم شفاعة الشافعين. أما المؤمنين فتنفعهم الشفاعة بشروطها.

 

هذا، وقد انقسم الناس في أمر الشفاعة إلى ثلاثة أصناف:

الصنف الأول:

غلوا في إثباتها وهم "النصارى والمشركون وغلاة الصوفية والقبوريون"، حيث جعلوا شفاعة من يعظمونه عند الله كالشفاعة المعرفة في الدنيا عند الملوك فطلبوها من دون الله كما ذكر الله ذلك عن المشركين.

الصنف الثاني:

وهو "المعتزلة والخوارج"، غلوا في نفي الشفاعة فأنكروا شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعة غيره في أهل الكبائر.

الصنف الثالث:

وهم "أهل السنة والجماعة"، أثبتوا الشفاعة على وفق ما جاءت به النصوص القرآنية والأحاديث النبوية فأثبتوا الشفاعة بشروطها.

 

 

إخراج بعض العصاة من النار برحمة الله بغير شفاعة واتساع الجنة عن أهلها:

ويخرج الله من النار أقواما بغير شفاعة بل بفضله ورحمته. ويبقى في الجنة فضل عمن دخلها من أهل الدنيا فينشئ الله أقواما فيدخلهم الجنة. وأصناف ما تضمنته الدار الآخرة من الحساب والثواب والعقاب والجنة والنار. وتفاصيل ذلك مذكورة في الكتب المنزلة من السماء والآثار من العلم المأثور عن الأنبياء – وفي العلم الموروث عن محمد صلى الله عليه وسلم من ذلك ما يشفي ويكفي فمن ابتغاه وجده.

 

الشرح:

( 9 ) - لما ذكر الشيخ رحمه الله أن من أنواع الشفاعات التي تقع بإذن الله الشفاعة بإخراج بعض من دخلوا النار منها – ذكر هنا أن الخروج من النار له سبب آخر غير الشفاعة وهو رحمة الله سبحانه وفضله وإحسانه فيخرج من النار من عصاة الموحدين من في قلبه أدنى مثقال حبة من إيمان – قال الله تعالى: (إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ) (الآية "48" - من سورة النساء)، وفي الحديث المتفق عليه (يقول الله: شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعلموا خيرا قط) الحديث. وقوله (ويبقى في الجنة فضل) أي متسع (عمن دخلها من أهل الدنيا) لأن الله وصفها بالسعة فقال: (عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ) (الآية "133" - من سورة أل عمران)، (فينشئ الله) أي يخلق ويوجد (أقواما) أي جماعات (فيدخلهم الجنة) بفضله ورحمته لأن الجنة رحمته يرحم بها من يشاء – وأما النار فلا يعذب فيها إلا من قامت عليه حجته وكذب رسله.

وقوله (وأصناف ما تضمنته الدار الآخرة ...الخ)، لما ذكر رحمه الله ما ذكر من أحوال اليوم الآخر وما يجري فيه، أحال على الكتاب والسنة في معرفة تفاصيل البقية مما لم يذكره، لأن ذلك من علم الغيب الذي لا يعرف إلا من طريق الوحي.

 

 

هذا، والله أعلى وأعلم،،،