السبت، 23 أبريل 2022

عقد الرهن - في الفقه الإسلامي - على المذهب الإمام الشافعي

 

الرَّهن

 

الرَّهن

تعريفه:

هو – في اللغة – الحبس، ومنه قوله تعالى: "كلُّ نفسٍ بما كسبتْ رهينة" (المدَثر: 38): أي محتسبة وممنوعة من دخول الجنة يوم القيامة، بسبب ما كسبته في الدنيا، حتى تحاسب عيه.

ويأتي أيضاً بمعنى الثبوت والدوام، جاء في مختار الصحاح: أرهنتُ لهم الطعام والشراب أدمته لهم، ويقال: الأحوال الراهنة، أي الحاضرة والدائمة.

وهو في الاصطلاح الشرعي: يُطلق على عقد الرهن، وهذا هو الأصل والغالب في إطلاق الفقهاء، وقد يُطلق ويُراد به الشيء المرهون، ومن ذلك قوله تعالى: (وان كنُتم على سفرٍ ولم تجدوا كاتباً فرهانٌ مقبوضة) (البقرة: 283). فرهان هنا جمع رهن، لأنها وصفت بأنها مقبوضة، والقبض يكون في الأشياء ولا يكون في المعاني، والعقد معنى فلا يتأتّى فيه القبض.

فالرهن بمعنى العقد: هو جعل عين متمولة وثيقة بدَيْن، يُستوفى منها عند تعذّر الوفاء.

فالجعل يكون بالعقد، والجاعل هو الراهن، والمجعول عنده هو المرتهن، والمجعول هو العين المرهونة، والعين تطلق على كل ذي حجم، وكون هذه العين متمولة أي تعتبر مالا في عُرف الشرع، وهذا الجعل إنما هو للتوثّق، أي ليستوثق الدائن من أن دَيْنه لن يذهب ويضيع، بل يطمئن إلى أنه سيعود إليه، فالعين تجعل مرهونة مقابل الدَّيْن، بحيث إذا تعذّر – أي صعب أو استحال – على المدين أن يوفى دَيْنه في أجله، استطاع الدائن أن يستوفي دَيْنه من هذه العين، بأن تُباع ويأخذ دَيْنه من ثمنها.

وهكذا نجد أن التعريف قد شمل بإيجاز أركان عقد الرهن وأحكامه وحكمته، التي سنتعرّض لبيانها بالتفصيل إن شاء الله تعالى.

 

مشروعية الرهن:

الرهن جائز ومشروع، بإجماع المسلمين في كل العصور والأزمان، ومستند هذا الإجماع ما ثبت من نصوص صريحة في كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم تدل على ذلك:

أما الكتاب: فقوله تعالى: "وان كنتُم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهانٌ مقبوضة" (البقرة: 283). جاء ذلك بعد قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتُم بدَيْن إلى أجل مسمّى فاكتبوه ..."، فدلّ على أن الرهان تقوم مقام الكتابة في التوثيق للدَيْن، وذلك عنوان المشروعية.

وأما السنة: فأحاديث كثيرة، منها حديث عائشة رضى الله عنها قالت: "توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاً من شعير".

(البخاري: الجهاد، باب: ما قيل في درع النبي صلى الله عليه وسلم والقميص في الحرب، رقم: 2759).

وسيأتي معنا مزيد من الأدلة على المشروعية خلال البحث إن شاء الله تعالى.

 

الرهن في الحضر وحال وجود الكاتب:

جاء في الآية الآنفة الذكر قوله: "وإن كنتم على سفرٍ ولم تجدوا كاتباً فرهان ..."، وظاهر ذلك: أن الرهن إنما يشرع حال السفر وفي الحضر، وحال وجود الكاتب وحال عدمه، دلّ على ذلك حديث عائشة رضى الله عنها وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاماً الى أجل، ورهنه درعاً من حديد.

(البخاري: البيوع، باب: شراء النبي صلى الله عليه وسلم بالنسيئة، رقم:1962. مسلم: المساقاة، باب: الرهن وجوازه في الحضر والسفر، رقم:1603).

والظاهر أنهما كانا في المدينة، فهما غير مسافِرَيْن، والكُتَّاب في المدينة أيضاً كُثُر، فدلّ على أنه لا يشترط لصحة الرهن أيٌّ من هذين الأمرين.

وأجاب العلماء عن حكمة ذكر السفر وعدم الكاتب في الآية: بأنه بيان للغالب في واقع الأمر، إذ الغالب أن يحتاج إلى الارتهان في السفر، الذي كثيراً ما يُعدم فيه الشهود ويفتقد الكاتب، لاسيما في تلك الأزمان التي كانت فيها القراءة والكتابة قليلة، وذلك من أسلوب الكلام العربي الذي جاء القرآن على أرقى مستوى منه.

 

حكم الرهن:

ظاهر الآية التي تدل على مشروعيته إن ذلك واجب، اذ قالت: "فرهان مقبوضة" وهذه صيغة من صَيِغ الأمر، إذ المعنى فليكن منكم رهان ...، والأمر للوجوب، ولكن العلماء اتفقوا على أن الرهن ليس بواجب، وأنه أمر جائز، للمكلّف أن يفعله وألا يفعله، لأنه شُرِعَ لتوثيق الحق، وللإنسان أن يوثّق حقه وألا يوثقه، وقد أكد معنى الجواز قوله تعالى في الآية: "فإن أمَن بعضُكم بعضاً فليؤدِّ الذي اؤتمن امانته": أي فليكن المدين المؤتمن على الدَّيْن دون توثق أهلاً لهذا الائتمان، وليؤدِّ الأمانة دون إساءة، وواضح أن الائتمان لا يكون إلا إذا لم يكن ارتهان، لأن طلب الارتهان دليل الشك في الأمانة.

وقال العلماء أيضاً: إن الرهن بدل عن الكتابة، فيأخذ حكمها، والكتابة ليست واجبة، بدليل قوله تعالى: "ولا تَسْأموْاْ أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله ذلكم أقسطُ عند الله وأقومُ للشهادة وأدني ألاّ ترتابوا" أي لا تملّوا من كتابة الدَّيْن قلّ أو كثر، فإن كتابته أقرب إلى العدل وعدم ضياع الحقوق، وأسهل لإقامة الشهادة عند الاختلاف، وأبعد عن الشك في قدر الدَّيْن أو صفته أو أجله.

قالوا: هذه المعاني تدل على أن الامر بالكتابة أمر إرشاد وتوجيه، وليس أمر إيجاب وتحتيم.

على أننا نقول: إذا لم تكن الكتابة أو الرهن واجباً، فذاك لا يعني أن نتساهل في الأمر، ثم يجرّ بعضنا بعضاً الى دُور القضاء، أو يتخذ ذلك بعض من رق دينهم ذريعة إلى أكل أموال الناس بالباطل، فأقل ما قاله العلماء إنه أمر ارشاد وذلك يعني الندب والاستحباب، فالأولى الكتابة على أيّ حال، والرهن إذا لم تتيسر الكتابة، كي لا يترك الناس فعل الخير خشية ضياع أموالهم وذهاب حقوقهم، اللهم إلا إذا كانت الثقة بالأمانة والدين والخلق اقرب الى اليقين، والله تعالى الموفق.

 

حكمة مشروعية الرهن:

تكرر معنا أن شرع الله تعالى مِلةّ التيسير ورفع الحرج ورعاية مصالح الناس، والناس يتعاملون فيما بينهم، وكثيراً ما يحتاجون إلى النقد فلا يجدونه، وهم محتاجون الى بعض السلع، فيحتاجون إلى استقراض النقد أو تأجيل الثمن، ولا يجدون مَن يثق بهم ليعطيهم المال أو السلعة دون وثيقة، ويرغب صاحب المال أو السلعة بما يوثّق حقه ويطمئنه إلى أنه سيعود إليه كاملاً موفوراً، ولا يرغب أن يقع في مخاصمات ومرافعات، فلا يرضى بالكفالة ولا يكتفي بالكتابة والإشهاد، فيطلب سلعة تكون وثيقة في يده مقابل حقه، ويرضى صاحب الحاجة إلى النقد أو تأجيل الثمن بهذا التوثيق، فيدفع متاعاً يستطيع أن يستغنى عن منفعته لطالب الوثيقة، وهنا تتحقق مصلحة الطرفين، ويسهل التعامل بين الناس.

 

أركان عقد الرهن

علمنا مما سبق أن لعقد الرهن أركاناً كغيره من العقود، لا يوجد ولا يقوم إلا بوجودها، كما أن لتلك الأركان شروطاً، لا يصحّ العقد ولا تترتّب عليه آثاره المعتبرة شرعاً إلا بتوفرها، وأركان عقد الرهن هي:

1- العاقدان، وهما اللذان يقومان بإنشاء هذا العقد، وهما الراهن والمرتهن.

2- الصيغة، أي الكلام الذي يصدر عن العاقِدَيْن ليدل على إنشاء هذا العقد.

3- الدَّيْن، الذي هو سبب هذا العقد، والذي يكون في ذمّة الراهن للمرتهن.

4- المرهون، وهو العين التي توضع لدى المرتهن وثيقة بدّيْنه.

وسنتكلم بالتفصيل – إن شاء الله تعالى – عن هذه الأركان مع شروط كلٍّ منها.

 

الركن الأول- العاقدان:

وهما الراهن والمرتهن: فالراهن هو المدين، أي الذي عليه الدَّيْن، وذمته مشغولة به تجاه المرتهن، والمرتهن: هو الدائن الذي له الدَّيْن في ذمة الراهن، والذي توضع العين المرهونة تحت يده وسلطانه.

 

ويشترط في كلًّ منهما:

1- ان يكون مكَّلفاً: أي عاقلاً بالغاً غير محجور عليه في تصرفاته المالية.

فالصبي – ولو كان ممِّيزاً – لا يصلح أن يكون راهناً ولا مرتهناً، فلو رهن شيئاً من ممتلكاته عند أحد فلا يصحّ منه هذا الرهن، والمرتهن ضامن لما أخذه منه في هذه الحالة. وكذلك لو رهن أحد عنده متاعاً، فلا يعتبر ذلك رهناً، ولا تثبت له أحكامه، ومثل الصبي المجنون الذي غلب على عقله.

وذلك لأن الرهن عقد تترتب عليه أحكام ومسؤوليّات، وكل من الصبي والمجنون ليس أهلاً لذلك، فالشرع لم يعتبر أقوالهما وتصرفاتهما في العقود، لأنهما ليسا أهلاً للمؤاخذة كما علمت في كثير من المواضع. قال صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم" أي يبلغ. (أبو داود: الحدود، باب: في المجنون يسرق أو يصيب حدا، رقم: 4401) . والمراد برفع القلم عدم المؤاخذة والمسؤولية.

وأما المحجور عليه في تصرفاته المالية – وهو السفيه في عُرْف الشرع – وهو الذي لا يحسن التصرّف بالمال: إما بإنفاقه في المحرّمات، أو إسرافه في المباحات، او لطيش فيه: فلأنه تصرّف مالي، وهو ممنوع منه، كما علمت في (باب الحجر).

2- أن يكون غير مُكْرَه: أي أن يرهن الراهن ما يرهن باختياره، وكذلك المرتهن، فلو أُكره الراهن على الرهن، أو المرتهن على الارتهان، فلا يصحّ الرهن، ولا تترتب عليه آثاره وأحكامه التي ستعرفها، بمعنى أنه إذا زال الإكراه عن العاقد رجع الحال إلى ما كان عليه قبل الإكراه، ووجب على الراهن ان يستردّ العين إن كان المكره هو المرتهن، وعلى المرتهن ان يردّ العين إن كان المكرَه هو الراهن، ثم إذا رغبا في الرهن أنشآه من جديد.

وذلك لأن الرهن من التصرفات الشرعية الإنشائية، والإكراه عليها يؤثر فيها ويذهب أثرها، كما ستعلم ذلك مفصلا في (باب الإكراه) إن شاء الله تعالى.

3- ان يكون من أهل التبرّع فيما يرهنه أو يرتهن به: كأن يكون مالكاً للعين التي يرهنها مثلاً، وأن يكون مالكاً للدين الذي يرتهن به.

 

رهن الولي والوصي وارتهانهما:

والمراد بهذا الشرط بيان: أنه ليس لأحد أن يرهن شيئاً من مال مَنْ له عليه ولاية مالية كالوليّ والوصي، كما إنه ليس له أن يرتهن شيئاً لهم بشيء من أموالهم، لأن الولي والوصي – كلاًّ منهما – ليس أهلاً للتبرّع من أموال مَن تحت ولايته أو وصايته، والرهن والارتهان كلٌّ منهما فيه معنى التبرع.

فبالرهن يُمنع الراهن من التصرّف في المرهون – إلا بشروط كما سيأتي – وذلك حبس لمال القاصر وتفويت للمنفعة بغير عوض، فهو تبرع.

وبالارتهان تأجيل للمال الذي يستحقه القاصر، وذلك تفويت لمنفعة التعجيل بغير عوض، إذ ليس للمرتهن أن ينتفع بالعين المرهونة كما ستعلم، وذلك تبرع ولذا قال الفقهاء: ليس لوليّ القاصر أن يبيع شيئاً من ماله – في الأحوال العادية – إلا بحالٍّ مقبوض قبل أن يسلم المبيع، وبالتالي فلا ارتهان بماله.

على أن الفقهاء قد استثنوا حالتين، يجوز فيهما للوليّ والوصي الرهن والارتهان، لما في ذلك من مصلحة ظاهرة لمن كان تحت ولايتهما، وهما:-

 

1- حالة الضرورة:

كأن يحتاج إلى النفقة على مَن تحت ولايته، ولا يكن له مال ينفق عليه منه، فيرهن شيئاً من أمتعتهم مقابل مال يأخذه لينفقه عليهم، وهو يرجو أن يوفيه من غلّة ينتظر خروجها لهم، أو دَيْن لهم سيحلّ أجَله، أو بيع متاع لهم كاسد الآن يرجى نفاقه.

وكذلك له أن يرتهن بمال لهم، يخشى عليه السرقة أو النهب فيبيعه إلى أجل أو يقرضه، ويرتهن بذلك متاعاً لهم حفظاً واستيثاقاً لدَيْنهم.

 

2- أن يكون الرهن والارتهان لمصلحة ظاهرة:

وذلك كأن يجد سلعة تساوي مئتين مثلاً، تباع بمائة، ولا مال لهم، فيشتريها على أن يرهن بها شيئاً من متاعهم يساوي مئة.

ويشترط في هذه الحالة أن يكن هذا المتاع المرهون عند أمين موسر، وأن يُشهد على ذلك، وأن يكون إلى أجل غير طويل عُرفاً، فإن فقد شرط من ذلك لم يصحّ الرهن.

ومثل الرهن الارتهان، وذلك كأن يبيع شيئا من متاعهم يساوي مئة بمائتين، ويرتهن لهم بذلك متاعاً يساوي مئتين.

فالمصلحة هنا ظاهرة والمنفعة بالغة لهؤلاء القاصرين، ولذا صحّ الرهن والارتهان لهم.

 

الركن الثاني- الصيغة:

وهي الإيجاب والقبول: وهما كل كلام يدل على الرهن والقبول به، من الراهن والمرتهن، كأن يقول الراهن: رهنتك داري هذه بما لَك علىّ من الدَّين، أو خذ هذا – لسلعة في يده – رهناً بثمن هذا، لشيء اشتراه، فيقول صاحب الدين في الحالين: قبلت، أو ارتهنت، ونحو ذلك.

والأصل في اشتراط الصيغة في الرهن – وغيره من العقود – أنه عقد فيه تبادل مالي، فيشترط فيه الرضا، لأنه لا يحلّ مال امرئ إلا عن طيب نفس منه، والرضا أمر خفيّ، فيُكتفي بما يدل عليه وهو اللفظ من المتعاقِدَيْن، وذلك يكون بالإيجاب والقبول.

وهل يكتفي فيه بالمعاطاة؟ كأن يقول له: يعني هذه السلعة بكذا الى أجل، وخذ منيّ هذه الساعة مثلاً رهناً بالثمن، فيقول: بعتك، ويقبضه السلعة وذلك يعطيه الساعة.

الأصلح أن هذا الرهن لا ينعقد، ولا بدّ من صيغة خاصة به، تدل على الرهن والارتهان.

هذا بالنسبة لمن يستطيع النطق، وأما الأخرس: فيكتفي منه بإشارته المعهودة المفهمة رضاه بالرهن أو الارتهان، فتقوم مقام نطقه للضرورة، لأنها تدل على ما في نفسه من الرضا أو عدمه، وكذلك كتابته فيما اذا كان يحسن الكتابة.

 

الركن الثالث- المرهون:

وهو العين التي يضعها الراهن عند المرتهن ليحتبسها وثيقة بدَيْنه، وقد اشترط الفقهاء فيها شروطاً ليصح ارتهانها، منها:

1- أن يكون عيناً: فلا يصحّ رهن المنفعة، كأن يرهنه سكنى دار، لأن المنفعة تتلف بمرور الزمن، فلا يحصل بها توثّق ولا تثبت عليها يد الحبس.

2- أن يكون قابلاً للبيع: أي تتوفر فيه شروط المبيع التي مرّت بك في عقد البيع، بأن يكون موجوداً وقت العقد، وأن يكون مالاً متقوِّماً شرعاً، وأن يكون مقدوراً على تسليمه، وأن يكون قد وقع عليه التملّك من الراهن أو دخل في سلطانه.

فلا يصحّ رهن ما ستلده أغنامه، لأنه غير موجود عند العقد.

ولا يصحّ رهن كلب وخنزير، لأنهما ليسا بمال ذي قيمة شرعاً، ومثلهما صيد المحرم بحج أو عمرة وصيد الحرم المكّي، لأن كلاًّ منهما في حكم الميتة، وهي ليست بمال شرعاً.

كما لا يصحّ أن يرهن طيراً في الهواء، لأنه غير مقدور على تسليمه.

ومثله أن يرهن ما له في ذمّة فلان من الدَّيْن، لأنه غير قادر على تسليمه ايضاً.

وكذلك لا يصحّ رهن ما يسومه ليشتريه، أو ما يريد أن يجمعه من المُباحات كالحطب والكلأ – أي الحشيش – غير المملوكين، لأن هذه الأشياء لم يقع عليها التملّك بعد، ولم تدخل في سلطانه.

وهل يشترط ان يكون الراهن مالكاً للعين المرهونة، أم يكفي أن تكون في سلطانه؟ 

الجواب: أنه لا تشترط ملكية الراهن للمرهون، بل له أن يستعير شيئاً ليرهنه، بشروط وأحكام، سيأتي بيانها في فقرة مستقلة تحت عنوان: العين المستعارة للرهن.

وكذلك لا يشترط أن يكون مالكاً لجميع العين المرهونة، بل يصح أن يكون مالكاً لجزء منها، فيرهن ما هو ملْك له، كما لو كان يملك نصف سيارة أو نصف الدار أو العقار، فله أن يرهن حصته مقابل ما عليه من الدَّيْن، وهذا ما يسمى عند الفقهاء: رهن المشاع، وذلك لأن المشاع قابل للبيع، فمّن كان يملك حصة شائعة في شيء –أي غير مقسومة ولا معزولة– له أن يبيعها، فكذلك يصح له أن يرهنها، لأن الغاية من الرهن الاستيثاق والتمكن من الاستيفاء منه عند تعذر وفاء الدَّيْن، وذلك يحصل برهن المشاع، لأنه يمكن بيعه عند حلول الأجل واستيفاء الدَّيْن من ثمنه.

وسيأتي بيان كيفية قبض المرهون المشاع عند الكلام عن القبض في الرهن إن شاء الله تعالى.

 

الركن الرابع- المرهون به:

وهو الحق الذي للمرتهن في ذمة الراهن، والذي يوضع الرهن بمقابله، ويشترط فيه أمور، وهي:

1- أن يكون دَيْناً: أي مما يثبت في الذمة كالدراهم والدنانير ونحوها من العملات المتداولة، والتي تقوَّم بها الأشياء، لأن مقصود الرهن استيفاء المرهون به من قيمة المرهون وثمنه عند تعذّر الوفاء، وهذا ممكن في الدَّيْن.

ولا عبرة بسبب الدَّين سواء أكان ثمن مبيع اشتراه الراهن إلى أجل، أم كان قرضاً، أم كان ضماناً بسبب إتلافه شيئاً ما للمرتهن.

وعليه: فلا يصحّ أن يكون الحق المرهون به عيناً، كما لو غصب إنسان متاعاً من آخر، فطالبه المغصوب منه به، وطلب منه أن يرهنه شيئاً مقابله إلى أن يأتيه به، وكذلك لو استعار أحد شيئا، فطلب المعير من المستعير ان يرهنه شيئا ما – متاعاً أو نقوداً مثلاً – مقابله حتى يأتيه به، فلا يصح مثل هذا الرهن، وهذا يقع كثيراً في هذه الأيام.

قال صاحب كتاب [مغني المحتاج]: ومن هنا يؤخذ بطلان ما جرت به عادة بعض الناس من كونه يقف كتاباً، ويشرط أن لا يعار أو يخرج من مكان يحسبه فيه إلا برهن.

وإنما لم يصح الرهن مقابل الأعيان لأنها لا يمكن استيفاؤها من ثمن المرهون عند تعذر الوفاء وبيع العين المرهونة، اذ كيف تستوفى مثلا ساعة من ليرات ونحوها، وإذا قلنا تستوفى قيمتها، فإن القيمة تختلف باختلاف المقومين، فيؤدي ذلك الى التنازع.

على أن الرهن إنما شرع وذكر في كتاب الله تعالى في الدين – كما علمت عند الكلام عن مشروعيته – فلا يثبت في غيره.

2- أن يكون الدَّيْن ثابتاً في ذمّة الراهن للمرتهن: كثمن مبيع بعدما أبرم البيع ولو قبل تسليم المبيع، أو نفقة زوجة عن زمن مضى، أو مال اقترضه الراهن وقبضه أو قبل قبضه، ونحو ذلك، فيصحّ الرهن.

وإنما صحّ الرهن في هذه الحالات لأن الحق قد ثبت، فصارت الحاجة داعية لأخذ الوثيقة به، فصار الرهن ضماناً للدَّيْن، فجاز أخذه به.

وكذلك يصحّ الرهن لو وقع مع العقد الموجب للدَّيْن، كما لو قال: بِعْني هذا الثوب بمائة إلى شهر، وأرهنك بها هذه الساعة، فقال البائع: قبلت، أو بعتك وارتهنت، أو قال: أقرضني ألفاً إلى سنة، وأرهنك بها هذه السجادة، فقال: قبلت، أو أقرضتك وارتهنت، لأن الحاجة تدعو الى ذلك، فلو لم يعقد ذلك ويشترطه مع ثبوت الدَّيْن ربما لم يتمكن من إلزام المشتري أو المقترض بعقد الرهن بعد ثبوت الدَّيْن، فيفوت حقه في التوثّق من دَيْنه.

أما إذا حصل عقد الرهن قبل ثبوت الحق أو العقد الذي يوجبه فإنه لا يصحّ، كما لو ارتهنت الزوجة متاعاً مقابل ما سيثبت لها من نفقة في أيام مقبلة، أو ارتهن شيئاً بما سيقرضه إياه، أو بثمن ما سيشتريه منه، فإن الرهن في هذه الحالات لا يصحّ ولا ينعقد.

وذلك لأن الرهن وثيقة بالحق فلا تقدم على ثبوته، وتابع فلا يسبقه، كالشهادة فلا تقدّم قبل ثبوت المشهود عليه ولا تسبقه.

3- أن يكون الدَّيْن معلوماً للعاقِدَيْن قدراً وصفة: فلو ثبت أن للمرتهن دَيْناً في ذمة الراهن، لكنه يجهل ما هو: الليرات سورية أم غير ذلك؟ أو يجهل قدرها، أهي ألف أم ألفان؟ فارتهنه شيئاً بها، فإن الرهن لا يصح، سواء أعلم العاقد الثاني قدرها وصفتها أم لا. وذلك لتعذّر استيفاء هذا الدَّيْن المجهول من ثمن العين المرهونة إذا بيعت عند عدم الوفاء.

 

لزوم عقد الرهن:

إذا وجدت أركان عقد الرهن بشروطها فقد انعقد صحيحاً، ولكن هل لزم العقد؟ بمعنى أنه ليس للراهن أن يرجع عنه، ويلزمه دفع العين المرهونة للمرتهن، أم لا يزال له الخيار في ذلك، إن شاء دفع وإن شاء رجع؟

والجواب: أن عقد الرهن عقد جائز قبل القبض، وأن القبض من تمامه، وشرط لا يلزم إلا به، فما دامت العين المرهونة بيد الراهن كان له الرجوع عن رهنها، فإذا دفعها للمرتهن، وقبضها المرتهن قبضاً صحيحاً لزم العقد، وصار من حق المرتهن احتباسه، وليس للراهن واسترداد العين المرهونة إلا برضاه.

ودليل ذلك:

قوله تعالى: "وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كتابا فرهان مقبوضة". فالفاء المقرونة بكلمة رهان هي جواب للشرط "وإن كنتم" وجزاءً له، ومثل هذه الصيغة من صيغ الأمر، فهو أمر إذن بالرهان التي وصفت بأنها "مقبوضة" والأمر بالشيء الموصوف بصفة يقتضي أن يكون ذلك الوصف من تمامه وشرطاً فيه، لأن المشروع بصفة لا يوجد إلا إذا وُجدت تلك الصفة، فدلّ ذلك على أن عقد الرهن لم يتم إذا لم يحصل القبض، فإذا حصل القبض تمّ، وإذا تمّ فقد لزم.

وكذلك: لو كان الرهن يلزم بدون قبض لم يكن لقوله: "مقبوضة" أية فائدة، وكلام الشارع يُصان عن اللغو وعدم الفائدة، فكان لابدّ من اعتبار هذا الوصف الذي قيِّدت به الرهان ليلزم العقد.

وأيضاً: عقد الرهن فيه معنى التبرّع من جهة الراهن –كما مرّ معنا عند الكلام عن شروط العاقِدَيْن– لأنه لا يستوجب على المرتهن بمقابلة حبس العين شيئا، وعقد التبرّع لا يُجبر عليه القائم به، فلو كان الرهن يلزم بمجرد انعقاده لكان مجبراً على إمضائه، ولذا لابدّ من إمضائه باختياره، وذلك يكون بالإقباض منه والقبض من المرتهن، فإذا حصل إمضاء العقد باختياره صار ملزماً به، وامتنع عليه الرجوع عنه.

 

كيفية قبض الرهن:

إذا كان القبض شرطاً لتمام عقد الرهن ولزومه، فكيف يكون هذا القبض؟ نقول: إن العين المرهونة قد تكون غير منقولة كالأرض والعقار، وقد تكون منقولة كالسيارة وغيرها من السلع.

فإذا كانت غير منقولة: كفى فيها ان يخلِّى الراهن بينها وبين المرتهن، والتخلية تكون برفع الموانع التي تحول دون استلامها، كما لو كانت مشغولة بأمتعة، او بمَن يسكن الدار مثلاً، وما إلى ذلك، فإقباضها وقبضها يكون بتفريغها وعدم الحيلولة دون استلامها.

وإذا كانت العين المرهونة منقولة: فلا يكفي فيها التخلية، بل لا بدّ فيها من التناول والنقل حسب العُرْف بالنسبة للشيء المنقول، وما يسمى قبضاً له في العادة، فإذا لم يحصل ذلك لا يعتبر القبض.

وهذا إذا كانت العين المنقولة أو غير المنقولة كلها رهناً، فإذا كان بعضها هو المرهون، وهو رهن المشاع الذي أشرنا إليه عند الكلام عن المرهون، فكيف يكون القبض فيه؟

والجواب: أنه إن كانت العين منقولة كان قبضها بتسليمها كلها للمرتهن، وذلك بعد إذن الشريك بالقبض، لأنه لا يحصل إلا بالنقل كما علمت، فإن أبى الشريك ذلك ولم يأذن بالنقل: فإما أن يرضى المرتهن بوضعها في يد الشريك كلها، ويعتبر الشريك نائباً عن المرتهن في قبض الحصة المرهونة، فيجوز ذلك ويتمّ العقد، وإذا لم يرضَ المرتهن بذلك رفع الأمر الى القضاء، وعندها ينصب الحاكم عدلاً تكون العين في يده لهما، أي للمرتهن والشريك.

وللشريك أن ينتفع بالعين المرهونة بنسبة ملْكه منها، وبإذن من المرتهن او القاضي.


أحكام عقد الرهن:

علمنا أن لكل عقد من العقود الشرعية أحكاماً، وهي الآثار التي يرتبها الشارع على وجود ذلك التصرف بين المتعاقِدَيْن، وانعقاده صحيحاً بوجود أركانه وتحقّق شروطه، وعقد الرهن مثل غيره من العقود: إذا صحّ ولزم، على المعنى الذي علمتَ، ترتّبت عليه آثاره وثبتت له أحكامه، فما هي هذه الأحكام؟

سنتكلم عن هذه الأحكام، ولتسهيل البحث نجعلها اقساماً أربعةً:

- القسم الأول: الأحكام التي تتعلق بالمرهون حال بقائه في يد المرتهن.

- القسم الثاني: الأحكام التي تتعلق بالمرهون حال هلاكه.

- القسم الثالث: الأحكام التي تتعلق بنماء المرهون وهو في يد المرتهن.

- القسم الرابع: أحكام فرعية تتعلق بالرهن.

 

القسم الأول:

ما يتعلق بالمرهون حال بقائه في يد المرتهن:

بعدما يدفع الراهن العين المرهونة الى المرتهن، قد تكاملت أركان الرهن وشروطها، يترتب على ذلك آثار وأحكام من حيث: حبس المرهون، وحفظ العين المرهونة ومؤونتها، وما هي حقيقة يد المرتهن على المرهون؟ وهي ينتفع بالعين المرهونة في هذه الحالة؟ وما حكم التصرّف بهذه العين؟ وفكاك الرهن وتسلمه وردّه بوفاء الدين، ومتى يُباع المرهون وكيف؟ وإليك الكلام عن هذه الامور:-

 

أولاً- حبس المرهون:

علمنا أن عقد الرهن لا يتم ولا يلزم إلا بقبض العين المرهونة، فإذا قبضها المرتهن تم العقد ولزم، وليس للراهن الرجوع عنه واسترداد المرهون إلا بفكاكه بوفاء الدَّيْن، وبالتالي صار للمرتهن حق في أن يحتبس العين المرهونة عنده، وليس للراهن أن يُخرجها من يده.

ويكفي لتمام الرهن القبض الأول، فلا يشترط استدامة هذا القبض، كما لا يشترط أن تبقى العين المرهونة محبوسة على الاستمرار لدى المرتهن حتى يبقى عقد الرهن مستمراً، ولذا كان للمرتهن أن يخرج المرهون من يده برضاً منه وإذن ويدفعه للراهن، ولا يبطل بذلك الرهن ولا ينقطع، ويبقي حق المرتهن متعلقاً، بالمرهون له أن يعيده إلى يده ويحتبسه متى شاء.

وذلك: لأن القصد من الرهن الاستيفاء، وذلك ممكن بدون استمرار الحبس، ولأن الراهن يملك منافع الرهن كما سيأتي بيانه، فله ان يستوفى هذه المنافع بإذن المرتهن، وذلك لا يكون إلا باستخراج المرهون من يده.

 

ثانياً- حفظ الرهن ومؤونته:

حفظ الرهن يعني: مراقبته ورعايته والإبقاء عليه من أن يناله ضرر أو تلف كأن يسرق مثلا، وذلك من مصلحة المرتهن، لأن مصلحته أن يبقى الرهن سالماً كي يستوفي حقه منه إذا تعذّر على الراهن وفاء الدَّيْن. ولذا كان حفظه عليه ومن واجبه لأنه من مصلحته، ولأنه تحت يده ورعايته، وكَلَ مَن كانت له يد على شيء كان عليه حفظه ورعايته، وعليه ان يحفظه بنفسه حسب العُرف والعادة، لأنه هو العاقد الملتزم بالحفظ بمقتضى العقد.

فإذا احتاج الحفظ الى مستودع مثلاً كانت عليه أُجرته، أو إلى خزانة كان عليه إيجادها، أو أجرة حارس، وهكذا.

وأما مؤونة الرهن، وهي: كل ما تحتاجه العين من نفقة لبقائها، كعلف الدابة وسقي الأشجار، وترميم الدار مثلاً، فهو على الراهن، لأنه لابدّ منه لبقاء العين التي هي ملكه، ويُجبر عليها كي لا تهلك العين، محفظة على حق المرتهن.

ودلّ على ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يَغلق الرهن، الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غُنَمه وعليه غُرْمه" ومن غُرْمه نفقته ومؤونته، (رواه الشافعي في الأم: كتاب الرهن، باب: ضمان الرهن: 3/147. والدارقطني: البيوع، رقم الحديث: 133).

 

ثالثاً- يد المرتهن:

علمنا أنه إذا تحقق شروط بعد وجود أركانه فقد انعقد صحيحاً، وللمرتهن الحق في أن يقبض العين المرهونة إذا لم يرجع الراهن عن الرهن، فإذا قبض المرتهن العين صار له الحق في احتباسها عنده حتى يؤدي الدَّيْن، وليس للراهن أن يخرجها من يده إلا بإذن منه وهذا هو معنى اليد، أي أن العين المرهونة في يده وتحت سلطانه.

والذي نريد أن نعلمه الآن: هي يد المرتهن على العين يد أمانة أم يد ضمان؟

ويد الأمانة تعني: أن صاحبها لا يغرَّم بسبب ما هلك تحت يده شيئاً إلا إذا تعدّى أو قصر في مسؤوليته.

ويد الضمان تعني: أن صاحبها يغرّم بسبب ما هلك تحت يده، سواء أتعدّى بالهلاك أم لا، قصّر في مسؤوليته أم لا.

والجواب: أن يد المرتهن على العين المرهونة يد أمانة، فلا يغرّم شيئاً إذا هلكت، ولا يسقط عن الراهن شيء من الدَّيْن بمقابل بعض هلاك العين المرهونة او كلِّها، إلا إذا تعدّى في هذا الهلاك أو قصر، كما ستعلمه مفصّلاً عند الكلام عن هلاك المرهون.

ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "له غُنْمه وعليه غُرْمه" ومن غُرْمه هلاكه وتلفه، وإذا كان هلاكه على الراهن فمعناه أنه هو الضامن له، وبالتالي المرتهن غير ضامن، وتكون يده يد أمانة.

 

رابعاً- الانتفاع بالمرهون:

أ – انتفاع الراهن بالمرهون:

قد علمنا أنه لا يشترط لبقاء عقد الرهن استمرار حبس المرهون في يد المرتهن، بل له أن يخرجه من يده بإذنٍ منه ورضاه كما علمنا من خلال ما مرّ أن منافع المرهون لمالكه وهو الراهن، لقوله صلى الله عليه وسلم: " له غُنْمه" ومن غنمه منافعه، ولكنه محجوز عنها لحق المرتهن طالما أن المرهون محبوس عنده، فإذا أذن للراهن باسترداده والانتفاع به جاز له ذلك.

وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهوناً، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة" والذي يركب يشرب هو المالك للمنفعة وهو الراهن، فله الانتفاع وعليه النفقة.

ولكن يشترط في ذلك:

- أن يكون الانتفاع بالعين المرهونة لا يُلحق بها ضرراً من نقص او تلف.

- ألا يسافر الراهن بالعين المرهونة، لأن السفر مظنة الخطر، ولا ضرورة له، فإذا أذن المرتهن بما يُمنع منه الراهن جاز له ذلك.

وكذلك: إن أمكن الانتفاع بالمرهون وهو في يد المرتهن دون إخراجه واسترداده انتفع به عنده، وإن لم يمكن ذلك إلا باستخراجه من يده استخراجه، والأولى أن يشهد المرتهن على ذلك رجلين أو رجلاً وامرأتين، لأنه أمر مالي.

وعلى الراهن رد العين المرهونة بعد استيفائه المنفعة منها الى يد المرتهن.

 

ب- انتفاع المرتهن بالمرهون:

علمنا أن عقد الرهن يُقصد به التوثق للدْين، وذلك بثبوت يد المرتهن على العين المرهونة، ليمكن بيعها واستيفاء الدَّيْن من قيمتها عند تعذّر وفائه على الراهن.

وعليه: فإن عقد الرهن لا يعني امتلاك المرتهن للعين المرهونة، ولا استباحته لمنفعة من منافعها، بل تبقى ملكية رقبتها ومنافعها للراهن، المالك الأصلي لها، وبالتالي: فليس للمرتهن أن ينتفع بالعين المرهونة بدون إذن الراهن مطلقاً، فإذا فعل ذلك كان متعدِّياً وضامناً للمرهون.

وهل له أن ينتفع به إذا أذن له الراهن بذلك؟

ينبغي ان نفرِّق هنا بين أن يكون الإذن بالانتفاع لاحقاً لعقد الرهن وبعد تمامه ودون شرط له، وبين أن يكون مع العقد ومشروطاً فيه:

فإن كان مع العقد ومشروطاً فيه كان شرطاً فاسداً، ويفسد معه عقد الرهن على الأظهر، وذلك لأنه شرط يخالف مقتضى العقد، إذ مقتضى العقد التوثّق – كما علمت – لا استباحة المنفعة، وكذلك هو شرط فيه منفعة لأحد المتعاقِدَيْن وإضرار بالآخر، إذ به منفعة للمرتهن وإضرار بمصلحة الراهن.

ومقابل الأظهر: أن الشرط فاسد لا يُلتفت إليه، والعقد صحيح، وهو قول ضعيف.

-  وأما إذا لم يكن الانتفاع للمرتهن مشروطاً في العقد فهو جائز، ويملكه المرتهن، لأن الراهن مالك، وله أن يأذن بالتصرّف في ملكه بما لا يضيّع حقوق الآخرين فيه، وقد أذن له بذلك، وليس في ذلك تضييع لحقه في المرهون، لأنه بانتفاعه به لا يخرج من يده، ويبقى محتبساً عنده لحقه.

 

خامساً - التصرّف بالمرهون:

المراد بالتصرف هنا: التصرّف الذي يُنشئ التزاماً وينتج أثراً شرعياً، كالهبة والبيع ونحو ذلك.

وهذا التصرّف إما أن يكون من الراهن وإما أن يكون من المرتهن، وإما ان يكون بإذن من الطرف الآخر وإما أن يكون بغير إذن.

 

أ- تصرّف الراهن بالعين المرهونة:

إذا تصرف الراهن بالعين المرهونة تصرفاً يُزيل ملكه عنها، كالبيع والهبة والوقف، كان تصرفه باطلاً إذا كان بغير إذن المرتهن، ولم يترتب عليه أيّ أثر شرعي، وبقى الرهن على حاله.

وذلك: لأن المرهون وثيقة بيد المرتهن مقابل دينه، فإذا أُجيز تصرّف الراهن هذا فيه فاتت الوثيقة وذهب حقّه، ولذا كان باطلاً محافظة على حقه.

وكما لا يصحّ التصرّف الذي يُزيل الملْك لا يصح التصرّف الذي ينقص العين المرهونة حِسّاً أو مَعّنىً، كأن يعيره الى مَن يستعمله استعمالاً يَبْليه، أو يؤجّره الى مدة يحلّ الدَّيْن قبل انتهائها، فإن ذلك ينقصه مَعْنىً، إذ أن الرغبة تقلّ في شراء العين المؤجرة، وعندها إذا احتيج إلى بيع العين لوفاء الدَّيْن: إما ألا تُباع، وإما أن تُباع بأبخس من قيمتها، فإذا كانت المدة تنتهي مع حلول الدَّيْن أو قبله جاز ذلك وصحّ، لأنه لا ضرر فيه.

وكذلك لا يصحّ له رهنه عند مرتهن آخر، لأنه يُنشئ له بذلك حقاً يزاحم فيه حق المرتهن الأول، فيفوت مقصود الرهن.

فإذا كان التصرّف لا يتحقق فيه ما سبق كان صحيحاً ونافذاً، كالإعارة ونحوها.

كلُّ ذلك إذا كان التصرّف بغير إذن المرتهن كما علمت، فإذا كان التصرّف بإذنه: صحّت كلّ تلك التصرّفات ونفذت، وترتبت عليها آثارها المعتبرة شرعاً، لأن المنع من صحتها لحقْ المرتهن، وقد تنازل عن حقه بإذنه فيها.

لكن للمرتهن حق الرجوع عن إذنه قبل تصرّف الراهن، لأن حقَّه باقٍ طالما أن التصرف المأذون فيه لم يحصل.

فإذا لم يرجع عن إذنه وتصرّف الراهن نفذ التصرّف، وبطل الرهن إذا كان التصرّف يُزيل الملْك كالهبة ونحوها، وإذا لم يكن كذلك – كالإجارة ونحوها مما لا يزيل الملْك – بقى الرهن على حاله.

 

ب- تصرّف المرتهن:

لا يعدو تصرّف المرتهن بالعين المرهونة: أن يكون بإذن الراهن، أو بغير إذنه:

-  فإذا كان تصرّف المرتهن بغير إذن الراهن، كان تصرّفه باطلاً لا يترتب عليه أيّ أثر شرعي، مهما كان نوع ذلك التصرّف، وإذا سلم العين المرهونة بسبب تصرّفه كان في ذلك متعدّياً، وصارت العين المرهونة مضمونة عليه، وذلك لأنه تصرّف بغير ملكه وبغير إذن المالك، لأن المرتهن لا يملك العين المرهونة، كما أنه لا يملك منفعتها.

-  وإذا كان تصرّف المرتهن بالعين المرهونة بإذن الراهن: صحّ تصرّفه ونفذ، لأنه تصرف بإذن المالك في ملكه، وإنما ينظر:

· فإن كان التصرّف يُزيل الملْك كالهبة والبيع بطل الرهن، لأن الوثيقة قد ذهبت.

· وإن كان لا يُزيل الملْك – كالإعارة والإجارة – لم يبطل الرهن، لأن عين الوثيقة – وهي المرهون – لا تزال قائمة.

 

سادساً- فِكاك الرهن وتسليمه وردّه بوفاء الدَّيْن:

إذا سَدَّد الرهن ما عليه من الدَّيْن كاملاً انفكّ المرهون وانتهى عقد الرهن، ووجب على المرتهن ردّ العين المرهونة على الراهن وتسليمها له، سواء أكان ذلك عند انتهاء الأجَلْ للدَّيْن أم قبله، وإذا لم يفعل ذلك، وقصّر في الرد أو امتنع دون عذر، كان ضامناً للعين، لأنه صار في حكم الغاصب، إذ لم يبق له حق في احتباس العين المرهونة، فإذا كان له عذر، كأن كانت العين غائبة في مكان لا يتمكن من إحضارها إلا بعد زمن، لم يكن ضامناً، وكذلك لو امتنع من تسليمها لعلمه أن هناك مَن سيغصبها من الراهن إذا دفعها إليه، والله تعالى أعلم.

وإذا دفع الراهن دَيْنه على أقساط: فإنه لا ينفك شيء من الرهن حتى يؤدي الدَّيْن كله، أو يبرئه المرتهن مما بقى له من أقساط وليس له أن يطالب بفك جزء من العين المرهونة لو كانت قابلة للتجزّؤ، مقابل ما دفعه من أقساط.

وذلك: لأن الرهن وثيقة بجميع أجزاء الدَّيْن، فلا ينفك جزء منه إلا بأداء جميع الدَّيْن وعلي ذلك أجمع الفقهاء .

فلو شرط الراهن في العقد: أنه كلما قضي من الدَّيْن قسطاً انفكّ من الرهن بقدره فسد الرهن، لاشتراط ما ينافيه .

 

سابعاً- بيع المرهون:

إذا حلّ أجل الدَّيْن، ولم يكن عند الراهن وفاء له، وطالب المرتهن به، بِيع المرهون ليُستوفي الدَّيْن من قيمته.

والذي له حق بيعه هو الراهن أو وكيله، لأنه هو المالك له ووكيله نائب عنه، وإنما يُشترط في هذا إذن المرتهن، لأن له حقاً في ماليّته، أي في قيمته، ليستوفي دَيْنه منها.

فإن لم يأذن المرتهن في بيعه رُفع الأمر إلى القضاء، وأمره القاضي بالإذن ببيعه أو إبراء الراهن من الدَّيْن، فإن لم يفعل شيئاً من ذلك باعه الحاكم رغماً عنه، ووفاه دينه من ثمنه، دفعاً للضرر عن الراهن.

وكذلك لو امتنع الراهن من بيع المرهون في هذه الحالة: فإن القاضي يلزمه بقضاء الدَّيْن أو بيع المرهون، فإنْ أبي باعه الحاكم رغماً عنه، ووفّى المرتهن دَيْنه من ثمنه، دفعاً للضرر عنه.

فإذا كان للراهن متاع آخر يمكن أن يُباع ويوفّى الدَّيْن من ثمنه لم يُجبر على بيع المرهون، إذا رغب ببيع غيره والوفاء منه، لأن المرهون لم يتعيّن للوفاء، لأن الواجب وفاء الدَّيْن من مال المدين، فلا فرق بين المرهون وغيره، كما لو لم يكن بالدَّيْن رهن، فإنه لا يتعين لوفائه مال دون مال.

وإذا أذِنَ الراهن للمرتهن أن يبيع العين المرهونة: فالأصح أنه إذا باعها في حضرة الراهن صحّ ذلك، لأن الراهن يستطيع أن يرجع عن الإذن قبل إبرام العقد إذا وجد أن في البيع عيناً له. أما إذا باع المرتهن في غَيْبة الراهن فلا يصحّ البيع، لأن بيعه لغرض نفسه، وهو استيفاء دَيْنه، فيتّهم حال غَيْبة الراهن بالاستعجال وعدم التروَّي والتحفّظ لمصلحة الراهن، مما لا يحصل في حال حضوره.

 

القسم الثاني:

ما يتعلق بهلاك العين المرهونة واستهلاكها:

قد تتعرض العين المرهونة الى التَّلَف: إما بهلاكها بنفسها أو بآفة سماوية، أي بدون أي فعل يقع عليها من أحد، وإما باستهلاكها من قِبَل الراهن او المرتهن او غيرهما، ولكل حال حكمها.

 

1. هلاكها بنفسها:

وذلك لا يخلو من أن يكون الهلاك بتعدَّ أو تقصير أو لا يكون بتعدَّ أو تقصير:

فإن كان الهلاك بتعدَّ أو تقصير: كانت العين المرهونة مضمونة على المتعدَّي أو المقصّر، سواء أكان الراهن أو المرتهن أو غيرهما، لأن المتعدّي والمقصّر ضامن على أيّ حال، والضمان يكون بمثلها إن كانت لها مثل، أو بقيمتها إن لم يكن لها مثل، ويكون المثل أو القيمة رهناً بدلها في يد المرتهن.

وإن كان الهلاك بلا تعدَّ أو تقصير: فلا ضمان على المرتهن إن كانت في يده وإنما تهلك من مال الراهن، ولا يسقط شيء من الدَّين بهلاكها، لأن يد المرتهن عليها يد أمانة.

ودليل ذلك:

-  قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يغلق الرهن، الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غُنْمه وعليه غُرْمه". (اخرجه الشافعي في الأم: كتاب الرهن، باب: ضمان الرهن: 3/147).

ومعنى أن الرهن من صاحبه أن هلاكه يكون من ماله، بدليل قوله: "له غنمه وعليه غرمه". وغنمه: سلامته وزيادته ومنافعه، وغرمه: نفقته ونقصه وهلاكه. فكان هلاكه من مال مالكه وهو الراهن، ولكن لا يضمن بدله ليوضع رهناً، لأنه لم يتعدَّ بهلاكه.

-  ومما يؤكد ما سبق من فهم الحديث: أن الرهن وثيقة بالدَّين، فإذا هلك بدون تعدَّ كان كهلاك غيره من الوثائق كالصّك الذي كُتب فيه الدَّيْن والشاهِدَيْن والكفيل، ولا يسقط شيء من الدَّيْن بهلاك شيء من هذه الوثائق، فكذلك لا يسقط شيء منه بهلاك العين المرهونة.

 

2. استهلاك العين المرهونة:

استهلاك العين المرهونة: إما أن يكون من قبل الراهن، أو من قبل المرتهن، أو من قبل غيرهما، وهو ما نسمّيه بالأجنبي، أي الذي لا علاقة له بعقد الرهن، وأيّاً منهم كان المستهلِك كان ضامناً لقيمة العين المرهونة، ولكن لكلٍّ حالة أحكامها:

 

1- إذا كان المستهلك هو الراهن ترتبت الأحكام التالية:

أ – إذا كان الدَّيْن قد حلّ أجله يطالب الراهن بالدَّيْن، ولا يطالب بالضمان، أي بقيمة المرهون لتكون رهناً جديداً، إذ لا فائدة في ذلك طالما أن الأجل قد انتهى.

ب- فإذا كان الدَّيْن لم يحلّ أجلهُ بعد طولب بالمثل أو القيمة، ليكون ذلك رهناً في يد المرتهن بدل العين الهالكة حتى يحل أجَل الدَّيْن، لقيام الضمان مقام العين المضمونة.

ج- الذي يخاصم الراهن في التضمين ويرافعه لدى القضاء هو المرتهن، لأنه صاحب الحق في مالية العين المرهونة، إذ من حقه حبسها ليستوفي منها دينه عند حلول الأجل إذا تعذّر على الراهن وفاؤه.

 

2- وإن كان المستهلك هو المرتهن: ترتب ما يلي من الأحكام:

أ – فهو ضامن لمثله أو قيمته يوم قبضه له، لأن قبضه هو المعتبر في ضمانه، إذ به دخل في ضمانه، لأنه قبض لمصلحته لاستيفاء الدَّيْن منه.

وإنما كان ضامناً – رغم أن يد المرتهن على الرهن يد أمانة – لأنه أتلف مال غيره بغير حق.

ب- فإن كان الدَّيْن لم يحلّ أجَله بعدُ كان المثل أو القيمة رهناً في يد المرتهن حتى يحلّ الأجل، لأن ذلك بدل العين المرهونة فيأخذ حكمها.

ج- وإن كان الدَّيْن قد حلّ أجله، وكان الضمان من جنس الدَّيْن استردّ المرتهن منه حقه، وردّ الزيادة إن فضل شيء عن الدَّيْن، وإن كان الدَّيْن أكثر رجع على الراهن بالنقص، وإن كانا متساوِيَيْن حصلت المقاصّة، ولا شيء على واحد منهما.

 

3- وإن كان المستهلك أجنبياً ترتب ما يلي من الأحكام:

أ- يضمن قيمة الرهن يوم الاستهلاك إن لم يكن له مثل، فإن كان له مثل ضمن مثله، ويكون المثل أو القيمة رهناً عند المرتهن بدل العين المستهلكة.

ب- الذي يخاصم في الضمان هو الراهن، لأنه هو المالك للعين المستهلكة ومنفعتها، وللمرتهن أن يحضر الخصومة لتعلّق حقّه بالبدل الذي سيكون رهناً عنده، فإن لم يخاصم الراهن فليس للمرتهن أن يخاصم على الأصح.

 

القسم الثالث:

ما يتعلق بنمَاء الرهن:

نمَاء الرهن هو ثمرة المرهون وغلّته وزيادته، متصلاً كان كالسِّمَن أو منفصلاً كالولد، وسواء أكان متولِّداً من الأصل كالثمرة والولد والسِّمَن، أم غير متولِّدٍ منه كأجرة الدار وكسب السيارة.

إذا حصل هذا النماء للعين المرهونة كان ملكاً للراهن، لأنه نماء ملْكه، فهو تبع للأصل في الملْك، ولكن هل يدخل هذا النماء في عقد الرهن تبعاً للأصل، ويكون للمرتهن حق احتباسها معه حتى يفكّ المرهون، أم للراهن أخذها، لأنها لم يجرِ عليها عقد الرهن؟

والجواب: أنه من الواضح دخول الزيادة المتصلة كالسَّمْن ونحوه في الرهن، لأنه لا يمكن انفصالها او تمييزها عن الأصل.

وأما الزيادة المنفصلة: كالولد واللبن والثمرة وما أشبه ذلك، فلا تدخل في الرهن، وليس للمرتهن أن يحبسها عن الراهن، لأنها ملْكه ولم يجر عليها عقد الرهن، دلّ على ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: "له غنمه ..." ومن غنمه: زوائده ونماؤه.

 

القسم الرابع:

أحكام فرعية تتعلق بالرهن:

هناك أحكام فرعية غير ما سبق تتعلق بالرهن، وهي:

 

أولاً – وضع المرهون على يد عدْل:

قد يطلب المرتهن رهناً بدَيْنه، ولا يطمئن الراهن الى وضعه في يده، فيتفقان على وضعه عند إنسان يثقان به ويرضيانه، لعدالته وحُسْن سيرته وامانته وحرصه على رعاية مصالح الناس.

فالعدل: هو الثقة الأمين الذي يرضى به كل من الراهن والمرتهن، ليضعا عنده العين المرهونة.

وحكم ذلك: أنه جائز ومشروع إذا شرطاه أو اتفقا عليه، فإذا قبض العين بالمرهونة صحّ قبضه وتمّ عقد الرهن، وكان في ذلك وكيلاً عن المرتهن في القبض.

 

ويتعلق بوضع المرهون على يد العدل أحكام، وهي:

1- ليس للعدل أن يدفع العين المرهونة إلى الراهن أو المرتهن بلا إذن الآخر، لأن كلاًّ منهما لم يرض بوضعه في يد صاحبه أولاً، ولأن كل واحد منهما قد تعلّق حقه بالمرهون: فحق الراهن حفظ ملْكه في يد مَن ائتمنه، وحق المرتهن التوثّق من أجل استيفاء الدَّيْن، فليس له ان يبطل حق واحد منهما بدفعه الى الآخر بغير إذنه، فإذا اذن في ذلك جاز.

فإذا دفعه الى أحدهما بدون إذن الآخر كان متعدِّياً، وصار ضامناً للعين المرهونة، يضمن قيمتها إذا تلفت.

2- إذا هلكت العين المرهونة في يده بلا تعدًّ ولا تقصير لم يضمن، لأن يده يد المرتهن هنا، ويد المرتهن يد أمانة كما علمت، فإذا تعدّى أو قصّر ضمن، كالمرتهن.

3- ليس للعدل أن يبيع العين المرهونة عند حلول أجَل الدَّيْن وتعذّر وفائه، لأنهما جعلا له حق الإمساك لا التصرّف، إلا إذا سلّطاه على ذلك، أو شرطا في العقد أن يبيعه العدل، وعندها يجوز له بيعه، ولا يجب عليه مراجعة الراهن في الأصح، فإن عزله الراهن عن البيع صحّ عزله، ولم يملك البيع عندئذ. وكذلك للعدل ان يعزل نفسه عن ذلك، ويترك أمر البيع لهما.

4- إذا ضمن العدل قيمة الرهن – بسبب تعدّيه في إتلافه، أو دفعه إلى أحد المتراهنين بدون إذن الآخر وتلف في يده – أخذت منه القيمة ثم جعلت رهناً من جديد عنده، أو جعلت عند غيره.

 

ثانياً- رهن العين المستعارة للرهن:

قد مّر معنا عند الكلام عن شروط المرهون أنه لا يشترط أن يكون الراهن مالكاً للعين المرهونة، بل يصحّ أن يستعير عيناً ليرهنها.

وإنما جاز ذلك: لأن الرهن توثيق للدَّيْن، وهو يحصل بما يملكه المدين وما لا يملكه كالشهود والكفالة، وكذلك الرهن بمعنى وفاء الدَّيْن وقضائه، والانسان يملك أن يقضي دينه بمال غيره إذا أذن له بذلك.

 

ويتعلق بذلك أحكام:

1- تقييد الإعارة: بمعنى أنه يشترط في ذلك ان يبيِّن الراهن المستعير للمعير: جنس الدَّيْن وقدره وصفته والمرهون عنده، لأن الأغراض تختلف باختلاف هذه الأشياء، فقد يرضى برهن متاعه عند شخص ولا يرضى بذلك عند آخر، لاختلاف الناس في حُسْن المعاملة وعدمها، وقد يرضى برهن متاعه بدَيْن معيّن من اليسير على الراهن وفاؤه، بينما لا يرضى برهنه مقابل دَيْن قد يتعذّر عليه وفاؤه، فيُباع في ذلك متاعه، وهكذا.

2- موافقة الراهن المستعير شروط المعير ومخالفته لها: اذا وافق الراهن شروط المعير في رهن العين التي استعارها منه كان الرهن صحيحاً، فإذا قبض المرتهن العين المرهونة تمّ عقد الرهن ولزم، وليس للمعير ولا للراهن المستعير الرجوع عنه، وترتبت على ذلك جميع أحكام الرهن السابقة التي من جملتها: أنه إذا هلكت العين المرهونة في المرتهن بلا تعدِّ ولا تقصير فلا ضمان عليه كما أن الراهن المستعير لا يضمن شيئاً لأنه لم يسقط عنه بهلاكها شيء من الدَّيْن الذي في ذمته، وهو لم يخالف ما شرط عليه.

أما إذا خالف الراهن المستعير شروط المعير، كأن أعاره ليرهنه عند شخص معين فرهنه عند غيره، بطل الرهن . وكذلك لو خالف في جنس الدَّيْن كأن يرهنه بنقد سوري فرهنه بغيره مثلاً، ومثله المخالفة في القدر: كأن أعاره ليرهنه بألفٍ فرهنه بألفين. أما لو كانت المخالفة في القدر الى أقل، كأن اعاره ليرهنه بألفين فرهنه بألف، لأنه أيسر في الوفاء، فهي مخالفة لمصلحة المعير.

3- هلك العين المستعارة للرهن في يد المستعير: قد علمنا أنه إذا هلكت العين المستعارة في يد المرتهن بلا تعدٍّ أو تقصير فلا ضمان، أما إذا هلكت أو تعيِّبت في يد المستعير فإنه ضامن لها، سواء أكان ذلك قبل دفعها للمرتهن أم بعد فكاك الرهن، وسواء تعدّى في ذلك أم لم يتعدّ، لأنها تلفت في غير الاستعمال الذي استعارها من أجله، وهو الرهن هنا، والعاريّة مضمونة مطلقاً اذا هلكت بغير الاستعمال، كما علمت في باب العاريّة.

4- فك المعير للعين المستعارة للرهن: إذا عجز الراهن عن وفاء الدَّيْن وافتكاك العين المرهونة عند حلول اجل الدَّيْن، وأراد المعير مالك العين وفاء الدَّيْن ليفتك ملْكه كان له ذلك، وأُجبر المرتهن على قبول الوفاء منه، لأنه غير متبرِّع بقضاء دَيْن الراهن، لأنه يسعى في تخليص ملْكه، فلا مِنَّة له في ذلك، ولذا يُجبر الدائن على القبول، بخلاف ما لو كان الذي يقضي الدين متبرعاً، فإن الدائن لا يجبر على القبول، لما في ذلك من المِنّة.

وفي هذه الحالة يرجع المعير على الراهن المستعير بجميع ما قضي عنه من الدين.

5- موت المعير أو المستعير: إذا مات الراهن المستعير، ولم يترك مالاً يؤدَّي منه الدَّيْن، بقى الرهن على حاله، ولا يباع المرهون المستعار إلا برضا المعير لأنه ملكه، فإذا رضى ببيعه – وكان في ثمنه وفاء للدَّيْن – بيع ولو لم يرض المرتهن، لأن حقه – وهو استيفاء الدَّيْن – يحصل بالبيع . وإذا لم يكن في ثمنه وفاء الدَّيْن لم يبع إلا برضا المرتهن، لأن في حبسه منفعة له، فقد يحتاجه المالك المعير فيسعى لتخليصه بوفاء الدَّيْن كاملاً، كما أنه قد ترتفع قيمته فيكون في بيعه عندها وفاء دينه.

وإذا مات المعير وكان عليه دين، ولم يترك ما يفي به إلا العين المستعارة للرهن، أمر الراهن المستعير بفكاك الرهن، ليعود الى ورثة المعير فيفوا منه دَيْنه، ويصل كلّ ذي حقٍّ إلى حقه. فإن عجز الراهن عن فك الرهن بقى على حاله، ولورثة المعير عندها أن يأخذوا العين المرهونة إن قضوا ما عليه من دَيْن، فإن لم يقضوا دَيْن المعير، وطالبوا هم والغرماء أصحاب الديون ببيع العين المرهونة بيعت إن كان في ثمنها وفاء لدين المرتهن ولو بغير رضاه، فإن لم يكن فيها وفاء لا تُباع الا برضاه، لمصلحته في حبسه، فلعلّهم يفكّوه بوفاء الدين أو يزداد السعر.

 

ثالثاً- الزيادة في المرهون أو الدَّيْن بعد تمام عقد الرهن:

أ – الزيادة في المرهون: لو رهن شخص شيئاً ما بدَيْن، وبعد قبض المرتهن المرهون أراد الراهن أن يزيد في المرهون ويضع عيناً أُخرى، لتكون رهناً مع العين الأولى بذلك الدَّيْن نفسه صحّ ذلك، لأنه زيادة توثيق لحق المرتهن، كما لو كان له عليه دَيْن بلا رهن، ثم رهنه شيئاً به.

فإذا قبض المرتهن تلك الزيادة صارت مرهونة قصداً لا تبعاً، وجرت عليها جميع أحكام الرهن كما تجرى على المرهون الأول، وصارت معه رهناً واحداً.

ب- الزيادة في الدَّيْن: وذلك بأن يرهن شخص متاعاً بألف مثلاً، ويتم عقد الرهن بالقبض، ثم يرغب أن يأخذ الفاً ثانية، على أن يكون المتاع المرهون رهناً بالألفين. فإن ذلك لا يصحّ، لأنه نقص في الوثيقة، على خلاف ما سبق من الزيادة في المرهون، لأن بعض المرهون الأول هنا جعل رهناً بالدَّيْن الثاني، فنقصت الوثيقة بالدَّيْن الأول.

وكذلك فإن العين المرهونة مشغولة بالدَّيْن الأول، فالزيادة في الدَّيْن شغل لما هو مشغول، فلا يصح، بخلاف الزيادة في المرهون، فإنها شغل لما هو غير مشغول، وهو المرهون الثاني فإنه فارغ من الشغل بدَيْن، فتصح.

 

رابعاً- تعدد اطراف الرهن:

يمكن أن يجري عقد الرهن أولاً مع أكثر من عاقدين، وأن يكون على مرهونين فأكثر، وإليك بيان ذلك:

 

1- تعدّد الراهنين:

وذلك بأن يكون لرجل واحد دَيْن على شخصين أو اكثر، فيرهن هؤلاء جميعاً عنده شيئاً ما، سجادة أو داراً أو نحو ذلك، بهذا الدَّيْن كله في عقد واحد، ولا فرق أن يكون الدَّيْن ثبت على الجميع في صفقة واحدة، أم كان ثبوت كل جزء منه على كل واحد منهم على حدة.

إن هذا الرهن صحيح، لأن المرتهن كالمشتري والراهن كالبائع، ويصح أن يشتري إنسان واحد سلعة واحدة من عدة بائعين.

وهل إذا دفع أحدهم نصيبه من الدين انفك قسطه الذي يقابله من المرهون، أم يبقى كله رهناً حتى يؤدي الجميع؟

والجواب: إن الصفقة متعددة لتعدد العاقدين، فصار عقد الرهن كأنه متعدد والعين المرهونة كأنها متعددة، ولذا ينفك من الرهن نصيب كل منهم إذا وفى ما عليه من الدين.

 

2- تعدد المرتهنين:

وذلك بأن يكون لاثنين أو أكثر ديون على شخص، فيرهن عندهم جميعاً متاعاً ما أو داراً مثلاً بتلك الديون، ويقبل هؤلاء.

إن هذا الرهن صحيح، سواء أكان هؤلاء شركاء في الديون التي عليه، أم لم يكونوا كذلك.

وإذا وفي الراهن دين أحد المرتهنين انفك من المرهون قسطه الذي يقابله من الدين، وذلك لتعدد الصفقة بتعدد المستحقين، وهم الدائنون، فصار كأنه عقد مع كل واحد منهم على حدة.

 

3- تعدد العين المرهونة:

وذلك بأن يقول الراهن للمرتهن: رهنتك هاتين السيارتين – مثلاً – بمائتي ألف، ويقبل المرتهن ويقبض السيارتين. إن هذا الرهن صحيح.

وهل ينفك احد الرهنين إذا أدى قسطه من المال؟ ينظر:

-  فإن كان رهن العينين مقابل الدَّيْن بدون تفريق: لم يكن له الحق بقبض شيء من الأعيان المرهونة حتى يوفى الدَّيْن كله، لأن الأعيان المرهونة رهن بكل الدَّيْن، فتكون جميعها محبوسة بكل جزء من اجزائه، فلا ينفكّ شيء منها حتى تؤدَّي جميع الأجزاء ويصير ذلك كحبس كل المبيع في يد البائع حتى يقبض كل الثمن.

-  وإن كان فرّق عند الرهن فقال: كل واحدة بألف مثلاً، كان له الحق أن يقبض إحداهما إذا أدّى ما عيّن لها من الدَّيْن، لأن العقد صار في حكم عقدين حين عيّن حصة كل من المرهونين. 


هذا، والله أعلى وأعلم،،،