الأحد، 15 أكتوبر 2017

كتاب علم أصول الفقه تأليف عبد الوهاب خلاف بصيغة وورد Word - doc - الجزء الأول






علم أصول الفقه





تأليف
عبد الوهاب خلاف
أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية الحقوق جامعة القاهرة – سابقا





لمحة عن حياة المؤلف

·       ولد الفقيد في شهر مارس سنة 1888 ببلدة كفر الزيات.
·       التحق بالأزهر الشريف سنة 1900م بعد أن حفظ القرآن الكريم في أحد "كتاتيب" البلدة.
·       انتظم في سلك طلبة مدرسة القضاء الشرعي إثر افتتاحها وتخرج فيها عام 1915م وعين مدرساً بها في نفس السنة.
·       اشترك في ثورة 1919م فبرزت خلالها مواهبه الخطابية والكتابية وترك المدرسة أو أجبر على تركها فانتقل إلى القضاء الشرعي.
·       عين قاضياً بالمحاكم الشرعية سنة 1920م ثم نقل مديراً للمساجد بوزارة الأوقاف سنة 1924م وبقي بها حتى عين مفتشاً بالمحاكم الشرعية في منتصف سنة 1931م.
·       انتدبته كلية حقوق جامعة القاهرة مدرساً بها في أوائل سنة 1934م وبقي أستاذاً لكرسي الشريعة الإسلامية حتى أحالته إلى المعاش سنة 1948م وقد ظلت تمد مدة خدمته حتى بداية عام 1955-1956م حيث أقعده المرض عن إلقاء المحاضرات.
·       زار كثيراً من دول الوطن العربي للاطلاع على المخطوطات النادرة وإلقاء المحاضرات، فكان سفيراً ناجحاً لمصر في كل مكان.
·       انتخب عضواً بمجمع اللغة العربية فأشرف على وضع معجم القرآن.
·       ترك للشريعة الإسلامية ثروة من المؤلفات امتازت بوضوح العبارة وجلاء الأحكام، فله كتاب "أصول الفقه"، وكتاب "أحكام الأحوال الشخصية"، وشرح واف لقانوني "الوقف والمواريث"، وكتاب فريد عن "السياسة الشرعية"، أو السلطات الثلاث في الإسلام، وكتيب في تفسير القرآن الكريم بعنوان "نور من الإسلام"، وهذا عدا ما دبجه من بحوث ومقالات كثيرة نشرها في مجلة القضاء الشرعي ومجلة الأحكام ومجلة لواء الإسلام ومجلتي الثقافة والرسالة.
·       ألقى مجموعة من الأحاديث من منبر الإذاعة المصرية في مختلف الموضوعات العلمية والدينية والاجتماعية وأخصها "من قصص القرآن".
·       ألقى مجموعة من المحاضرات في المناسبات الدينية والاجتماعية، كما ألقى سلسلة محاضرات في تفسير القرآن الكريم لعدة سنوات بدار الحكمة.






افتتاحية الطبعة السابعة
لفضيلة الشيخ/ محمد أبو زهرة

الحمد لله رب العالمين القائل في كتابه الكريم: "تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير * الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور" [الملك: 1، 2]، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي بعث بالشريعة السمحة رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فهذا كتاب "علم أصول الفقه قال: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعوا له" وإن كتاب أصول الفقه الذي نقدمه لتلاميذه هو بلا ريب علم ينتفع به، فهو عمل مستمر له ثوابه إلى يوم القيامة.
ولقد كنت قد اعتزمتُ أن أكتب كتابا في الأصول لطلبة الكلية ألتزم فيه المنهاج الذي رسمته لنفسي، ولكن ما إن أخذت الأهبة وبدأت أكتب حتى ساورتني فكرة، وهي أن أترك القلم لنعيد طبع كتاب المرحوم أستاذنا خلاف، وألحت علىّ هذه الفكرة فذاكرت فيها الصديقين الكريمين الأستاذ عبد الفتاح القاضي، والأستاذ على الخفيف، فاتفق ثلاثتنا على أن نعيد الطبع إحياء لذكرى الراحل الكريم.
وها هي ذي طبعة الذكرى نقدمها لتلاميذ الفقيد الكريم، ولمحبي علمه، ولقد رأينا نحن الثلاثة أيضا أن تكون هذه الطبعة صورة صادقة لتفكير كاتب الكتاب فتكون الذكرى كاملة، ولذلك لم نتزيد على الكتاب بزيادة، ولم ننقص منه عبارة، ولم نعدل فيه رأيا ليقرأ القارئ في هذه الطبعة ما كتبه الأستاذ كما قرأه في الطبعات السابقة فلا تتغير إلا فيما عساه يكون من تصحيف جرى في الطبع في النسخ السابقة.
وإننا نحن الذين زاملنا الأستاذ وعاشرناه أكثر من عشرين سنة نحس أن فراغاً هائلاً قد تركه، وهكذا كل رجالات العلم الذين لهم كيان فكري مستقل قد اختصوا به، ومنهاج علمي لم يكونوا فيه مقلدين قد التزموه.
رحمه الله وأثابه وجزاه عن العلم والأخلاق خيراً.
محمد أبو زهرة
8 صفر سنة1376هـ
13 سبتمبر سنة 1959م





فاتحة طبعة سنة 1947م للمؤلف

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى رسل الله أجمعين ومن اعتصموا بحبلهم المتين.
أما بعد...
فإن علم أصول الفقه لا يستغني عنه مجتهد في تبيينه النصوص وتفنينه فيما لا نص فيه، ولا قاض في فهمه مواد القانون حق فهمها، وتطبيقها التطبيق الذين يحقق العدل وما قصده الشارع بها، ولا فقيه في بحثه ودرسه وتحليله ومقارنته ومقابلته بين المذاهب والآراء.
وأحمد الله الذي أمدني بمعونته وهدايته، فأخرجت كتابا في هذا العلم ذلل صعبه وقرب متناوله، ووفقني إلى أن أصوغ مسائله في قواعد كلية، وأن أورد أمثلتها التطبيقية من النصوص الشعرية ومن مواد القوانين الوضعية، وأن أقارن بين كثير من بحوثه وما يقابلها من بحوث علم أصول القوانين.
وقد لقي كتابي والحمد لله من حسن القبول والتقدير مما شجعني على أن أعيد طبعه بعد أن أضفت إليه بحوثا جديدة، وزدته تهذيبا وتنقيحا وإيضاحا، وأسأل الله أن ينفع به، وأن يجعله خالصا لوجهه.
القاهرة في: رجب سنة 1366هـ
يوليو سنة 1947م





فاتحة طبعة سنة 1942م

الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
والصلاة والسلام على رسول الله محمد بن عبدالله الذين بعثه الله بشريعة محكمة حنيفية سمحة، أساسها اليسر بالناس ورفع الحرج عنهم، وغايتها تحقيق مصالحهم والعدل بينهم، وعلى آله وصحبه الذين خلفوه في حراسة شريعته، وهداية أمته، وكانوا تماما لنوره، ودعاة إلى هداه.
أما بعد...
فإن المجتهدين من أئمة المسلمين بذلوا أقصى جهودهم العقلية في استمداد الأحكام الشرعية من مصادرها، واستخرجوا من النصوص الشرعية وروحها ومعقولها كنوزاً تشريعية ثمينة، كفلت مصالح المسلمين على اختلاف أجناسهم وأقطارهم ونظمهم ومعاملاتهم، ولم تضق بحاجة من حاجاتهم، بل كان فيها تشريع لأقضيه لم تحدث، ووقائع فرضية، وهذه موسوعات الفقه آيات تنطق بما بذلوه من جهد وما كان حليفهم من توفيق.
ولم يكتفوا بما استمدوه من أحكام، وما سنوه من قوانين، بل عنوا بوضع قواعد للاستمداد، وقوانين للاستنباط، وكونوا من مجموعة هذه القواعد علم أصول الفقه، وكأنهم رحمهم الله بصنيعهم هذا أشاروا إلى خلفهم إلى أن لا يركنوا إلى اجتهادهم، وأن يجتهدوا كما اجتهدوا، ويبنوا كما بنوا، فإن الأقضية تحدث والمصالح تتغير، ومصادر الشريعة معين لا ينضب، ومنهل عذب لك وارد، وفضل الله يؤتيه من يشاء.
وهذا كتابي في علم أصول الفقه قصدت به إحياء هذا العلم، وإلقاء الضوء على بحوثه، وراعيت في عبارته الإيجاز والإيضاح، وفي بحوثه وموضوعاته الاقتصار على ما تمس إليه الحاجة في استمداد الأحكام الشرعية من مصادرها وفهم الأحكام القانونية من موادها، وعنيت بأن تكون الأمثلة التطبيقية للقواعد الأصولية من نصوص الشريعة ومن مواد القوانين الوضعية، وأشرت في كثير من المواضيع إلى المقارنة بين أصول التقنين الشرعي وأصول التقنين الوضعي، وقسمته إلى مقدمة وأربعة أقسام:
فالمقدمة: في مقارنة عامة بين علم الفقه وعلم أصول الفقه يتبين منها التعريف بهما، وموضوعهما والغاية من دارستهما، ونشأة كل منهما وتطوره ليكون الشروع في علم أصول الفقه على بصيرة به.
والقسم الأول: في الأدلة التي تستمد منها الأحكام الشرعية، وفي هذا القسم تتجلى سعة المصادر التشريعية في الشريعة الإسلامية ومرونتها وخصوبتها وصلاحيتها للتقنين في كل عصر ولكل أمة.
والقسم الثاني: في مباحث الأحكام الشرعية الأربعة، وفي هذا القسم تظهر أنواع ما شرع في الإسلام من الأحكام، ويتجلى عدل الله ورحمته في رفع الحرج عن المكلفين وإرادة اليسر بهم.
والقسم الثالث: في القواعد الأصولية اللغوية التي تطبق في فهم الأحكام من نصوصها، وفي هذا القسم تظهر دقة اللغة العربية في دلالتها على المعاني ومهارة علماء التشريع الإسلامي في استثمارهم الأحكام من النصوص، وسبلهم القويمة في إزالة خفائها وفي تفسيرها وتأويلها.
والقسم الرابع: في القواعد الأصولية التشريعية التي تطبق في فهم الأحكام من نصوصها، وفي الاستنباط فيما لا نص فيه، وهذا هو لب العلم وروحه، وفيه يتجلى مقصد الشارع العام من تشريع الأحكام، وما أنعم الله به على عباده من رعاية مصالحهم.
وأسأل الله أن يتقبل كتابي هذا بقبول حسن، وأن يجعله خالصا لوجهه.
عبدالوهاب خلاف
القاهرة في: 10 رمضان سنة 1361هـ
21 سبتمبر سنة 1942م





مقدمة
في موازنة عامة بين علم الفقه وعلم أصول الفقه
من حيث التعريف بكل منهما، وبيان موضوعه، وغايته، ونشأته، وتطوره

التعريف:
من المتفق عليه بين علماء المسلمين على اختلاف مذاهبهم أن كل ما يصدر عن الإنسان من أقوال وأفعال سواء أكان من العبادات أم المعاملات أم الجرائم أم الأحوال الشخصية أم من أي نوع من أنواع العقود أو التصرفات له في الشريعة الإسلامية حكم، وهذه الأحكام بعضها بينتها نصوص وَرَدت في القرآن والسنة، وبعضها لم تبينها نصوص في القرآن أو السنة، ولكن أقامت الشريعة دلائل عليها ونصبت أمارات لها بحيث يستطيع المجتهد بواسطة تلك الدلائل والأمارات أن يصل إليها ويتبينها.
ومن مجموعة الأحكام الشرعية المتعلقة بما يصدر عن الإنسان من أقوال وأفعال، المستفادة من النصوص فيما وردت فيه نصوص، والمستنبطة من الدلائل الشرعية الأخرى فيما لم ترد فيه نصوص تكون الفقه.
فعلم الفقه في الاصطلاح الشرعي: هو العلم بالأحكام الشرعية العلمية المكتسب من أدلتها التفصيلية، أو هو مجموعة الأحكام الشرعية العملية المستفادة من أدلتها التفصيلية.
 وقد ثبت للعلماء بالاستقراء أن الأدلة التي تستفاد منها الأحكام الشرعية للعملية ترجع إلى أربعة: القرآن والسنة والإجماع والقياس وأن أساس هذه الأدلة والمصدر الأول منها هو القرآن، ثم السنَّة التي فسّرت مجمله، وخصصت عامه، وقيدت مطلقه، وكانت تبياناً له وتماماً.
ولهذا بحثوا في كل دليل من هذه الأدلة وفي البرهان على أنه حجة على الناس ومصدر تشريعي يلزمهم اتباع أحكامه، وفي شروط الاستدلال به وفي أنواعه الكلية، وفيما يدل على كل نوع منها من الأحكام الشرعية الكلية.
وبحثوا أيضاً في الأحكام الشرعية الكلية التي تستفاد من تلك الأدلة وفيما يتوصل به إلى فهمها من النصوص، وإلى استنباطها من غير النصوص من قواعد لغوية وتشريعية.
وبحثوا أيضاً فيمن يتوصل إلى استمداد الأحكام من أدلتها وهو المجتهد، فبينوا الاجتهاد وشروطه والتقليد وحكمه.
ومن مجموعة هذه القواعد والبحوث المتعلقة بالأدلة الشرعية من حيث دلالتها على الأحكام، وبالأحكام من حيث استفادتها من أدلتها ومما يتعلق بهذين من اللواحق والمتممات تكونت أصول الفقه.
فعلم أصول الفقه في الاصطلاح الشرعي: هو العلم بالقواعد والبحوث التي يتوصل بها إلى استفادة الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية، أوهي مجموعة القواعد والبحوث التي يتوصل بها إلى استفادة الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية.

الموضوع:
موضوع البحث في علم الفقه: هو فعل المكلف من حيث ما يثبت له من الأحكام الشرعية، فالفقيه يبحث في بيع المكلف وإجارته ورهنه وتوكيله وصلاته وصومه وحجّه وقتله وقذفه وسرقته وإقراره ووقفه لمعرفة الحكم الشرعي في كل فعل من هذه الأفعال.
وأما موضوع البحث في علم أصول الفقه: فهو الدليل الشرعي الكلي من حيث ما يثبت به من الأحكام الكلية، فالأصولي يبحث في القياس وحجيته، والعام وما يقيده، والأمر وما يدل عليه وهكذا ... وإيضاحاً لهذا أضرب المثل الآتي:
القرآن هو الدليل الشرعي الأول على الأحكام، ونصوصه التشريعية لم ترد على حال واحدة، بل منها ما ورد بصيغة الأمر، ومنها ما ورد بصيغة النهي، ومنها ما ورد بصيغة العموم أو بصيغة الإطلاق، فصيغة الأمر، وصيغة النهي، وصيغة العموم، وصيغة الإطلاق، أنواع كلية من أنواع الدليل الشرعي العام، وهو القرآن.
فالأصولي يبحث في كل نوع من هذه الأنواع ليتوصل إلى نوع الحكم الكلي الذي يدل عليه مستعيناً في بحثه باستقراء الأساليب العربية والاستعمالات الشرعية، فإذا وصل ببحثه إلى أن صيغة الأمر تدل على الإيجاب وصيغة النهي تدل على التحريم وصيغة العموم تدل على شمول جميع أفراد العام قطعاً، وصيغة الإطلاق تدل على ثبوت الحكم مطلقاً، وضع القواعد الآتية: الأمر للإيجاب، النهي للتحريم، العام ينتظم جميع أفراده قطعاً المطلق يدل على الفرد الشائع بغير قيد.
وهذه القواعد الكلية وغيرها مما يتوصل الأصولي ببحثه إلى وضعها يأخذها الفقيه قواعد مُسَلَّمَة ويطبقها على جزيئات الدليل الكلي ليتوصّل بها إلى الحكم الشرعي العملي التفصيلي، فيطبق قاعدة: الأمر للإيجاب على قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) [المائدة: 1] ويحكم على الإيفاء بالعقود بأنه واجب. ويطبق قاعدة: النهي للتحريم، على قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم) [الحجرات: 11]. ويحكم بأن سخرية قوم من قوم محرمة. ويطبق قاعدة: العام ينتظم جميع أفراده قطعاً: على قوله تعالى: (حرمت عليكم أمهاتكم) [النساء: 23]، ويحكم بأن كل أمّ مُحرّمة. ويطبق قاعدة: المطلق يدل على أي فرد على قوله تعالى في كفارة الظهار: (فتحرير رقبة) [المجادلة: 3]، ويحكم بأنه يجزئ في التفكير تحرير أية رقبة مسلمة أو غير مسلمة.
 ومن هذا يتبين الفرق بين الدليل الكلي والدليل الجزئي، وبين الحكم الكلي والحكم الجزئي.
فالدليل الكلي هو النوع العام من الأدلة الذي تندرج فيه عدة جزيئات مثل الأمر والنهي والعام والمطلق والإجماع الصريح والإجماع السكوتي، والقياس المنصوص على علته والقياس المستنبطة علته، فالأمر كلي يندرج تحته جميع الصيغ التي وردت بصيغة النهي وهكذا، فالأمر دليل كلي، والنص الذي ورد على صيغة الأمر دليل جزئي، والنهي دليل كلي، والنص الذي ورد على صيغة النهي دليل جزئي.
وأما الحكم الكلي فهو النوع العام من الأحكام الذي تندرج فيه عدة جزيئات مثل الإيجاب والتحريم والصحة والبطلان، فالإيجاب حكم كلي يندرج فيه إيجاب الوفاء بالعقود وإيجاب الشهود في الزواج وإيجاب أي واجب، والتحريم حكم كلي يندرج فيه تحريم الزنى والسرقة وتحريم أي محرم، وهكذا الصحة والبطلان، فالإيجاب حكم كلي، وإيجاب فعل معين حكم جزئي.
والأصولي لا يبحث في الأدلة الجزئية، ولا فيما تدل عليه الأحكام الجزئية، وإنما يبحث في الدليل الكلي وما يدل عليه من حكم كلي ليضع قواعد كلية لدلالة الأدلة كي يطبقها الفقيه على جزيئات الأدلة لاستثمار الحكم التفصيلي منها.
والفقيه لا يبحث في الأدلة الكلية ولا فيما تدل عليه من أحكام كلية وإنما يبحث في الدليل الجزئي وما يدل عليه من حكم جزئي.

الغاية المقصودة بهما:
الغاية المقصودة من علم الفقه هي تطبيق الأحكام الشرعية على أفعال الناس وأقوالهم، فالفقه هو المرجع القاضي في قضائه، والمفتي في فتواه، ومرجع كل مكلف لمعرفة الحكم الشرعي فيما يصدر عنه من أقوال وأفعال، وهذه هي الغاية المقصودة من كل القوانين في أيّة أمّة، فإنها لا يقصد منها إلا تطبيق موادها وأحكامها على أفعال الناس وأقوالهم وتعريف كل مكلف بما يجب عليه وما يحرم عليه.
وأما الغاية المقصودة من علم أصول الفقه فهي تطبيق قواعده ونظرياته على الأدلة التفصيلية للتوصل إلى الأحكام الشرعية التي تدل عليها. فبقواعده وبحوثه تفهم النصوص الشرعية ويعرف ما تدل عليه من الأحكام ويعرف ما يزال به من خفاء الخَفي منها، وما يرجح منها عند تعارض بعضها ببعض. وبقواعده وبحوثه يستنبط الحكم بالقياس أو الاستحسان أو الاستصحاب أو غيرها في الواقعة التي لم يرد نص بحكمها. وبقواعده وبحوثه يفهم ما استنبطه الأئمة المجتهدون حق فهمه، ويوازن بين مذاهبهم المختلفة في حكم الواقعة الواحدة، لأن فهم الحكم على وجهه والموازنة بين حكمين مختلفين لا يكون إلا بالوقوف على دليل الحكم ووجه استمداد الحكم من دليله، ولا يكون هذا إلا بعلم أصول الفقه فهو عماد الفقه المقارن.

نشأة كل منها وتطوّره:
نشأت أحكام الفقه مع نشأة الإسلام، لأن الإسلام هو مجموعة من العقائد والأخلاق والأحكام العملية، وقد كانت هذه الأحكام العملية في عهد الرسول مكونة من الأحكام التي وردت في القرآن، ومن الأحكام التي صدرت من الرسول فتوى في واقعة، أو قضاء في خصومة، أو جواباً عن سؤال. فكانت مجموعة الأحكام الفقهية في طورها الأول ومصدرها القرآن والسنة. مكونة من أحكام الله ورسوله
وفي عهد الصحابة واجهتهم وقائع وطرأت لهم طوارئ لم تواجه المسلمين ولم تطرأ لهم في عهد الرسول، فاجتهد فيها أهل الاجتهاد منهم وقضوا وأفتوا وشرعوا وأضافوا إلى المجموعة الأولى عدة أحكام استنبطوها باجتهادهم. فكانت مجموعة الأحكام الفقهية في طورها الثاني وفتاوى الصحابة وأقضيتهم، ومصادرها القرآن والسنة واجتهاد الصحابة. وفي هذين الطورين لم تدوّن هذه الأحكام ولم تشرع أحكام لوقائع فرضية بل كان التشريع فيهما لما حدث فعلاً من الواقع وما وقع من الحوادث، ولم تأخذ هذه الأحكام صبغة علمية بل كانت مجرد حلول جزئية لوقائع فعلية ولم تُسَم هذه المجموعة علم الفقه ولم يسم رجالها من الصحابة الفقهاء.
وفي عهد التابعين وتابعي التابعين والأئمة المجتهدين وهو بالتقريب القرنان الهجريان الثاني والثالث اتسعت الدولة الإسلامية ودخل في الإسلام كثيرون من غير العرب، وواجهت المسلمين طوارئ ومشاكل وبحوث ونظريات وحركة عمرانية وعقلية حملت المجتهدين على السعة في الاجتهاد والتشريع لكثير من الوقائع، وفتحت لهم أبواباً من البحث والنظر، فاتسع ميدان التشريع للأحكام الفقهية وشرعت أحكام كثيرة لوقائع فرضية، وأضيفت إلى المجموعتين السابقتين أحكام كثيرة، فكانت مجموعة الأحكام الفقهية في طورها الثالث مكونة من أحكام الله ورسوله، وفتاوى الصحابة وأقضيتهم، وفتاوى المجتهدين واستنباطهم، ومصادرها القرآن والسنة واجتهاد الصحابة والأئمة المجتهدين.
وفي هذا العهد بُدئ بتدوين هذه الأحكام مع البدء بتدوين السنة، واصطبغت الأحكام بالصبغة العلمية لأنها ذكرت معها أدلتها وعللها والأصول العامة التي تتفرغ عنها، وسمي رجالها الفقهاء وسمي العلم علم الفقه، ومن أول ما دون فيها فيما وصل إلينا موطأ مالك بن أنس، فإنه جمع فيه بناء على طلب الخليفة المنصور ما صح عنده من السنة ومن فتاوى للصحابة والتابعين وتابعيهم، فكان كتاب حديث وفقه وهو أساس فقه الحجازيين، ثم دون الإمام أبو يوسف صاحب أبي حنيفة عدة كتب في الفقه هي أساس فقه العراقيين، ودون الإمام محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة كتب ظاهر الرواية الستة التي جمعها الحاكم الشهيد في كتابه الكافي وشرحه السرخسي في كتابه المبسوط وهي مرجع فقه المذهب الحنفي، وأملى الإمام محمد بن إدريس الشافعي بمصر كتابه (الأم) وهو عماد فقه المذهب الشافعي.
أما علم أصول الفقه فلم ينشأ إلا في القرن الثاني الهجري، لأنه في القرن الهجري الأول لم تدع حاجة إليه، فالرسول كان يفتي ويقضي بما يوحى به إليه ربه من القرآن، ولما يلهم به من السنن، وبما يؤديه إليه اجتهاده الفطري من غير حاجة إلى أصول وقواعد يتوصل بها إلى الاستنباط والاجتهاد. وأصحابه كانوا يفتون ويقضون بالنصوص التي يفهمونها بملكتهم العربية السليمة من غير حاجة إلى قواعد لغوية يهتدون بها على فهم النصوص، ويستنبطون فيما لا نص فيه بملكتهم التشريعية التي ركزت في نفوسهم من صحبتهم الرسول، ووقوفهم على أسباب نزول الآيات وورود الأحاديث، وفهمهم مقاصد الشارع ومبادئ التشريع. ولكن لما اتسعت الفتوح الإسلامية واختلط العرب بغيرهم وتشافهوا وتكاتبوا ودخل في العربية كثير من المفردات والأساليب غير العربية، ولم تبق المَلَكَة اللّسانية على سلامتها، وكثرت الاشتباهات والاحتمالات في فهم النصوص دعت الحاجة إلى وضع ضوابط وقواعد لغوية يقتدر بها على فهم النصوص كما يفهمها العربي الذي وردت النصوص بلغته، كما دعت إلى وضع قواعد نحوية يقتدر بها على صحة النطق.
وكذلك لما بعد العهد بفجر التشريع، واحتدم الجدال بين أهل الحديث وأهل الرأي، واجترأ بعض ذوي الأهواء على الاحتجاج بما لا يحتج به، وإنكار بعض ما يحتج به، دعا كل هذا إلى وضع ضوابط وبحوث في الأدلة الشرعية وشروط الاستدلال بها وكيفية الاستدلال بها، ومن مجموعة هذه البحوث الاستدلالية وتلك الضوابط اللغوية تَكوّن علم أصول الفقه.
ولكنه بدأ صغيرا كما يوجد كل مولود أول نشأته ثم تدرج في النمو حتى بلغت أسفاره المئتين. بدأ منثورا مفرقا في خلال أحكام الفقه لأن كل مجتهد من الأئمة الأربعة وغيرهم كان يشير إلى دليل حكمه ووجه استدلاله به، وكل مخالف كان يحتج على مخالفة بوجوه من الحجج، وكل هذه الاستدلالات والاحتجاجات تنطوي على ضوابط أصولية.
وأول من جمع هذه المتفرقات مجموعة مستقلة في سِفْر على حدة، الإمام أبو يوسف صاحب أبي حنيفة كما ذكر ابن النديم في الفهرست ولكن لم يصل إلينا ما كتبه.
وأول من دون من قواعد هذا العلم وبحوثه مجموعة مستقلة مرتبة مؤيدا كل ضابط منها بالبرهان ووجهة النظر فيه الإمام محمد بن إدريس الشافعي المتوفى سنة 204 للهجرة، فقد كتب فيه رسالته الأصولية التي رواها عند عنه صاحبه الربيع المرادي، وهي أول مدوّن في العلم وصل إلينا فيـما نعلم، ولهذا اشتهر على ألسنة العلماء أنّ واضع أصول علم الفقه الإمام الشافعي .
وتتابع العلماء على التأليف في هذا العلم بين إسهاب وإيجاز.
وقد سلك علماء الكلام طريقا في التأليف في هذا العلم، وسلك علماء الحنفية طريقا آخر في التأليف فيه.
فأما علماء الكلام فتمتاز طريقتهم بأنهم حققوا قواعد هذا العلم وبحوثه تحقيقا منطقيا نظريا وأثبتوا ما أيده البرهان، ولم يجعلوا وجهتهم انطباق هذه القواعد على ما استنبطه الأئمة المجتهدون من الأحكام ولا ربطها بتلك الفروع، فما أيده العقل وقام عليه البرهان فهو الأصل الشرعي سواء أوافق الفروع المذهبية أم خالفها، ومن هؤلاء أكثر الأصوليين من الشافعية والمالكية.
ومن أشهر الكتب الأصولية التي ألفت على هذه الطريقة كتاب "المستصفى" لأبي حامد الغزالي الشافعي المتوفى سنة 505هـ، وكتاب "الأحكام" لأبي حسن الآمدي الشافعي سنة 631هـ، وكتاب "المنهاج" للبيضاوي الشافعي المتوفى سنة 685هـ، وأحسن شروحه شرح الإسنوي.
وأما علماء الحنفية فتمتاز طريقتهم بأنهم وضعوا القواعد والبحوث الأصولية التي رأوا أن أئمتهم بنوا عليها اجتهادهم، فهم لا يثبتون قواعد وبحوثا نظرية، وإنما يثبتون قواعد عملية عنها أحكام أئمتهم، ورائدهم في تحقيق هذه القواعد والأحكام التي استنبطها أئمتهم بناء عليها لا مجرد البرهان النظري، ولهذا أكثروا في كتبهم من ذكر الفروع، وصاغوا في بعض الأحيان القواعد الأصولية على ما يتفق وهذه الفروع، فكانت وجهتهم استمداد أصول فقه أئمتهم من فروعهم.
ومن أشهر الكتب الأصولية التي ألفت على هذه الطريق أصول أبي زيد الدبوسي المتوفى سنة 430هـ، وأصول فخر الإسلام البزدوي المتوفى سنة 483هـ، وكتاب المنار للحفاظ النسفي المتوفى سنة 790هـ، وأحسن شروحه: "مشكاة الأنوار".
وقد سلك بعض العلماء في التأليف في هذا العلم طريقا جامعا بين الطريقتين السابقتين فعنى بتحقيق القواعد الأصولية وإقامة البراهين عليها، وعني كذلك بتطبيقها على الفروع الفقهية وربطها بها. ومن أشهر الكتب الأصولية التي ألفت على الطريقة المزدوجة كتاب "بديع النظام" الجامع بين البزدوي والأحكام لمظفر الدين البغدادي الحنفي المتوفى سنة 694هـ، وكتاب "التوضيح " لصدر الشريعة، و"التحرير" للكمال بن الهمام، "وجمع الجوامع" لابن السبكي.

ومن المؤلفات الحديثة الموجزة المفيدة في هذا العلم:
كتاب "إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول" للإمام الشوكاني المتوفى سنة 1250هـ.
وكتاب "أصول الفقه" للمرحوم الشيخ محمد الخضري بك، المتوفى سنة 1927م.
وكتاب "تسهيل الوصول إلى علم الأصول" للمرحوم الشيخ محمد عبدالرحمن عيد المحلاوي المتوفى سنة 1920م.
ونحمد الله الذي وفقنا إلى الاطلاع على الكثير من هذه الكتب وهدانا إلى هذه الخلاصة الوافية التي بينّا فيها مصادر التشريع الإسلامي أجلى بيان وكشفنا عن مرونتها وخصوبتها وسعتها، وبينّا فيها مباحث الأحكام بيانا قرب فهمها وجلى حكمة الشارع فيما شرعه، وصِغنا فيها البحوث اللغوية والتشريعية بصيغة القواعد ليسهل فهمها وتطبيقها، وراعينا في الأمثلة التطبيقية أن تكون من النصوص الشرعية ومن قوانيننا الوضعية ليعرف كيف ينتفع عملاً بهذا العلم، وأشرنا في كثير من المواضيع إلى المقارنة بين أصول الأحكام الشرعية وأصول القوانين الوضعية ليتبين أن مقصد الاثنين واحد وهو الوصول إلى فهم الأحكام من نصوصها فهما صحيحا، وتحقيق مقاصد الشارع مما شرعه، وتأمين نصوص القوانين من العبث بها. وأهم ما ألفت النظر إليه أن بحوث علم أصول الفقه وقواعده ليست بحوثا وقواعد تعبدية وإنما هي أدوات ووسائل يستعين بها المشرع على مراعاة المصلحة العامة والوقوف عند الحد الإلهي في تشريعه، ويستعين بها القاضي في تحري العدل في قضائه وتطبيق القانون على وجهه، فهي ليست خاصة بالنصوص الشرعية والأحكام الشرعية.

تنبيه:
تعريف العلم، وموضوعه، وغايته، ومنشؤه، ونسبته إلى سائر العلوم، وواضعه وحكم الشرع فيه، ومسائله، هذه كلها تسمى مبادئ العلم.
وهي تكون للعلم صورة إجمالية تجعل من يشرع في دراسته ملمّاً به، ولهذا اعتاد المؤلفون أن يقدموا مؤلفهم في العلم بمقدمة في بيان مبادئه.
وقد ألف كثير من العلماء رسائل خاصة في مبادئ العلوم ومنها رسالة مطبوعة صغيرة الحجم كبيرة الفائدة للمرحوم الشيخ على رجب الصالحي اسمها "تحقيق مبادئ العلوم الإحدى عشر".
وابن خلدون في المقدمة كتب في القسم الأخير منها فصولا ممتعة في العلوم الشرعية واللغوية والعقلية، بين فيها تعريف كل علم ونشأته وتطوره.




القسم الأول
في الأدلة الشرعية

تعريف الدليل:
الدليل معناه في اللغة العربية:
الهادي إلى أي شيء حسي أو معنوي، خير أو شر، وأما معناه في اصطلاح الأصوليين فهو: ما يستدل بالنظر الصحيح فيه على حكم شرعي عملي على سبيل القطع أو الظن. وأدلة الأحكام، وأصول الأحكام، والمصادر التشريعية للأحكام، ألفاظ مترادفة معناها واحد.

وبعض الأصوليين عرّف الدليل بأنه:
ما يستفاد منه حكم شرعي عملي على سبيل القطع، وأما ما يستفاد منه حم شرعي على سبيل الظن، فهو أمارة لا دليل.

ولكن المشهور في اصطلاح الأصوليين أن الدليل هو:
ما يستفاد منه حكم شرعي عملي مطلقا، أي سواء أكان على سبيل القطع أم علي سبيل الظن، ولهذا قسّموا الدليل إلى قطعي الدلالة، وإلى ظني الدلالة.

الأدلة الشرعية بالإجمال:
ثبت بالاستقراء أن الأدلة الشرعية التي تستفاد منها الأحكام العملية ترجع إلى أربعة:
-        القرآن
-        والسنة
-        والإجماع
-        والقياس
وهذه الأدلة الأربعة اتفق جمهور المسلمين على الاستدلال بها، واتفقوا أيضاً على أنها مرتبة في الاستدلال بها هذا الترتيب:
-        القرآن،
-        فالسنة،
-        فالإجماع،
-        فالقياس.
أي أنه إذا عرضت واقعة، نظر أولا في القرآن، فإن وجد فيه حكمها أمضى، وإن لم يوجد فيها حكمها، نظر في السنة، فإن وجد فيها حكمها أمضى، وإن لم يوجد فيها حكمها نظر هل أجمع المجتهدون في عصر من العصور علي حكم فيها؟ فإن وجد أمضى، وإن لم يوجد اجتهد في الوصول إلى حكمها بقياسها على ما ورد النص بحكمه.

أما البرهان على الاستدلال بها:
فهو قوله تعالى في سورة النساء:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء: 59].
فالأمر بإطاعة الله وإطاعة رسوله، أمر باتباع القرآن والسنة، والأمر بإطاعة أولي الأمر من المسلمين أمرٌ باتباع ما اتفقت عليه كلمة المجتهدين من الأحكام لأنهم أولو الأمر التشريعي من المسلمين، والأمر برد الوقائع المتنازع فيها إلى الله والرسول أمر باتباع القياس حيث لا نص ولا إجماع، لأن القياس فيه رد المتنازع فيه إلى الله وإلى الرسول لأنه إلحاق واقعة لم يرد نص بحكمها بواقعة ورد النص بحكمها في الحكم الذي ورد به النص لتساوي الواقعتين في علة الحكم، فالآية تدل على اتباع هذه الأربعة.

وأما الدليل على ترتيبها في الاستدلال بها هذا الترتيب:
فهو ما رواه البغوي عن معاذ بن جبل أن رسول الله لما بعثه إلى اليمن قال: "كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟" قال: أقضي بكتاب الله، قال: "فإن لم تجد في كتاب الله؟" قال: فبسنة رسول الله، قال: "فإن لم تجد في سنة رسول الله؟ " قال: أجتهد رأي ولا آلو، (أي لا أقصر في اجتهادي)، قال: فضرب رسول الله على صدره، وقال: "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله".
وما رواه البغوي عن ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصوم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضى بينهم فقضي به، وإن لم يكن في الكتاب وعلم عن رسول الله في ذلك الأمر سنة قضي بها، فإن أعياه أن يجد في سنة رسول الله جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإن أجمع رأيهم على أمر قضى به، وكذلك كان يفعل عمر، وأقرّهما على هذا كبار الصحابة ورؤوس المسلمين ولم يعرف بينهم مخالف في هذا الترتيب.

وتوجد أدلة أخرى عدا هذه الأدلة والأربعة لم يتفق جمهور المسلمين علي الاستدلال بها، بل منهم من استدل بها على الحكم الشرعي، ومنهم من أنكر الاستدلال بها، وأشهر هذه الأدلة المختلف في الاستدلال بها ستة:
-        الاستحسان،
-        والمصلحة المرسلة
-        والاستصحاب،
-        والعرف،
-        ومذهب الصحابي
-        وشرع من قبلنا.

فجملة الأدلة الشرعية عشرة:
أربعة متفق من جمهور المسلمين على الاستدلال بها، وستة مختلف في الاستدلال بها، وهذا تفصيل البحث فيها جميعها.





الدليل الأول: القرآن

1-   خواصه.  
2-   حجيته.
3-   أنواع أحكامه.
4-   دلالة آياته إما قطعية وإما ظنية.

خواصه:
القرآن هو كلام الله الذي نزل به الروح الأمين على قلب رسول الله محمد بن عبد الله بألفاظه العربية ومعانيه الحقة، ليكون حجة للرسول على أنه رسول الله ودستورا للناس يهتدون بهداه، وقربة يتعبدون بتلاوته، وهو المدون بين دفتي المصحف، المبدوء بسورة الفاتحة، المختوم بسورة الناس، المنقول إلينا بالتواتر كتابة ومشافهة جيلا عن جيل، محفوظا من أي تغيير أو تبديل، مصداق قول الله سبحانه فيه: )إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ( [الحجر: 9].
فمن خواص القرآن أن ألفاظه ومعانيه من عند الله، وأن ألفاظه العربية هي التي أنزلها الله على قلب رسوله، والرسول ما كان إلا تالياً لها ومبلغاً إياها، ويتفرع عن هذا ما يأتي:
أ‌ ) ما ألهم الله به رسوله من المعاني ولم ينزل عليه ألفاظها بل عبر الرسول بألفاظ من عنده عمّا ألهم به لا يعد من القرآن ولا تثبت له أحكام القرآن، وإنما هو من أحاديث الرسول، وكذلك الأحاديث القدسية وهي الأحاديث التي قالها الرسول فيما يرويه عن ربه لا تعد من القرآن ولا تثبت لها أحكام القرآن فلا تكون في مرتبته في الحجية، ولا تصح الصلاة بها، ولا يتعبد بتلاوتها.
ب‌ ) تفسير سورة أو آية بألفاظ عربية مرادفة لألفاظ القرآن دالة على ما دلّت عليه ألفاظه لا يعد قرآناً مهما كان مطابقاً للمفسر في دلالته لأن القرآن ألفاظ عربية خاصة أنزلت من عند الله.
ت‌ ) ترجمة سورة أو آية بلغة أجنبية غير عربية لا تعد قرآناً مهما روعي من دقة الترجمة وتمام مطابقتها للمترجم في دلالته، لأن القرآن ألفاظ عربية خاصة أنزلت من عند الله . نعم لو كان تفسير القرآن أو ترجمته يتم بواسطة من يوثق بدينه وعلمه وأمانته وحذقه يسوغ أن يعتبر هذا التفسير أو هذه الترجمة بياناً لما دل عليه القرآن ومرجعاً لما جاء به، ولكن لا يعتبر هو القرآن ولا تثبت له أحكامه، فلا يحتج بصيغة عبارته وعموم لفظه وإطلاقه لأن ألفاظه وعباراته ليست ألفاظ القرآن ولا عباراته، ولا تصح الصلاة به ولا يتعبد بتلاوته.
ومن خواصه أنه منقول بالتواتر أي بطريق النقل الذي يفيد العلم والقطع بصحة الرواية، ويتفرع عن هذا بعض القراءات التي تروى بغير طريق التواتر كما يقال: (وقرأ بعض الصحابة كذا) لا تعد من القرآن ولا تثبت لها أحكامه.

حجيته:
البرهان على أن القرآن حجة على الناس وأن أحكامه قانون واجب عليهم اتّباعه أنه من عند الله وأنه نقل إليهم عن الله بطريق قطعي لا ريب في صحته.
أما البرهان على أنه من عند الله فهو إعجازه الناس عن أن يأتوا بمثله.

معنى الإعجاز وأركانه:
الإعجاز:
معناه في اللغة العربية نسبة العجز إلى الغير وإثباته له، يقال أعجز الرجل أخاه إذا أثبت عجزه عن شيء .. وأعجز القرآن الناس أثبت عجزهم عن أن يأتوا بمثله.
ولا يتحقق الإعجاز أي إثبات العجز للغير إلا إذا توافرت أمور ثلاثة:
الأول: التحدي، أي طلب المباراة والمنازلة والمعارضة.
والثاني: أن يوجد المقتضي الذي يدفع المتحدي إلى المباراة والمنازلة والمعارضة.
والثالث: أن ينتفي المانع الذي يمنعه من هذه المباراة.
فإذا ادعى رياضي أنه بطل نوع من أنواع الرياضة وأنكر عليه دعواه رياضي آخر، فتحدى مدعي البطولة من أنكر عليه وطلب منه أن يباريه أو أن يأتي بمن يباريه، وهذا المنكر مع شدة حرصه على إبطال دعوى هذا المدعي، ومع أنه ليس به أي مرض ولا له أي عذر يمنعه عن مباراته وعن الإتيان بمن يباريه لم يتقدم لمباراته ولم يأت بمن يباريه، فإن هذا اعتراف منه بالعجز وتسليم بالدعوى.
والقرآن الكريم توافر فيه التحدي به، ووجد المقتضي لمن تحدوا به أن يعارضوه، وانتفى المانع لهم، ومع هذا لم يعارضوه ولم يأتوا بمثله.
أما التحدي فإن الرسول قال للناس إني رسول الله، وبرهاني على إني رسول الله، هذا القرآن الذي أتلوه عليكم لأنه أوحي إلى به من عند الله، فلما أنكروا عليه دعواه، قال لهم: إن كنتم في ريب من أنه من عند الله وتبادر إلى عقولكم أنه من صنع البشر فأتوا بمثله، أو بعشر سور مثله، أو بسورة من مثله، وتحداهم وطلب منهم هذه المعارضة بلهجات واخزة وألفاظ قارعة وعبارات تهكمية تستفز العزيمة وتدعو إلى المباراة، وأقسم أنهم لا يأتون بمثله ولن يفعلوا، ولن يستجيبوا، ولن يأتوا بمثله.
قال تعالى في سورة القصص: (قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ) [القصص: 51،50] وقال تعالى في سورة الإسراء: (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [الإسراء: 88] وقال سبحانه في سورة هود: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [هود:13] وقال في سورة البقرة: (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) [البقرة: 24،23] وقال في سورة الطور: (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ( [الطور: 34،33].
وأما وجود المقتضى للمباراة والمعارضة عند من تحداهم فهذا أظهر من أن يحتاج إلى بيان لأن الرسول ادّعى أنه رسول الله وجاءهم بدين يبطل دينهم، وما وجدوا عليه آباءهم وسفه عقولهم وسخر من أوثانهم، واحتج على دعواه بأن القرآن من عند الله، وتحداهم أن يأتوا بمثله، فما كان أحوجهم وأشد حرصهم على أن يأتوا بمثله، كله أو بعضه ليبطلوا أنه من عند الله وليدحضوا حجة محمد على أنه رسول الله، وبهذا ينصرون آلهتهم ويدافعون عن دينهم ويجتنبون ويلات الحروب.
وأما انتفاء ما يمنعهم من معارضته، فلأن القرآن بلسان عربي، وألفاظه من أحرف العرب الهجائية، وعباراته على أسلوب العرب، وهم أهل البيان وفيهم ملوك الفصاحة، وقادة البلاغة، وميدان سباقهم مملوء بالشعراء والخطباء والفصحاء في مختلف فنون القول، هذا من الناحية اللفظية، وأما من الناحية المعنوية فقد نطقت أشعارهم وخطبهم وحكمهم ومناظرتهم بأنهم ناضجو العقول، ذوو بصر بالأمور وخبرة بالتجارب، وقد دعاهم القرآن في تحديه لهم أن يستعينوا بمن شاءوا ليستكملوا ما ينقصهم ويتموا عدتهم وفيهم الكهان وأهل الكتاب. وأما من الناحية الزمنية، فالقرآن لم ينزل جملة واحدة حتى يحتجوا بأن زمنهم لا يتسع للمعارضة بل مفرقاً في ثلاث وعشرين سنة، بين كل مجموعة وأخرى زمن فيه متسع للمعارضة والإتيان بمثلها لو كان في مقدورهم.
فلا ريب أن الله سبحانه بلسان رسوله في كثير من الآيات تحدى الناس أن يأتوا بمثل القرآن، وأنهم مع شدة حرصهم وتوافر دواعيهم إلى أن يأتوا بمثله، وانتفاء ما يمنعهم لم يأتوا بمثله، ولو جاءوا بمثله وعارضوه لنصروا آلهتهم، وأبطلوا حجة من سخر منهم وكفوا أنفسهم شر القتال والنضال والغزوات عدة سنين.
فالتجاؤهم إلى المحاربة بدل المعارضة، وائتمارهم على قتل الرسول بدل ائتمارهم على الإتيان بمثل قرآنه اعتراف منهم بعجزهم عن معارضته، وتسليم أن هذا القرآن فوق مستوى البشر، ودليل على أنه من عند الله.

وجوه إعجاز القرآن:
ولكن لماذا عجزوا؟ وما وجوه الإعجاز؟
اتفقت كلمة العلماء على أن القرآن لم يعجز الناس عن أن يأتوا بمثله من ناحية واحدة معينة وإنما أعجزهم من نواح متعددة، لفظية ومعنوية وروحية، تساندت وتجمعت فأعجزت الناس أن يعارضوه، واتفقت كلمتهم أيضاً على أن العقول لم تصل حتى الآن إلى إدراك نواحي الإعجاز كلها وحصرها في وجوه معدودات. وأنه كلما زاد التدبر في آيات القرآن، وكشف البحث العلمي عن أسرار الكون وسننه، وأظهر كر السنين عجائب الكائنات الحية وغير الحية تجلّت نواح من نواحي إعجازه، وقام البرهان على أنه من عند الله.
وهذا ذكر بعض ما وصلت إليه العقول من نواحي الإعجاز:
أولها- اتساق عباراته ومعانيه وأحكامه ونظرياته:
تكوّن القرآن من ستة آلاف آية، وعبر عما قصد إلى التعبير عنه بعبارات متنوعة وأساليب شتى، وطرق موضوعات متعددة اعتقادية وخلقية وتشريعية، وقرر نظريات كثيرة، كونية واجتماعية ووجدانية، ولا تجد في عباراته اختلافاً بين بعضها وبعض، فليس أسلوب هذه الآية بليغاً وأسلوب الأخرى غير بليغ، وليس هذا اللفظ فصيحاً، وذاك اللفظ غير فصيح، ولا تجد عبارة أرقى مستوى في بلاغتها من عبارة، بل كل عبارة مطابقة لمقتضى الحال الذي وردت من اجله، وكل لفظ في موضعه الذي ينبغي أن يكون فيه.
كما لا تجد معنى من معانيه يعارض معنى، أو حكماً يناقض حكماً، أو مبدأ يهدم مبدأ، أو غرضاً لا يتفق وآخر، فكما أنه لا اختلاف بين عباراته وألفاظه، لا اختلاف بين معانيه وأحكامه، ولا بين مبادئه ونظرياته، ولو كان صادراً من عند غير الله أفراداً أو جماعات ما سلم من اختلاف بعض عباراته وبعض، أو اختلاف بعض معانيه وبعض، لأن العقل الإنساني مهما نضج وكمل لا يمكنه أن يكون ستة آلاف آية في ثلاث وعشرين سنة لا تختلف آية منها عن أخرى في مستوى بلاغتها، ولا تعارض آية منها آية أخرى فيما اشتملت عليه. وإلى هذا الوجه من وجوه الإعجاز أرشد الله سبحانه وتعالى بقوله في سورة النساء: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً) [النساء: 82].
وما يوجد من اختلاف في الأسلوب بين بعض الآيات وبعض، أو اختلاف أسلوب الآيات في مستوى البلاغة فليس منشؤه اختلاف أسلوب الآيات في مستوى البلاغة وإنما منشؤه اختلاف موضوع الآيات، فإذا كان الموضوع تقنينا وتبيينا لعدّة المطلّقة أو نصيب الوارث من الإرث، أو مَصْرف الصدقات، أو غيرها من الأحكام فهذا لا مجال فيه للأسلوب الخطابي المؤثر، والذي يطابقه هو الألفاظ الدقيقة المحدودة، وإذا كان مجال فيه للأسلوب الخطابي المؤثر، والذي يطابقه هو الألفاظ الدقيقة المحدودة، وإذا كان الموضوع تسفيها لعبادة الأوثان أو بيانا لفيضان الطوفان أو استدلالا على قدرة الله، أو تذكيراً بنعمه على عباده، أو تخويفا بشدائد اليوم الآخر، فهذه فيها مجال للأسلوب الخطابي ليس من البلاغة، لأن البلاغة هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال ولكل مقام مقال.
وما يوجد من تعارض ظاهري بين ما دلت عليه بعض الآيات وما دلت عليه أخرى فقد بين المفسرون أنه ليس تعارضا إلا فيما يظهر لغير المتأمل، وعند التأمل يتبين أنه لا تعارض، ومن أمثلة هذا: )مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ) [النساء: 79]، مع قوله سبحانه: ) قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ ( [النساء: 78]، وقوله تعالى: )وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً( [الإسراء: 16]، مع الآيات الدالة على أن الله لا يأمر بالسوء والفحشاء، فكل ما ظاهرة التعارض من آيات القرآن فهو بعد البحث متفق متسق لا اختلاف فيه ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا. قوله تعالى:

وثانيها- انطباق آياته على ما يكتشفه العلم من نظريات علمية:
القرآن أنزلها الله على رسول ليكون حجة له ودستوراً للناس، ليس من مقاصده الأصلية أن يقرر نظريات علمية في خلق السموات والأرض وخلق الإنسان وحركات الكواكب وغيرها من الكائنات، ولكنه في مقام الاستدلال على وجود الله ووحدانيته وتذكير الناس بآلائه ونعمه، ونحو هذا من الأغراض، جاء بآيات تفهم منها سنن كونية ونواميس طبيعية كشف العلم الحديث في كل عصر براهينها، ودل على أن الآيات التي لفتت إليها من عند الله لأن الناس ما كان لهم بها من علم، وما وصلوا إلى حقائقها وإنما كان استدلالهم بظواهرها، فكلما كشف البحث العلمي سنة كونية وظهر أن آية في القرآن أشارت إلى هذه السنة قام برهان جديد على أن القرآن من عند الله، وإلى هذا الوجه من وجوه الإعجاز أرشد الله سبحانه بقوله في سورة فصلت: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [فصلت: 53،52].
ومن هذه الآيات قوله تعالى في سورة النمل في مقام الاستدلال على قدرته ولفت النظر إلى آثاره: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) [النمل: 88] وقوله تعالى: (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ) [الحجر: 22]، وقوله: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) [الأنبياء: 30]، وقوله: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ) [الرحمن: 20،19]، وقوله: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ* ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) [الأنبياء: 14:12].
وبعض الباحثين لا يرتضون الاتجاه إلى تفسير آيات القرآن بما يقرره العلم من نظريات ونواميس، وحجتهم أن آيات القرآن لها مدلولات ثابتة مستقرة لا تتبدل، والنظريات العلمية قد تتغير وتتبدل، وقد يكشف البحث الجديد خطأ نظريات قديمة، ولكني لا أرى هذا الرأي لأن تفسير آية قرآنية بما كشفه العلم من سنن كونية ما هو إلا فهم للآية بوجه من وجوه الدلالة على ضوء العلم، وليس معنى هذا أن الآية لا تفهم إلا بهذا الوجه من الوجوه، فإذا ظهر خطأ النظرية ظهر خطأ فهم النظرية على ذلك الوجه لا خطأ الآية نفسها، كما يفهم حكم من آية ويتبين خطأ فهمه بظهور دليل على هذا الخطأ.

وثالثها- إخباره بوقائع لا يعلمها إلا علام الغيوب:
أخبر القرآن عن وقوع حوادث في المستقبل لا علم لأحد من الناس بها، كقوله تعالى: (الم * غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ) [الروم: 1: 4] وقوله سبحانه: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ) [الفتح: 27].
وقص بالقرآن قصص أمم بائدة ليست لها آثار ولا معالم تدل على أخبارها، وهذا دليل على أنه من عند الله الذي لا تخفي عليه خافية في الحاضر والماضي والمستقبل، وإلى هذا الوجه من وجوه الإعجاز أرشد الله سبحانه بقوله:  (تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) [هود: 49].

ورابعها- فصاحة ألفاظه وبلاغة عباراته وقوة تأثيره:
ليس في القرآن لفظ ينبو عن السمع أو يتنافر مع ما قبله أو ما بعده، وعباراته في مطابقتها لمقتضى الأحوال في أعلى مستوى بلاغي، ويتجلى هذا في تشبيهاته وأمثاله وحججه ومجادلاته وفي إثباته للعقائد الحقة وإفحامه للمبطلين وفي كل معنى عبر عنه وهدف رمي إليه، وحسبنا برهانا على هذا شهادة الخبراء من أعدائه واعتراف أهل البيان والبلاغة من خصومه. والإمامان: الزمخشري في تفسيره الكشاف، وعبد القاهر في كتابه "دلائل الإعجاز" و "أسرار البلاغة" تكفلا ببيان كثير من وجوه الفصاحة والبلاغة في آيات القرآن. وأما قوة تأثيره في النفوس وسلطانه الروحي على القلوب، فهذا يشعر به كل منصف ذي وجدان، وحسبنا برهانا على هذا أنه لا يمل سماعه ولا تبلي جدته، وقد قال الوليد بن المغير وهو ألد أعداء الرسول: "إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر، وما يقول هذا بشر" والحق ما شهدت به الأعداء.

أنواع أحكامه:
أنواع الأحكام التي جاء بها القرآن الكريم ثلاثة:
الأول- أحكام اعتقادية:
تتعلق بما يجب على المكلف اعتقاده في الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
والثاني- أحكام خلقية:
تتعلق بما يجب على المكلف أن يتحلّى به من الفضائل وأن يتخلى عنه من الرذائل.
والثالث- أحكام عملية:
تتعلق بما يصدر عن المكلف من أقوال وأفعال وعقود وتصرفات. وهذا النوع الثالث هو فقه القرآن، وهو المقصود الوصول إليه بعلم أصول الفقه.

والأحكام العلمية في القرآن تنتظم نوعين:
أحكام العبادات من صلاة وصوم وزكاة وحج ونذر ويمين ونحوها من العبادات التي يقصد بها تنظيم علاقة الإنسان بربه، وأحكام المعاملات من عقود وتصرفات وعقوبات وجنايات وغيرها مما عدا العبادات، وما يقصد بها تنظيم علاقة المكلفين بعضهم ببعض، وسواء أكانوا أفراداً أم أُمما أم جماعات.
فأحكام ما عدا العبادات تسمى في الاصطلاح الشرعي أحكام المعاملات. وأما في اصطلاح العصر الحديث، فقد تنوعت أحكام المعاملات بحسب ما تتعلق به وما يقصد بها إلى الأنواع الآتية:

1- أحكام الأحوال الشخصية: 
وهي التي تتعلق بالأسرة من بدء تكونها، ويقصد بها تنظيم علاقة الزوجين والأقارب بعضهم ببعض، وآياتها في القرآن نحو 70.
2- والأحكام المدنية:
 وهي التي تتعلق بمعاملات الأفراد ومبادلاتهم من بيع وإجارة ورهن وكفالة وشركة مداينة ووفاء بالالتزام، و يقصد بها تنظيم علاقات الأفراد المالية وحفظ حق كل ذي حق، وآياتها في القرآن نحو 70.
3- والأحكام الجنائية: 
وهي التي تتعلق بما يصدر عن المكلف من جرائم وما يستحقه عليها من عقوبة، ويقصد بها حفظ حياة الناس وأموالهم وأعراضهم وحقوقهم وتحديد علاقة المجني عليه بالجاني وبالأُمّة، وآياتها في القرآن نحو 30.
4- وأحكام المرافعات: 
وهي التي تتعلق بالقضاء والشهادة واليمين، ويقصد بها تنظيم الإجراءات لتحقيق العدل بين الناس، وآياتها في القرآن نحو 13.
5- والأحكام الدستورية: 
وهي التي تتعلق بنظام الحكم وأصوله، ويقصد بها تحديد علاقة الحاكم بالمحكوم، وتقرير ما للأفراد والجماعات من حقوق وآياتها نحو 10.
6- والأحكام الدولية: 
وهي التي تتعلق بمعاملة الدولة الإسلامية لغيرها من الدول، وبمعاملة غير المسلمين في الدول الإسلامية، ويقصد بها تحديد علاقة الدول الإسلامية بغيرها من الدول في السلم وفي الحرب، وتحديد علاقة المسلمين بغيرهم في بلاد الدول الإسلامية، وآياتها نحو 25.
7- والأحكام الاقتصادية والمالية: 
وهي التي تتعلق بحق السائل والمحروم في مال الغني، وتنظيم الموارد والمصارف، ويقصد بها تنظيم العلاقات المالية بين الأغنياء والفقراء وبين الدول والأفراد، وآياتها نحو 10.
ومن استقرأ آيات الأحكام في القرآن يتبين أن أحكامه تفصيلية في العبادات وما يلحق بها من الأحوال الشخصية والمواريث لان أكثر أحام هذا النوع تعبدي ولا مجال للعق فيه ولا يتطور بتطور البيئات، وأما فيما عدا العبادات والأحوال الشخصية من الأحكام المدنية والجنائية والدستورية والدولية والاقتصادية، فأحكامه فيها قواعد عامة ومبادئي أساسية، ولم يتعرض فيها لتفصيلات جزئية إلا في النادر، لأن هذه الأحكام تتطور بتطور البيئات والمصالح، فاقتصر القرآن فيها على القواعد العامة والمبادئ الأساسية ليكون ولاة الأمر في كل عصر في سعة من أن يفصلوا قوانينهم فيها حسب مصالحهم في حدود أسس القرآن من غير اصطدام بحكم جزئي فيه.

دلالة آياته إما قطعية وإما ظنية:
نصوص القرآن جميعها قطعية من جهة ورودها وثبوتها ونقلها عن الرسول إلينا، أي نجزم ونقطع بأن كل نص نتلوه من نصوص القرآن، هو نفسه النص الذي أنزله الله على رسوله، وبلغه الرسول المعصوم إلى الأمة من غير تحريف ولا تبديل، لأن الرسول المعصوم كان إذا نزلت عليه سورة أو آيات أو آية بلغها أصحابه وتلاها عليهم وكتبها كتبة وحيه، وكتبها من كتب لنفسه من صحابته منهم عدد كثير وقرءوها في صلواتهم، وتعبدوا بتلاوتها في سائر أوقاتهم، محفوظة في صدور كثير من المسلمين، وقد جمع أبو بكر الصديق بواسطة زيد بن ثابت، وبعض الصحابة المعروفين بالحفظ والكتابة هذه المدونات وضم بعضها إلى بعض، مرتبة الترتيب الذي كان الرسول يتلوها به ويتلوها به أصحابه في حياتهم وصارت هذه المجموعة وما في صدور الحفاظ هي مرجع المسلمين في تلقي القرآن وروايته. وقام على حفظ هذه المجموعة أبو بكر في حياته، وخلفه في المحافظة عليها عمر، ثم تركها عمر عند بنته حفصة أم المؤمنين، وأخذها من حفصة عثمان في خلافته ونسخ منها بواسطة زيد بن ثابت نفسه، وعدد من كبار المهاجرين والأنصار عدة نسخ أرسلت إلى أمصار المسلمين.
فأبو بكر حفظ كل ما دونت فيه آية أو آيات من القرآن حتى لا يضيع منه شيء، وعثمان جمع المسلمين على مجموعة واحدة من هذا المدون ونشره بين المسلمين حتى لا يختلفوا في لفظ، وتناقل المسلمون القرآن كتابة من المصحف المدون، وتلقيا من الحفّاظ أجيالا عن أجيال في عدة قرون. وما اختلف المكتوب منه والمحفوظ، ولا اختلف في لفظة منه صيني ومراكشي ولا بولوني وسوداني، وهذه ملايين المسلمين في مختلف القارات منذ ثلاثة عشر قرناً ونيف وثمانين سنة يقرؤون جميعا لا يختلف فيه فرد عن فرد، ولا أُمّة عن أُمّة، لا بزيادة ولا نقص ولا تغيير أو تبديل أو ترتيب تحقيقا لوعد الله سبحانه، إذ قال عز شأنه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ( [الحجر: 9].
وأما نصوص القرآن من جهة دلالتها على ما تضمنته من الأحكام فتنقسم إلى قسمين: نص قطعي الدلالة على حكمه، ونص ظني الدلالة على حكمه. 

فالنص القطعي الدلالة:
هو ما دل على معنى متعين فهمه منه ولا يحتمل تأويلا ولا مجال لفهم معنى غيره منه، مثل قوله تعالى: (وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ ( [النساء: 12]، فهذا قطعي الدلالة على أن فرض الزوج في هذه الحالة النصف لا غير، ومثل قوله تعالى في شأن الزاني والزانية: (فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ( [النور: 2]، فهذا قطعي الدلالة على أن حد الزنا مائة جلدة لا أكثر ولا أقل،، وكذا كل نصل دل على فرض في الإرث مقدر أو حد في العقوبة معين أو نصاف محدد.

وأما النص الظني الدلالة:
فهو ما دل على معني ولكن يحتمل أن يؤول ويصرف عن هذا المعنى ويراد منه معني غيره مثل قوله تعالى: )وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ( [البقرة: 228]، فلفظ القرء في اللغة العربية مشترك بين معنيين يطلق لغة على الطهر، ويطلق لغة على الحيض، والنص دل على أن المطلقات يتربصن ثلاثة قروء، فيحتمل أن يراد ثلاثة أطهار، ويحتمل أن يراد ثلاث حيضات، فهو ليس قطعي الدلالة على معنى واحد من المعنيين، ولهذا اختلف المجتهدون في أن عدة المطلقة ثلاث حيضات أو ثلاثة أطهار. ومثل قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ( [المائدة: 3]، فلفظ الميتة عام والنص يحتمل الدلالة على تحريم كل ميتة ويحتمل أن يخصص التحريم بما عدا ميتة البحر، فالنص الذي فيه نص مشترك أو لفظ عام أو لفظ مطلق أو نحو هذا يكون ظني الدلالة، لأنه يدل على معنى ويحتمل الدلالة على غيره.





الدليل الثاني: السُّـنَّة
1- تعريفها.
2- حجيتها. 
3- نسبتها إلى القرآن.
4- أقسامها باعتبار سندها.
5- قطعيها وظنيها.

تعريفها:
السنة في الاصطلاح الشرعي:
هي ما صدر عن رسول الله من قول، أو فعل، أو تقرير.
فالسنن القولية:
هي أحاديثه التي قالها في مختلف الأغراض والمناسبات، مثل قوله: "لا ضرر ولا ضرار"، وقوله: "في السائمة زكاة"، وقوله عن البحر: "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته"، وغير ذلك.
والسنن الفعلية:
هي أفعاله مثل أدائه الصلوات الخمس بهيئاتها وأركانها، وأدائه مناسك الحج، وقضائه بشاهد واحد ويمين المدعي.
والسنن التقريرية:
هي ما أقرّه الرسول مما صدر عن بعض أصحابه من أقوال وأفعال بسكوته وعدم إنكاره، أو بموافقته وإظهار استحسانه فيعتبر هذا الإقرار والموافقة عليه صادرا عن الرسول نفسه، مثل ما روي أن صحابيّين خرجا في سفر فحضرتهما الصلاة ولم يجدا ماء فتيمما وصليا، ثم وجدا الماء في الوقت فأعاد أحدهما ولم يعد الآخر، فلما قصّا أمرهما على الرسول أقرّ كلاَ منهما على ما فعل فقال للذي لم يعد: "أصبت السنة، وأجزأتك صلاتك"، وقال للذي أعاد: "لك الأجر مرتين". ومثل ما روي أنه لما بعث معاذ بن جبل إلى اليمن قال له: "بم تقضي؟" قال : أقضي بكتاب الله، فإن لم أجد فبسنة رسول الله، فإن لم أجد أجتهد برأيي، فأقرّه الرسول وقال: "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله".

حجيتها:
 أجمع المسلمون على أن ما صدر عن رسول الله، من قول أو فعل أو تقرير، وكان مقصودا به التشريع والاقتداء، ونقل إلينا بسند صحيح يفيد القطع أو الظن الراجح بصدقه يكون حجّة على المسلمين، ومصدراً تشريعيا يستنبط منه المجتهدون الأحكام الشرعية لأفعال المكلفين، وعلى أن الأحكام الواردة في هذه السنن تكون مع الأحكام الواردة في القرآن قانوناً واجب الإتباع.

والبراهين على حجية السنة عديدة:
أولها- نصوص القرآن:
فإن الله سبحانه في كثير من آي الكتاب الكريم أمر بطاعة رسوله طاعة له، وأمر المسلمين إذا تنازعوا في شيء أن يردوه إلى الله وإلى الرسول، ولم يجعل للمؤمن خياراً إذا قضى الله ورسوله أمراً، ونفي الإيمان عمن لم يطمئن إلى قضاء الرسول ولم يسلم له، وفي هذا كله برهان من الله على أن تشريع الرسول هو تشريع إلهي واجب اتّباعه.
قال تعالى: )قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ ([آل عمران: 32]، وقال سبحانه: )من يطع الرسول فقد أطاع الله( [النساء: 80] وقال: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ( [النساء: 59]، وقال: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء: 83] وقال: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ( [الأحزاب: 36]، وقال: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً) [النساء: 65]، وقال: )وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا( [الحشر: 7]، فهذه الآيات تدل باجتماعها وتساندها دلالة قاطعة على أن الله يوجب اتباع الرسول فيما شرعه.

نسبتها إلى القرآن:
أما نسبة السنة إلى القرآن، من جهة الاحتجاج بها والرجوع إليها لاستنباط الأحكام الشرعية، فهي في المرتبة التالية له بحيث أن المجتهد لا يرجع إلى السنة للبحث عن واقعة إلا إذا لم يجد في القرآن حكم ما أراد معرفة حكمه، لأن القرآن أصل التشريع ومصدره الأول، فإذا نص على حكم اتبع، وإذا لم ينص على حكم الواقعة رجع إلى السنة فإن وجد فيها حكمه اتبع.
وأما نسبة السنة إلى القرآن من جهة ما ورد فيها من الأحكام فإنها لا تعدو واحدا من ثلاثة:
1- إما أن تكون سنة مقررة ومؤكدة حكما جاء في القرآن، فيكون الحكم له مصدران وعليه دليلان: دليل مثبت من آي القرآن، ودليل مؤيد من سنة الرسول. ومن هذه الأحكام الأمر بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، والنهي عن الشرك بالله، وشهادة الزور، وعقوق الوالدين، وقتل النفس بغير حق، وغير ذلك من المأمورات والمنهيات التي دلت عليها آيات القرآن وأيدها سنن الرسول، ويقام الدليل عليها منهما.
2- إما أن تكون سنة مفصلِّة ومفسِّرة لما جاء في القرآن مجملا، أو مقيِّدة ما جاء فيه مطلقاً، أو مخصِّصَة ما جاء فيه عاماً، فيكون هذا التفسير أو التقييد أو التخصيص الذي وردت به السنة تبيينا للمراد، من الذي جاء في القرآن لأن الله سبحانه منح رسوله حق التبيين لنصوص القرآن بقوله عز شأنه: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل: 44]، ومن هذا السنن التي فصلت إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، لأن القرآن أمر بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، ولم يفصل عدد ركعات الصلاة، ولا مقادير الزكاة، ولا مناسك الحج، والسنن العملية و القولية هي التي بينت هذا الإجمال؟ وكذلك أحل الله البيع وحرم الربا، والسنة هي التي بينت صحيح البيع وفاسدة، وأنواع الربا المحرم. والله حرم الميتة، والسنة هي التي بينت المراد منها ما عدا ميتة البحر. وغير ذلك من السنن التي بينت المراد من مجمل القرآن ومطلقه وعامه، وتعتبر مكملة له وملحقة به.
3- وإما أن تكون سنة مثبِتَة ومنشِئَة حُكما سكت عنه القرآن، فيكون هذا الحكم ثابتا بالنسبة ولا يدل عليه نص في القرآن. ومن هذا تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، وتحريم كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطيور، وتحريم لبس الحرير والتختم بالذهب على الرجال، وما جاء في الحديث: "يحرم من الرضاع ما يحرم بالنسب"، وغير ذلك من الأحكام التي شرعت بالسنة وحدها ومصدرها إلهام الله لرسوله، أو اجتهاد الرسول نفسه.
قال الإمام الشافعي في رسالته الأصولية: (لم أعلم من أهل العلم مخالفا في أن سنن النبي من ثلاثة وجوه، أحدها: ما أنزل الله عز وجل فيه نص كتاب، فسنَّ رسول الله مثل ما نص الكتاب، والآخر: ما أنزل الله عز وجل فيه جملة فبيَّن عن الله معنى ما أراد، والوجه الثالث: ما سنّ رسول الله مما ليس فيه نص كتاب).
ومما ينبغي التنبيه له:
أن اجتهاد الرسول في التشريع أساسه القرآن، وما بثه في نفسه من روح التشريع ومبادئه، فهو يستند في تشريعه الأحكام إلى القياس على ما جاء في القرآن، أو إلى تطبيق المبادئ العامة لتشريع القرآن، فمرجع أحكام السنة إلى أحكام القرآن.
وخلاصة ما قدمنا:
أن الأحكام التي وردت في السنة: إما أحكام مقررة لأحكام القرآن، أو أحكام مبينه لها، أو أحكام سكت عنها القرآن مستمدة بالقياس على ما جاء فيه أو بتطبيق أصوله ومبادئه العامة، ومن هذا يتبين أنه لا يمكن أن يقع بين أحكام القرآن والسنة تخالف أو تعارض.

أقسامها باعتبار سندها:
تنقسم السنة باعتبار رواتها عن الرسول إلى ثلاثة أقسام: سنة متواترة، وسنة مشهورة، وسنة آحاد.
فالسنة المتواترة:
هي ما رواها عن رسول الله جمع يمتنع عادة أن يتواطأ أفراده على كذب، لكثرتهم وأمانته واختلاف وجهاتهم وبيئاتهم، ورواها عن هذا الجمع جمع مثله، حتى وصلت إلينا بسند كل طبقة من رواته، جمع لا يتفقون على كذب، من مبدأ التلقي عن الرسول إلى نهاية الوصول إلينا، ومن هذا القسم السنن العملية في أداء الصلاة وفي الصوم الحج والآذان وغير ذلك من شعائر الإسلام التي تلقّاها المسلمون عن الرسول بالمشاهدة، أو السماع، جموع عن جموع، من غير اختلاف في عصر عن عصر، أو قطر عن قطر، وقل أن يوجد في السنن القولية حديث متواتر.
والسنة المشهورة:
هي ما رواها عن رسول الله صحابي أو اثنان أو جمع لم يبلغ حد جمع التواتر، ثم رواها عن هذا الراوي أو الرواة جمع من جموع التواتر، ورواها عن هذا الجمع جمع مثله، وعن هذا الجمع جمع مثله، حتى وصلت إلينا بسند، أو لطبقة فيه سمعوا من الرسول قوله أو شاهدوا فعله فرد أو فردان أو أفراد لم يصلوا إلى جمع التواتر، وسائر طبقاته جموع التواتر، ومن هذا القسم بعض الأحاديث التي رواها عن الرسول عمر بن الخطاب أو عبدالله بن مسعود أو أبوبكر الصديق، ثم رواها عن أحد هؤلاء جمع لا يتفق أفراده على كذب، مثل حديث: "إنما الأعمال بالنيات"، وحديث: "بني الإسلام على خميس" وحديث "لا ضرر ولا ضرار".
فالفرق بين السنة المتواترة والسنة المشهورة:
أن السنة المتواترة كل حلقة في سلسلة سندها جمع التواتر من مبدأ التلقي عن الرسول إلى وصولها إلينا، وأما السنة المشهورة فالحلقة الأولى في سندها ليست جمعاً من جموع التواتر بل الذي تلقاها عن الرسول واحد أو اثنان أو جمع لم يبلغ جمع التواتر وسائر الحلقات جموع التواتر.
وسنة الآحاد:
هي ما رواها عن الرسول آحاد لم تبلغ جموع التواتر بأن رواها عن الرسول واحد أو اثنان أو جمع لم يبلغ حد التواتر، ورواها عن هذا الراوي مثله وهكذا حتى وصلت إلينا بسند طبقاته آحاد لا جموع التواتر، ومن هذا القسم أكثر الأحاديث التي جمعت في كتب السنة وتسمى خبر الواحد.

قطعيها وظنيها:
أما من جهة الورود فالسنة المتواترة قطعية الورود عن الرسول، لأن تواتر النقل يفيد الجزم والقطع بصحة الخبرة كما قدمنا. والسنة المشهورة قطعية الورود عن الصحابي أو الصحابة الذين تلقوها عن الرسول لتواتر النقل عنهم، ولكنها ليست قطعية الورود عن الرسول، لأن أول من تلقى عنه ليس جمع التواتر، ولهذا جعلها فقهاء الحنفية في حكم السنة المتواترة، فيخصص بها عام القرآن ويقيد بها مطلقه لأنها مقطوع ورودها عن الصحابي، والصحابي حجة وثقة في نقلة عن الرسول، فمن أجل هذا كانت مرتبتها في مذهبهم بين المتواتر وخبر الواحد. وسنة الآحاد ظنية الورود عن الرسول، لأن سندها لا يفيد القطع.
وأما من جهة الدلالة فكل سنة من هذه الأقسام الثلاثة قد تكون قطعية الدلالة، إذا كان نصها لا يحتمل تأويلا، وقد تكون ظنية الدلالة إذا كان نصها يحتمل التأويل.
ومن المقارنة بين نصوص القرآن ونصوص السنة من جهة القطعية والظنية، ينتج أن نصوص القرآن الكريم كلها قطعية الورود، ومنها ما هو قطعي الدلالة ومنها ما هو ظني الدلالة، وأما السنة فمنها ما هو قطعي الورود ومنها ما هو ظني الورود، وكل واحد منهما قد يكون قطعي الدلالة وقد يكون ظني الدلالة.
وكل سنة من أقسام السنن الثلاثة المتواترة والمشهورة وسنن الآحاد؛ حجة واجب اتّباعها والعمل بها، أما المتواترة فلأنها مقطوع بصدورها وورودها عن رسول الله، وأما المشهورة أو سنة الآحاد فلأنها وإن كانت ظنية الورود عن رسول الله إلا أن هذا الظن ترجح بما توافر في الرواة من العدالة وتمام الضبط والإتقان، ورجحان الظن كافٍ في وجوب العمل، لهذا يقضي القاضي بشهادة الشاهد وهي إنما تفيد رجحان الظن بالمشهود به، وتصح الصلاة بالتحري في استقبال الكعبة وهي إنما تفيد غلبة الظن، وكثير من الأحكام مبنية على الظن الغالب، ولو التزم القطع واليقين في كل أمر عملي لنال الناس الحرج.

ما ليس تشريعا من أقوال الرسول وأفعاله:
ما صدر عن رسول الله من أقوال وأفعال إنما يكون حجة على المسلمين واجبا اتّباعه إذا صدر عنه بوصف أنه رسول الله وكان مقصودا به التشريع العام والاقتداء.
وذلك أن الرسول إنسان كسائر الناس، اصطفاه الله رسولاً إليهم كما قال تعالى: )قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ( [الكهف: 110].
1- فما صدر عنه بمقتضى طبيعته الإنسانية من قيام، وقعود ومشي، ونوم، وأكل وشرب، فليس تشريعا، لأن هذا ليس مصدره رسالته، ولكن مصدره إنسانيته، لكن إذا صدر منه فعل إنساني، ودلّ دليل على أن المقصود من فعله الاقتداء به، كان تشريعا بهذا الدليل.
2- وما صدر عنه بمقتضى الخبرة الإنسانية والحذق والتجارب في الشئون الدنيوية من اتِّجار، أو زراعة، أو تنظيم جيش، أو تدبير حربي، أو وصف دواء لمرض، أو أمثال هذا، فليس تشريعا أيضا لأنه ليس صادرا عن رسالته، وإنما هو صادر عن خبرته الدنيوية، وتقديره الشخصي. ولهذا لما رأى في بعض غزواته أن ينزل الجند في مكان معين قال له بعض صحابته: أهذا منزلٌ أنزلكه الله، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال: "بل هو الرأي والحرب والمكيدة"، فقال الصحابي: ليس هذا بمنزل، وأشار بإنزال الجند في مكان آخر لأسباب حربية بيّنها للرسول. ولما رأى الرسول أهل المدينة يؤبِّرون النـخل، أشار عليهم أن لا يؤبِّروا، فتركوا التأبير و تلف الثمر، فقال لهم: "أبّروا .. أنتم أعلم بأمور دنياكم".
3- وما صدر عن رسول الله ودلّ الدليل الشرعي على أنه خاص به، وأنه ليس أسوة فليس تشريعاً عاماً: كتزوجه بأكثر من أربع زوجات، لأن قوله تعالى: (فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ( [النساء: 3] دلّ على أن الحد الأعلى لعدد الزوجات أربع، وكاكتفائه في إثبات الدعوى بشهادة خزيمة وحده لأن النصوص صريحة في أن البينة شاهدان.
ويراعى أن قضاء الرسول في خصومه يشتمل على أمرين:-  
أحدهما إثباته وقائع، وثانيهما: حكمه على تقدير ثبوت الوقائع فإثباته الوقائع أمر تقديري له وليس بتشريع، وأما حكمه بعد تقدير ثبوت الوقائع فهو تشريع، ولهذا روى البخاري ومسلم عن أمّ سلمة أن رسول الله سمع خصومة بباب حجرته فخرج عليهم، وقال: "إنما أنا بشر، وإنه يأتيني الخصوم فلعل بعضهم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها".
والخلاصة:
أن ما صدر عن رسول الله من أقوال وأفعال في حال من الحالات الثلاثة التي بيناها فهو من سنته ولكنه ليس تشريعا ولا قانونا واجبا اتّباعه، وأما ما صدر من أقوال وأفعال بوصف أنه رسول ومقصود به التشريع العام واقتداء المسلمين به فهو حجة على المسلمين وقانون واجب اتّباعه.
فالسنة إن أريد بها طريقة الرسول وما كان عليه في حياته، فهي كل ما صدر عنه من قول أو فعل أو تقرير، مقصود به التشريع واقتداء الناس به لاهتدائهم.





الدليل الثالث: الإجماع

1-   تعريفه
2-   أركانه
3-   حجيته
4-   إمكان انعقاده
5-   انعقاده فعلا
6-   أنواعه

تعريفـه:
الإجماع في اصطلاح الأصوليين:
هو اتفاق جميع المجتهدين من المسلمين في عصر من العصور بعد وفاة الرسول على حكم شرعي في واقعة.
فإذا وقعت حادثة وعرضت على جميع المجتهدين من الأمة الإسلامية وقت حدوثها واتفقوا على حكم فيها سمي اتفاقهم إجماعا، واعتبر إجماعهم على حكم واحد فيها دليلا على أن هذا الحكم هو الحكم الشرعي في الواقعة، وإنما قيل في التعريف بعد وفاة الرسول، لأنه في حياة الرسول هو المرجح التشريعي وحده، فلا يتصور اختلاف في حكم شرعي ولا اتفاق إذ الاتفاق لا يتحقق إلا من عدد.

أركانه:
ورد في تعريف الإجماع أنه: اتفاق جميع المجتهدين من المسلمين في عصر على حكم شرعي، ومن هذا يؤخذ أن أركانه الإجماع التي لا ينعقد شرعا إلا بتحققها أربعة:
الأول: أن يوجد في عصر وقوع الحادثة عدد من المجتهدين، لأن الاتفاق لا يتصور إلا في عدة آراء يوافق كل رأي منها سائرها، فلو خلا وقت من وجود عدد من المجتهدين، بأن لم يوجد فيه مجتهد أصلا أو وجد مجتهد واحد، لا ينعقد فيه شرعا إجماع، ومن هذا لا إجماع في عهد الرسول لأنه المجتهد وحده.
الثاني: أن يتفق على الحكم الشرعي في الواقعة جميع المجتهدين من المسلمين في وقت وقوعها، بصرف النظر عن بلدهم أو جنسهم أو طائفتهم، فلو اتفق على الحكم الشرعي في الواقعة مجتهدو الحرمين فقط، أو مجتهدو العراق فقط، أو مجتهدو الحجاز، أو مجتهدو آل البيت، أو مجتهدو أهل السنة دون مجتهدي الشيعة لا ينعقد بهذا الاتفاق الخاص إجماع، لأن الإجماع لا ينعقد إلا بالاتفاق العام من جميع مجتهدي العالم الإسلامي في عهد الحادثة، ولا عبرة بغير المجتهدين.
الثالث: أن يكون اتفاقهم بإبداء كل واحد منهم رأيه صريحا في الواقعة سواء كان إبداء الواحد منهم رأيه قولا بأن أفتى في الواقعة بفتوى، أو فعلا إن قضى فيها بقضاء، وسواء أبدى كل واحد منهم رأي على انفراد وبعد جمع الآراء تبين اتفاقها، أم أبدوا آراءهم مجتمعين بأن جمع مجتهدو العالم الإسلامي في عصر حدوث الواقعة وعرضت عليهم، وبعد تبادلهم وجهات النظر اتفقوا جميعا على حكم واحد فيها.
الرابع: أن يتحقق الاتفاق من جميع المجتهدين على الحكم، فلو اتفق أكثرهم لا ينعقد باتفاق الأكثر إجماعٌ مَهما قل عدد المخالفين وكثر عدد المتفقين لأنه ما دام قد وجد اختلاف وجد احتمال الصواب في جانب والخطأ في جانب، فلا يكون اتفاق الأكثر حجة شرعية قطعية ملزمة.

حجيته:
إذا تحققت أركان الإجماع الأربعة بأن أحصي في عصر من العصور بعد وفاة الرسول جميع من فيه من مجتهدي المسلمين على اختلاف بلادهم وأجناسهم وطوائفهم، وعرضت عليهم واقعة لمعرفة حكمها الشرعي، وأبدى كل مجتهد منهم رأيه صراحة في حكمها بالقول أو بالفعل مجتمعين أو منفردين، واتفقت آراؤهم جميعا على حكم واحد في هذه الواقعة- كان هذا الحكم المتفق عليه قانوناً شرعيا واجباً اتّباعه ولا يجوز مخالفته، وليس للمجتهدين في عصرٍ تالٍ أن يجعلوا هذه الواقعة موضع اجتهاد، لأن الحكم الثابت فيها بهذا الإجماع حكم شرعي قطعي لا مجال لمخالفته ولا لنسخه.

والبرهان على حجية الإجماع ما يأتي:
أولاً- أن الله سبحانه في القرآن كما أمر المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله أمرهم بطاعة أولى الأمر منهم، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ( [النساء: 59] ولفظ الأمر معناه الشأن وهو عام يشمل الأمر الديني، والأمر الدنيوي، وأُولي الأمر الدنيوي هم الملوك والأمراء والولاة وأولو الأمر الديني هم المجتهدون وأهل الفتيا. وقد فسر بعض المفسرين على رأسهم ابن عباس أُولي الأمر في هذه الآية بالعلماء، وفسّرهم آخرون بالأمراء والولاة، والظاهر التفسير بما يشمل الجميع وبما يوجب طاعة كل فريق فيما هو من شأنه. فإذا أجمع أولو الأمر في التشريع وهم المجتهدون على حكم وجب اتّباعه وتنفيذ حكمهم بنص القرآن، ولذا قال تعالى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ( [النساء: 83]، وتوعد سبحانه من يشاقق الرسول ويتبع غير سبيل المؤمنين، فقال عز شأنه: )وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً( [النساء: 115]، فجعل من يخالف سبيل المؤمنين قرين من يشاقق الرسول.
ثانياً- أن الحكم الذي اتفقت عليه آراء جميع المجتهدين في الأمة الإسلامية هو في الحقيقة حكم الأمة ممثلة في مجتهديها، وقد وردت عدة أحاديث عن الرسول، وآثار عن الصحابة تدل على عصمة الأمة من الخطأ، منها قوله: "لا تجتمع أمتي على خطأ"، وقوله: "لم يكن الله ليجمع أمتي على الضلالة"، وقوله: "ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن"، وذلك لأن اتفاق جميع هؤلاء المجتهدين على حكم واحد في الواقعة مع اختلاف أنظارهم والبيئات المحيطة بهم وتوافر عدة أسباب لاختلافهم دليل على أن وحدة الحق والصواب هي التي جمعت كلمتهم وغلبت عوامل اختلافهم.
ثالثاً- أن الإجماع على حكم شرعي لابد أن يكون قد بني على مستند شرعي لأن المجتهد الإسلامي له حدود لا يسوغ له أن يتعداها، وإذا لم يكن في اجتهاده نص فاجتهاده لا يتعدى تفهم النص ومعرفة ما يدل عليه، وإذا لم يكن في الواقعة نص فاجتهاده لا يتعدى استنباط حكمه بواسطة قياسه على ما فيه نصف أو تطبيق قواعد الشريعة ومبادئها العامة، أو بالاستبدال بما أقامته الشريعة من دلائل كالاستحسان أو الاستصحاب، أو مراعاة العرف أو المصالح المرسلة، وإذا كان اجتهاد المجتهد لابد أن يستند إلى دليل شرعي، فاتفاق المجتهدين جميعا على حكم واحد في الواقعة دليل على وجود مستند شرعي، يدل قطعا على هذا الحكم، لأنه لو كان ما استندوا إليه دليلا ظنيا لاستحال عادة أن يصدر عنه اتفاق، لأن الظني محال حتما لاختلاف العقول.
وكما يكون الإجماع على حكم في واقعة يكون على تأويل نَص أو تفسيره وعلى تعليل حكم النص وبيان الوصف المنوط به.

إمكان انعقاده:
قالت طائفة من العلماء (منهم النظّام وبعض الشيعة):
إن هذا الإجماع الذي تبيّنت أركانه لا يمكن انعقاده عادة، لأنه يتعذر تحقق أركانه، وذلك أنه لا يوجد مقياس يعرف به إذا كان الشخص بلغ مرتبة الاجتهاد أو لم يبلغها، ولا يوجد حكم يرجع إليه في الحكم بأن هذا مجتهد أو غير مجتهد، فمعرفة المجتهدين من غير المجتهدين متعذرة.
ولو فرض أن أشخاص المجتهدين في العالم الإسلامي وقت حدوث الواقعة معروفون فالوقوف على آرائهم جميعا في الواقعة بطريق يفيد اليقين أو القريب منه متعذر، لأنهم متفرقون في قارات مختلفة، وفي بلاد متباعدة، ومختلفو الجنسية والتبعية فلا يتيسر سبيل إلى جمعهم وأخذ آرائهم مجتمعين، ولا إلى نقل رأي كل واحد منهم بطريق يوثق به.
ولو فرض أن أشخاص المجتهدين عرفوا، وأمكن الوقوف على آرائهم بطريق يوثق به، فما الذي يكفل أن المجتهد الذي أبدى رأيه في الواقعة يبقى مصرا عليه حتى تؤخذ آراء الباقين؟ ما الذي يمنع أن تعرض له شبهة فيرجع عن رأيه قبل أخذ آراء الباقين؟ والشرط لانعقاد الإجماع أن يثبت اتفاق المجتهدين جميعا في وقت واحد على حكم واحد في واقعة.
ومما يؤيد أن الاجتماع لا يمكن انعقاده:
أنه لو انعقد كان لابد مستنداً إلى دليل، لأن المجتهد الشرعي لابد أن يستند في اجتهاده إلى دليل، والدليل الذي يستند عليه المجمعون إن كان دليلا قطعيا فمن المستحيل عادة أن يخفي، لأن المسلمين لا يخفي عليهم دليل شرعي قطعي حتى يحتاجوا معه إلى الرجوع إلى المجتهدين وإجماعهم، وإن كان دليلا ظنيا فمن المستحيل عادة أن يصدر عن الدليل الظني إجماع، لأن الدليل الظني لأبد أن يكون مثاراً للاختلاف.
وقد نقل ابن حزم في كتابه "الأحكام" عن عبدالله بن أحمد بن حنبل قوله: سمعتُ أبي يقول: "وما يدعي فيه الرجل الإجماع هو الكذب، ومن ادعى الإجماع فهو كذاب، لعل الناس قد اختلفوا – ما يدريه – ولم ينته إليه، فليقل: لا نعلم الناس اختلفوا".

وذهب جمهور العلماء، إلى أن الإجماع يمكن انعقاده عادة:
وقالوا: إنما ذكره منكرو إمكانه لا يخرج عن أنه تشكيك في أمر واقع، وإن أظهر دليل على إمكان فعلا، وذكروا عدة أمثله لما ثبت انعقاد الإجماع عليه مثل: خلافة أبي بكر، وتحريم شحم الخنزير، وتوريث الجدات السدس، وحجب ابن الابن من الإرث بالابن وغير ذلك من أحكام جزئية وكلية.
والذي أراه الراجح:
أن الإجماع بتعريفه وأركانه التي بيناها لا يمكن عادة انعقاده إذا وكل أمره إلى أفراد الأمم الإسلامية وشعوبها، ويمكن انعقاده إذا تولت أمره الحكومات الإسلامية على اختلافها، فكل حكومة تستطيع أن تعين الشروط التي بتوافرها يبلغ الشخص مرتبة الاجتهاد، وأن تمنح الإجازة الاجتهادية لمن توافرت فيه هذه الشروط، وبهذا تستطيع كل حكومة أن تعرف مجتهديها وآراءهم في أية واقعة، فإذا وقفت كل حكومة على آراء المجتهدين جميعهم في كل الحكومات الإسلامية على حكم واحد في هذه الواقعة، كان هذا إجماعا، وكان الحكم المجتمع عليه حكما شرعيا واجبا اتّباعه على المسلمين جميعهم.

انعقاده فعلا:
هل انعقد الإجماع فعلا بهذا المعنى في عصر من العصور بعد وفاة الرسول؟ الجواب: لا، ومن رجع إلى الوقائع التي حكم فيها الصحابة، واعتبر حكمهم فيها بالإجماع يتبين أنه ما وقع إجماع بهذا المعنى، وأن ما وقع إنما كان اتفاقا من الحاضرين، ومن أولي العلم والرأي على حكم في الحادثة المعروضة، فهو في الحقيقة: حكم صادر عن شورى الجماعة لا عن رأي الفرد.
فقد روي أن أبا بكر كان إذا ورد عليه الخصوم ولم يجد في كتاب الله ولا في سنة رسوله ما يقضي بينهم، جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإن أجمعوا على رأي أمضاه، وكذلك كان يفعل عمر، ومما لا ريب فيه أن رؤوس الناس وخيارهم، لأنه كان منهم عدد كثير في مكة والشام واليمن وفي ميادين الجهاد، وما ورد أن أبا بكر أجّل الفصل في خصومة حتى يقف على رأي جميع مجتهدي الصحابة في مختلف البلدان، بل كان يمضي ما اتفق عليه الحاضرون لأنهم جماعة، ورأي الجماعة أقرب إلى الحق من رأي الفرد، وكذلك كان يفعل عمر، وهذا ما سماه الفقهاء الإجماع، فهو في الحقيقة تشريع الجماعة لا الفرد، وهو ما وجد إلا في عصر الصحابة، وفي بعض عصور الأمويين بالأندلس، حين كونوا في القرن الثاني الهجري جماعة من العلماء يستشارون في التشريع، وكثيرا ما يذكر في ترجمة بعض علماء الأندلس أنه كان من علماء الشورى.
وأما بعد عهد الصحابة، فيما عدا هذه الفترة في الدولة الأموية بالأندلس فلم ينعقد إجماع، ولم يتحقق إجماع من أكثر المجتهدين لأجل تشريع، ولم يصدر التشريع عن الجماعة بل استقل كل فرد من المجتهدين في بلده وفي بيئته.

أنواعه:
أما الإجماع من جهة كيفية حصوله فهو نوعان:-
أحدهما- الإجماع الصحيح:
وهو أن يتفق مجتهدو العصر على حكم واقعة، بإبداء كل منهم رأيه صراحة بفتوى أو قضاء، أي أن كل مجتهد يصدر منه قول أو فعل يعبر صراحة عن رأيه.

وثانيهما- الإجماع السكوتي:
وهو أن يبدي بعض مجتهدي العصر رأيهم صراحة في الواقعة بفتوى أو قضاء، ويسكت باقيهم عن إبداء رأيهم فيها بموافقة ما أبدي فيها أو مخالفته.
أما النوع الأول وهو الإجماع الصريح فهو الإجماع الحقيقي، وهو حجة شرعية في مذهب الجمهور.
وأما النوع الثاني وهو الإجماع السكوتي فهو إجماع اعتباري، لأن الساكت لا جزم بأنه موافقة، فلا جزم بتحقيق الاتفاق وانعقاد الإجماع، ولهذا اختلف في حجيته، فذهب الجمهور إلى أنه ليس حجة، وأنه لا يخرج عن كونه رأي بعض أفراد من المجتهدين.
وذهب علماء الحنفية إلى أنه حجة إذا ثبت أن المجتهد الذي سكت عرضت عليه الحادثة وعرض عليه الرأي الذي أبدي فيها ومضت عليه فترة كافية للبحث وتكوين الرأي وسكت، ولم توجد شبهة في أنه سكت خوفاً أو ملقاً أو عياً أو استهزاء، لأن سكوت المجتهد في مقام الاستفتاء والبيان والتشريع بعد فترة البحث والدرس ومع انتفاء ما يمنعه من إبداء رأيه لو كان مخالفا، دليل على موافقته الرأي الذي أُبدي إذ لو كان مخالفا ما وسعه السكوت.
والذي أراه الراجح:
هو مذهب الجمهور؛ لأن الساكت من غير المجتهدين تحيط بسكوته عدة ظروف وملابسات منها النفسي ومنها غير النفسي، ولا يمكن استقصاء كل هذه الظروف والملابسات والجزم بأنه سكت موافقة ورضا بالرأي، فالساكت لا رأي له ولا ينسب إليه قول موافق أو مخالف، وأكثر ما وقع مما سمي إجماعا هو من الإجماع السكوتي.

وأما الإجماع من جهة أنه قطعي الدلالة على حكمه أو ظني، فهو نوعان أيضا:
أحدهما- إجماع قطعي الدلالة على حكمه، وهو الإجماع الصريح:
بمعنى أن حكمه مقطوع به ولا سبيل إلى الحكم في واقعته بخلافه، ولا مجال للاجتهاد في واقعة بعد انعقاد إجماع صريح على حكم شرعي فيها.
وثانيهما- إجماع ظني الدلالة على حكمه وهو السكوتي:
بمعنى أن حكمه مظنون ظنا راجحا ولا يخرج الواقعة عن أن تكون مجالا للاجتهاد لأنه عبارة عن رأي جماعة من المجتهدين لا جميعهم.





الدليل الرابع : القياس

1- تعريفه  
2- حجيته
3- أركانه: الأصل والفرع وحكم الأصل وعلة الحكم.

تعريفه:
القياس في اصطلاح الأصوليين:
هو إلحاق واقعة لا نص على حكمها بواقعة ورد نص بحكمها، في الحكم الذي ورد به النص، لتساوي الواقعتين في علة هذا الحكم.
فإن دل نص على حكم واقعة، وعرفت علة هذا الحكم بطريق من الطرق التي تعرف بها علل الأحكام، ثم وجدت واقعة أخرى تساوي واقعة النص على علة تحقق علة الحكم فيها فإنها تسوي بواقعة النص في حكمها بناء على تساويهما في علته، لأن الحكم يوجد حيث توجد علته.
وهذه أمثلة من الأقيسة الشرعية والوضعية توضح هذا التعريف:
1- شرب الخمر: 
واقعة ثبت بالنص حكمها، وهو التحريم الذي دلّ عليه قوله سبحانه وتعالى (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ( [المائدة: 690]، لعلة هي الإسكار، فكل نبيذ توجد فيه هذه العلة يسوي بالخمر في حكمه ويحرم شربه.
2- قتل الوارث مورّثه: 
واقعة ثبت بالنص حكمها، وهو منع القاتل من الإرث الذي دل عليه قوله: "لا يرث القاتل" لعله هي أن قتله فيه استعجال الشيء قبل أوانه فيرد عليه قصده ويعاقب بحرمانه، وقتل الموصى به له.
3- البيع وقت النداء للصلاة من يوم الجمعة: 
واقعة ثبت بالنصب حكمها وهو الكراهة التي دل عليها قوله سبحانه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ( [الجمعة: 9]، لعله هي شغله عن الصلاة. والإجارة أو الرهن أو أية معاملات وقت النداء للصلاة من يوم الجمعة توجد فيها هذه العلة، وهي شغلها عن الصلاة فتقاس بالبيع في حكمه وتكره وقت النداء للصلاة.
4- الورقة الموقع عليها بالإمضاء: 
واقعة ثبت بالنص حكمه وهو أنها حجة على الموقِّع الذي دل عليه نص القانون المدني، لعلة هي أن توقيع الموقع دالة علي شخصه، والورقة المبصومة بالإصبع توجد فيها هذه العلة فتقاس بالورقة الموقع عليها في حكمها وتكون حجة على باصمها.
5- السرقة بين الأصول والفروع وبين الزوجين:
لا تجوز محاكمة مرتكبها إلا بناء على طلب المجني عليه في قانون العقوبات، وقيس على السرقة النصب واغتصاب الأموال بالتهديد وإصدار شيك بدون رصيد وجرائم التبديد لعلاقة القرابة الزوجية فيها كلها. 
ففي كل مثال من هذه الأمثلة سوِّيت واقعة لا نص على حكمها، بواقعة نص على حكمها في الحكم المنصوص عليها، بناء على تساويهما في علة هذا الحكم. وهذه التسوية بين الواقعتين في الحكم، بناء على تساويهما في علته هي القياس في اصطلاح الأصوليين. وقولهم تسوية واقعة بواقعة أو إلحاق واقعة بواقعة، أو تعديه الحكم من واقعة إلى واقعة، هي عبارات مترادفة مدلولها واحد.

حجيته:
مذهب جمهور علماء المسلمين أن القياس حجة شرعية على الأحكام العملية، وأنه في المرتبة الرابعة من الحجج الشرعية، بحيث إذا لم يوجد في الواقعة حكم بنص أو إجماع، وثبت أنها تساوي واقعة نص على حكمها في علة هذا الحكم، فإنها تقاس بها ويحكم فيها بحكمها، ويكون هذا حكمها شرعا، ويسع المكلف اتّباعه والعمل به، وهؤلاء يطلق عليهم: مثبتو القياس.
ومذهب النظامة والظاهرية وبعض فرق الشيعة أن القياس ليس حجة شرعية على الأحكام، وهؤلاء يطلق عليه: نفاة القياس.

أدلة مثبتي القياس:
استدل مثبتو القياس بالقرآن، وبالسنة، وبأقوال الصحابة وأفعالهم، وبالمعقول.
1- أما القرآن فأظهر ما استدلوا به من آياته ثلاث آيات:
الأولى: قوله تعالى في سورة النساء: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً( [النساء: 59]. ووجه الاستدلال بهذه الآية، أن الله سبحانه أمر المؤمنين إن تنازعوا واختلفوا في شيء، ليس لله ولا لرسوله ولا لأولي الأمر منهم فيه حكم، أن يردوه إلى الله والرسول، ورده وإرجاعه إلى الله وإلى الرسول يشمل كل ما يصدق عليه أنه رد إليهما، ولا شك أن إلحاق ما لا نص فيه بما فيه نص لتساويهما في علة حكم النص؛ من رد ما لا نص فيه إلى الله والرسول، لأن فيه متابعة لله ولرسوله في حكمه.
والآية الثانية: قوله تعالى في سورة الحشر: )هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ( [الحشر: 2]، وموضع الاستدلال قوله سبحانه )فَاعْتَبِرُوا( ووجه الاستدلال أن الله سبحانه بعد أن قص ما كان من بني النضير الذين كفروا وبين ما حاق بهم )مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا(، قال )فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ( أي فقيسوا أنفسكم بهم لأنكم أناس مثلهم إن فعلتم مثل فعلهم حاق بكم مثل ما حاق بهم. وهذا يدل على أن سنة الله في كونه، أن نعمه ونقمه وجميع أحكامه هي نتائج لمقدمات أنتجتها، ومسببات لأسباب ترتبت عليها، وأنه حيث وجدت المقدمات نتجت عنها نتائجها، وحيث وجدت الأسباب ترتبت عليها مسبباتها، وما القياس إلا سير على هذا السنن الإلهي وترتيب المسبب على سببه في أي محل وجد فيه.
وهذا هو الذي يدل عليه قوله سبحانه وتعالى: )فَاعْتَبِرُوا(، وقوله: )إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً( [النازعات: 26]، وقوله: ) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ( [يوسف: 111]، فسواء فسر الاعتبار بالعبور أي المرور، أو فسِّر بالاتعاظ، فهو تقدير لسنة من سنن الله في خلقه، وهي أن ما جرى على النظير يجري على نظيره، ألا ترى أنه إذا فصل موظف من وظيفته لأنه ارتشى فقال الرئيس لإخوانه الموظفين: إن في هذا لعبرة لكم أو اعتبروا، لا يفهم من قوله إلا أنكم مثله، فإن فعلتم فعله عوقبتم عقابه.
الآية الثالثة: قوله تعالى في سورة يس: (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ( [يس: 79] جوابا لمن قال: ) مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ(؟ [يس: 78]، ووجه الاستدلال بهذه الآية أن الله سبحانه استدل على ما أنكره منكرو البعث بالقياس، فإن الله سبحانه قاس إعادة المخلوقات بعد فنائها على بدء خلقها وإنشائها أول مرة، لإقناع الجاحدين بأن من يقدر على بدء خلق الشيء وإنشائه أول مرة، قادر على أن يعيده بل هو أهون عليه، فهذا الاستدلال بالقياس إقرار لحجية القياس وصحة الاستدلال به.
وهذه الآيات الدالة على حجية القياس أيدها في دلالتها أن الله سبحانه في عدة آيات من آيات الأحكام قرن الحكم بعلته مثل قوله سبحانه في المحيض: ) قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ( [البقرة: 222]، وقوله في إباحة التيمم: (مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ( [المائدة: 6]، لأن في هذا إرشادا إلى أن الأحكام مبينة على المصالح ومرتبطة بالأسباب، وإشارة إلى أن الحكم يوجد مع سببه وما بني عليه.

2- وأما السنة فأظهر ما استدلوا منها دليلان:
الأول: حديث معاذ بن جبل أن رسول الله لما أراد أن يبعثه إلى اليمن، قال له: "كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟" قال: أقضي بكتاب الله، فإن لم أجد فبسنة رسول الله، فإن لم أجد اجتهد رأيي ولا آلو، فضرب رسول الله على صدره وقال: "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضى رسول الله"، ووجه الاستدلال بهذا الحديث أن رسول الله أقر معاذاً على أن يجتهد إذا لم يجد نصا يقضي به في الكتاب والسنة، والاجتهاد بذلك الجهد للوصول إلى الحكم، وهو يشمل القياس لأنه نوع من الاجتهاد والاستدلال والرسول لم يقره على نوع من الاستدلال دن نوع.
والثاني: ما ثبت في صحاح السنة من أن رسول الله في كثير من الوقائع التي عرضت عليه ولم يوح إليه بحكمها استدل على حكمها بطريق القياس، وفعل الرسول في هذا الأمر العام تشريع لأمته، ولم يقم دليل على اختصاصه به، فالقياس فيما لا نصل فيه من سنن الرسول، وللمسلمين به أسوة.
ورد أن جارية خثعمية قالت: يا رسول الله إن أبي أدركته فريضة الحج شيخا زمناً لا يستطيع أن يحج، إن حججت عنه أينفعه ذلك؟ فقال لها: "أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته، أكان ينفعه ذلك؟" قالت: نعم، فقال لها: "فدين الله أحق بالقضاء".
وورد أن عمر سأل الرسول عن قبلة الصائم من غير إنزال، فقال له الرسول: "أرأيت لو تمضمضت بالماء وأنت صائم؟" قال عمر: قلت لا بأس بذلك، قال: "فمه"، أي اكتف بهذا.
وورد أن رجلا من (فزارة) أنكر ولده لما جاءت به امرأته أسود، فقال له الرسول: "هل لك من إبل؟" قال: "ما ألوانها؟" قال: حمر، قال: "هل فيها من أورق؟ " قال: نعم، قال: "فمن أين؟ " قال : لعله نزعة عرق، قال: "وهذا لعله نزعه عرق"
وفي الجزء الأول من إعلام الموقعين أمثلة كثيرة لأقيسة الرسول.

3- وأما أفعال الصحابة وأقوالهم فهي ناطقة بأن القياس حجة شرعية:
فقد كانوا يجتهدون في الوقائع التي لا نص فيها، ويقيسون ما لا نص فيه على ما فيه نص ويعتبرون النظير بنظيره. قاسوا الخلافة على إمامة الصلاة، وبايعوا أبا بكر بها وبيّنوا أساس القياس بقولهم: رضيه رسول الله لديننا، أفلا نرضاه لدنيانا. وقاسوا خليفة الرسول على الرسول، وحاربوا مانعي الزكاة الذين منعوها استناداً إلى أنها كان يأخذها الرسول، لأن صلاته سكن لهم لقوله عز شأنه: )خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ( [التوبة: 103].
قال عمر بن الخطاب في عهده إلى أبي موسى الأشعري: "ثم الفهم فيما أدلى إليك مما ورد عليك مما ليس فيه قرآن ولا سنة، ثم قايس بين الأمور عند ذلك، وأعرف الأمثال ثم أعمد فيما ترى أحبها إلى الله، وأشبهها بالحق".
وقال على بن أبي طالب: ويعرف الحق بالمقايسة عند ذوي الألباب، ولما روى ابن عباس أن الرسول نهاه عن بيع الطعام قبل أن يقبض، قال: "لا أحسب كل شيء إلا مثله".
وقد نقل ابن القيم في الجزء الثاني من إعلام الموقعين ابتداء من صفحة (244) عدة فتاوى لأصحاب رسول الله أفتوا فيها باجتهادهم بطريق القياس، وما أنكر الرسول في حياته على من أجتهد من صحابته، وما أنكر بعض الصحابة على بعض اجتهاد الرأي وقياس الأشباه بالأشباه، فإنكار حجية القياس تخطئة لما سار عليه الصحابة في اجتهادهم وما قرروه بأفعالهم وأقوالهم.

4- وأما المعقول فأظهر أدلتهم منه ثلاثة:
أولها: أن الله سبحانه ما شرع حكماً إلا لمصلحة، وأن مصالح العباد هي الغاية المقصودة من تشريع الأحكام، فإذا ساوت الواقعة التي لا نص فيها الواقعة المنصوص عليها في علة الحكم التي هي مظنة المصلحة قضت الحكمة والعدالة أن تساويها في الحكم تحقيقا للمصلحة التي هي مقصود الشارع من التشريع، ولا يتفق وعدل الله وحكمته أن يحرم شرب الخمر لإسكاره محافظة على عقول عباده ويبيح نبيذاً آخر فيه خاصية الخمر وهي الإسكار، لأن مآل هذه المحافظة على العقول من مسكر، وتركها عرضة للذهاب بمسكر آخر.
وثانيها: أن نصوص القرآن والسنة محدودة ومتناهية، ووقائع الناس وأقضيتهم غير محدودة ولا متناهية، فلا يمكن أن تكون النصوص المتناهية وحدها هي المصدر التشريعي لما لا يتناهى، فالقياس هو المصدر التشريعي الذي يساير الوقائع المتجددة، ويكشف حكم الشريعة فيما يقع من الحوادث ويوفق بين التشريع والمصالح.
وثالثهما: أن القياس دليل تؤيده الفطرة السليمة والمنطق الصحيح، فإن من نهى عن شراب لأنه سام يقيس بهذا الشراب كل شراب سام، ومن حرم عليه تصرف لأن فيه اعتداء وظلما لغيره يقيس بهذا كل تصرف فيه اعتداء وظلم لغيره، ولا يعرف بين الناس اختلفا في أن ما جرى على أحد المثلين يجري على الآخر ما دام لا فارق بينهما.

بعض شبه نفاة القياس:
1 - من أظهر شبههم قولهم: إن القياس مبنى على الظن بأن علة حكم النص هي كذا والمبنى على الظن ظني، والله سبحانه نعي على من يتبعون الظن، وقال سبحانه: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ( [الإسراء: 36]، فلا يصح الحكم بالقياس لأنه اتباع الظن.
وهذه شبهة واهية، لأن المنهي عنه هو اتباع الظن في العقيدة، وأما في الأحكام العملية فأكثر أدلتها ظنية، ولو اعتبرت هذه الشبهة لا يعمل بالنصوص الظنية الدالة لأنه اتباع للظن، وهذا باطل بالاتفاق، لان أكثر النصوص ظنية الدلالة.
2 - ومن أظهر شبههم قولهم: إن القياس مبني على اختلاف الأنظار في تعليل الأحكام فهو مثار اختلاف الأحكام وتناقضها، والشرع الحكيم لا تناقض بين أحكامه.
 وهذه شبه أوهي من سابقتها لأن الاختلاف بناء على القياس ليس اختلاف في العقيدة أو في أصل من أصول الدين، وإنما هو اختلاف في أحكام جزئية عملية لا يؤدي الاختلاف فيها إلى أية مفسدة بل ربما كان رحمة بالناس وفيه مصلحتهم.
3 - ومن أظهر شبههم عبارات نقلوها عن بعض الصحابة ذموا فيها الرأي والقول في الأحكام بالرأي، مثل قول عمر: "إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداد السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي، فضلوا وأظلوا".
هذه الآثار فوق أنها غير موثوق بها ليس المراد منها إنكار القياس أو الاحتجاج به، وإنما المراد منها النهي عن اتباع الهوى، والرأي الذي ليس له مرجع من النصوص.

أركانه:
كل قياس يتكون من أركان أربعة:
الأصل:
وهو ما ورد بحكمه نص، ويسمى: المقيس عليه، والمحمول عليه والمشبه به.
والفرع:
وهو ما لم يرد بحكمه نص، ويراد تسويته بالأصل في حكمه، ويسمى: المقيس، والمحمول عليه، والمشبه.
وحكم الأصل:
وهو الحكم الشرعي الذي ورد به النص في الأصل، ويراد أن يكون حكما للفرد.
والعلة:
وهي الوصف الذي بنى عليه حكم الأصل وبناء على وجوده في الفرع يسوى بالأصل في حكمه.
فشرب الخمر أصل لأنه ورد نص بحكمه وهو قوله تعالى: )فَاجْتَنِبُوهُ( الدال على تحريم شربه لعلة هي الإسكار، ونبيذ التمر فرع لأنه لم يرد نص بحكمه، وقد ساوى الخمر في أن كلا منهما مسكر، فسوى به في أن يحرم. والأشياء الستة: الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح: أصل، لأنه ورد النص بتحريم ربا الفضل والنسيئة فيها إذا بيع كل واحد منها بجنسه، لعله هي أنها مقدرات مضبوط قدرها بالوزن أو الكيل مع اتحاد الجنس، والذرة والأرز والفول فرع لأنه لم يرد نص بحكمها، وقد ساوت الأشياء الواردة بالنص في أنها مقدرات فسويت بها في حكمها في حين المبادلة بجنسها.
أما الركنان الأوّلان من هذه الأركان الأربعة، وهما: الأصل والفرع، فهما واقعتان، أو محلان، أو أمران، أحدهما دل على حكمه نص، والآخر لم يدل على حكمه نص ويراد معرفة حكمه، ولا تشترط فيهما شروط سوى أن الأصل ثبت حكمه بنص والفرع لم يثبت حكمه بنص ولا إجماع، ولا يوجد فارق يمنع من تساويهما في الحكم.
وأما الركن الثالث وهو حكم الأصل: فتشترط لتعديته إلى الفرع شروط، لأنه ليس كل حكم شرعي ثبت بالنص في واقعة يصح أن يعدَّى بواسطة القياس إلى واقعة أخرى؛ بل تشترط في الحكم الذي يعدَّى إلى الفرع بالقياس شروط:
الأول- أن يكون حكما شرعيا عمليا ثبت بالنص:
فأما الحكم الشرعي العملي الذي ثبت بالإجماع ففي تعديته بواسطة القياس رأيان:
أحدهما: أنه لا يصح تعديته، وهذا هو الذي أرجحه لأن الإجماع كما هو مقرر لا يلتزم فيه أن يذكر مع الحكم المجمع عليه مستنده، ومن غير ذكر المستند لا سبيل إلى إدراك علة الحكم فلا يمكن القياس على الحكم المجمع عليه، وهذا على فرض وجود حكم أجمع عليه بمعنى الإجماع في اصطلاح الأصوليين.
وثانيهما: أنه يصح تعديته، قال الشوكاني: وهذا أصح القولين.
وأما الحكم الشرعي الذي ثبت بالقياس فلا يصح تعديته أصلا لأن الفرع إن كان يساوي ما ثبت فيه الحكم بالقياس في العلة فهو يساوي واقعة النص في نفس العلة ويكون المعدي بالقياس هو حكم النص، وإن كان لا يساويه في العلة فلا يصح أن يساويه في الحكم. وعلى هذا لا يصح أن يقال حرم نبيذ التفاح قياسا على نبيذ التمر الثابت حكمه بالقياس على الخمر، ويكون تحريمه بالقياس على الخمر لا على نبيذ التمر، وإن كان لا يساويه في الإسكار فلا يساويه في التحريم .

الثاني- أن يكون حكم الأصل مما للعقل سبيل إلى إدراك علته:
لأنه إذا كان لا سبيل للعقل على إدراك علته لا يمكن أن يعدَّي بواسطة القياس لأن أساس القياس إدراك علة حكم الأصل، وإدراك تحققها في الفرع.
وتوضيح هذا الشرط: أن الأحكام الشرعية العلمية جميعها إنما شرعت لمصالح الناس والعلل بنيت عليها، وما شرّع حكم منها عبثا لغير علة، غير أن الأحكام نوعان:
أحكام استأثر الله بعلم عللها:
ولم يمهد السبيل إلى إدراك هذه العلل ليبلوا عبادة ويختبرهم، وهم يمتثلون وينفذون ولو لم يدركوا ما بني عليه الحكم من علة وتسمى هذه الأحكام: التعبدية، أو غير المعقول المعنى . ومثالها: تحديد أعداد الركعات في الصلوات الخمس، وتحديد مقادير الأنصبة في الأموال التي تجب فيها الزكاة، ومقادير ما يجب فيها، ومقادير الحدود والكفّارات، وفروض أصحاب الفروض في الإرث.
وأحكام لم يستأثر الله بعلم عللها:  
بل أرشد العقول إلى عللها بنصوص أو بدلائل أخرى أقامها للاهتداء بها، وهذه تسمى: الأحكام المعقولة المعنى، وهذه هي التي يمكن أن تعدي من الأصل إلى غيره بواسطة القياس؛ سواء أكانت أحكاما مبتدأه أي ليست استثناء من أحكام كلية، كتحريم شرب الخمر الذي عدِّي بالقياس إلى شرب أي نبيذ مسكر، وتحريم الربا في القمح والشعير الذي عدِّي بالقياس إلى بيع الذرة والأرز، أم كانت أحكاما مستثناة من أحكام كلية كالترخيص في العرايا استثناء من بيع الجنس متفاضلاً، الذي عدي بالقياس إلى بيع العنب على الكرم بالزبيب. وبقاء الصوم مع أكل الصائم ناسيا استثناء من فساد الصوم بوصول غذاء إلى معدة الصائم الذي عدي بالقياس إلى أكل الصائم خطأ أو مكرها. وإلى بقاء الصلاة مع تكلم المصلي ناسيا، فالشريط لصحة تعديه حكم الأصل أن يكون معقول المعنى بلا فرق بين كونه حكما مبتدأ ليس استثناء من كونه حكم كلي وكونه حكما استثنائيا من حكم كلي، وأما إذا كان غير معقول المعنى فلا يصح تعديته سواء أكان حكما أصليا أم استثنائيا، وعلى هذا لا قياس في العبادات والحدود، وفروض الإرث وأعداد الركعات.

الثالث- أن يكون حكم الأصل غير مختص به:
وأما إذا كان حكم الأصل مختصا به فلا يعدى بالقياس إلى غيره.
ولا يكون حكم الأصل مختصا به في حالتين:
الأولى: إذا كانت علة الحكم لا يتصور وجودها في غير الأصل، كقصر الصلاة للمسافر، فهذا حكم معقول المعنى لأن فيه دفع مشقة، ولكن علته السفر، والسفر لا يتصور وجوده في غير المسافة، وكذلك إباحة المسح على الخفين حكم معقول المعنى لأن فيه تيسير ورفع حرج، ولكن علته لبس الخفين ولا يتصور وجودها في غير لبسهما.
والثانية: إذا دلّ دليل على تخصيص حكم الأصل به، مثل الأحكام التي دل الدليل على أنها مختصة بالرسول، كتزوجه بأكثر من أربع زوجات، وتحرم الزواج بإحدى زوجاته بعد موته، ومثل الاكتفاء في القضاء بشهادة خزيمة بن ثابت وحده بقول الرسول: " من شهد له خزيمة فهو حسبه"، فإن النصوص التي وردت في القرآن والسنة دالة على أنه لا يباح التزوج بأكثر من أربع، وعلى أن المتوفى عنها زوجها بعض انقضاء عدتها يحل لها أن تتزوج، وعلى أن لابد في الشهادة من رجلين أو رجل وامرأتين، وهي أدلة على تخصيص الحكم بالرسول وبخزيمة.

وأما الركن الرابع، وهو علة القياس:
فهذا هو أهم الأركان لأن علة القياس هي أساسه، وبحوثها هي أهم بحوث القياس، وهي كثيرة نقتصر منها على أربعة: تعريفها، وشروطها، وأقسامها، ومسالكها.

تعريف العلة:
العلة: هي وصف في الأصل بني عليه حكمه ويعرف به وجود هذا الحكم في الفرع، فالإسكار وصف في الخمر بني عليه تحريمه، ويعرف به وجود التحريم في كل نبيذ مسكر، والاعتداء وصف في ابتياع الإنسان على ابتياع أخيه بني عليه تحريمه، ويعرف به وجود التحريم في استئجار الإنسان على استئجار أخيه، وهذا هو مراد الأصوليين بقولهم: العلة هي المعرف للحكم. وتسمى العلة: مناط الحكم، وسبب أمارته.
ومن المتفق عليه بين جمهور علماء المسلمين أن الله سبحانه ما شرع حكما إلا لمصلحة عبادة، وأن هذه المصلحة إما جلب نفع لهم، وإما دفع ضرر عنهم، فالباعث على تشريع أي حكم شرعي هو جلب منفعة للناس أو دفع ضرر عنهم، وهذا الباعث على تشريع الحكم هو الغاية المقصودة من تشريعه وهو حكمة الحكم، فإباحة الفطر للمريض في رمضان حكمته دفع المشقة عن المريض، واستحقاق الشفعة للشريك أو الجار حكمته دفع الضرر، وإيجاب القصاص من القاتل عمدا عدوانا حكمته حفظ حياة الناس، وإيجاب قطع يد السارق حكمته حفظ أموال الناس، وإباحة المعاوضات حكمتها دفع الحرج عن الناس بسد حاجاتهم، فحكمه كل حكم شرعي تحقيق مصلحة أو دفع مفسدة.
وكان المتبادر أن يبني كل حكم على حكمته، وأن يرتبط وجوده بوجودها وعدمه بعدمها، لأنها هي الباعث على تشريعه والغاية المقصودة منه، ولكن رُئي بالاستقراء أن الحكمة في تشريع بعض الأحكام قد تكون أمرا خفياً غير ظاهر، أي لا يجرك بحاسة من الحواس الظاهرة، فلا يمكن التحقق من وجوده ولا من عدم وجوده، ولا يمكن بناء الحكم عليه ولا ربط وجوده بوجوده وعدمه بعدمه، مثل إباحة المعاوضات التي حِكمتها دفع الحرج عن الناس بسد حاجاتهم، فالحاجة أمر خفي، ولا يمكن معرفة أن المعاوضة لحاجة أو لغير حاجة، ومثل ثبوت النسب بالزوجية الذي حكمته هو الاتصال الجنسي المفضي إلى حمل الزوجة من زوجها، وهذا أمر خفي لا يمكن الوقوف عليه.
وقد تكون الحكمة أمراً تقديرياً أي أمرا غير منضبط، فلا ينضبط بناء الحكم عليه ولا ربطه به وجودا وعدما. مثال هذا: إباحة الفطر في رمضان للمريض، حكمتها دفع المشقة، وهذا أمر تقديري يختلف باختلاف الناس وأحوالهم، فلو بني الحكم عليه لا ينضبط التكليف ولا يستقيم، وكذلك استحقاق الشفعة للشريك أو الجار حكمته دفع الضرر وهو أمر تقديري غير منضبط، فلأجل خفاء حكمة التشريع في بعض الأحكام، وعدم انضباطها في بعضها، لزم اعتبار أمر آخر يكون ظاهرها أو منضبطا يبني عليه الحكم ويربط وجوده بوجوده وعدمه بعدمه ويكون مناسبا لحكمته، بمعنى أنه مظنة لها وأن بناء الحكم عليه من شأنه أن يحققها؛ وهذا الأمر الظاهر المنضبط الذي بني الحكم عليه لأنه مظنة لحكمته، ولأن بناء الحكم عليه من شانه أن يحققها، هو المراد بالعلة في اصطلاح الأصوليين، فالفرق بين حكمة الحكم وعلته هو أن حكمة الحكم هي الباعث على تشريعه والغاية المقصودة منه، وهي المصلحة التي قصد الشارع بتشريع الحكم تحقيقا أو تكميلها، أو المفسدة التي قصد الشارع بتشريع الحكم دفعها أو تقليلها.
وأما علة الحكم فهي الأمر الظاهر المنضبط الذي بني الحكم عليه وربط به وجودا وعدما، لأن الشأن في بنائه عليه وربطه به أن يحقق حكمه تشريع الحكم، فقصر الصلاة الرباعية للمسافر حكمته التخفيف ودفع المشقة، وهذه الحكم أمر تقديري غير منضبط لا يمكن بناء الحكم عليه وجودا وعدما، فاعتبر الشارع السفر مناطا للحكم وهو أمر ظاهر منضبط وفي جعله مناطا للحكم مظنة تحقيق حكمته، لأن الشأن في السفر أنه توجد فيه بعض المشقات، فحكمة قصر الصلاة الرباعية للمسافر دفع المشقة عنه، وعلته السفر.
واستحقاق الشفعة بالشركة أو الجوار حكمته دفع الضرر عن الشريك أو الجار، وهذه الحكمة أمر تقديري غير منضبط، فاعتبرت الشركة أو الجوار مناط الحكم لأن كلا منها أمر ظاهر منضبط، وفي جعله مناطا للحكم مظنة تحقيق حكمته إذ الشأن أن الضرر ينال الشريك أو الجار، فحكمة استحقاق الشفعة دفع الضرر وعلته الشركة أو الجوار.
وإباحة المعاوضات حكمتها دفع الحرج عن الناس بسد حاجاتهم، وهذه الحكم أمر خفي، فاعتبرت صيغة العقد مناطا لحكمته لأنها أمر ظاهر منضبط وفي جعلها مناطا مظنة تحقيق الحكمة لأن الصيغة عنوان تراضي المتعاوضين بالمعاوضة والشأن في تراضيهما بها أن يكون عن حاجاتهما إليها، فحكمة نقل الملكية في البديلين البيع أو الإجارة سد الحاجة، وعلته صيغة عقد البيع والإجارة.
وعلى هذا فجميع الأحكام الشرعية تبني على عللها، أي ترتبط بها وجودا وعدما، لا على حكمها، ومعنى هذا أن الحكم الشرعي يوجد حيث توجد علته ولو تخلفت حكمته، وينتفي حيث تنتفي علته ولو وجدت حكمته، لأن الحكمة لخفائها في بعض الأحكام، ولعدم انضباطها في بعضها لا يمكن أن تكون أمارة على وجود الحكم أو عدمه، ولا يستقيم ميزان التكليف والتعامل إذا ربطت الأحكام بها.
فالشارع الحكيم لما اعتبر لكل حكم علة هي أمر ظاهر منضبط، يظن تحقق الحكمة بربط الحكم به جعل مناط الأحكام عللها، ليستقيم التكليف وتنسق أحكام المعاملات ويعرف ما يترتب على الأسباب من مسببات. وتخلف الحكمة في بعض الجزئيات لا أثر له بإزاء استقامة التكاليف واطراد الأحكام، لهذا قرر الأصوليون أن الأحكام الشرعية تدور وجودا وعدما مع عللها لا مع حكمها.
 وبعبارة أخرى مناط الحكم الشرعي مظنته لا مئنته، فمن كان في رمضان على سفر يباح له الفطر لوجود علة إباحته وهي السف، وإن كان في سفرة لا يجد مشقة. ومن كان شريكا في العقار المبيع أو جارا له يستحق أخذه بالشفعة، لوجود علة استحقاقها وهي الشركة أو الجوار، وإن كان المشتري لا يخشى منه أي ضرر، ومن لم يكن شريكا في العقار المبيع ولا جارا له لا يستحق أخذه بالشفعة وإن كان لأي سبب من الأسباب يناله من شراء المشتري ضرر. ومن كان في رمضان غير مريض ولا مسافر لا يباح له الفطر وإن كان عاملا في محجر أو منجم ويجد من الصوم أقسى مشقة. ومن حصل على النهاية الصغرى في الامتحان نجح وإن لم يلم بالعلوم، ومن لم يحصل عليها لا ينجح وإن كان ملما بالعلوم.
وما دام الحكم الشرعي يبني على علته لا على حكمته فعلى المجتهد أن يقضي بالحكم حيث توجد العلة بصرف النظر عن الحكمة، فإذا قضي بالشفعة لغير شريك ولا جار بناء على أنه يناله الضرر من شراء هذا المشتري فهو خاطئ، وإذا رفض الحكم استحقاق الشفعة لشريك أو جار بناء على أنه لا ضرر عليه من شراء هذا المشتري فهو خاطئ.
ولكن في بعض الأحكام رُئي أن الحكم قد تخلف عن علته، فقد قرر الفقهاء أن بيع المكره باطل، فالعلة وهي صيغة العقد وجدت ولم يوجد الحكم وهو نقل الملكية، ونصت المادة 15 لسنة 1929م على أنه لا تسمع دعوى النسب عند الإنكار لولد زوجة ثبت عدم التلاقي بينهما وبين زوجات من حيث عقد العقد، فالزواج وجد ولم يوجد حكمه وهو ثبوت النسب.
والقاصر إذا بلغ 21 سنة ودلَّت القرائن على أنه غير رشيد لا تنتهي الولاية عليه مع وجود علة انتهائها وهو بلوغه سن الرشد. والحقيقة أن هذه الأحكام وأمثالها لا منافاة بينها وبين ما تقدم، لأننا قدمنا أن العلل الظاهرة المنضبطة إنما تبني الأحكام عليها على أساس أنها مظان لحكمها، وأن المظنة أقيمت مقام المئنة. لكن إذا قام الدليل على نفي أن يكون هذا الظاهر المنضبط مظنة لحكمة الحكم فقد دل على أساس العلة ولم يبق علة، فالإكراه على البيع نفي أن تكون الصيغة مظنة التراض الذي هو دليل الحاجة؛ فالصيغة من المكره ليست علة، والزوجية التي ثبت فيها أن الزوجين لم يلتقيا من حيث العقد لم تبق مظنة لأن تكون الزوجة حملت من زوجها فليست علة لثبوت النسب، وبلوغ 21 سنة لم يبق مظنة لحسن التصرف المالي مع دلائل عدم الرشد.
ومما ينبغي التنبيه له:
أن بعض الأصوليين جعل العلة والسبب مترادفين ومعناهما واحدا، ولكن أكثرهم على غير هذا فعندهم كلُّ من العلة والسبب علامة على الحكم، وكل منهما بني الحكم عليه وربط به وجوداً وعدماً، وكل منهما للشارع حكمة في ربط الحكم به وبنائه عليه. ولكن إذا كانت المناسبة في هذا الربط مما تدركه عقولنا سمي الوصف: العلة، وسمي أيضا: السبب، وإن كانت مما لا تدركه عقولنا سمي السبب فقط ولا يسمى العلة. فالسفر لقصر الصلاة الرباعية علة وسبب، وأما غروب الشمس لإيجاب فريضة المغرب، وزوالها لإيجاب فريضة المغرب، وزوالها لإيجاب فريضة الظهر، وشهود رمضان لإيجاب صومه، فكل من هذه سبب لا علة، فكل علة سبب، وليس كل سبب علة.

شروط العلة:
الأصل الذي ورد النص بحكمه قد يكون مشتملا على عدة أوصاف وخواص، وليس كل وصف في الأصل يصلح أن يكون علة لحكمه، بل لابد في الوصف الذي يعلل به حكم الأصل من أن تتوفر فيه جملة شروط. وهذه الشروط استمدها الأصوليين من استقراء العلل المنصوص عليها، ومن مراعاة تعريف العلة، ومن الغرض المقصود من التعليل وهو تعديه الحكم إلى الفرع. وبعض هذه الشروط اتفقت على اشتراطا كلمة الأصوليين، وبعضها لم تفق عليها كلمتهم، ونحن نقتصر على بيان الشروط المتفق عليها.

شروط العلة المتفق عليها أربعة:
أولها: أن تكون وصفا ظاهرا: ومعنى ظهوره أن يكون مُحساً يدرك بحاسة من الحواس الظاهرة، لأن العلة هي المعرف للحكم في الفرع فلابد أن تكون أمرا ظاهرا، يدرك بالحس في الخمر، ويتحقق بالحس من وجوده في نبيذ آخر مسكر، والقدر مع اتحاد الجنس اللذين يدركان بالحس في الأموال الربوية الستة، ويتحقق بالحس من وجودهما في مال آخر من المقدرات.
لهذا لا يصح التعليل بأمر خفي لا يدرك بحاسة ظاهرة لأنه لا يمكن التحقق من وجوده ولا عدمه فلا يعلل ثبوت النسب بحصول نطفة الزوج في رحم زوجته، بل يعلل بمظنته الظاهرة وهي عقد الزواج الصحيح. ولا يعلل نقل الملكية في البديلين بتراضي المتابعين بل يعلل بمظنته الظاهرة وهي الإيجاب والقبول. ولا يعلل بلوغ الحلم بكمال العقل بل يعلل بمظنته الظاهرة، وهي بلوغ 15 سنة أو ظهور علامة من علامات البلوغ قبلها.
وثانيها: أن يكون وصفا منضبطا: ومعنى انضباطه أن تكون له حقيقة معينة محدودة يمكن التحقق من وجودها في الفرع بحدها أو بتفاوت يسير، لأن أساس القياس تساوي الفرع والأصل في علة حكم الأصل، وهذا التساوي يستلزم أن تكون العلة مضبوطة محدودة حتى يمكن الحكم بأن الواقعتين متساويتان فيها، كالقتل العمد العدوان من الوارث لمورثه حقيقته مضبوطة، وأمكن تحقيقها في قتل الموصى له للموصي، والاعتداء في ابتياع الإنسان على ابتياع أخيه حقيقته مضبوطة، وأمكن تحقيقها في استئجار الإنسان على استئجار أخيه.
لهذا لا يصح التعليل بالأوصاف المرنة غير المضبوطة، التي تختلف اختلافا بينا باختلاف الظروف والأحوال والأفراد، فلا تعلل إباحة الفطر في رمضان للمريض أو المسافر بدفع المشقة بل مظنتها وهو السفر أو المرض.
وثالثها: أن تكون وصفا مناسباً: ومعنى مناسبته أن يكون مظنة لتحقيق حكمة الحكم، أي أن ربط الحكم به وجوداً وعدماً من شأنه أن يحقق ما قصده الشارع بتشريع الحكم من جلب نفع أو دفع ضرر، لأن الباعث الحقيقي على تشريع الحكم والغاية المقصودة منه هو حكمته، ولو كانت الحكمة في جميع الأحكام ظاهرة مضبوطة لكانت هي علل الأحكام، لأنها هي الباعثة على تشريعها، ولكن لعدم ظهورها في بعض الأحكام وعدم انضباطها في بعضها، أقيمت مقامها أوصاف ظاهرة مضبوطة ملائمة ومناسبة لها. وما ساغ اعتبار هذه الأوصاف عللا للأحكام ولا أقيمت مقام حكمها إلا أنها مظنة لهذا الحكم، فإذا لم تكن مناسبة ولا ملائمة لم تصلح علة للحكم. فالإسكار مناسب لتحريم الخمر لأن في بناء التحريم عليه حفظ العقول، والقتل العمد العدوان مناسب لإيجاب القصاص لأن في بناء القصاص عليه حفظ حياة الناس، والسرقة مناسبة لإيجاب قطع يد السارق والسارقة لأن في بناء القطع عليها حفظ أموال الناس.
لهذا لا يصح التعليل بالأوصاف غير المناسبة، وتسمى بالأوصاف الطردية أو الاتفاقية التي لا تعقل علاقة لها بالحكم، ولا بحكمته كلون الخمر، أو كون القاتل عمداً عدواناً مصري الجنس، أو كون السارق أسمر اللون، أو كون المفطر عمداً في رمضان أعرابيا. ولا يصح التعليل بأوصاف مناسبة بأصلها إذا طرأ عليها في بعض الجزئيات بمناسبتها، وجعلها قطعا غير مظنة لحكمة التشريع، فصيغة البيع من المكره لا تصح علة لنقل الملكية، وزوجية من ثبت عدم تلاقيهما من حين العقد لا تصل علة لثبوت النسب، وبلوغ من بلغ مجنوناً لا يصلح علة لزوال الولاية النفسية عنه، لأن البيع والزواج والبلوغ في هذه الجزئيات ليست مظنة ولا مناسبة.
رابعها: أن لا تكون وصفا قاصرا على الأصل: ومعنى هذا أن تكون وصفا يمكن أن يتحقق في عدة أفراد ويوجد في غير الأصل، لأن الغرض المقصود من تعليل حكم الأصل تعديته إلى الفرع، فلو علل بعلة لا توجد في غير الأصل لا يمكن أن تكون أساسا للقياس. ولهذا لما عللت الأحكام التي هي من خصائص الرسول، بأنها لذات الرسول لم يصح فيها القياس، فلا يصح تعليل تحريم الخمر بأنها نبيذ العنب تخمر، ولا تعليل تحريم الربا في الأموال الربوية الستة بأنها ذهب أو فضة.
وبعض الأصوليين خالف في اشتراط هذا الشرط في العلة. وينبغي أن لا يكون في اشتراط هذا الشرط خلاف، ما دام المقصود هو شروط العلة التي هي ركن القياس وأساسه، لأنه لا تكون العلة أساسا للقياس إلا إذا كانت متعدية أي أمراً غير خاص بالأصل ويمكن وجوده في غيره.

أقسام العلة:
تقسيم العلة من ناحية اعتبار الشارع إياها وعدمه:
قدمنا في بحث "شروط العامة" أنه ليس كل وصف في الأصل يصلح أن يكون علة لحكمه، وأنه لا يصح التعليل بوصف إلا إذا كان ظاهرا منضبطا مناسبا. وبينا أن المراد بمناسبة الوصف للحكم أن يكون مظنة لحكمته، بحيث يكون بناء الحكم عليه وربطه به من شأنه أن يحقق المصلحة التي شرع الحكم من أجلها. ونقرر هنا أنه للاحتياط يشترط أن يكون الوصف المناسب مع ظهوره وانضباطه قد اعتبره الشارع علة بأي نوعه من أنواع الاعتبار.
ومن ناحية اعتبار الشارع للمناسب وعدم اعتباره إياه، قسّم الأصوليين الوصف المناسب إلى أقسام أربعة:
المناسب المؤثر، والمناسب الملائم، والمناسب المرسل، والمناسب الملغي.
و بنوا الحصر في هذه الأقسام على أن الوصف المناسب إذا اعتبره الشارع بعينه علة لحكم بعينه فهو المناسب المؤثر، وإذا اعتبره الشارع علة بنوع آخر من أنواع الاعتبار الثلاثة التي سيأتي بيانها فهو المناسب الملائم، وإذا لم يعتبره الشارع بأي نوع من أنواع الاعتبار ولم يبغ اعتباره ولم يرتب حكما على وفقه، فهو المناسب المرسل، وإذا ألغي الشارع اعتباره فهو المناسب الملغي. وقد اتفقوا على صحة التعليل بالمناسب المؤثر وبالمناسب الملائم، وعلى عدم صحة التعليل بالمناسب الملغي، واختلفوا في صحة التعليل بالمناسب المرسل. وهذا بيان الأقسام الأربعة وأمثلتها:

1- المناسب المؤثر: 
هو الوصف المناسب الذي رتب الشارع حكماً على وفقه، وثبت بالنص أو الإجماع بعينه علة للحكم، الذي رتب على وفقه، ومثاله قوله تعالى:)وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ( [البقرة: 222]، الحكم الثابت بهذا النصل هو إيجاب اعتزال النساء في المحيض، وقد رتب على أنه أذى، وصوغ النص صريح في أن علة هذا الحكم هو الأذى، فالأذى لإيجاب اعتزال النساء في المحيض وصف مناسب مؤثر.
وقوله: "لا يرث القاتل" الحكم الثابت بهذا النص هو منع القاتل من إرث مورثه، وقد رتب على أنه قاتل، وصوغ النص يؤمئ إلى أن علة هذا المنع هو القتل، لأن تعليق الحكم بمشتق يؤذن بأن مصدر الاشتقاق هو العلة، فالقتل للمنع من الإرث وصف مناسب مؤثر.
وقوله تعالى: (وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ( [النساء: 6]، الحكم الثابت بهذا النص: أن من لم يبلغ الحلم من اليتامى ثبت الولاية على ماله لوليه، وقد ثبت بالإجماع أن علة ثبوت الولاية المالية على الصغير صغره، فالصغر لثبوت الولاية المالية وصف مناسب مؤثر.
فكل حكم شرعي رتب على وصف مناسب في محله ودل نص أو إجماع على أن هذا الوصف هو علة هذا الحكم، فهذا الوصف مناسب مؤثر، وهذا أعلى درجات اعتبار الوصف المناسب.

2- المناسب الملائم: 
هو الوصف المناسب الذي رتب الشارع حكما على وقفه، ولم يثبت بالنص أو الإجماع اعتباره بعينه علة لنفس الحكم الذي رتب على وفقه، ولكن ثبت بالنص أو الإجماع اعتباره بعينه عله لحكم من جنس الحكم الذي رتب على وفقه، أو اعتبار وصف من جنسه علة لهذا الحكم. فمتى كان الوصف المناسب معتبرا بنوع من هذه الأنواع الثلاثة للاعتبار كان التعليل به موافقا تصرفات الشارع في تشريعه وتعليله، ولهذا يسمى المناسب الملائم أي الموافق تصرفات الشارع، وقد اتفق على صحة التعليل به وبناء القياس عليه.
مثال الوصف المناسب الذي اعتبره الشارع بعينه علة لحكم من جنس الحكم الذي رتب على وفقه: الصغر لثبوت الولاية للأب في تزويج الصغيرة، وذلك أنه ثبت بالنص ثبوت الولاية للأب في تزويج بنته البكر الصغيرة. فالحكم وهو ثبوت الولاية رتب على وفق البكارة والصغر، ولم يدل نص أو إجماع على أن العلة لثبوت هذه الولاية البكارة أو الصغر، لكن ثبت بالإجماع اعتبار الصغر علة للولاية على مال الصغيرة، والولاية على النفس هو ولاية التزاوج من جنس واحد، وهو الولاية. فكأن الشارع لما اعتبر الصغر علة للولاية على مال الصغيرة اعتبر الصغر علة للولاية عليها بأنواعها، ومن أنواع الولاية: الولاية على تزويجها. فعلة ثبوت الولاية للأب على تزويج البكر الصغيرة الصغر، وبما أن الصغر يتحقق في الثيب الصغيرة فتقاس على البكر الصغيرة وتثبت عليها ولاية التزويج، وتقاس عليها أيضا من في حكم الصغيرة وهي المجنونة والمعتوهة.
ومثال الوصف المناسب الذي اعتبر الشارع وصفا من جنسه علة للحكم الذي رتب على وفقه: المطر لإباحة الجمع بين الصلاتين في وقت واحد، وذلك أنه ثبت بالنص إباحة الجمع بين الصلاتين حال المطر. فالحكم وهو إباحة الجمع بين الصلاتين رتب على وفق حال المطر، ولم يدل نص ولا إجماع على أن المطر هو علة هذا الحكم، لكن دل نص آخر على إباحة الجمع بين الصلاتين في وقت واحد حال السفر. وثبت بالإجماع أن علة إباحة الجمع السفر، والسفر والمطر نوعان من جنس واحد، لأن كلا منهما عارض مظنة الحرج والمشقة، فكأن الشارع لما اعتبر السفر علة لإباحة الجمع بين الصلاتين اعتبر كل ما هو من جنسه علة لهذه الإباحة، فعلة إباحة الجمع بين الصلاتين حال المطر: المطر، ويقاس عليه حال الثلج والبرد.
ومثال الوصف المناسب الذي اعتبر وصفا من جنسه علة لحكم من جنس الحكم الذي رتب على وفقه: تكرر أوقات الصلوات في الليل والنهار لسقوط قضاء الصلاة عن الحائض. وذلك أنه ثبت بالنص أن الحائض في أثناء حيضها لا تصوم ولا تصلى، وأن عليها إذا طهرت أن تقضي الصوم دون الصلاة. فالحكم وهو سقوط قضاء الصلوات عنها لم يدل نص على علته، ولكن رُئي أن تكرر أوقات الصلوات ليلا ونهارا مظنة الحرج والمشقة في أدائها، والشارع اعتبر أشياء كثيرة هي مظان الحرج عللا لأحكام كثيرة هي رخص وتخفيف عن المكلف، كالمرض والسفر لإباحة الفطر في رمضان، والسفر لقصر الصلاة الرباعية، وعدم الماء للتيمم، ودفع الحاجة للسلم والعرايا، فكأن الشارع اعتبر كل نوع من أنواع مظان الحرج علة لكل نوع من أنواع الأحكام التي فيها تخفيف. وتكرر أوقات الصلوات من أنواع مظان الحرج، وسقوط قضائها عن الحائض من أنواع الأحكام التي فيها تخفيف.
وهذا النوع من أنواع الاعتبار يفسح المجال للتعليل بالأوصاف المناسبة، لأن كل وصف مناسب رتب الشارع الحكم على وفقه، لا يخلو من أن يكون أي وصف من جنسه اعتبره الشارع علة لحكم من جنس حكمه، وصحة التعليل بالمناسب بناء على اعتبار جنسه في جنس الحكم تفتح أبواب القياس بسعة، لأن مآل هذا: أن الشارع إذا اعتبر وصفا هو مظنة الحرج علة لحكم فيه تخفيف، صح اعتبار أي وصف آخر من مظان الحرج علة لأن حكم آخر فيه تخفيف.
ولا يتصور أن يوجد وصف مناسب رتب الشارع حكما على وفقه، ولم يعتبره بأي نوع من أنواع الاعتبار السابقة بل لابد أن الشارع اعتبره ولو باعتبار جنسه علة لجنس حكمه. وعلى هذا فكل وصف مناسب رتب الشارع حكما على وفقه، فهو إما مؤثر، وإما ملائم.
وأما ما سماه بعض الأصوليين بالمناسب الغريب، فال يتصور وجوده، لأنه عرّفوه بالوصف المناسب الذي رتب الشارع حكما على وفقه، ولم يثبت اعتباره بأي نوع من أنواع الاعتبار، وقد بينا أنه مع السعة في اعتبار جنس الوصف في جنس الحكم لا يوجد مناسب غريب، ولهذا لم يذكر صاحب جمع الجوامع المناسب الغريب، واقتصر على تقسيم المناسب إلى مؤثر وملائم ومرسل، وهذا الذي اخترناه.

3- المناسب المرسل: 
هو الوصف الذي لم يرتب الشارع حكما على وفقه ولم يدل دليل شرعي على اعتباره بأي نوع من أنواع الاعتبار، ولا على إلغاء اعتباره. فهو مناسب أي يحقق مصلحة؛ ولكنه مرسل أي مطلق عن دليل اعتبار ودليل إلغاء، وهذا هو الذي يسمى في اصطلاح الأصوليين "المصلحة المرسلة".
ومثاله: المصالح التي بنى عليها الصحابة تشريع وضع الخراج على الأرض الزراعية، وضرب النقود، وتدوين القرآن ونشره، وغير هذا من المصالح التي شرعوا الأحكام بناء عليها، ولم يقم دليل من الشارع على اعتبارها ولا على إلغاء اعتبارها.
وهذا المناسب المرسل اختلف العلماء في تشريع الأحكام بناء عليه، فمنهم من نظر إلى ناحية أن الشارع لم يعتبره فقال: لا يبني عليه تشريع، ومنهم من نظر إلى أن الشارع لم يلغ اعتباره فقال: يبني عليه التشريع، وسيأتي بحثه مفصلا.

4- المناسب الملغي:
وهو الوصف الذي يظهر أن في بناء الحكم عليه تحقيق مصلحة، ولم يرتب الشارع حكما على وفقه ودل الشارع بأي دليل على إلغاء اعتباره.
مثل: تساوي الابن والبنت في القرابة لتساويهما في الإرث، ومثل إلزام المفطر عمداً في رمضان بعقوبة خاصة لردعه.
 وهذا لا يصح بناء تشريع عليه، وسيأتي بحثه مفصلا.

مسالك العلـة:
المراد بمسالك العلة:
الطرق التي يتوصل بها إلى معرفتها، وأشهر هذه المسالك ثلاثة:
أولاً- النص:
فإذا دل نص القرآن أو السنة على أن علة الحكم هي هذا الوصل كان هذا الوصف علة بالنص ويسمى العلة المنصوص عليها وكان القياس بناء عليه هو في الحقيقة تطبيق للنص. ودلالة النص على أن الوصف علة قد تكون صراحة وقد تكون إيماء أي إشارة وتلويحا لا تصريحا.
فالدلالة صراحة هي: دلالة لفظ في النص على العلية بوضعه اللغوي مثل ما إذا ورد في النص لعلة كذا، أو لسبب كذا، أو لأجل كذا، وإذا كان اللفظ الدال على العلية في النص، لا يحتمل غير الدلالة على العلية، فدلالة النص على علية الوصف صريحة قطعية كقوله تعالى في تعليله بعثه الرسل: )رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ( [النساء: 165]، وقوله في إيجاب أخذ خمس الفيء للفقراء والمساكين: (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ( [الحشر: 7]، وكقول الرسول: "إنما نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الدافة، فكلوا وادخروا".
وإذا كان اللفظ الدال على العلية في النص يحتمل الدلالة على غير العلية، فدلالة النص على عليه الوصف صريحة ظنية، مثل قوله تعالى: (أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ( [الإسراء: 78]، وقوله: (فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ( [النساء:160] وقوله: )وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ( [البقرة: 222]، وقول الرسول في طهارة سؤر الهرة: "إنها من الطوافين عليكم والطوافات"، وإنما كانت دلالة النص على العلية ظنية في هذا الأمثلة لأن الألفاظ الدالة عليها فيها، وهي: اللام، والباء، والفاء، وإن كما تستعمل في التعليل في غيره، وإن كان التعليل هو الظاهر من معانيها في هذه النصوص.
وأما دلالة النص على العلية إيماء أي إشارة وتنبيها، فهي مثل الدلالة المستفادة من ترتيب الحكم من الوصف واقترانه به، بحيث يتبادر من هذا الاقتران فهم عليه الوصف للحكم وإلا لم يكن للاقتران وجه، وذلك مثل قوله: "لا يقضي القاضي وهو غضبان"، وقوله: "لا يرث القاتل"، وقوله: "للراجل سهم وللفارس سهمان"، وقوله للأعرابي لما قال له: "واقعت أهلي في نهار رمضان عمدا"، "كفِّر" وكون الدلالة صراحة أو إيماء، قطعية أو ظنية، مدارها على وضع اللغة وسياق النص.
ثانياً- الإجماع:
فإذا اتفق المجتهدون في عصر من العصور على علة وصف لحكم شرعي ثبتت عليه هذا الوصف للحكم بالإجماع، ومثال هذا إجماعهم على أن علة الولاية المالية على الصغيرة الصغر، وفي عدّ هذا مسلكاً نظر، لأن نفاة القياس لا يقيسون ولا يعللون فكيف ينعقد بدونهم إجماع.
ثالثاً- السبر والتقسيم:
السبر معناه الاختبار، ومنه المسبار. والتقسيم هو حصر الأوصاف الصالحة لأن تكون علة في الأصل، وترديد العلة بينها بأن يقال العلة إما هذا الوصف أو هذا الوصف. فإذا ورد نص بحكم شرعي في واقعة ولم يدل نص ولا إجماع على علة هذا الحكم، سلك المجتهد للتوصل إلى معرفة علة هذا الحكم مسلك السبر والتقسيم: بأن يصر الأوصاف التي توجد في واقعة الحكم، وتصلح لأن تكون العلة وصفا منها، ويختبرها وصفا وصفاً على ضوء الشروط الواجب توافرها في العلة، وأنواع الاعتبار الذي تعتبر به، بواسطة هذا الاختبار يستبعد الأوصاف التي لا تصلح أن تكون علة، ويستبقي ما يصلح أن يكون علة، وبهذا الاستبعاد وهذا الاستبقاء يتوصل إلى الحكم بأن هذا الوصف علة.
مثلا: ورد النص بتحريم ربا الفضل والنسيئة في مبادلة الشعير بالشعير:
ولم يدل نص ولا إجماع على علة هذا الحكم، فالمجتهد يسلك لمعرفة علة هذا الحكم مسلك السبر والتقسيم بأن يقول: علة هذا الحكم إما كون الشعير مما يضبط قدره لأنه يضبط بالكيل، وإما كونه طعاما، وإما كونه مما يقتات به ويدخر؛ لكن كون طعاما لا يصلح علة، لأن التحريم ثابت في الذهب بالذهب وليس الذهب طعاما، وكونه قوتا لا يصلح أيضا لأن التحريم ثابت في الملح بالملح، وليس قوتا، فيتعين أن تكون العلة كونه مقدرا. وبناء على هذا؛ يقاس على ما ورد في النص كل المقدرات بالكيل أو الوزن، ففي مبادلتها بجنسها يحرم ربا الفضل والنسيئة.
وكذا ورد النص بتزويج الأب بنته البكر الصغيرة، ولم يدل نص ولا إجماع على علة ثبوت هذه الولاية، فالمجتهد يردد العلية بين كوناه بكرا وكونها صغيرة، ويستبعد البكارة لأن الشارع ما اعتبرها للتعليل بنوع من أنواع الاعتبار، ويستبقى الصغر لأن الشارع اعتبره علة للولاية على المال، وهي والولاية على التزويج من جنس واحد، فيحكم بأن العلة الصغر ويقيس على البكر الصغيرة الثيب الصغيرة بجامع الصغر.
وكذا ورد النص بتحريم شرب الخمر ولم يدل نص على علة الحكم، فالمجتهد يردد العلية بين كونه من العنب أو كونه سائلا أو كونه مسكرا، ويستبعد الوصف الأول لأنه قاصر، والثاني لأنه طردي غير مناسب، ويستبقي الثالث فيحكم بأنه علة.
وخلاصة هذا المسلك:
أن المجتهد عليه أن يبحث في الأوصاف الموجودة في الأصل، ويستبعد ما لا يصلح أن يكون علة منها، ويستبقي ما هو علة حسب رجحان ظنه، وهاديه في الاستبعاد والاستبقاء تحقق شروط العلة، بحيث لا يستبقي إلا وصفا ظاهرا منضبطا متعديا مناسبا معتبرا بنوع من أنواع الاعتبار. وفي هذا تتفاوت عقول المجتهدين، لأن منهم من يرى المناسب هذا الوصف، ومنهم من يرى تفاوت عقول المجتهدين، لأن منهم من يرى المناسب هذا الوصف، ومنهم من يرى المناسب وصفا آخر . فالحنفية رأوا المناسب في تعليل التحريم في الأموال الربوية القدر مع اتحاد الجنس، والشافعية رأوه الطعم مع اتحاد الجنس، والمالكية رأوه القوت والادخار مع اتحاد الجنس. والحنفية رأوا المناسب في تعليل ثبوت الولاية على البكر الصغيرة الصغر، والشافعية رأوه البكارة.
وبعض علماء الأصول عد من مسالك العلة تنقيح المناط، والمراد بتنقيح المناط، هو تهذيب ما نيط به الحكم وبني عليه وهو علته. والحق أن تنقيح المناطق إنما يكون حيث دل النص على العلية من غير تعيين وصف بعينه علة، فهو ليس مسلكا للتواصل به إلى تعليل الحكم، لأن تعليل الحكم مستفاد من النص، وإنما هو مسلك لتهذيب وتخليص علة الحكم مما اقترن بها من الأوصاف التي لا مدخل لها في العلية.
ومثال هذا: ما ورد في السنة أن أعرابيا جاء إلى رسول الله وقال له: هلكت، فقال له الرسول: "ما صنعت؟" فقال : واقعت أهلي في نهار رمضان عمدا، فقال له الرسول : "كفِّر ..." الحديث، فهذا النص دل بالإيماء على أن علة إيجاب التكفير على الأعرابي ما وقع منه، ولكن هذا الذي وقع منه فيه ما لا مدخل له في العلية لإيجاب التكفير مثل كونه أعرابيا، وكونه واقع خصوص زوجته، وكونه واقع في نهار رمضان من تلك السنة بعينها.
فالمجتهد يستبعد هذه الأوصاف لأنها لا مدخل لها في العلية، ويستخلص علة الوقاع عمدا في نهار رمضان، وعلى هذا تجب الكفارة على من أفطر عامدا في نهار رمضان بالجماع خاصة، وهذا مذهب الشافعي. وأما الحنفية فقالوا: إن مثل الجماع كل مفطر، وهذه المماثلة تفهم بالتبادر فتجب الكفارة على كل من أفطر عمدا في نهار رمضان بجماع أو بأكل أو بشرب أو غيرها فيكون المناط لإيجاب الكفارة عندهم بعد تهذيبه المفسد للصوم عمدا، فتهذيب العلة مما اقترن بها ومما لا مدخل له في العلية وهو تنقيح المناط.
ومن هذا يتبين أن تنقيح المناط غير السبر والتقسيم؛ لأن تنقيح المناط يكون حيث دل نص على مناط الحكم، ولكنه غير مهذب ولا خالص من اقتران ما لا دخل له في العلية به .
وأما السبر والتقسيم فيكونان حيث لا يجود نص أصلا على مناط الحكم، ويراد التوصل بهما إلى معرفة العلة لا إلى تهذيبها من غيرها.
وأما النظر في استخراج العلة غير المنصوص عليها، ولا المجمع عليها بواسطة السبر والتقسيم، أو بأي مسلك من مسالك العلة فيسمى تخريج المناط. فهو استنباط علة لحكم شرعي ورد به النص ولم يرد نص بعلته ولم ينعقد إجماع على علته.
وأما تحقيق المناط فهو النظر في تحقق العلة التي تثبت بالنص أو بالإجماع أو بأي مسلك في جزئية أو واقعة غير التي ورد فيها النص، كما إذا ورد النص بأن علة اعتزال النساء في المحيط هي الأذى فينظر في تحقيق الأذى في النفاس.
وكما إذا ثبت أن علة تحريم شرب الخمر الإسكار فينظر في تحقيق الإسكار في نبيذ آخر. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق