الخميس، 6 أغسطس 2020

حكم قضائي يجب أن يُدَرس في كليات الحقوق - يشرح مفهوم العدالة والقضاء والتحكيم والتعويض والتعويض عن الكسب الفائت والتعويض عن فوات الفرصة

 

 

محكمة استئناف القاهرة

الدائرة التجارية الأولى (السابعة سابقا)

جلسة 3 يونيه 2020م

 

الحكم في الدعوى رقم 39 لسنة 130 "قضائية"

(تحكيم - دعوى بطلان حكم تحكيم)

 

( 1 )

خلفية واقع النزاع التحكيمي وحكمه

 

( أ )

النزاع التحكيمي

 

بحسب الوارد بحكم التحكيم المطعون فيه، فإنه بناء على قرار وزاري ليبي، أعقبه مباشرة أبرام عقد مؤرخ 8/6/2006م، بموجبه عهدت الدولة الليبية إلى الشركة الكويتية (محمد عبد المحسن الخرافي) إقامة مشروع استثماري سياحي "مشترك" بناحية شاطئ منطقة تاجوراء، بشعبة طرابلس الليبية، وسمى العقد بأنه "عقد إيجار قطعة أرض" لغرض إقامة ذلك المشروع، وذلك طبقاً للقانون الليبي الخاص بتشجيع رؤوس الأموال الأجنبية، وذكر العقد على أن مساحة أرض المشروع تبلغ 24 هتكار (ـ/240,000 متر مربع) مملوكة للدولة الليبية، وأن قيمته الاستثمارية تبلغ 130 مليون دولا أمريكي، على أن يتم تنفيذه خلال سبع سنوات ونصف سنة، أما مدة الانتفاع (امتياز شركة الخرافي) فتبلغ تسعون سنة تبدأ من تاريخ استلام الشركة لأرض المشروع، ونُص في العقد أيضاً على أن تتولى شركة الخرافي مهمة تمويل إقامة المشروع وتشغيله (فندق خمس نجوم ومركز تجاري خدمي وشقق فندقية ومطاعم ...الخ)، وأكد العقد على التزام الطرف الليبي بأن يسلم الشركة أرض المشروع خالية من كل الشواغل مع ضمان خلوها من العوائق المادية والقانونية طيلة مدة الانتفاع الاستثماري.  

ووفقاً لمدونات حكم التحكيم أيضاً، فقد فوجئت الشركة وعقب التعاقد وفي بواكير المشروع بأن أرضه مُحملة بالعديد من المشاكل والعوائق المادية والقانونية، وعجزت الأجهزة الليبية عن حل مُعوقات أرض التعاقد، وبدورها عجزت الشركة عن وضع يدها عليها وضعاً هادئاً، ومرة بعد مرة طالبت الشركة الجانب الليبي بتوفير الأمن لأعمالها وموظفيها مع ضرورة تجهيز موقع المشروع خالياً توطئة للبدء في المسار اللازم لإنجاز أعماله. وتبادل الطرفان (الخرافي والجهات الليبية المعنيّة) اللقاءات والمكاتبات، ودخلا معا في سلسلة من الخلافات، بالجملة فقد وضح للمحتكمة مبكراً أن بداية العمل في المشروع المشترك بدا أمراً صعباً وجامداً ومعقداً.

خلال تلك التعقيدات والمتاعب، اقترحت السلطات المحلية الليبية على الشركة (في شهر يناير 2009م) موقعاً بديلاً لإقامة المشروع المشترك، ورفضت الشركة هذا العرض وصممت في الوقت نفسه على تفعيل المشروع طبقاً لبنوده العقدية وعلى ضرورة قيام الجهات الليبية بتهيئة موقع العقد وإزالة شواغله ومعوقاته المادية والقانونية، وضمان وحماية وضع يدها عليه حتى يمكنها من البدء في الأعمال الإنشائية اللازمة. وبعد العديد من الاجتماعات والمراسلات لم يقدر الطرفان على إزالة الصعوبات المتصلة بأرض المشروع، وبقيت سلسلة المشاكل ممتدة دون حلول، حتى انتكس المشروع وتعثر وخبا في مرقده.

وفي شهر مايو 2010م، ودون سابق إنذار، انتهى أمر العقد (المشروع الموعود) بأن أصدر وزير الاقتصاد الليبي قراراً بإلغاء الموافقة المُسبقة الممنوحة لشركة الخرافي بصدد المشروع، والعدول عنه. وزعمت الجهات اللبيبة أن إلغاء العقد وسحب ترخيص الاستثمار يرجع إلى تراخي الشركة في الوفاء بالتزاماتها العقدية. ومن ناحيتها اعترضت الشركة على قرار الإلغاء هذا واصفة إياه بالتعسف، وأضافت بأنها سعت لدى الجهات الليبية المسؤولة من أجل إعادة إحياء المشروع، مشترطة تمكينها من وضع يدها فعلياً على أرضه خالية وإزالة المباني المقامة عليها وضمان تطهيرها من كافة المعوقات والمشاكل، مادية كانت أم قانونية، فحيازتها التامة لأرض المشروع تعد شرطاً ضرورياً لتنفيذ التعاقد الاستثماري، وأن الدولة الليبية تضمن عدم تعرضها هي (وتعرض الغير) لها في الانتفاع بأرض المشروع دون عائق. ولم تفلح الشركة في مسعاها هذا، إذ أصر الجانب الليبي على موقفه واصفاً عقد النزاع بأنه من العقود الإدارية، وكذلك قرار إلغاءه، وبأن تلكؤ الشركة في التنفيذ هو سبب إفساد المشروع.

وزعمت شركة الخرافي بأنها أبرمت العقد من أجل الاستثمار على أرض دولة ليبيا (المُضيفة للاستثمار) مُعتمدة في ذلك على ضمانات وتسهيلات حكومية ليبية وقوانين نافذة تهدف إلى جذب الاستثمارات العربية والدولية على أرضها، وأعلنت الشركة أن استثماراتها قد تأثرت وإنها أُضيرت مالياً وأدبياً بسبب سلوك الحكومة الليبية، ودمغت الشركة هذا السلوك بأنه يمثل انتهاكا للموجبات العقدية، ويعد في الوقت نفسه إخلالاً بالنصوص التشريعية والاتفاقيات الدولية الخاصة بالاستثمار العربي والأجنبي السارية في الدولة الليبية، التي خلقت أجهزتها المختلفة الكثير من الصعاب والمضايقات التي ترتب عليها في النهاية إجهاض المشروع المشترك وحالت بذلك دون المضي في تنفيذه مما حرمها بغير وجه حق من عوائده الاستثمارية المستقبلية.  

هذا، وبحسبان أن عقد النزاع تضمن بنداً تحكيمياً جرى على إنه في حال نشوء أي نزاع بين الطرفين يتعلق بتفسير نصوص العقد أو تنفيذه أثناء سريانه يتم تسويته ودياً، وإذا تعذر ذلك يحال النزاع إلى التحكيم وفقاً لأحكام الاتفاقية "المُوحّدة" لاستثمار رؤوس الأموال العربية في الدول العربية، تلك الصادرة عام 1980م.

اعتماداً على هذا البند التحكيمي -وباعتبار أن دولتي ليبيا والكويت من دول الاتفاقية- فقد سعت شركة الخرافي إلى إحالة النزاع إلى التحكيم الخاص بالاستثمار العربي الوارد في هذه الاتفاقية "المُوحّدة" وملحقها الخاص بالتوفيق والتحكيم، باعتباره نظاماً تحكيمياً داخلاً في نطاق جامعة الدول العربية ويعمل أو يجري تحت إشراف ورعاية أمانتها العامة.  

وفي ظل الاتفاقية "المُوحّدة" وتتبعاً لأحكامها، بادرت شركة الخرافي إلى الحصول على موافقة السيد الأمين العام لجامعة الدول العربية على البدء في الإجراءات التحكيمية ضد الدولة الليبية وهيئاتها الحكومية، وتشكلت هيئة تحكيم (خاصة) من ثلاثة أعضاء وأتفق الأطراف على تطبيق القوانين الليبية على موضوع النزاع بما في ذلك قانون رؤوس الأموال الأجنبية وتعديلاته، وعلى أن تحصل المُحاكمة التحكيمية طبقا للقواعد الإجرائية النافذة في مركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري المعروف بـ:CRCICA) )، وفي مقره الكائن بالعاصمة المصرية (القاهرة).

وفي الدعوى التحكيمية -التي لم تأخذ أي رقم بسجلات المركز التحكيمي– قدم كل طرف طلباته وأدلته ودفاعه وحججه وشرُوحاته وتفاسيره ووجهات نظره وتعليقاته.  

 

( ب )

حكم التحكيم

 

بتاريخ 22/3/2013م، وفي القاهرة، صدر حكم التحكيم لمصلحة الشركة الكويتية، وفيه تناولت هيئة التحكيم الكثير من الواقعات والتعليلات والأسباب والنتائج، ذُكرت في الحكم بإسهاب ومعالجات استطرادية مُطولة في كل المسائل التي كانت محل نزاع بين أطراف دعوى التحكيم، والمثار أغلبها كذلك في دعوى البطلان المطروحة. ومن أبرز ما أورده حكم التحكيم، وبإيجاز، ما يلي:

إنه لا يمكن اعتبار العقد مصدر النزاع (عقد 8/6/2006م) من العقود الإدارية، بل هو من عقود "البوت - BOOT" الخاضعة للقواعد القانونية التقليدية المنطبقة على العقود المدنية الخاصة. وإنه وفقاً للمعايير الدولية والليبية، فالعقد يتضمن مشروعاً سياحياً استثمارياً ربحياً عربياً (أجنبياً)، فيسري في شأنه قواعد القانون الليبي الخاص بتشجيع استثمار رؤوس الأموال الأجنبية، وكذلك قواعد الاتفاقية "المُوحَدة" لاستثمار رؤوس الأموال العربية التي تعد بدورها جزءاً لا يتجزأ من التعاقد، كما ذكر الحكم أن موافقة ليبيا على التحكيم وفقاً لنظام الاتفاقية، ثابتة في ذات العقد.  

أيضاً، اعتبرت هيئة التحكيم أن عقد النزاع يتسم بطابع حكومي، ومن ثم فقد أجازت الاحتجاج بشرطه أو بنده التحكيمي ضد المحتكم ضدهم: دولة ليبيا، وزارة الاقتصاد الليبية، الهيئة العامة لتشجيع الاستثمار وشئون الخصخصة (سابقاً الهيئة العامة للتمليك والاستثمار)، مصلحة التنمية السياحية، وأخيراً وزارة المالية في ليبيا التي قُبل الحكم إدخالها في دعوى التحكيم كمحتكم ضدها (رابعاً) لكونها هي المُلزمة بصرف المبالغ المستحقة تنفيذاً للأحكام القضائية الصادرة ضد الجهات العامة المُمولة من خزانة الدولة الليبية. قبول هذا الإدخال قد ينطوي على دلالة غير خافية على نحو ما سيبدو.

رأت هيئة التحكيم أن المساعي الودية قد بُذلت من الأطراف قبل تقديم طلب التحكيم دون أن تسفر عن نتيجة توافقية، فالمستثمر الكويتي "المحتكمة" استنفد طرق الحل الودية قبل اللجوء إلى التحكيم. أما من ناحية نطاق الشرط التحكيمي، فقد قررت هيئة التحكيم أن هذا الشرط ينبسط على كافة المنازعات الناشئة عن العقد الاستثماري موضوع النزاع، وأقرت الهيئة كذلك بصلاحيتها واختصاصها بالمهمة التحكيمية الموكولة إليها، ثم انتقلت بعد ذلك إلى التصدي لموضوع الدعوى التحكيمية والبت فيه.  

وتذكر المحكمة هنا، إنه في نطاق استخلاص حكم التحكيم وفهمه واستنباطه للواقع، فقد دوّن في أسبابه أن الشركة المحتكمة لم يكن بإمكانها استصدار التراخيص المتطلبة أو عمل الرسومات والخرائط والتصاميم التفصيلية والجدول الزمني للمشروع، فمرجع ذلك إنها لم تتسلم بالفعل أرضه خالية لتنتفع بها الانتفاع المقصود من التعاقد، كما أن الدولة الليبية المُضيفة للاستثمار مُلزمة –وتابعيها- في كل الأحوال بحماية المستثمر الأجنبي (العربي) وبأن تصون وتضمن استثماره وعوائده على أراضيها دون معوقات أو موانع، لذلك تكون دولة ليبيا هي المسؤولة وحدها عن عدم مباشرة أعمال المشروع المشترك وتحقيق غاياته التنموية الطموحة.

 وبالاستناد إلى استنتاجات واقعية وحجج قانونية ارتأتها، أضافت هيئة التحكيم أن الطرف الليبي المحتكم ضده لم يكن على حق في فسخ وسحب مشروع التعاقد، وأن الاستثمار الحاصل من جانب المحتكمة (المستثمر الكويتي) أُنهِىَّ بشكل تعسفيّ، مماثل للتجميد والتصفية والتدابير الأخرى التي لها نفس الآثار، والتي تحرّمها نصوص القانون الليبي وقواعد الاتفاقية الموحّدة، وهو الأمر الذي يترتّب عليه مسؤولية الأجهزة الليبية المحتكم ضدها.

ولذلك انتهى حكم التحكيم إلى استحقاق الشركة المحتكمة للتعويض عن الأضرار المادية والأدبية المباشرة التي أصابتها من جراء الإنهاء غير القانوني للتعاقد، واستحقاقها كذلك تعويضاً عن الربح الذي فاتها وحرمت منه، بحسب عبارات الحكم: "... من الفرص الضائعة الأكيدة والمُحققة، لو كان مشروع التعاقد قد أكتمل تنفيذه" ، "... صافي أرباح الشركة طوال مدة الاستثمار، 83 سنة فقط".  

وتبعاً لذلك، فقد تضمن منطوق حكم التحكيم إلزام الجهات المحتكم ضدها، بالتكافل والتضامن، بعدد من الالتزامات المالية: أن تدفع إلى شركة الخرافي الكويتية المبالغ الآتية: 30 مليون دولار تعويضاً عن الأضرار الأدبية، 5 مليون دولار قيمة الخسائر والمصروفات "المُتكبّدة"، 900 مليون دولار تعويضاً عن الكسب الفائت، مليون و940 ألف دولار رسوم ومصاريف التحكيم، أي بإجمالي تسعمائة وستة وثلاثين مليون وتسعمائة وأربعين ألف دولار أمريكي، إضافة إلى فائدته بمعدل 4% سنوياً عن إجمالي المبالغ المحكوم بها، ورفض باقي الأقوال والطلبات الأخرى.  

وفي ختام حكمها، وبشكل لافت، فقد استندت هيئة التحكيم إلى نص المادة الثامنة الذي ورد في ملحق الاتفاقية "المُوحَدة" لتصف حكمها بأنه حكماً نهائياً غير قابل للطعن، ويكون له قوة النفاذ بحيث يجري تنفيذه مباشرة كما لو كان حكماً نهائياً قابلاً للتنفيذ دون صيغة تنفيذ، بذات عبارات هيئة التحكيم في حكمها: "... قرار نهائي معجل التنفيذ، نافذاً على أصله، صدر بأغلبية الأصوات، وإنه غير قابل للمراجعة"، هكذا تحدث الحكم عن نفسه، حكم لا رجعة فيه، غير قابل لأي مراجعة كانت.

 

( 2 )

مسار دعوى الإبطال الحاضرة

 

إحالة: حيث أن وقائع الدعوى الحاضرة وعناصرها ومستندات الخصوم ودفوعهم ودفاعهم فيها أحاط بها الحكمان السابق صدورهما من هذه المحكمة في جلسة 5/2/2014م وجلسة 6/8/2018م وحكمي محكمة النقض اللذين سيرد ذكرهما، وتحيل المحكمة إلى مدونات هذه الأحكام معتبرة أسبابها مُكملة لأسباب هذا الحكم ومُتممة له، وبالطبع دون أن تتضمن هذه الإحالة التقديرات والحيثيات والدعامات والنتائج المتناقضة مع أسباب الحكم الحالي أو المعارضة لعماده.

وعلى أية حال، وبكلمات موجزة وبالقدر الكافي لحمل المنطوق، تعرض المحكمة للعناصر الأساسية الآتية:

باعتبار أن مصر هي دولة مقر التحكيم، فقد طعن الجانب الليبي على حكم التحكيم أمام هذه المحكمة بالدعوى الحالية طالباً القضاء ببطلانه. وفي 5/2/2014م، واستناداً إلى أن الاتفاقية "المُوحّدة" لم تتكلم عن أي نظام إجرائي يؤدي إلى إبطال أحكام التحكيم الصادرة في نطاقها وتحت مظلتها، إذ إنها لم تذكر مصطلح أو لفظ البطلان هذا، لا من بعيد أو قريب، قضت المحكمة بعدم قبول الدعوى، وجاء بحكمها تبريراً لقضائها: "... أن التحكيم الخاضع لتلك الاتفاقية وملحقها يعتبر نظاماً قانونياً مستقلاً بذاته، لا علاقة له بأي نظام إجرائي وطني ولو في الدولة التي جرى فيها التحكيم"، وعلى هذا الأساس فحكم التحكيم المطعون فيه، بمراعاة نصوص الاتفاقية، يكون دائماً نهائياً وملزماً ونافذاً، غير قابل للطعن فيه أمام المحاكم، ومن ثم فإنه يخرج بحسب طبيعته هذه عن نظام دعاوى البطلان الوارد في قانون التحكيم المصري رقم 27 لسنة 1994.

طعنت ليبيا بطريق النقض على القضاء السالف الذكر، وقُيد طعنها برقم 6065 لسنة 84 قضائية، وفي 14/11/2015م أصدرت محكمة النقض حكمها بنقض الحكم (القاضي بعدم القبول)، وورد بعماد حكمها الناقض: "إنه ولئن كانت الاتفاقية المُوحّدة -بالتحديد ملحقها- قد حظرت الطعن في أحكام المحكمين الخاضعة لها بطرق الطعن العادية وغير العادية إلا أنها لم تمنع صراحة إقامة دعوى بطلان أصيلة في شأنها، فدعوى البطلان المقررة لأحكام التحكيم لا تعد طريقاً من طرق الطعن بدرجاته المتعارف عليها في قانون المرافعات القضائية، بل هي دعوى أصيلة مبتدأة تعد أداة قضائية (استثنائية وخاصة ومتميزة) لرد حكم التحكيم الذي أصابه عوّار في مقوماته الأساسية مما يستوجب زواله ومنعه من إنفاذ آثاره".

بمعنى أن كل حكم تحكيم جرى في مصر يخضع دائماً، ولو كان دولياً، لنظام دعاوى البطلان وحالاتها وأسبابها ذات الطبيعة الإجرائية الواردة في قانون التحكيم المصري، والتي تهدف ـفي الأساس، وبخلاف الطعون القضائية العادية- إلى مُعاقبة أو مُلاحقة المخالفات الخطيرة الظاهرة في حكم التحكيم المتمسك ببطلانه، وبالتالي وبحسب حكم النقض تكون دعوى البطلان القائمة مقبولة شكلاً، ويتعين على محكمة البطلان لذلك أن تتحقق وتبت في المخالفات المثارة أو المنسوبة لحكم التحكيم وأن تأتي بجواب صريح فيها. وعليه أحال الحكم الناقض القضية إلى هذه المحكمة (كمحكمة بطلان) للفصل في موضوعها -بدائرة أخرى- وفقاً لقانون التحكيم المصري باعتباره الشريعة التحكيمية العامة لكل تحكيم يجري في مصر.

وبجلسة 6/8/2018م أصدرت الدائرة الأخرى (الدائرة 62 ، بتشكيل مغاير) حكمها القاضي بعدم اختصاصها دولياً بنظر دعوى البطلان المطروحة، وفيه صرحت: "أنها بنت حكمها (الجديد) على فهم جديد لواقع الدعوى وأساس قانوني مغاير لفهم وأساس الحكم الأول (حكم 5/2/2014م المنقوض). وأقام الحكم قضاءه على أساس إنه: "طالما أن الدعوى التحكيمية جرت في ظل أحكام الاتفاقية المُوحّدة، فحكمها يكون مُحصناً أمام القضاء المحلي لكل دولة من دول الاتفاقية ولو بدعوى إبطال مبتدأة". مستطرداً، أضاف الحكم: "أن الدعوى الأصيلة ببطلان أحكام التحكيم تعد -بشكل أو آخر- منازعة ناشئة عن تطبيق الاتفاقية التي تُحدد بشكل حصري محكمة الاستثمار العربية كجهة قضائية خاصة بالمنازعات الناشئة مباشرة عن الاتفاقية نفسها، وأن تلك المحكمة الاستثمارية التابعة لجامعة الدول العربية هي محكمة إقليمية دولية مستقلة، منقطعة الصلة بالأنظمة الإجرائية الوطنية بما في ذلك كل نظام تحكيمي وطني، وبهذه المثابة فإن دعوى البطلان تخرج عن ولاية القضاء المصري ونطاق اختصاصه الدولي.

للمرّة الثانية سلكت ليبيا طريق النقض، فطعنت على الحكم السابق (حكم 6/8/2018م) بالطعن رقم 18615 لسنة 88 قضائية، وبتاريخ 10/12/2019م قضت محكمة النقض بنقضه كلياً، وفي حكمها أظهرت القاعدة التي تقضي بأن: "موضوع الاختصاص -بصوره المختلفة- يعد أمراً مطروحاً دائماً على محكمة النقض ولو لم يرد بشأنه نعي خاص به، وحكم النقض السابق (حكم 14/11/2015م) يتضمن بالضرورة، وكمسألة قانونية محسومة بقضاء فاصل وقاطع، اختصاص محكمة استئناف القاهرة بنظر دعوى بطلان حكم التحكيم المطروحة". لذلك قرّن حكم النقض (الثاني) قضاءه الناقض بالإحالة مرة ثانية إلى هذه المحكمة للفصل في موضوعها بحكم جديد، أي بالتصدي للأسباب التي أقيمت عليها دعوى الإبطال.

بصدد هذه الإحالة (الثانية) أشار الحكم إلى إنه ولئن كان القانون يُلزم محكمة النقض إذا كان الطعن أمامها للمرة الثانية أن تحكم في الموضوع إلا أن التزامها بذلك لا يقوم أصلاً في حالة نظر الموضوع على درجة واحدة، فمحكمة الاستئناف القاهرة -التي تُطرح أمامها بحسب الأصل دعاوى بطلان أحكام التحكيم ابتداءً ومباشرةً- لم تستنفد ولايتها في الفصل في موضوع الدعوى بالبطلان، فقد اقتصرت في حكميها عند حد الوقوف على المظهر الشكلي، عدم قبول الدعوى ثم عدم الاختصاص بها، ولم تتجاوز النظر فيما عدا ذلك.

وقام الطرف الليبي بتعجيل دعوى البطلان -للمرة الثانية- حيث أُعيدت إلى الحياة واستأنفت سيرها من جديد، ونُظرت أمام هذه الدائرة (التجارية الأولى) بجلسة 2/3/2020م وفيها حضر الخصوم وقدموا مستندات ومذكرات عدة تمسكوا فيها بأوجه دفاع لا تخرج في جوهرها وفحواها عما سبق أن قدموه أو استندوا إليه من أدلة واقعية وحجج قانونية طوال مراحل التقاضي (صفحات بعد صفحات وأوراقاً بعد أوراق)، لذلك قررت المحكمة النطق بالحكم في الدعوى بجلسة اليوم مداً، وبعد المداولة أصدرت حكمها هذا.

 

( 3 )

الــمحـكـمـــــة

 

وحيث إنه في القانون المصري، فوفقاً لأحكام دعوى بطلان أحكام التحكيم التي هي الضمانة الكبرى المرتبطة بمصالح أطرافه، وبحسب طبيعتها، فلا شأن لقاضي البطلان بالنتيجة التي خلص إليها حكم التحكيم، كما إن أخطاء الحكم المتعلقة بعيوب في التقدير بالنسبة لعناصر الواقع أو بمخالفة القانون لا تجعله بالضرورة موصوماً بالبطلان، وبطبيعة الحال لا يجوز للخصوم إعادة الجدل في عناصر النزاع الموضوعي أو إعادة طرحها من جديد على محكمة البطلان لمراجعتها. ولا يملك القضاء تصحيح أو إتمام النتائج التي أثبتها المُحكم أو رد الأمور إلى نصابها أو أن يقوّم أو يصحح ما يكون في حكم التحكيم من عوّج. ومع ذلك كله، وعلى الرغم من قوامه وكيانه الاتفاقي الذاتي والمتميز، فإن لنظام أو طريق التحكيم من الأطر التحكيمية الكلية والقواعد المبدئية "العدلية" التي توجبها الفطرة وتفرضها حقائق الأشياء ما يحول دون إساءة استخدامه بما يُخرّجه عن وظيفته وحدوده المنطقية المشروعة، فالتحكيم نظام قانوني لا نظام مطلق، لذلك فإن جاوز حكم التحكيم ضوابط التحكيم وأطره الجوهرية أو عطلها، فلا يكون الحكم مستحقاً للحماية المقررة له، وبالتالي فلا يكون مُحصناً. فغير مسموح للمُحكم أن يتحرّر من أي ضوابط قانونية أساسية أو أن يهدر مبادئ عدلية جوهرية أو أن يتحلل من الضمانات والواجبات السلوكية واجبة الصيانة، أو أن يخترع شيئاً من لا شيء.

لذا، فلا يُحرم قاضي البطلان ـ عند مُخاصمة حكم التحكيم - من أن يمر على أسباب الحكم فاحصاً إياها، بعناية وفهم ويقظة ودراية، سبيلاً إلى استظهار واستبيان مفترضات المطاعن المثارة في شأنه والتي قد تؤدي –حسب ظهورها الواضح الصريح وتأثيرها الجسيم- إلى إبطاله. ومن زاوية النظام العام، فيحق للقضاء دائما التدقّيق والاستيثاق يما إذا كانت معايير المُحاكمة التحكيمية (النزاهة الإجرائية) قد تم الالتزام بها أو إنها أُهدرت بشكل جوهري، خطير وواضح. وكذلك يملك القضاء تقدير عما إذا كان الحكم قد تضمن -في أسبابه المؤثرة في محصلته أو في منطوقه- عدواناً، حقيقياً وواضحاً، على قواعد النظام العام، تلك ذات الأصول اليقينية الثابتة، من عدمه. وتندرج تحت هذه القواعد بطبيعة الحال القواعد الأولية الضرورية التي تلازم ضوابط ومعايير العقل وتفرضها حقائق الأشياء، فهذه لا يجوز للمُحكم أن يتجاوزها أو يهدرها أو يتجاهلها على نحو مفرط. هكذا، وفي حدود قانونية محُدودة وضيقة، يقول قضاء البطلان كلمته في شأن حكم التحكيم، إبطاله أو رفض دعوى إبطاله. وفي كل الأحوال، ورغم مرونة الضوابط القانونية والشكلية للشأن التحكيمي، قياساً على الضوابط الصلبة أو الخشنة المتصلة بالشأن القضائي، فإنه لا يمكن للمُحكم أن يتمتع بسلطة كاملة ومطلقة لا قيد عليها ولا عاصم من جموحها أو انحرافها. في نطاق تبعات ودلالات قواعد النظام العام، أوامره ونواهيه، وموازينه العصرية التي استقرت حقيقتها، لا يتبوأ كل حكم ولو كان تحكيمياً صدارة ما، فليس له ـكغيره- مصدر قدسي. فالتحكيم ليس مقصوداً لذاته، ولا هو مزّية يتحرر فيه المُحكم من كل قيد.

في مجال المسؤولية المدنية، فالحكم بالتعويض يعد أمراً مرهوناً لزوماً بوقوع الضرر، وبحيث يتم تحديد مقدار التعويض بقدر يتناسب مع الضرر، أي متكافئاً عقلاً مع الضرر ومناسباً لجبره، ويقاس الضرر بمعايير أو أسس موضوعية تأخذ في الاعتبار الظروف الواقعية المُلابسة. يمثل مبدأ التكافؤ أو التناسب في تقدير التعويض قاعدة ثابتة من قواعد النظام العام المشتركة التي لا يجوز التفريط فيها لارتباطها الوثيق بمصالح وحقوق الأفراد واحترام توقعاتهم المشروعة، فيحق للقضاء أن يستظهر ـدون بحث موضوعي أو تعمق- مدى احترام حكم التحكيم لمبدأ التناسب هذا، بحيث يمكن إبطال الحكم، أو رفض تنفيذه، إذا كان متضمناً ـبوضوح وبشكل ملموس بارز- تعويضاً مجحفاً، ظالماً ظلماً شديداً، يتجاوز الضرر بشكل فادح، غير ملائم وغير قابل للتعليل بالمرة. وعموماً، فالتعويض -أيا كان وفي إطار توازن المصالح على اختلافها- يجب أن لا يتعارض في مداه مع مقتضيات العدالة وروح الإنصاف، وإلا تمخض إلى فوضى وعدوان، وبالتالي فإنه لا يوجد تعويض بلا قيد أو سقف أو حاجز، وإلا صار لغوا عبثيا، فعلا تحكمياً تسلطياً، منهي عنه في كل قانون.

ولأنه من غير المتصور أن يصبح العلاج أسوء من المرض، كما أن الضرر لا يُدفع بضرر مثله. لذلك يعمل كل قانون على إرساء قاعدة عدالة التعويض. المادة التاسعة من الاتفاقية "المُوحّدة" لاستثمار رؤوس الأموال العربية ذاتها حرصت على صون وتوكيد هذه القاعدة، فقضت في صلبها على وجوب أن يكون التعويض المستحق للمستثمر العربي تعويضاً عادلاً يتناسب مع الضرر. هذا ولئن كان جبر الضرر هو مضمون الحق في التعويض والغاية المستهدفة منه، فإن الخروج عن الحدود الموضوعية المنطقية العاقلة لهذا الحق قد يُوصف بكونه سلوكاً شاذاً أو عملاً خارجاً أو فعلاً كيدياً أو حكماً منحرفاً، غير مشروع.

وإعمالاً لقاعدة قانونية أساسية ومشتركة، فمن غير الجائز ممارسة الحقوق لأهداف خارجة عن تلك التي أُعطيت لحمايتها، أي أنه ليس من المقبول ممارسة الحق أو استخدامه على نحو ينافي مقاصده، بحيث يصبح ـفي ظل الظروف والحقائق المُحيطة- مخالفاً لأغراضه المنطقية، أو متجاوزاً لعناصره ومتطلباته. هنا يصبح القانون ذاته (استعمال الحق) خارجا على القانون. بعبارة أخرى، فمن الأصول التي تقوم عليها فكرة القانون يوجد مبدأ يحظر التعسف في استعمال الحقوق، بحيث لا يجوز ممارسة حق ما لأغراض غير تلك التي أنشئ من أجلها، فعندما يُستعمل الحق القانوني أو يُطبق بشكل مختل، متجاوز الحدود الموضوعية المعقولة، أي على وجه غير مناسب بالمرّة "متهوّر"، فإن هذا الاستعمال غير الجاد للحق (بالنظر إلى غايته المقصودة في ضوء الحالة الفردية المثارة) يكون فعلاً محرماً فاقداً للمشروعية، لا يحميه القانون، فقبل كل شيء، لا يمكن للحق أن يناقض نفسه أو روحه وفحواه.

عند الكلام في القانون في مُجمله، فهناك مبادئ عليا حاكمة، لا يمكن التلاعب في جوهرها أو معناها لأنها تسمو في مرتبتها على كل قانون ولو كان مكتوباً. تأكيداً وتوطيداً لحقوق الإنسان ولقيمة العدل -الذي تزهو به الأمم- وأطره ومفاهيمه، فإن المبدأ الهادف إلى درء الظلم الجسيم والفاضح الذي يرفضه العقل القويم ـدفع المضار- يعتبر أصلاً ثابتاً سارياً في كل زمن وعبر كافة الدول، فمثل هذا الظلم الشديد يجب أن يذهب، ودرئه ليس مجرد تكليف ديني أو أخلاقي سلوكي وإنما يعد، فوق ذلك، التزاماً قانونياً من المتعين مراعاة توجيهاته وتوكيد معناه.

بقوة شواهد الواقع والمقاييس العقلية، فهناك دائما، عند الفصل في كل نزاع، حدوداً حيوية توجبها الفطرة وتفرضها حقائق الأشياء، غير مسموح بتخطيها أو الإطاحة بها، ولا يجوز إغفال تجاوزها الفاضح، وإلا تصادم ذلك مع مفهوم الحق في مُحاكمة عادلة مُنصفة، تلك التي تكفلها وتحميها، نظرا لأهمية المصالح المرتبطة بها، المواثيق والدساتير. مُحاكمة مُحايدة، نزيهة، مُتكافئة، وفقاً لوسائل وضمانات قانونية وضوابط منطقية مبدئية تُوفر في نهاية مطافها حلاً مُنصفاً أو ملائماً أو متوازناً لحقوق الأفراد المتنازع فيها.

ووفقاً للمفاهيم المعاصرة وعلى نحو قاطع، فإن فهم وتفسير وتطبيق القانون يخضع لضوابط عدالة واجبة، معايير دنيا للإنصاف، يتعين بالضرورة أخذها في الحسبان وتفعيلها دون أي انطباعات أو تحيزات مسبقة. فالقانون ليس بعيداً عن العدالة ولا العدالة منقطعة عن القانون، بل إن الرابط بينهما صلات وأرحام. فتوجد دائما توجهات عدالة لازمة وضرورية متصلة بالواقع تندرج تحت حدود وأقيسة عقلية منطقية -شأنها في ذلك شأن القواعد القانونية جميعها- تنبه وتوجه في زمن مُحدد وبيئة واقعية مُعاشة. وقد ذهب الفلاسفة القدماء إلى أن البحث عن الحقيقة في القانون يعني البحث عن العدل لأن العدل هو الذي يمثل حقيقة القانون وجوهره، وعليه فإن تطبيق القاعدة القانونية أو فهمها وتفسيرها، على الواقع العملي، يلزم أن يكون ممزوجاً بموجبات عدالة محل اعتبار دائم.

حقيقة الأمر إنه إذا لحق بقاعدة الدين أو قاعدة الأخلاق جزاءً وضعياً يُوقعه القضاء، فإن هذا يعني أنها صارت قاعدة مزدوجة الصفة، وجزاؤها الوضعي إنما يترتب باعتبارها قاعدة قانونية صرّفة أو واجب قانوني مُلزم لا باعتبارها قاعدة دينية أو قيمة خلقيّة نبيلة ومطلوبة. وعلى أية حال فإن مبادئ القانون الطبيعي القائمة على أسس العدالة المتطورة والمرنة ـالتي تدخل في مُكونات كل قانون- هي المصدر الأساسي أو المعيار الذي يتم الالتجاء أو الإشارة إليه عند تحديد نطاق قواعد النظام العام الدولي، ذلك الذي يتجاوز الحدود القانونية والثقافية الإقليمية. وبحيث يعد المساس الفاضح لمفهوم العدالة -في حالات بذواتها- ظلماً جسيما غير مغتفر، ومن ثم ينبغي استبعاد العمل أو الفعل أو التصرف القانوني أو الحكم المُنطوي عليه وإهداره، فالعدل يحظى بأسبقية وسمو على غيره، فله دائما مركز الصدارة. قيل، في زمن فات، إن العدل ذاته هو المحرك "الثابت" للتشريعات الوضعية المتغيرة. وقيّل أيضا، إن غريزة الإحساس بالعدل -مفتاح ارتقاء الدول- تجعل الجمهور حريصاً على فكرة أو مظهر العدالة والجهر بها حتى في مهازل المسرح.

بالعودة إلى حكم التحكيم، فالأمر البارز فيه –يقفز إلى العين- يتمثل في ضخامة مبالغ التعويض المحكوم بها، نحو مليار دولار أمريكي. بالنظر إلى الصورة الكلية أو الإطار العام للنزاع التحكيمي ومظاهره وعناصره الواقعية، فإنه يمكن وصف هذا التعويض بكونه تعويضاً عاصفاً غير مُبرر بالمرة، مخالف لطبيعة الأشياء، ما كان في الوسع توقعه عقلاً وقانوناً، فقد أنبنى التعويض على معطيات نظرية وتصورات مجردة، بلا واقع يسنده. بداية تكتفي المحكمة في هذه الفقرة بأن تشير إلى ما سجله حكم التحكيم نفسه، فالكتاب المؤرخ 23/8/2012م المعتبر كصحيفة دعوى التحكيم أو مفتاحها والصادر عن المحامي الوكيل عن شركة الخرافي المحتكمة (الأستاذ/ ............)، فقد ذكر فيه أنه سبق لشركته أن عرضت على هيئة التمليك والاستثمار الليبية عدة خيارات، من بينها: "... أن تدفع -تلك الهيئة- للشركة خمسة ملايين دولار أمريكي وهو ما يمثل فقط جزء من خسائرها وتنتهي العلاقة بين الطرفين"، هذا هو مقدار التعويض الذي ارتضت به المحتكمة بداية، مبلغ خمسة ملايين دولار، أو ما يزيد عنه قليلاً. ثم أخذ التعويض يمتد ويتصاعد في تلاحق دراماتيكي، فخلال دعوى التحكيم عادت الشركة ورفعت مقداره أكثر من مرة، بداية من 55 مليون دولار لتصل إلى حوالي مليار و144 مليون دولار ولتستقر في طلباتها الختامية إلى طلب ما يزيد على مليارين و55 مليون دولار تعويضاً لها عن إنهاء المشروع المعطوب. هذا السلوك الصادر عن المحتكمة- بإشاراته الموحية التي تستدعى الانتباه بشدة- يعد فعلاً يشبه السخف بل هو السخف ذاته. ومع ذلك، فقد ساير حكم التحكيم سخف المحتكمة وانقاد إليه وتعامل معه بجدية ـوبمنطق عاجز وحجج واهية سقيمة- فصار لذلك حكماً سخيفاً عبثياً، يتسم بالقسوة المُفرطة، يؤذي العقل والقانون ومدلول العدالة والإنصاف، جميعاً.

والأمر الذي يستوقف النظر بشكل لافت، أن هيئة التحكيم ذكرت في سياق حكمها ـ بحماس وبغير تردد ولا حرج ـ أن قناعتها الشخصية وسلطتها التقديرية تذهب بها (رأي الأغلبية) إلى أن قيمة مُعدل الخسارة التي لحقت بالشركة المحتكمة من جراء "الفرص الضائعة والأكيدة والمُحققة" -بسبب الإطاحة بالمشروع الموعود- هو مبلغ يجاوز المليارين من الدولارات، وهو أكثر عما طالبت به المحتكمة. هذا هو جماع عقيدتها، ولكنها (الأغلبية) لم تتردد في استعمال الرأفة، وذلك بعد استماعها إلى مرافعة المحامي القدير (الأستاذ الدكتور/ ................) الحاضر عن الطرف الليبي "الدولة الفتية التي عادت بقوة بعد الثورة"، هكذا تحدث الحكم. مع الرحمة التي هي فوق العدل، استعملت هيئة التحكيم سلطتها التقديرية فنزلت بالتعويض عن عنصر الكسب الفائت وحده ليصير فقط تسعمائة مليون دولار (وفوائده). هذا هو إذن لُب وصميم الحكم المطعون فيه.

بحسب ما ساقه حكم التحكيم من مُقدمات وتعليلات، سوف يأتي ذكرها لاحقاً، يظهر -بإحساس قانوني يُصعب تجاهله- أن تقدير الحكم للتعويض السالف الذكر يتسم بالتعسف والغلظة والإسراف الشديد في مداه، يخرج عن حدود كل معقول، ويشكل انتهاكاً ظاهراً وخطيراً لجوهر مبدأ التكافؤ أو التناسب بين مقدار التعويض وبين الضرر، مهدراً بذلك وبصورة تحكُمية، الحقوق والمركز القانونية المتصلة بالدعوى التحكيمية بما يمثل إخلالاً بالضمانات المشروعة ـحقاً وعقلاً- للمُحاكمة المُنصفة العادلة. فقد أفرغ الحكم قاعدة التناسب هذه وجردها من مضمونها الهادف إلى تحقيق العدالة -ولو في حدودها الدنيا- لا إلى الحرمان منها. بوضوح، وبشكل تعسفي أيضاً، فقد مسخ الحكم مضمون الحق في التعويض في أصله ومحتواه وحقيقة مرماه، فتجاوز نطاقه ومتطلباته ومقاصده وخواصه المُنصفة المُلائمة، ففقد التعويض مقوماته ومغزاه، وبالتالي يصير من الظلم احترام الحكم الذي قرر تعويض مُعيب هكذا شأنه، أو حماية آثاره.

من القواعد التي تقوم عليها القوانين، إنه من المُتعين أن يكون التعويض جابراً ـبقدر الإمكان أو المستطاع- لكل ضرر أصاب المضرور (الدائن بالالتزام) بحيث يشمل ما لحقه من خسارة وما فاته من كسب، بشرط أن يكون هذا نتيجة طبيعية لعدم الوفاء بالالتزام (أو فعل الخطأ). هذا ولئن كان يجوز للمضرور المطالبة بالتعويض عن ضرر مادي مستقبل محقق الوقوع، فإنه يوجد كذلك ما يُعرف بالتعويض عن تفويت الفرصة في الكسب أو المنفعة أو الربح، الذي هو في حقيقة أمره تعويضاً عن ضرر مادي مستقبل لا يوجد ما يمنع من النظر فيه وحسابه كعنصر من عناصر التعويض المحكوم به. ويقال في ذلك إن الحرمان من الفرصة حتى فواتها هو ضرر مُحقق ولو كانت الإفادة منها أمراً محتملاً. بعبارة أخرى، فإذا كانت فرصة الكسب أو الفوز أمراً محتملاً، فإن "تفويتها" على المضرور هو أمر (أو ضرر) مُحقق قد يقتضي الحكم له بالتعويض. هنا ينصب التعويض عن "تفويت" فرصة الكسب وليس عن الكسب أو الضرر المستقبلي المؤكد تحققه. فهذه "الفرصة" هي فقط القدر المُوكد من الضرر الناتج عن فوات الفرصة، بحيث يراعى في تقديره -كأحد أوجه الخسارة- مُجمل الأوضاع التي تُرجح إلى أي حد كان الاحتمال في الكسب أو فرصة النجاح والربح المحتمل (غير المؤكد) كبيراً أو صغيراً أو تافهاً هزيلاً أو غير موجود بالمرة.

اتصالاً بذلك، فمن الأهمية بمكان، عدم الخلط بين التعويض عن الضرر المباشر المُحقق الوجود في المستقبل وبين التعويض المالي عن ما يُسمى بالكسب الفائت المُحتمل، فهذا الأخير لا يكون عن ضرر سيقع حتماً في المستقبل، بل إنه ينبني عن فوات فرصة وقوعه، فهناك فرق جوهري بين التعويضين، فهما أمران مختلفان، ولكل منهما نطاقه وضوابطه الحاكمة. فالكسب الفائت الناتج عن فوات الفرصة، ليس ضرراً مؤكداً أو أمراً محتوماً، بل إنه مقرر فقط، عن تفويت "الأمل" في الربح، وباعتباره عوضاً عن ضياع الأمل في الكسب لذلك يتعين دائما الأخذ في تقدير التعويض عنه جانب الحيطة. فالأمل في احتمال النجاح هو وحده القدر المُحقق من الضرر عن الربح الفائت، لا أكثر ولا أقل. ومن المنطقي والحال هذه، فإنه يجب للحكم بالتعويض عن فوات الفرصة وجود مبررات واقعية ودلائل كافية تُبرزه وتُرجح احتماله، أي أن يكون التعويض عنه قائماً على أسباب ودعامات معقولة، كاشفة وظاهرة لا يمكن إنكارها. فهذا النوع من التعويض لا يقوم -وبالتالي لا يُحكم به- على مجرد أحلام خضراء ورؤى وتطلعات مُرسلة، أو أوهام مُتخيلة، فهذه لا يُعوض عنها.

في ظهور فاضح، خالف حكم التحكيم النظر القانوني المتقدم، فقام بتقدير التعويض عن الكسب الفائت -الذي يمثل العمود الفقري من جسم الحكم وعصبه- لا بحسبانه تعويضاً احتمالياً عن ضياع الأمل في فرصة الكسب وإنما باعتباره تعويضاً أكيدا عن ضرر فعلي كان سيقع حتماً في المستقبل. هذه المخالفة الخطيرة للقانون، فهمه وتأويله وتطبيقه، قادت الحكم وجرته إلى مزالق لا قاع لها، إذ أودت به إلى الوقوع في شطط -يشبه الفوضى- لا يمكن قبوله، بحيث تمتد إليه بالضرورة -كملاذ أخير- الرقابة القضائية، رقابة البطلان. فالمبلغ المحكوم به للمحتكمة عن الكسب الفائت، على ضوء ما أحاط النزاع من ظروف مُلابسة، يعد بكل مقياس قانوني عدلي تعويضاً ظالماً ظلماً صارخاً مبالغاً فيه على نحو مفرط، اصطناعي، غير منضبط أو متوازن بالمرّة. فعلاقة العلة بالمعلول التي هي دعامة كل تعويض، كانت منتفية، فالضرر المحكوم بالتعويض من أجله كان متوهماً، منتحلاً، مجردا بغير واقع، فانحل عدواناً على الحقوق المتنازع بخصوصها حول المشروع المعطوب. بحسب الأصول القانونية المحسومة في النطاق الدولي وبشكل عام، فإنه يجوز إبطال حكم التحكيم، أو عدم تنفيذه عند الاقتضاء، وذلك إذا كان معيباً بعيب الغش والاحتيال أو في الحالات التي يثبت فيها مخالفة هيئة التحكيم لأبسط مفهوم من مفاهيم العدالة المستقرة، المعايير الدنيا للإنصاف، موضوعية كانت أم إجرائية.

من أجل صون الحقوق وحمايتها، وبحسب حقائق الطبيعة، فهناك دوماً لوازم منطقية وضابطة، متصلة ومرهونة بيقظة العقل الإنساني، قواعد عقلية عدلية، موجهات عليا (معايير إنسانية إيجابية ومشتركة) لا يجوز تغييبها أو استبعادها أو مراوغتها، فهي لا تهيم أو تعمل في فراغ كقوالب صماء، بل إنها في حقيقة الأمر جوهر حُكم القانون، تملك طابعها الواقعي الحيوي لأنها تتصل اتصالاً وثيقاً ومستمراً بسياق الواقع القانوني الذي لا خفاء فيه، متداخلة فيه ومتفاعلة معه. بحسب منطق الواقع المطروح وقوة الظروف المُحيطة والكاشفة، وموجبات الإنصاف، فإن الكثير من هذه اللوازم العقلية كانت غائبة عن الحكم المطعون فيه. انطوى حكم التعويض على غُلو وإفراط شديدين، غلو يأباه العقل وإفراط لا يقره قانون، بما هدد كيانه، فالعدل فيه كان مفقوداً على نحو صارخ، فصار لذلك مسكوناً بالبطلان.

ومن القواعد الراسخة، إنه لا يسمح لأي شاهد أو خبير أن يعطي رأيه في استنتاجات قانونية أو أن يحدد قانون الدعوى، فإنه ليس من العسير على المحكمة إدراك أن تحديد قيمة التعويض عن الكسب الفائت قد أُقيم وترتب على أساس فاسد، استمدته هيئة التحكيم (الأغلبية) من تقارير خبرة حسابية صادرة عن عدة مكاتب مالية ارتكزت في تحصيل نتائجها على معلومات وبيانات ورقية مُعدة ومجهزة سلفاً مُقدمة إليها من جانب المحتكمة وحدها، مصحوبة بأماني طموحة طيبة. تقارير بغير جذور، منفصلة عن الواقع والقانون، مرسومة بأقلام في لوحة فارغة. مجرد حسابات معيارية ورسوم بيانية ونبع نقدي متدفق وأرباح تتوالد وتتعاظم طوال مدة الامتياز الاستثماري (عقوداً بعد عقود من السنين، وملايين وراءها ملايين من الدولارات) وذلك باعتبار أن هذه الأرباح أضراراً مباشرة (صافي أرباح مستقبلية محققة الوقوع "ككسب الفائت"). أرقام خبرة مبنية على فرض جدلي "متوهم" بوجود المشروع السياحي المتفق عليه، قائماً ومتكاملاً وجاذباً بالفعل للزبائن، كائناً مزدهراً نابضاً بالحياة أو أنه ثمرة خصبة مُكتملة النمو تُستغل ومُولدة لأرباح متتالية، وباعتقاد أن هذه الأرباح "المتوهمة أو الزائفة" تمثل تعويضاً مستحقاً عن ضرر مستقبلي محقق الوقوع، كان سيقع حتماً.

الأمر الذي يمكن إدراكه بيسر، أن هيئة التحكيم اتكأت على عالم من الأرقام والنتائج التجريدية -مُستنبطة من أوراق صماء- دون نظر في تحصيل الواقع المادي المؤدي إليها والتثبت قانوناً من صحته، فقد أعتمد الحكم على نتائج خبرة تناقض المنطق العادي للشخص العاقل العادي، فهناك فرقاً بين المجرد الأصم وبين الواقع الحي الملموس والفعال الذي لا يمكن تجاهله. والمُحكم، مثله هنا مثل القاضي، مُلزم بفهم الواقع المادي للدعوى التحكيمية فهماً قانونياً، وذلك بحسبان أن الواقع لا يتصور إلا مختلطاً بالقانون، غير منفك عنه. انساق حكم التحكيم وأستند، دون بصيرة وفي خرق جسيم للقانون وتشويه واضح للواقع، إلى قوالب نظرية معيارية وأرقام ربحية تولدت عن افتراضات ومُقدمات غير صحيحة، خاطئة غير صادقة، مؤسسة على ظن أو افتراض مُصطنع قوامه أن مشروع النزاع حي يتنفس ويلاقي رواجاً، ويدّر ربحاً متدفقاً يتعين حمايته وتأمينه وتوكيده، ومن ثم الحكم به.

وذلك في حين يؤكد الحكم نفسه، في أسبابه وتحليلاته، أن المشروع المأزوم لم يبدأ تنفيذ أي من خطواته الرئيسية، بل اقتصر فقط على مجرد تحضيرات وتصورات بلا دفع أو حركة، فظل عقد الاستثمار سلبياً محضاً، بلا جسد مادي، ولا روح. بملابسات سياق الواقع الظاهر، فمشروع النزاع ظل مجرد أرض قلقة مضطربة (قانونياً وواقعياً) بلا تسليم هادئ أو تراخيص أو تمويل مالي يذكر، وحالة أشبه بالسكون لا أكثر. يكاد يكون مشروعاً ورقياً إلا قليلاً، مُعاقاً خامداً بلا إشعاع أو بريق أو صيّت. قطعة أرض مقفرة لا تدر زرعاً أو عائداً أو ربحاً، ومتنازع حولها، مع سلسلة متصلة من العقبات والعوائق والشكاوى والاعتراضات والاجتماعات والمساعي المتبادلة، ومحاولات ودية عليلّة ومُعادة ومُملة، هكذا جرت الأمور، بحيث يمكن اعتبار أن المشروع ومنذ بدايته كان مخنوقاً، عقيماً، خائباً، غير مرحب به أصلاً. فللربح معطيات، وأدوات مادية، ومرتكزات علمية، ومحيط مناخ استثماري ثابت وصحي ومعتدل، لا سبيل لفصلها عنه (الربح).

ومن الإشارات المتوفرة للكافة والمعلومة بالضرورة والتي تكشف عن نفسها بغير حاجة إلى جهد عقلي مميز، فالاستثمار موضوع التحكيم انصب على نشاط سياحي طويل الأمد في بلد انفرط عقده، معزول ومشتبك ومُرهق، غير جاذب للسياحة في الأصل، مقطوع الأوصال لا يُعرف ما سيكون عليه مصيره وما ستؤول إليه أوضاعه المُعقدة. هذه المخاطر المصاحبة للواقع والقانون تؤدي عقلاً ووفقاً لطبيعة الأشياء إلى اختناق كل استثمار سياحي وجعله عديم الجدوى، بغير عافية أو أمل في جني أي ربح. هذه الحقائق الواضحة ـبالغة الأهمية- لا يمكن إغفالها ولا سبيل إلى توقيها في المستقبل المنظور، سواء بالنسبة لطبيعتها أو مداها. وعلى الرغم من سعة مدوناته وتفصيلاته المتكررة بإفراط، فقد أهمل حكم التحكيم هذه الشواهد الظاهرة -مع تزامنها وصدوره- إهمالاً تاماً رغم ارتباطها ارتباطاً منطقياً ومباشراً بالحل الذي أعتمده الحكم، فلا يتصور قيام هذا الحل إلا بها، أي بوجوب مراعاتها، هذا ما تمليه بالضرورة قواعد القانون ومقتضيات العقل. وبجملة واحدة: بحسب الظروف الظاهرة، فليس غريباً القول بأن الشركة المحتكمة نجت بالفعل من شر "ضرر" مُحيق، وأفلتت -دون قصد منها- من شباكه. فالحقائق تصنع واقع الحياة، ولو كانت سياحية استثمارية.

ومما هو واضح أيضاً، فعلى الرغم من المحاولات الدائبة التي سعت إليها المحتكمة من أجل البدء في تنفيذ المشروع الموعود، فقد انكفأ المشروع دون إنماء وتاه بلا أمل، بسبب اصطدامه بواقع ليبي ُمعاكس، بيروقراطية ثقيلة أو قلة تبصر أو عناد أو فساد أو شلل إداري، أياً ما كان من الأمر فقد ضاع المشروع وتعثر وأُحبط في مهده. ومعنى هذا ببساطة أن القواعد والمعايير ونتائج الكراسات الحسابية الصرّفة التي تضمنتها تقارير الخبرة، تلك المتصلة بالضرر الاقتصادي الناتج عن الكسب الفائت، لا يمكن أن تعني شيئا في الواقع القانوني المطروح. ومع ذلك وبغير يقظة ـوبفهم سطحي إلى حد معيب- عولت هيئة التحكيم على هذه الأرقام -موطئاً وسنداً لحكمها- رغم إنها مبنية على تكهنات فرضية، تجريدات تخمينية خادعة تناقض الظروف التي رافقت المشروع ولابسته، مجرد طبل أجوف لا معنى له. أذعن الحكم إلى نتائج عشوائية غير مُعللة قانوناً وعقلاً، تخرج بالتأكيد عن المفهوم الصحيح لمعنى الضرر أو الربح الناشئ عن فوات الفرصة، هدم الحكم بغير تحفظ أو احتياط معنى فكرة التعويض، مقصده وغايته، فتمخض عقاباً قاسياً، مخالفا لطبيعة الأشياء. في هذه الحال يمكن وصف الحكم بالتعويض عن الكسب الفائت بحسبانه مظهراً مادياً لا غير، سخفاً لا معنى له، ليس له من الدّب غير جلده، إن صح القول.

هذه الأمور الواقعية السابق ذكرها، المُوحية بصورة لافتة قوية، تعدها المحكمة نقطة حيوية، حاكمة وفاصلة، بالغة الأهمية بصدد اعتبار التعويض المحكوم به كتعويض عن الكسب الفائت قد جاوز حدود المعقول والأغراض المقصودة منه، ليصير تعويضاً جائراً ظالماً، سيئاً وعاصفاً ومزعجاً، مجرداً من كل مقومات وجوده، مهدراً في ذاته المقاصد القانونية لأطراف التحكيم، وما يتصل بها، بسبب إخلاله بضمانات الأمان القانوني الذي هو غاية يستهدفها ويكفلها كل مشرع. هذا التجاوز الجائر، كان مؤثراً في بنيان حكم التحكيم بأكمله ومتصلاً بمنطوقه اتصالاً حتمياً، يمكن إدراكه بسهولة بمجرد قراءة مدوناته بعناية، بغير حاجة إلى تدقيق أو بحث واقعي مُتعمق، ودون عُسر أو تمحيص. وإذ استبان للمحكمة أن التعويض المحكوم به كان بيّناً فاحشاً لا يجوز التسامح بشأنه، فإن رد الحكم المطعون فيه يصير متعيناً. فلا يجوز أن يتمتع الحكم الذي أتى بتعويض كهذا بحماية ما.

فلا حصانة لكل سُلطة طليقة تحكمية -ترمي شباكها حيث تشاء وترغب- أو مُفرطة في الشدّة، بخاصة عندما تتمخض شططاً مجافياً لمفهوم العدالة وحدودها المنطقية، إذ لا يصح -تحت ستار السلطة التقديرية أو تمسحاً بها- خرق القيم العدلية أو فصل الأصول القانونية عن الأغراض المقصودة منها أو اقتحام بنيانها والحدود المنظمة لها. من الجلي إذن، أن هيئة التحكيم فشلت في أداء الواجب الذي يقع على عاتقها بمراعاة الأصول القانونية والأطر العقلية الثابتة، ومسخت قواعد قانونية جوهرية كانت مؤثرة في حكمها، ولم تلتزم بحدود القيود والضمانات الحيوية التي تقتضيها تبعات ومستلزمات المهمة التحكيمية الموكولة إليها، تلك التي لا يستقيم بدونها الحق في المُحاكمة المُنصفة، ولا يكتمل ويصان إلا باحترامها. وعلى ذلك يكون حكمها المطعون فيه موصوماً -بقوة- بالانحراف في استعمال السلطة "التحكيمية"، وبتجاوزها.

وتجدر الإشارة هنا إلى إنه عند الكلام عن عناصر الضرر، يعرض علماء القانون المثال التالي: إذا دُفعت امرأة حامل، فإن سقوطها قد يؤدي إلى إصابتها بأضرار تستحق التعويض عنها، ولكن لا يدخل في حساب هذه الأضرار احتمال إجهاضها مادام ذلك لم يحدث فعلاً. ويأمر كل نظام قانوني، في حال الحكم بالتعويض، بعدم إغفال المُلابسات الظاهرة والحقائق الواضحة، فلا يجوز استبعادها أو تهميشها، سواء تعلقت بالزمان أو المكان، وذلك بحسبانها كاشفة لواقع الحال ومُكملة بالضرورة له، وباعتبار أن قوانين السوق -ومخاطره- تأمر وتطاع، فمقدار التعويض لا يقوم غير بها ولا ينهض إلا مستوياً عليها. كما أنه من غير المنطقي التعويض عن ضرر غير موجود أو غير ثابت، لأنه ليس عقوبة أو جزاء "مدني" توقع أو يوقع على المتعاقد المخالف، بل هو في أساسه وأصله أداة لجبر الضرر وسبيل إلى إقامة التوازن بين المصالح المشروعة للأطراف المعنية بالأمر في خصوصية النزاع المعني ذاته، وليست أي مصالح أخرى.

ومع أن كل مُطلق هو مطلق بمقدار، فقد تصرفت هيئة التحكيم باعتبار أن حكمها مبرماً، قولاً فاصلاً لا يقبل تعقيباً، كأنه قدراً محتوماً معصوماً من كل رقابة. لذلك، جاء حكمها، وعلى نحو جليّ وفاضح يكشف عن نفسه، مُفرطاً فجاً، وظالماً إلى حدود تجعله خارجاً على القيود العدلية والموجبات العقلية المنطقية، على اختلافها، تعسفياً، تمييزياً، ويشكل بذلك انتهاكاً واضحاً وخطيراً للمبادئ القانونية الأساسية. وعليه، فمن غير الجائز أن ينشئ حكم هو ذاك، رغم وجوده المادي، حقوقاً أو يرتب التزامات، ومن غير المقبول أيضا أن يحاج به أو يُمنح حصانة ما. وعلى ذلك، وإذعاناً لقواعد النظام العام، الهامة والجوهرية والمؤثرة، وصوناً وتثبيتاً لها، يصير بطلان الحكم، برمته، نتيجة لشططه المُفرط، ولكل ما تقدم بيانه من أسباب، أمراً محتوماً، ولذلك تقضي المحكمة ببطلانه.

بقى على المحكمة التقرير بأن شركة س. أر. للتمويل FINANCIERE CER)) لم تكن طرفاً في دعوى التحكيم المطعون في حكمها، لذلك تقضي المحكمة بعدم قبول تدخلها في دعوى البطلان الماثلة، وتلزمها بمصاريف وأتعاب طلب التدخل. وتضيف المحكمة أن هذه الفقرة تُكمل منطوق الحكم وتُكون معه وحدة واحدة، بحيث لا ينفصلان.

فلهــــذه الأســـباب

حكمت المحكمة: ببطلان حكم التحكيم المطعون فيه الصادر في مصر "القاهرة" بتاريخ 22/3/2013م، وإلزام الشركة المدعى عليها المصاريف القضائية ومبلغ مئة جنيه كمقابل لأتعاب المحاماة.

 

 

 

 

 

القضاة: أمير مصطفى، أشرف عطوة، إسماعيل إبراهيم الزيادي,

كاتب الجلسة: أيمن شلبي.