الأحد، 15 أكتوبر 2017

كتاب علم أصول الفقه تأليف عبد الوهاب خلاف - بصيغة وورد - الجزء الثاني




الدليل الخامس: الاستحسان

1- تعريفه.
2- أنواعه
3- حجيته.
4- شبه من لا يحتجون به.

تعريفه:
الاستحسان في اللغة:
عد الشيء حسناً.
وفي اصطلاح الأصوليين:
هو عدول المجتهد عن مقتضى قياس جلي إلى مقتضى قياس خفي، أو عن حكم كلي إلى حكم استثنائي لدليل انقدح في عقله رجَّح لديه هذا العدول.
فإذا عرضت واقعة ولم يرد نص بحكمها، وللنظر فيها وجهتان مختلفان إحداهما ظاهرة تقتضي حكما والأخرى خفية تقتضي حكما آخر، وقام بنفس المجتهد دليل رجح وجهة النظر الخفية، فعدل عن وجهة النظر الظاهرة فهذا يسمى شرعا: الاستحسان. وكذلك إذا كان الحكم كليا، وقام بنفس المجتهد دليل يقتضي استثناء جزئية من هذا الحكم الكلي والحكم عليها بحكم آخر فهذا أيضا يسمى شرعا الاستحسان.

أنواعه:
من تعريف الاستحسان شرعا يتبين أنه نوعان:
أحدهما: ترجيح قياس خفي على قياس جلي بدليل.
وثانيهما: استثناء جزئية من حكم كلي بدليل.
ومن أمثلة النوع الأول:
1- نص فقهاء الحنفية على أن الواقف إذا وقف أرضا زراعية يدل حق المسيل وحق الشرب وحق المرور في الوقف تبعا بدون ذكرها استحسانا، والقياس أنها لا تدخل إلا بالنص عليها كالبيع. ووجه الاستحسان: أن المقصود من الوقف انتفاع الموقوف عليهم، ولا يكون الانتفاع بالأرض الزراعية إلا بالشرب والمسيل والطريق، فتدخل في الوقف بدون ذكرها لأن المقصود لا يتحقق إلا بها كالإجارة.
فالقياس الظاهر إلحاق الوقف في هذا البيع، لأن كلا منهما إخراج ملك من مالكه.
والقياس الخفي: إلحاق الوقف في هذا بالإجارة لأن كلا منهما مقصود به الانتفاع، فكما يدخل المسيل والشرب والطريق في إجارة الأطيان بدون ذكرها تدخل في وقف الأطيان بدون ذكرها.
2- نص فقهاء الحنفية على أنه إذا اختلف البائع والمشتري في مقدار الثمن قبل قبض المبيع، فادعى البائع أن الثمن مائة جنيه وادعى المشتري أنه تسعون يتحالفان استحسانا، والقياس أن لا يحلف البائع، لأن البائع يدعي الزيادة "وهي عشرة" والمشتري ينكرها، والبينة على من أدعى، واليمين على من أنكر، فلا يمين على البائع. ووجه الاستحسان: أن البائع مدعٍ ظاهرا بالنسبة إلى الزيادة ومنكر حق المشتري في تسليم المبيع بعد دفع التسعين، والمشتري منكر ظاهرا الزيادة التي ادعاها البائع وهي العشرة ومدع حق تسلمه المبيع بعد دفع التسعين، فكل واحد منهما مدع من جهة ومنكر من جهة أخرى فيتحالفان.
فالقياس الظاهر: إلحاق هذه الواقعة بكل واقعة بين مدع ومنكر، فالبينة على من ادعى واليمن على من أنكر.
والقياس الخفي: إلحاق الواقعة بكل واقعة بين متداعيين، كل واحد منهما يعتبر في آن واحد مدعيا ومنكرا فيتحالفان.
3- نص فقهاء الحنفية على أن سؤر سباع الطير كالنسر والغراب والصقر والبازي والحدأة والعقاب طاهر استحسانا نجس قياسا. وجه القياس: أنه سؤر حيوان محرم لحمه كسؤر سباع البهائم كالفهد والنمر والسبع والذئب، وحكم سؤر الحيوان تابع لحكم لحمه. ووجه الاستحسان: أن سباع الطير وإن كان محرماً لحمها إلا أن لعابها المتولد من لحمها لا يختلط بسؤرها، لأنها تشرب بمنقارها وهو عظيم طاهر، وأما سباع البهائم فتشرب بلسانها المختلط بلعابها فلهذا ينجس سؤرها.
ففي كل مثال من هذه الأمثلة، تعارض في الواقعة قياسان أحدهما جلي متبادر فهمة، والآخر خفي دقيق فهمه، وقام للمجتهد دليل رجح القياس الخفي فعدل عن القياس الجلي فهذا العدول هو "الاستحسان" والدليل الذي بني عليه هو وجه الاستحسان.
ومن أمثلة النوع الثاني :
نهى الشارع عن بيع المعدوم والتعاقد على المعدوم، ورخص استحسان في السلم والإجارة والمزارعة والمساقاة والاستصناع وهي كلها عقود، المعقود عليه فيها معدوم وقت التعاقد، ووجه الاستحسان حاجة الناس وتعارفهم.
ونص الفقهاء على أن الأمين يضمن بموته مجهلاً لأن التجهل نوع من التعدي، واستثني استحسانا موت الأب أو الجد أو الوصي مجهلاً. ووجه الاستحسان: أن الأب والجد والوصي لكل منهم أن ينفق على الصغير ويصر ما يحتاج إليه فلعل ما جهله كان قد صرفه في وجهه.
ونصوا على أن الأمين لا يضمن إلا بالتعدي أو التقصير في الحفظ، واستثنى استحسانا الأجير المشترك، فإنه يضمن إلا إذا كان هلاك ما عنده بقوة قاهرة؛ ووجه الاستحسان: تأمين المستأجرين.
ونصوا على أن المحجور عليه للسفه لا تصح تبرعاته، واستثني استحسانا وقفه على نفسه مدة حياته، ووجه الاستحسان: أن وقفه على نفسه فيه تأمين عقاراته من الضياع، وهذا يتفق والغرض من الحجر عليه.
ففي كل مثال من هذه الأمثلة استثنيت جزئية من حكم كلي بدليل، وهذا هو الذي يسمى اصطلاحا الاستحسان.

حجيته:
من تعريف الاستحسان وبيان نوعية يتبين أنه في الحقيقة ليس مصدرا تشريعيا مستقلا، لأن أحكام النوع الأول من نوعية دليلها هو القياس الخفي الذي ترجح على القياس الجلي، بما اطمأن له قلب المجتهد من المرجحات، وهو وجه الاستحسان. وأحكام النوع الثاني من نوعه دليلها هو المصلحة، التي اقتضت استثناء الجزئية من الحكم الكلي، وهو الذي يعبر عنها بوجه الاستحسان.

فمن احتجوا بالاستحسان - وهم أكثر الحنفية - دليلهم في حجيته:
أن الاستدلال بالاستحسان إنما هو استدلال بقياس خفي، ترجح على قياس جلي أو هو ترجيح قياس على قياس يعارضه، بدليل يقتضي هذا الترجيح، أو استدلال بالمصلحة المرسلة على استثناء جزئي من حكم كلي، وكل هذا استدلال صحيح.
شبه من لا يحتجون به:
أنكر فريق من المجتهدين الاستحسان واعتبروه استنباطاً للأحكام الشرعية بالهوى والتلذذ، وعلى رأس هذا الفريق الإمام الشافعي، فقد نقل عنه أنه قال: "من استحسن فقد شرع"، أي ابتدأ من عنده شرعا. وقرر في رسالته الأصولية أن "مثل من استحسن حكما مثل من اتجه في الصلاة إلى جهة استحسن أنها الكعبة، من غير أن يقوم له دليل من الأدلة التي أقامها الشارع لتعيين الاتجاه إلى الكعبة" . وقرر فيها أيضا أن "الاستحسان تلذذ، ولو جاز الأخذ بالاستحسان في الدين جاز ذلك لأهل العقول من غير أهل العلم، ولجاز أن يشرع في الدين في كل باب، وأن يخرج كل أحد لنفسه شرعا".
والظاهر لي أن الفريقين المختلفين في الاستحسان لم يتفقا في تحديد معناه، فالمحتجون به يريدون منه معنى غير الذي يريده من لا يحتجون به، ولو اتفقوا على تحديد معناه ما اختلفوا في الاحتياج به، لأن الاستحسان هو عند التحقيق عدول عن دليل ظاهر أو عن حكم كلي لدليل اقتضى هذا العدول، وليس مجرد تشريع بالهوى. وكل قاض قد تنقدح في عقله في كثير من الوقائع مصلحة حقيقية، تقتضي العدول في هذه الجزئية عما يقضي به ظاهر القانون وما هذا إلا نوع من الاستحسان.
ولهذا قال الإمام الشاطبي في الموافقات:
من استحسن لم يرجع إلى مجرد ذوقه وتشهيه، وإنما رجع إلى ما علم من قصد الشارع في الجملة في أمثال تكل الأشياء المعروضة، كالمسائل التي يقتضي فيها القياس أمرا إلا أن ذلك الأمر يؤدي إلى تفويت مصلحة من جهة أو جلب مفسدة كذلك.




الدليل السادس : المصلحة المرسلة

1- تعريفها
2- أدلة من يحتجون بها.
3- شروط الاحتجاج بها 
4- أظهر شبه من لا يحتجون بها

تعريفها:
المصلحة المرسلة أي المطلقة، في اصطلاح الأصوليين:
المصلحة التي لم يشرع الشارع حكما لتحقيقها، ولم يدل دليل شرعي على اعتبارها أو إلغائها. وسميت مطلقة لأنها لم تقيد بدليل اعتبار أو دليل إلغاء. ومثالها المصلحة التي شرّع لأجلها الصحابة اتخاذ السجون، أو ضرب النقود، أو إبقاء الأرض الزراعية التي فتحوها في أيدي أهليها ووضع الخراج عليها، أو غير ذلك من المصالح التي اقتضتها الضرورات، أو الحاجات أو التحسينات ولم تشرع أحكام لها، ولم يشهد شاهد شرعي باعتبارها أو إلغائها.
وتوضيح هذا التعريف:
أن تشريع الأحكام ما قصد به إلا تحقيق مصالح الناس، أي جلب نفع لهم أو دفع ضرر أو رفع حرج عنهم، وأن مصالح الناس لا تنحصر جزئياتها، ولا تتناهى أفرادها وأنها تتجدد بتجدد أحوال الناس وتتطور باختلاف البيئات. وتشريع الحكم قد يجلب نفعا في زمن وضررا في آخر، وفي الزمن الواحد قد يجلب الحكم نفعا في بيئة ويجلب ضررا في بيئة أخرى.
فالمصالح التي شرع الشارع أحكاما لتحقيقها، ودل على اعتبارها عللا لما شرعه، وتسمى في اصطلاح الأصوليين: المصالح المعتبرة من الشارع، مثل حفظ حياة الناس، شرع الشارع له إيجاب القصاص من القاتل العامد، وحفظ مالهم الذي شرع له حد السارق والسارقة، وحفظ عرضهم الذي شرع له حد القذف للزاني والزانية، فكل من القتل العمد، والسرقة، والقذف، والزنا، وصف مناسب، أي أن تشريع الحكم بناء عليه يحقق مصلحة، وهو معتبر من الشارع لأن الشارع بني الحكم عليه، وهذا المناسب المعتبر من الشارع إما مناسب مؤثر، وإما مناسب ملائم على حسب نوع اعتبار الشارع له، ولا خلاف في التشريع بناء عليه كما قدمنا.
وأما المصالح التي اقتضتها البيئات والطوارئ بعد انقطاع الوحي، ولم يشرع الشارع أحكاما لتحقيقها، ولم يقم دليل منه على اعتبارها أو إلغائها، فهذه تسمى المناسب المرسل أو بعبارة أخرى المصلحة المرسلة. مثل المصلحة التي اقتضت أن الزواج الذي لا يثبت بوثيقة رسمية لا تسمع الدعوى به عند الإنكار، ومثل المصلحة التي اقتضت أن عقد البيع الذي لا يسجل لا ينقل الملكية، فهذه كلها مصالح لم يشرع الشارع أحكاما لها، ولم يدل دليل منه على اعتبارها أو إلغاءها، فهي مصالح مرسلة.

أدلة من يحتجون بها:
ذهب جمهور علماء المسلمين إلى أن المصلحة المرسلة حجة شرعية يبني عليها تشريع الأحكام، وأن الواقعة التي لا حكم فيها بنص أو إجماع قياس أو استحسان، يشرع فيها الحكم الذي تقتضيه المصلحة المطلقة، ولا يتوقف تشريع الحكم بناء على هذه المصلحة على وجود شاهد من الشرع باعتبارها.
ودليلهم على هذا أمران:
أولهما- أن مصالح الناس تتجدد ولا تتناهى، فلو لم تشرع الأحكام لما يتجدد من مصالح الناس، ولما يقتضيه تطورهم واقتصر التشريع على المصالح التي اعتبرها الشارع فقط، لعطلت كثير من مصالح الناس في مختلف الأزمنة والأمكنة، ووقف التشريع عن مسايرة تطورات الناس ومصالحهم، وهذا لا يتفق وما قصد بالتشريع من تحقيق مصالح الناس.
وثانيهما- أن من استقرأ تشريع الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين؛ يتبين أنهم شرعوا أحكاما كثيرة لتحقيق مطلق المصلحة، لا لقيام شاهد باعتبارها.
-        فأبو بكر جمع الصحف المفرقة التي كان مدونا فيها القرآن، وحارب مانعي الزكاة، واستخلف عمر بن الخطاب.
-        وعمر أمضى الطلاق ثلاثا بكلمة واحدة، ومنع سهم المؤلفة قلوبهم من الصدقات، ووضع الخراج، ودون الدواوين، واتخذ السجون، ووقف تنفيذ حد السرقة في عام المجاعة.
-        وعثمان جمع المسلمين على مصحف واحد ونشره وحرق ما عداه، وورّث زوجة من طلق زوجته للفرار من إرثها.
-        وعلي حرق الغلاة من الشيعة الروافض.
-        والحنفية حجروا على المفتي الماجن، والطبيب المجاهر، والمكاري المفلس.
-        والمالكية أباحوا حبس المتهم وتعزيره توصلا إلى إقراره.
-        والشافعية أوجبوا القصاص من الجماعة إذا قتلوا الواحد.
وجميع هذه المصالح التي قصدوها بما شرعوه من الأحكام هي مصالح مرسلة، وقد شرعوا بناء عليها لأنها مصلحة، ولأنها دليل من الشارع على إلغائها، وما وقفوا عن التشريع لمصلحة حتى يشهد شاهد شرعي باعتبارها، ولهذا قال القرافي: "إن الصحابة عملوا أمورا لمطلق المصلحة لا لتقدم شاهد بالاعتبار". وقال ابن عقيل: "السياسة كل فعل تكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول، ولا نزل به وحي، ومن قال: لا سياسة إلا بما نطق به الشرع، فقد غلط وغلّط الصحابة في شريعتهم".

شروط الاحتجاج بها:
من يحتجون بالمصلحة المرسلة احتاطوا للاحتجاج بها حتى لا تكون باب للتشريع بالهوى والتشهي، ولهذا اشترطوا في المصلحة المرسلة التي يبني عليه التشريع شروطا ثلاثة:
أولها: أن تكون مصلحة حقيقة وليست مصلحة وهمية:
والمراد بها أن يتحقق من أن تشريع الحكم في الواقعة يجلب نفعا أو يدفع ضررا، وأما مجرد توهم أن التشريع يجلب نفعا، من غير موازنة بين ما يجلبه من ضرر فهذا بناء على مصلحة وهمية، ومثال هذه المصلحة التي تتوهم في سلب الزوج حق تطليق زوجته، وجعل حق التطليق للقاضي فقط في جميع الحالات.
ثانيها: أن تكون مصلحة عامة وليست مصلحة شخصية:
والمراد بهذا أن يتحقق من أن تشريع الحكم في الواقعة يجلب نفعا لأكبر عدد من الناس، أو يدفع ضررا عنهم وليس لمصلحة فرد أو أفراد قلائل منهم، فلا يشرع الحكم لأنه يحقق مصلحة خاصة بأمير أو عظيم، بصرف النظر عن جمهور الناس ومصالحهم، فلابد أن تكون لمنفعة جمهور الناس.
ثالثها: أن لا يعارض التشريع لهذه المصلحة حكما أو مبدأ ثبت بالنص أو الإجماع:
فلا يصح اعتبار المصلحة التي تقتضي مساواة الابن والبنت في الإرث، لأن هذه مصلحة ملغاة لمعارضتها نص القرآن، ولهذا كانت فتوى يحيى بن يحيى الليثي المالكي فقيه الأندلس، وتلميذ الإمام مالك بن أنس خاطئة؛ وذلك أن أحد ملوك الأندلس أفطر عمدا في رمضان، فأفتاه الإمام يحيى بأنه لا كفّارة لإفطاره إلا أن يصوم شهرين متتابعين، وبنى فتواه على أن المصلحة تقتضي هذا إذ إن المقصود من الكفارة زجر المذنب وردعه حتى لا يعود إلى مثل ذنبه، ولا يردع هذا الملك إلا هذا، فأما إعتاقه رقبة فهذا يسير عليه ولا ردع فيه، فهذه الفتوى بينت على مصلحة ولكنها تعارض نصا، لأن النص صريح في أن كفارة من أفطر في رمضان عمدا إعتاق رقبة، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا، بلا تفريق بين ملك يفطر وفقير يفطر، فالمصلحة التي اعتبرها المفتي لإلزام الملك بالتكفير بصيام شهرين مصلحة خاصة ليست مرسلة بل هي ملغاة.
ومن هذا يتبين أن المصلحة، وبعبارة أخرى الوصف المناسب إذا دل شاهد شرعي على اعتباره بنوع من أنواع الاعتبار، فهو المناسب المعتبر من الشارع، وهو إما المناسب المؤثر أو المناسب الملائم، وإذا دل شاهد شرعي على إلغاء اعتباره فهو المناسب الملغي، وإذا لم يدل شاهد شرعي على اعتباره ولا على إلغائه فهو المناسب المرسل وبعبارة أخرى المصلحة المرسلة.

أظهر شبه من لا يحتجون بها:
ذهب بعض علماء المسلمين إلى أن المصلحة المرسلة التي لم يشهد شاهد شرعي باعتبارها ولا بإلغائها لا يبني عليها تشريع.
ودليلهم أمران:
الأول: أن الشريعة راعت كل مصالح الناس بنصوصها وبما أرشدت إليه من القياس، والشارع لم يترك الناس سدى، ولم يهمل أية مصلحة من غير إرشاد إلى التشريع لها، فلا مصلحة إلا ولها شاهد من الشارع باعتبارها، والمصلحة التي لا شاهد من الشارع باعتبارها ليست في الحقيقة مصلحة، وما هي إلا مصلحة وهمية ولا يصح بناء التشريع عليها.
والثاني: أن التشريع بناء على مطلق المصلحة فيه فتح باب لأهواء ذوي الأهواء، من الولاة والأمراء ورجال الإفتاء، فبعض هؤلاء قد يغلب عليهم الهوى والغرض فيتخيلون المفاسد مصالح، والمصالح أمور تقديرية تختلف باختلاف الآراء والبيئات ففتح باب التشريع لمطلق المصلحة فتح باب الشر.
والظاهر لي:
هو ترجيح بناء التشريع على المصلحة المرسلة، لأنه إذا لم يفتح هذا الباب جمد التشريع الإسلامي، ووقف عن مسايرة الأزمان والبيئات. ومن قال: إن كل جزئية من جزئيات مصالح الناس، في أي زمن وفي أي بيئة قد راعاها الشارع، وشرع بنصوصه ومبادئه العامة ما يشهد لها ويلائمها، فقوله لا يؤيده الواقع، فإنه مما لا ريب فيه أن بعض المصالح التي تجد لا يظهر شاهد شرعي على اعتبارها ذاتها.
ومن خاف من العبث والظلم واتباع الهوى باسم المصلحة المطلقة، يدفع خوفه بأن المصلحة المطلقة لا يبني عليها تشريع إلاّ إذا توافرت فيها الشروط الثلاثة التي بينّاها، وهي أن تكون مصلحة عامة حقيقة لا تخالف نصا شرعياً ولا مبدأ شرعياً.
قال ابن القيم:
"من المسلمين من فرطوا في رعاية المصلحة المرسلة، فجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد محتاجة إلى غيرها، وسدوا على أنفسهم طرقا صحيحة من طرق الحق والعدل، ومنهم من أفرطوا فسوغوا من ينافي شرع الله وأحدثوا شراً طويلاً وفساداً عريضا".




الدليل السابع: العُـرف

1- تعريفه
2- أنواعه
3- حكمه

تعريفه:
العُرف هو ما تعارفه الناس وساروا عليه، من قول، أو فعل، أو ترك، ويسمى العادة. وفي لسان الشرعيين: لا فرق بين العرف والعادة، فالعرف العملي: مثل تعارف الناس البيع بالتعاطي من غير صيغة لفظية. والعرف القولي: مثل تعارفهم إطلاق الولد على الذكر دون الأنثى، وتعارفهم على أن لا يطلقوا لفظ اللحم على السمك. والعرف يتكون من تعارف الناس على اختلاف طبقاتهم عامتهم وخاصتهم بخلاف الإجماع فإنه يتكون من اتفاق المجتهدين خاصة، ولا دخل للعامة في تكوينه.

أنواعه:
العرف نوعان: عرف صحيح، وعرف فاسد.
فالعرف الصحيح:
هو ما تعارفه الناس، ولا يخالف دليل شرعيا ولا يحل محرماً ولا يبطل واجباً، كتعارف الناس عقد الاستصناع، وتعارفهم تقسيم المهر إلى مقدم ومؤخر، وتعارفهم أن الزوجة لا تزف إلى زوجها إلا إذا قبضت جزءا من مهرها، وتعارفهم أن ما يقدمه الخاطب إلى خطيبته من حلي وثياب هو هدية لا من المهر.
وأما العرف الفاسد:
هو ما تعارفه الناس ولكنه يخالف الشرع أو يحل المحرم أو يبطل الواجب، مثل تعارف الناس كثيرا من المنكرات في الموالد والمآتم، وتعارفهم أكل الربا وعقود المقامرة.

حكمه:
أما العرف الصحيح فيجب مراعاته في التشريع وفي القضاء، وعلى المجتهد مراعاة في تشريعه؛ وعلى القاضي مراعاته في قضائه؛ لأن ما تعارفه الناس وما ساروا عليه صار من حاجاتهم ومتفقا ومصالحهم، فما دام لا يخالف الشرع وجبت مراعاته، والشارع راعي الصحيح من عرف العرب في التشريع، ففرض الدية على العاقلة، وشرط الكفاءة في الزواج واعتبر العصبية في الولاية والإرث.
ولهذا قال العلماء:
العادة شريعة محكمة، والعرف في الشرع له اعتبار، والإمام مالك بنى كثيرا من أحكامه على عمل أهل المدينة، وأبو حنيفة وأصحابه اختلفوا في أحكام بناء على اختلاف أعرافهم، والشافعي لما هبط إلى مصر غير بعض الأحكام التي كان قد ذهب إليها وهو في بغداد، لتغير العرف، ولهذا له مذهبان قديم وجديد.
وفي فقه الحنفية أحكام كثيرة مبنية على العرف، منها إذا اختلف المتداعيان ولا بينة لأحدهما فالقول لمن يشهد له العرف، وإذا لم يتفق الزوجان على المقدم والمؤخر من المهر فالحكم هو العرف، زمن حلف لا يأكل لحما فأكل سمكا لا يحنث بناء على العرف، والمنقول يصح وقفه إذا جرى به العرف، والشرط في العقد يكون صحيحا إذا ورد به الشرع أو اقتضاه العقد أو جرى به العرف.
وقد ألَّف العلامة المرحوم ابن عابدين رسالة سماها: "نشر العرف فيما بني من الأحكام على العرف"، ومن العبارات المشهورة: " المعروف عرفا كالمشروط شرطا، والثابت بالعرف كالثابت بالنص"
وأما العرف الفاسد فلا تجب مراعاته لأن في مراعاته معارضة دليل شرعي أو إبطال حكم شرعي، فإذا تعارف الناس عقدا من العقود الفاسدة كعقد ربوي، أو عقد فيه غرر وخطر، فلا يكون لهذا العرف أثر في إباحة هذا العقد، ولهذا لا يعتبر في القوانين الوضعية عرف يخالف الدستور أو النظام العام، وإنما ينظر في مثل هذا العقد من جهة أخرى، وهي أن هذا العقد هل يعد من ضرورات الناس أو حاجياتهم، بحيث إذا أبطل يختل نظام حياتهم أو ينالهم حرج أو ضيق أولا؟ فإن كان من ضرورياتهم أو حاجياتهم يباح لأن الضرورات تبيح المحظورات، والحاجات تنزل منزلتها في هذا، وإن لم يكن من ضرورياتهم ولا من حاجياتهم يحكم ببطلانه ولا عبرة لجريان العرف به.
والأحكام المبنية على العرف تتغير بتغيره زمانا ومكانا، لأن الفرع يتغير بتغير أصله، ولهذا يقول الفقهاء في مثل هذا الاختلاف: إنه اختلاف عصر وزمان، لا اختلاف حجة وبرهان.
والعرف عند التحقيق ليس دليلا شرعيا مستقلا: وهو في الغالب من مراعاة المصلحة المرسلة، وهو كما يراعي في تشريع الأحكام يراعي في تفسير النصوص، فيخصص به العام، ويقيد به المطلق. وقد يترك القياس بالعرف ولهذا صح عقد الاستصناع، لجريان العرف به وإن كان قياس لا يصح لأنه عقد على معدوم.




الدليل الثامن : الاستصحاب

1- تعريفه  
2- حجيته

تعريفه:
الاستصحاب في اللغة:
اعتبار المصاحبة، وفي اصطلاح الأصوليين: وهو الحكم على الشيء بالحال التي كان عليها من قبل، حتى يقوم دليل على تغير تلك الحال، أو هو جعل الحكم الذي كان ثابتا في الماضي باقيا في الحال حتى يقوم دليل على تغيره.
فإذا سئل المجتهد عن حكم عقد أو تصرف، ولم يجد نصا في القرآن أو السنة ولا دليلا شرعيا يطلق على حكمه، حكم بإباحة هذا العقد أو التصرف بناء على أن الأصل في الأشياء الإباحة، وهي الحال التي خلق الله عليها ما في الأرض جميعه، فما لم يقم دليل على تغيرها فالشيء على إباحته الأصلية.
وإذا سئل المجتهد عن حكم حيوان أو جماد أو نبات أو أي طعام أو أي شراب أو عمل من الأعمال ولم يجد دليلا شرعيا على حكمه، حكم بإباحته، لأن الإباحة هي الأصل ولم يقم دليل على تغيره.
وإنما كان الأصل في الأشياء الإباحة، لأن الله قال في كتابه الكريم: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً( [البقرة: 29]، وصرّح في عدة آيات بأنه سخر للناس ما في السموات وما في الأرض، ولا يكون ما في الأرض مخلوقا للناس ومسخراً لهم إلا إذا كان مباحا لهم، لأنه لو كان محظورا عليهم ما كان لهم.

حجيته:
الاستصحاب آخر دليل شرعي يلجأ إليه المجتهد لمعرفة حكم ما عرض له ولهذا قال الأصوليون: إنه آخر مدار الفتوى وهو الحكم على الشيء بما كان ثابتا له مادام لم يقم دليل يغيره. وهذا طريق في الاستدلال قد فطر عليه الناس وساروا عليه في جميع تصرفاتهم وأحكامهم. فمن عرف إنساناً حياً حكم بحياته وبني تصرفاته على هذه الحياة، حتى يقوم الدليل على وفاته، ومن عرف فلانة زوجة فلان شهد بالزوجية ما دام لم يقم له دليل على انتهائها. وهكذا كل من علم وجود أمر حكم بوجوده حتى يقوم الدليل على عدمه، ومن علم عدم أمر حكم بعدمه حتى يقوم الدليل على وجوده.
وقد درج على هذا القضاء، فالملك الثابت لأي إنسان بسبب من أسباب الملك يعتبر قائما حتى يثبت ما يزيله. والحل الثابت للزوجية بعقد الزواج يعتبر قائما حتى يثبت ما يزيله. والذمة المشغولة بدين أو بأي التزام تعتبر مشغولة به حتى يثبت ما يخليها منه. والذمة البريئة من شغلها بدين أو التزام تعتبر بريئة حتى يثبت ما يشغلها. والأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يثبت ما يغيره.
وعلى هذا الاستصحاب بنيت المادة (180) من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية ونصها: "تكفي الشهادة بالدين وإن لم يصرح ببقائه في ذمة المدين، وكذا الشهادة بالعين"، والمادة (181) منها ونصها: "تكفي الشهادة بالوصية أو الإيصاء وإن لم يصرح بإصرار الموصي إلى وقت الوفاة".
وعلى الاستصحاب بنيت المبادئ الشرعية الآتية:
- الأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يثبت ما يغيره.
- الأصل في الأشياء الإباحة.
- ما ثبت باليقين لا يزول بالشك.
- الأصل في الإنسان البراءة.
والحق أن عد الاستصحاب نفسه دليلا على الحكم فيه تجوز، لأن الدليل في الحقيقة هو الدليل الذي ثبت به الحكم السابق، وما الاستصحاب إلا استبقاء دلالة هذا الدليل على حكمه.
وقد قرر علماء الحنفية أن الاستصحاب حجة للدفع لا للإثبات، مرادهم بهذا أنه حجة على بقاء ما كان على ما كان، ودفع ما يخالفه حتى يقوم دليل يثبت هذا الذي يخالفه، وليس حجة لإثبات أمر غير ثابت، ويوضح هذا ما قرروه في المفقود وهو الغائب الذي لا يدري مكانه ولا تعلم حياته ولا وفاته، فهذا المفقود يحكم بأنه باستصحاب الحال التي عرف بها حتى يقوم دليل على وفاته، وهذا الاستصحاب الذي دل على حياته حجة تدفع بها دعوى وفاته والإرث منه وفسخ إجارته، وطلاق زوجته، ولكنه ليس حجة لإثبات إرثه من غيره لأن حياته الثابتة بالاستصحاب حياة اعتبارية لا حقيقة.



الدليل التاسع : شرع من قبلنا

إذا قص القرآن أو السنة الصحيحة حكما من الأحكام الشرعية، التي شرعها الله لمن سبقنا من الأمم، على ألسنة رسلهم ونص على أنها مكتوبة علينا، كما كانت مكتوبة عليهم، فلا خلاف في أنها شرع لنا وقانون واجب اتّباعه، بتقرير شرعنا لها، كقوله تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ( [البقرة: 183].
وإذا قص القرآن الكريم أو السنة الصحيحة حكما من هذه الأحكام، وقام الدليل الشرعي على نسخة ورفعه عنّا، فلا خلاف في أنه ليس شرعا لنا بالدليل الناسخ من شرعنا، مثل ما كان في شريعة موسى من أن العاصي لا يكفّر ذنبه إلا أن يقتل نفسه، ومن أن الثوب إذا أصابته نجاسة لا يطره إلا قطع ما أصيب منه، وغير ذلك من الأحكام التي كانت إصراً حمله الذين من قبلنا ورفعه الله عنا.
وموضع الخلاف هو ما قصه علينا الله أو رسوله من أحكام الشرائع السابقة، ولم يرد في شرعنا ما يدل على أنه مكتوب علينا كما كتب عليهم، أو أنه مرفوع عنا ومنسوخ، كقوله تعالى: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً( [المائدة: 32] وقوله: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ( [المائدة: 45].
فقال جمهور الحنفية وبعض المالكية والشافعية: أن يكون شرعاً لنا وعلينا اتّباعه وتطبيقه، مادام قد قص علينا ولم يرد في شرعنا ما ينسخه، لأنه من الأحكام الإلهية التي شرعها الله على ألسنة رسله، وقصه علينا ولم يدل الدليل على نسخها، فيجب على المكلفين اتّباعها. ولهذا استدل الحنفية على قتل المسلم بالذمي وقتل الرجل بالمرأة بإطلاق قوله تعالى: (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ( [المائدة: 45].
وقال بعض العلماء: إنه لا يكون شرعاً لنا لأن شريعتنا ناسخة للشرائع السابقة، إلا إذا ورد في شرعنا ما يقرره.
والحق هو المذهب الأول، لأن شريعتنا إنما نسخت من الشرائع السابقة ما يخالفها فقط، ولأن قص القرآن علينا حكماً شرعيا سابقا بدون نص على نسخه هو تشريع لنا ضمناً، لأنه حكم إلهي بلغه الرسول إلينا ولم يدل دليل على رفعه عنا، ولأن القرآن مصدق لما بين يديه من التوراة والإنجيل، فما لم ينسخ حكما في أحدهما فهو مقرر له.



الدليل العاشر : مذهب الصحابي

بعد وفاة الرسول، تصدى لإفتاء المسلمين والتشريع لهم جماعة من الصحابة، عرفوا بالفقه والعلم طول ملازمة الرسول وفهم القرآن وأحكامه، وقد صدرت عنهم عدة فتاوى في وقائع مختلفة، وعني بعض الرواة من التابعين وتابعي التابعين بروايتها وتدوينها، حتى أن منهم من كان يدونها من سنن الرسول، فهل هذه الفتاوى من المصادر التشريعية الملحقة بالنصوص بحيث أن المجتهد يجب عليه أن يرجع إليها قبل أن يلجأ إلى القياس؟ أو هي مجرد آراء إفرادية اجتهادية ليست حجة على المسلمين؟
وخلاصة القول في هذا الموضوع: أنه لا خلاف في أن قول الصحابي فيما لا يدرك بالرأي والعقد يكون حجة على المسلمين، لأنه لابد أن يكون قاله عن سماع من الرسول، كقول عائشة رضي الله عنها: "لا يمكث الحمل في بطن أمه أكثر من سنتين قدر ما يتحول ظل المغزل"، فمثل هذا ليس مجالا للاجتهاد والرأي، فإذا صح فمصدره السماع من الرسول، وهو من السنة وإن كان في ظاهر الأمر من قول الصحابي.
ولا خلاف أيضا في أن قول الصحابي، الذي لم يعرف له مخالف من الصحابة يكون حجة على المسلمين، لأن اتفاقهم على حكم واقعة مع قرب عهدهم بالرسول، وعلمهم بأسرار التشريع واختلافهم في وقائع كثيرة غيرها دليل على استنادهم إلى دليل قاطع، وهذا لما اتفقوا على توريث الجدات السدس كان حكما واجبا اتّباعه، ولم يعرف فيه خلاف بين المسلمين.
وإنما الخلاف في قول الصحابي الصادر عن رأيه واجتهاده، ولم تتفق عليه كلمة الصحابة.
فقال أبو حنيفة ومن وافقوه: إذا لم أجد في كتاب الله ولا سنة رسوله، أخذت بقول أصحابه من شئت وأدع قول من شئت، ثم لا أخرج عن قولهم إلى غيره. فالإمام أبو حنيفة لا يرى رأي واحد معين منهم حجة، فله أن يأخذ برأي من شاء منهم، ولكنه لا يسوغ مخالفة آرائهم جميعا، فهو لا يسوغ في القياس في الواقعة ما دام للصحابة في حكم الواقعة فيها بأي قول من أقوالهم. ولعل من وجهته أن اختلاف الصحابة في حكم الواقعة إلى قولين إجماع منهم على أنه لا ثالث، واختلافهم إلى ثلاثة أقوال إجماع منهم على أنه لا رابع، فالخروج من أقوالهم جميعا خروج عن إجماعهم.
وظاهر كلام الإمام الشافعي أنه لا يرى رأي واحد معين منهم حجة، ويسوغ مخالفة آرائهم جميعا، والاجتهاد في الاستنباط رأى آخر، لأنها مجموعة آراء اجتهادية فردية لغير معصومين، وكما جاز للصحابي أن يخالف الصحابي يجوز لمن بعدهما من المجتهدين أن يخالفهما، ولهذا قال الشافعي "لا يجوز الحكم أو الإفتاء إلا من جهة خبر لازم، وذلك الكتابة أو السنة، أو ما قاله أهل العلم لا يختلفون فيه، أو قياس على بعض هذا".




القسم الثاني
في الأحكام الشرعية

مباحث الأحكام في علم أصول الفقه أربعة:
1-  الحاكم: وهو من صدر عنه الحكم.
2- والحكم: وهو ما صدر من الحاكم دالا على إرادته في فعل المكلف.
3- والمحكوم فيه: وهو فعل المكلف الذي تعلق الحكم به. 
4- والمحكوم عليه: وهو المكلف الذي تعلق الحكم بفعله. 

الحاكم:
1- من هو؟ 
2- بم يعرف حكمه؟
لا خلاف بين علماء المسلمين، في أن مصدر الأحكام الشرعية لجميع أفعال المكلفين هو الله سبحانه، سواء أظهر حكمه في فعل المكلف مباشرة من النصوص التي أوحي بها إلى رسوله، أم اهتدى المجتهدون إلى حكمه في فعل المكلف، بواسطة الدلائل والأمارات التي شرعها لاستنباط أحكامه، ولهذا اتفقت كلمتهم على تعريف الحكم الشرعي بأنه: خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين طلبا أو تخييرا أو وضعا، واشتهر من أصولهم "لا حكم إلا لله"، وهذا مصداق قوله سبحانه: )إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين( [الأنعام: 57].
وإنما اختلف علماء المسلمين في أن أحكام الله في أفعال المكلفين، هل يمكن للعقل أن يعرفها بنفسه من غير وساطة رسل الله وكتبه، بحيث أن من لم تبلغه دعوة رسول يستطيع أن يعرف حكم الله في أفعاله بعقله أم لا يمكن للعقل أن يعرف حكم الله في أفعال المكلفين بنفسه من غير وساطة رسل الله وكتبه؟
فلا خلاف في أن الحاكم هو الله، وإنما الخلاف فيما يعرف به حكم الله.

ولعلماء المسلمين في هذا الخلاف مذاهب ثلاثة:
1- مذهب الأشاعرة:
أتباع أبي الحسن الأشعري: وهو أنه: لا يمكن للعقل أن يعرف حكم الله في أفعال المكلفين إلا بواسطة رسله وكتبه؛ لأن العقول تختلف اختلافا بيّنا في الأفعال، فبعض العقول يستحسن بعض الأفعال، وبعضها يستقبحها، بل عقل الشخص الواحد يختلف في الفعل الواحد، وكثيرا ما يغلب الهوى على العقل فيكون التحسين أو التقبيح بناء على الهوى، فعلى هذا لا يمكن أن يقال ما رآه العقل حسنا فهو حسن عند الله، ومطلوب لله فعله، ويثاب عليه من الله فاعله، وما رآه العقل قبيحا فهو عند الله، ومطلوب لله تركه، ويعاقب من الله فاعله.
وأساس هذا المذهب:
أن الحسن من أفعال المكلفين هو ما دل الشارع على أنه حسن بإباحته أو طلب فعله، والقبح هو ما دل الشارع على أنه قبيح يطلبه تركه، وليس الحسن ما رآه العقل حسنا ولا القبيح ما رآه العقل قبيحا، فمقياس الحسن والقبح في هذا المذهب هو الشرع لا العقل، وهذا يتفق وما ذهب إليه بعض علماء الأخلاق من أن مقياس الخير والشر هو القانون، فما أوجبه القانون أو أباحه فهو خير، وما حظره فهو شر.
وعلى هذا المذهب لا يكون الإنسان مكلفا من الله بفعل شيء، أو ترك شيء إلا إذا بلغته دعوة الرسول وما شرعه الله، ولا يثاب أحد على فعل شيء ولا يعاقب على ترك أو فعل، إلا إذا علم من طريق رسل الله ما يجب عليه فعله وما يجب عليه تركه. فمن عاش في عزلة تامة بحيث لم تبلغه دعوة رسول ولا شرعه فه غير مكلف من الله بشيء ولا يستحق ثوابا ولا عقابا. وأهل الفترة - وهم من عاشوا من بعد موت رسول وقبل مبعث رسول - غير مكلفين بشيء ولا يستحقون ثوابا ولا عقابا. ويؤيد هذا المذهب قوله سبحانه: )وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء: 15].

2- مذهب المعتزلة:
أتباع واصل بن عطاء: وهو أنه يمكن أن يعرف حكم الله في أفعال المكلفين بنفسه من غير وساطة رسله وكتبه، لأن كل فعل من أفعال المكلفين فيه صفات وله آثار تجعله ضارا أو نافعا، فيستطيع العقل بناء على صفات الفعل، وما يترتب عليه من نفع أو ضرر أن يحكم بأنه حسن أو قبيح، وحكم الله سبحانه على الأفعال هو على حسب ما تدركه العقول بمن نفعها أو ضررها، فهو سبحانه يطالب المكلفين بفعل ما فيه نفعهم حسب إدراك عقولهم؛ وبترك ما فيه ضررهم حسب إدراك عقولهم، فما رآه العقل حسنا فهو مطلوب لله ويثاب من الله فاعله، وما رآه العقل قبيحا فهو مطلوب لله تركه ويعاقب من الله فاعله.
وأساس هذا المذهب:
أن الحسن من الأفعال ما رآه العقل حسنا لما فيه من نفع، والقبيح من الأفعال ما رآه العقل قبيحا لما فيه من ضرر، وأن أحكام الله في أفعال المكلفين هي على وفق ما تدركه عقولهم فيها من حسن أو قبح. وهذا المذهب يتفق وما ذهب إليه أكثر علماء الأخلاق من أن مقياس الخير والشر هو ما يدرك في الفعل من نفع أو ضرر لأكبر مجموعة من الناس يصل إليهم أثر الفعل.
وعلى هذا المذهب؛ فمن لم تبلغهم دعوة الرسل ولا شرائعهم فهم مكلفون من الله بفعل ما يهديهم عقلهم إلى أنه حسن ويثابون من الله على فعله، وبترك ما يهديهم عقلهم إلى أنه قبيح ويعاقبون من الله على فعله. وأصحاب هذا المذهب يؤيدونه بأنه لا يستطيع عاقل أن ينكر أن كل فعل فيه خواص وله آثار تجعله حسنا أو قبيحا، ومن الذي لا يدرك بعقله أن الشرك على النعمة والصدق والوفاء والأمانة كل منها حسن، وأن ضد كل منها قبيح. ولا يستطيع عاقل أن ينكر أن الله ما شرع أحكامه في أفعال المكلفين إلا بناء على ما فيها من نفع أو ضرر، ويقولون: إن من بلغتهم شرائع الله مكلفون من الله بما تقضي به هذه الشرائع ومن لم تبلغهم شرائع الله مكلفون من الله بما تهديهم إليه عقولهم، فعليهم أن يفعلوا ما تستحسنه عقولهم، وأن يتركوا ما تستقبحه عقولهم.

3- مذهب الماتريدية:
أتباع أبي منصور الماتريدي، وهذا المذهب وسط معتدل، وهو الراجح في رأيي؛ وخلاصته أن أفعال المكلفين فيها خواص ولها آثار تقتضي حسنها أو قبحها، وأن العقل بناء على هذه الخواص والآثار يستطيع الحكم بأن هذا الفعل حسن وهذا الفعل قبيح، وما رآه العقل السليم حسنا فهو حسن، وما رآه العقل السليم قبيحا فهو قبيح. ولكن لا يلزم أن تكون أحكام الله في أفعال المكلفين على وفق ما تدركه عقولنا فيها من حسن أو قبح، لأن العقول مهما نضجت قد تخطئ، ولأن بعض الأفعال مما تشتبه فيه العقول، فلا تلازم بين أحكام الله وما تدركه العقول، وعلى هذا لا سبيل إلى معرفة حكم الله إلا بواسطة رسله.
فهؤلاء وافقوا المعتزلة في أن حسن الأفعال وقبحها مما تدركه العقول بناء على ما تدركه من نفعها أو ضررها، وخالفوهم في أن حكم الله لابد أن يكون على وفق حكم العقل، وفي أن ما أدرك العقل حسنة فهو مطلوب لله فعله، وما أدرك العقل قبحه فهو مطلوب لله تركه.
ووافقوا الأشاعرة في أنه لا يعرف حكم الله إلا بواسطة رسله وكتبه، وخالفوهم في أن الحسن والقبح للأفعال شرعيان لا عقليان، وفي أن الفعل لا يكون حسنا إلا بطلب الله فعله، ولا يكون قبيحا إلا بطلب الله تركه. لأن هذا ظاهر البطلان، فإن أمهات الفضائل يدرك العقل حسنها لما فيها من نفع، وأمهات الرذائل يدرك العقل قبحها لما فيها من ضرر و ولو لم يرد بهذا شرع.
وهذا الخلاف لا يترتب عليه اثر إلا بالنسبة لمن لم تبلغهم شرائع الرسل، وأما من بلغتهم شرائع الرسل فمقياس الحسن والقبح للأفعال بالنسبة لهم ما ورد في شريعتهم لا ما تدركه عقولهم بالاتفاق، فما أمر به الشارع فهو حسن ومطلوب فعله ويثاب فاعله، وما نهى عنه الشارع فهو قبيح ومطلوب تركه ويعاقب فاعله.

الحكم:
1- تعريفه  
2- أنواعه
3- أقسام كل نوع

تعريفه:
الحكم الشرعي في اصطلاح الأصوليين: هو خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين، طلباً أو تخييراً، أو وضعاً.
فقوله تعالى: (أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ( [المائدة: 1]، هذا خطاب من الشارع متعلق بالإيفاء بالعقود طلبا لفعله . وقوله تعالى: (لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ( [الحجرات:11]، هذا خطاب من الشارع متعلق بالسخرية طلبا لتركها. وقوله سبحانه: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ( [البقرة: 229]، هذا خطاب من الشارع متعلق بأخذ الزوج بدلا من زوجته نظير تطليقها تخييرا فيه. وقول الرسول: "لا يرث القاتل" هذا خطاب من الشارع متعلق بالقتل وضعا له مانعا من الإرث.
فنفس النص الصادر من الشارع الدال على طلب أو تخيير أو وضع هو الحكم الشرعي في اصطلاح الأصوليين، وهذا يوافق اصطلاح القضائيين الآن؛ فهم يريدون بالحكم نفس النص الذي يصدر من القاضي؛ ولهذا يقولون: منطق الحكم كذا يقولون: أجلت القضية للنطق بالحكم.
وأما الحكم الشرعي في اصطلاح الفقهاء: فهو الأثر الذي يقتضيه خطاب الشارع في الفعل، كالوجوب والحرمة والإباحة.
فقوله تعالى: (أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ( [المائدة: 1]، يقتضى وجوب الإيفاء بالعقود.
فالنص نفسه هو الحكم في اصطلاح الأصوليين، ووجوب الإيفاء هو الحكم في اصطلاح الفقهاء. وقوله تعالى: (وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى) [الإسراء: 32]، هو الحكم في اصطلاح الأصوليين، وحرمة قربان الزنا هو الحكم في اصطلاح الفقهاء.
ولا يتوهّم متوهّم من تعريف الحكم الشرعي في اصطلاح الأصوليين، بأنه خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين، بأن الحكم الشرعي خاص بالنصوص لأنها هي الخطاب من الشارع وأنه لا يشمل الأدلة الشرعية الأخرى من إجماع أو قياس أو غيرها لأن سائر الأدلة الشرعية غير النصوص عند التحقيق تعود إلى النصوص، فهو في الحقيقة خطاب من الشارع ولكنه غير مباشر، فكل دليل شرعي تعلق بفعل من أفعال المكلفين، طلبا أو تخييرا أو وضعا فهو حكم شرعي في اصطلاح الأصوليين.

أنواعه:
من تعريف الحكم الشرعي في اصطلاح الأصوليين يؤخذ أنه ليس نوعا واحدا، لأنه إما أن يتعلق بفعل المكلف على جهة الطلب، أو على جهة التخيير أو على جهة الوضع. وقد اصطلح علماء الأصول على تسمية الحكم المتعلق بفعل المكلف على جهة الطلب أو التخيير بالحكم التكليفي، وعلى تسمية الحكم المتعلق بفعل المكلف على جهة الوضع بالحكم الوضعي، ولهذا قرروا أن الحكم الشرعي ينقسم إلى قسمين: حكم تكليفي، حكم وضعي.

فالحكم التكليفي:
هو ما اقتضى طلب فعل من المكلف، أو كفّه عن فعله أو تخييره بين فعل والكف عنه.
فمثال ما اقتضى طلب فعل من المكلف قوله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً( [التوبة: 103]، وقوله: (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ( [آل عمران: 97] وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُود) [المائدة: 1]، وغير ذلك من النصوص التي تطلب من المكلف أفعالا.
ومثال ما اقتضى طلب الكف عن فعل، قوله تعالى: (لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ( [الحجرات: 11]، وقوله: (وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى) [الإسراء: 32]، وقوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ( [المائدة: 3]، وغير ذلك من النصوص التي تطلب من المكلف الكف عن أفعال.
ومثال ما اقتضى تخيير المكلف بين فعل والكف عنه، قوله تعالى: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ( [المائدة: 3]، وقوله: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ( [الجمعة: 10]، وقوله: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ( [النساء: 101]، وغير ذلك من النصوص التي تقتضي تخيير المكلف بين فعل الشيء والكف عنه.
وإنما سمي هذا النوع الحكم التكليفي لأنه يتضمن تكليف المكلف بفعل أو كف عن فعل أو تخييره بين فعل والكف عنه. ووجه التسمية ظاهر فيما طلب به من المكلف فعل أو الكف عنه. وأما ما خير به المكلف بين فعل والكف عنه فوجه تسميته تكليفياً غير ظاهر، لأنه لا تكليف فيه ولهذا قالوا: إن إطلاق الحكم التكليفي عليه من باب التغليب.

وأما الحكم الوضعي:
فهو ما اقتضى وضع شيء سببا لشيء، أو شرطا له، أو مانعا منه.
فمثال ما اقتضى وضع شيء سببا لشيء قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) [المائدة: 6]، اقتـضى وضـع إرادة إقامة الصـلاة سببا في إيجاب الوضوء. وقولـه: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْـطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا) [المائدة: 38]، اقتضى وضع السرقة سببا في إيجاب قطع يد السارق. وقول الرسول: "من قتل قتيلا فله سلبه"، اقتضى وضع قتل القتيل سببا في استحقاق سلبه، وغير ذلك من النصوص التي اقتضت وضع أسباب لمسببات.
ومثال ما اقتضى وضع شيء شرطا لشيء، قوله تعالى: (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً( [آل عمران: 97]، اقتضى أن استطاعة السبيل إلى البيت شرط لإيجاب حجه. وقوله: "لا نكاح إلا بشاهدين"، اقتضى أن حضور الشاهدين شرط لصحة الزواج. وقوله: "لا مهر أقل من عشرة دراهم"، اقتضى أن شرط تقدير المهر تقديرا صحيحا شرعا أن لا يقل عن عشرة دراهم. وغير ذلك من النصوص التي دلت على اشتراط شروط لإيجاب الفعل، أو لصحة العقد أو لأي مشروط.
ومثال ما اقتضى جعل شيء مانعا من شيء، قوله: "ليس للقاتل ميراث" اقتضى جعل قتل الوارث مورثه مانعا من إرثه.
وإنما سمي الحكم الوضعي، لأن مقتضاه وضع أسباب لمسببات، أو شروط لمشروطات، أو موانع من أحكام.
ويؤخذ مما تقدم أن الفرق بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي من وجهين:
أحدهما: أن الحكم التكليفي مقصود به طلب فعل من المكلف أو كفه عن فعل، أو تخييره بين فعل شيء والكف عنه، وأما الحكم الوضعي فليس مقصودا به تكليف أو تخييراً، وإنما المقصود به بيان أن هذا الشيء سبب لهذا المسبب، أو أن هذا شرط لهذا المشروط، أو أن هذا مانع من هذا الحكم.
وثانيهما: أن ما طلب فعله أو الكف عنه، أو خير بين فعله وتركه بمقتضى الحكم التكليفي لابد أن يكون مقدورا للمكلف، وفي استطاعته أن يفعله وأن يكف عنه لا تكليف إلا بمقدور، ولا تخيير إلا بين مقدور ومقدور.
وأما ما جعل سببا أو شرطا أو مانعا، فقد يكون أمراً في مقدور المكلف بحيث إذا باشره ترتب عليه أثر، وقد يكون أمراً ليس في مقدور المكلف بحيث إذا وجد ترتب عليه أثره.
فمما جعل سبباً وهو مقدور المكلف: صيغ العقود والتصرفات، وجميع الجرائم من جنايات وجنح ومخالفات، بحيث إذا باشر المكلف عقدا أو تصرفا ترتب عليه حكمه، وإذا ارتكب جريمة استحق عقوبتها.
ومما جعل شرطا وهو مقدور المكلف: إحضار شاهدين في عقد الزواج لصحة العقد، وإبلاغ القدر المسمى مهرا إلى عشرة دراهم لصحة تسمية المهر، وتعيين الثمن والأجل في البيع لصحة العقد.
ومما جعل شرطا وهو غير مقدور للمكلف، بلوغ الحلم لانتهاء الولاية النفسية، وبلوغ الرشد لنفاذ عقود المفاوضات المالية.
وكذلك المانع منه ما هو مقدور للمكلف كقتل الوارث موروثه، ومنه ما هو مقدور ككون الموصى له وارثاً.
وأحكام القوانين الوضعية كالأحكام الشرعية في أن منها ما هو أحكام تكليفية تقتضي تكليف المكلف بفعل أو كفه عن فعل، أو تخييره بين فعل والكف عنه، ومنها ما هو أحكام وضعية تقتضي جعل شيء سببا لشيء، أو شرطا أو مانعا.
ونظرة في مواد القانون المدني والتجاري أو قانون العقوبات أو الإجراءات الجنائية ترينا عدة أمثلة من النوعين، وهذه بعض أمثلة من القانون المدني في باب الإيجار:
المادة 586- "يجب على المستأجر أن يقوم بوفاء الأجرة في المواعد المتفق عليها" حكم تكليفي اقتضى فعلا.
المادة 571- "على المؤجر أن يمتنع عن كل ما من شأنه أن يحول دون انتفاع المستأجر بالعين المؤجرة". حكم تكليفي اقتضى كفا.
المادة 593- "للمستأجر حق التنازل عن الإيجار أو الإيجار من الباطن، وذلك عن كل ما استأجره أو بعضه ما لم يقض الاتفاق بغير ذلك" حكم تكليفي اقتضى تخييراً.
ومن اليسير التمثيل لأنواع الحكم الوضعي، لآن أكثر النصوص القانونية الوضعية تقتضي وضع أسباب لمسببات، أو شروط لمشروطات، أو موانع من آثار.



أقسام الحكم التكليفي
 ينقسم الحكم التكليفي إلى خمسة أقسام:
الإيجاب،
والندب،
والتحريم،
والكراهة،
والإباحة.

وذلك لأنه إذا اقتضى طلب فعل، فإن كل اقتضاؤه له على وجه التحتيم والإلزام فهو الإيجاب، وأثر الوجوب، والمطلوب فعله هو الواجب.
وإن كان اقتضاؤه له ليس على وجه التحتيم والإلزام فهو الندب؛ وأثره الندب، والمطلوب فعله هو المندوب.
وإذا اقتضى طلب كف عن فعل فإن كان اقتضاؤه على وجه التحتيم والإلزام فهو التحريم وأثر الحرمة، والمطلوب الكف عن فعله هو المحرم.
وإن كان اقتضاؤه له ليس على وجه التحتيم والإلزام فهو الكراهة، وأثره الكراهة، والمطلوب الكف عن فعله فهو المكروه.
وإذا اقتضى تخيير المكلف بين فعل شيء وتركه فهو الإباحة، وأثره الإباحة، والفعل الذي خير بين فعله وتركه هو المباح.

فالمطلوب فعله قسمان: الواجب والمكروه.
والمطلوب الكف عن فعله قسمان: المحرم والمكروه.
والمخير بين فعله قسمان: المحرم والمكروه.
والمخير بين فعله وتركه هو القسم الخامس وهو المباح.
وسنفرد كل قسم من هذه الأقسام الخمسة ببيان.



الواجب:
تعريف "الواجب" شرعا:
هو ما طلب الشارع فعله من المكلف طلبا حتما بأن اقتران طلبه بما يدل على تحتيم فعله، كما إذا كانت صيغة الطلب نفسها تدل على التحتيم، أو دل على تحتيم فعله ترتيب العقوبة على تركه، أو آية قرينة شرعية أخرى.
فالصيام واجب لأن الصيغة التي طلب بها دلت تحتيمه، إذ قال سبحانه: )كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ( [البقرة: 183]، وإيتاء الزوجات مهورهن واجب، إذ قال سبحانه: )فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً( [النساء: 24] وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة وحج البيت، وبر الوالدين، وغير ذلك من المأمورات التي وردت صيغة الأمر بها مطلقة، ودل على تحتيم فعلها ما ورد في عدة نصوص من استحقاق المكلف العقاب بتركها. فمتى طلب الشارع الفعل ودلت القرينة على أن طلبة على وجه التحتيم كان الفعل واجباً، سواء أكانت القرينة صيغة الطلب نفسها أم أمرا خارجيا.

أقسامه:
ينقسم الواجب إلى أربع تقسيمات باعتبارات مختلفة:
التقسيم الأول:
الواجب من جهة وقت أدائه؛ إما مؤقت وإما مطلق عن التوقيت:
فالواجب المؤقت:
هو ما طلب الشارع فعله حتما في وقت معين كالصلوات الخمس؛ حدد لأداء كل صلاة منها وقتاً معيناً بحيث لا تجب قبله، ويأثم المكلف إن أخّ رها عنه بغير عذر. وكصوم رمضان لا يجب قبل الشهر ولا يؤدي بعده. وكذلك كل واجب عين الشارع وقتا لفعله.
والواجب المطلق عن التوقيت:
هو ما طلب الشارع فعله حتما ولم يعين وقتا لأدائه، كالكفارة الواجبة على من حلف يميناً وحنث، فليس لفعل هذا وقت معين، فإن شاء الحانث كفر بعد الحنث مباشرة وإن شاء كفّر بعد ذلك. وكالحج: واجب على من استطاع، وليس لأداء هذا الواجب عام معين.
والواجب المؤقت إذا فعله في وقته كاملا مستوفيا أركانه وشرائطه سمي فعله أداء، وإذا فعله في وقته غير كامل ثم أعاده في الوقت كاملا سمي فعله إعادة، ومن صلاة بعد وقته كانت صلاته قضاء.
والواجب المؤقت إذا كان وقته الذي وقته الشارع به يسعه وحده ويسع غيره من ج نسه سمي هذا الوقت موسَّعاً وظرفاً. وإن كان وقته الذي وقته الشارع به يسعه ولا يسع غيره من جنسه سمي هذا الوقت مضيَّقاً ومعياراً. فالأول كوقت صلاة الظهر مثلا، فهو وقت موسع يسع أداء الظهر وأداء أي صلاة أخرى، وللمكلف أن يؤدي الظهر في أي جزء منه، والثاني كشهر رمضان فهو مضيق لا يسع إلا صوم رمضان.
وإذا كان وقته لا يسع غيره من جهة ويسعه من جهة أخرى سمي الوقت ذا الشبهين كالحج، لا يسع وقته وهو أشهر الحج غيره من جهة أن المكلف لا يؤدي في العام إلا حجا واحدا، ويسع غيره من جهة أن مناسك الحج لا تستغرق كل أشهره.
ومما يتفرع على تقسيم الواجب المؤقت إلى واجب موسع وقته، وواجب مضيق وقته، وواجب وقته ذو شبهين:
أن الواجب الموسع وقته يجب على المكلف أن يعينه بالنية حين أدائه في وقته، لأنه إذا لم ينوه بالتعيين لا يتعين أنه أدى الواجب المعين إذا الوقت يسعه وغيره، فإذا صلى في وقت الظهر أربع ركعات فإنه نوى بها أداء واجب الظهر كان أداء له، وإذا لم ينو بها أداء واجب الظهر لم تكن صلاته أداء له، ولو نوى التطوع كانت صلاته تطوعا.
وأما الواجب المضيق وقته فلا يجب على المكلف أن يعيّنه بالنية حين أدائه في وقته، لآن الوقت معيار له لا يسع غيره من جنسه فبمجرد النية ينصرف ما نواه إلى الواجب، فإذا نوى في شهر رمضان الصيام مطلقا ولم يعين بالنية الصيام المفروض انصرف صيامه إلى الصيام المفروض، ولو نوى التطوع لم يكن صومه تطوعا بل كان المفروض، لأن الشهر لا يسع صوما غيره.
وأما الواجب المؤقت بوقت ذي شبهين: فإذا أطلق المكلف النية انصرف إلى الواجب، لأن الظاهر من حال المكلف أنه يبدأ بما يجب عليه قبل أن يتطوع، فهو في هذا كالمضيق، وإذا نوى التطوع كان تطوعا لأنه صرح بنية ما يسعه الوقت، وبما يخالف الظاهر من حاله وهو في هذا كالموسع.
ومما يتفرع عن تقسيم الواجب إلى موقت ومطلق عن التوقيت:
أن الواجب المعين وقته يأثم المكلف بتأخيره عن وقته بغير عذر لأن الواجب المؤقت في الحقيقة واجبان فعل الواجب وفعله في وقته. فمن فعل الواجب بعد وقته فقد فعل أحد الواجبين وهو الفعل المطلوب، وترك الواجب الآخر وهو فعله في وقته، فيأثم بترك هذا الواجب بغير عذر.
 وأما الواجب المطلق عن التوقيت فليس له وقت معين لفعله، وللمكلف أن يفعله في أي وقت شاء ولا إثم عليه في أي وقت.

التقسيم الثاني: ينقسم الواجب من جهة المطالب بأدائه إلى واجب عيني وواجب كفائي.
فالواجب العيني:
هو ما طلب الشارع فعله من كل فرد من أفراد المكلفين، ولا يجزئ قيام مكلف به عن آخر كالصلاة والزكاة والحج والوفاء بالعقود واجتناب الخمر والميسر.
والواجب الكفائي:
هو ما طلب الشارع فعله من مجموع المكلفين، لا من كل فرد منهم، بحيث إذا قام به بعض المكلفين فقد أدى الواجب وسقط الإثم والحرج عن الباقين وإذا لم يقم به أي فرد من أفراد المكلفين أثموا جميعا بإهمال هذا الواجب، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصلاة على الموتى، وبناء المستشفيات، وإنقاذ الغريق، وإطفاء الحريق، والطب، والصناعات التي يحتاج إليها الناس، والقضاء والإفتاء، ورد السلام، وأداء الشهادة.
فهذه الواجبات مطلوب للشارع أن توجد في الأمة أيّاً كان من يفعلها، وليس المطلوب للشارع أن يقوم كل فرد أو فرد معين بفعلها؛ لأن المصلحة تتحقق بوجودها في بعض المكلفين ولا تتوقف على قيام كل مكلف بها.
فالواجبات الكفائية المطالب بها مجموع أفراد الأمة، بحيث إن الأمة بمجموعها عليها أن تعمل على أن يؤدي الواجب الكفائي فيها، فالقادر بنفسه وماله على أداء الواجب الكفائي؛ عليه أن يقوم به، وغير القادر على أدائه بنفسه عليه أن يحث القادر ويحمله على القيام به؛ فإذا أدى الواجب سقط الإثم عنهم جميعا، وإذا أهمل أثموا جميعاً: أثم القادر لإهماله واجباً قدر على أدائه، وأثم غيره لإهماله حيث القادر وحمله على فعل الواجب المقدور له، وهذا مقتضى التضامن في أداء الواجب، فلو رأى جماعة غريقا يستغيث، وفيهم من يحسنون السباحة ويقدرون على إنقاذه، وفيهم من لا يحسنون السباحة ولا يقدرون على إنقاذه، فالواجب على من يحسنون السباحة أن يبذل بعضهم جهده في إنقاذه، وإذا لم يبادر من تلقاء نفسه إلى القيام بالواجب، فعلى الآخرين حثه وحمله على أداء واجبه، فإذا أدى الواجب فلا إثم على أحد، وإذا لم يؤد الواجب أثموا جميعا.
وإذا تعيّن فرد لأداء الواجب الكفائي كان واجبا عينيا عليه، فلو شهد الغريق الذي يستغيث شخص واحد يحسن السباحة، ولو لم يرد الحادثة إلا واحد ودعي للشهادة، ولو لم يوجد في البلد إلا طبيب واحد وتعين للإسعاف؛ فهؤلاء الذين تعينوا لأداء الواجب الكفائي، يكون الواجب بالنسبة إليهم عينا.

التقسيم الثالث: ينقسم الواجب من جهة المقدار المطلوب منه إلى محدد وغير محدد.
فالواجب المحدد:
هو ما عين له الشارع مقدارا معلوما، بحيث لا تبرأ ذمة المكلف من هذا الواجب إلا إذا أداه على ما عين الشارع؛ كالصلوات الخمس والزكاة والديون المالية، فكل فريضة من الصلوات الخمس مشغولة بها ذمة المكلف حتى تؤدي بعدد ركعاتها وأركانها وشروطها، وزكاة كل مال واجبة فيه الزكاة مشغولة بها ذمة المكلف حتى تؤدي بمقدارها في مصرفها. وكذلك ثمن المشترى وأجر المستأجر وكل واجب يجب مقدارا معلوما بحدود معينة، ومن نذر أن يتبرع بمبلغ معين لمشروع خيري فالواجب عليه بالنذر واجب محدد.
والواجب غير المحدد:
هو ما لم يعين الشارع مقداره بل طلبه من المكلف بغير تحديد، كالإنفاق في سبيل الله، والتعاون على البر، والتصدق على الفقراء إذا وجب بالنذر، وإطعام الجائع وإغاثة الملهوف وغير ذلك من الواجبات التي لم يحددها الشارع، لأن المقصود بها سد الحاجة، ومقدار ما تسد به الحاجة يختلف باختلاف الحاجات والمحتاجين والأحوال.
ومما يتفرع على هذا التقسيم:
أن الواجب المحدد يجب ديناً في الذمة، وتجوز المقاضاة به، وأن الواجب غير المحدد لا يجب ديناً في الذمة ولا تجوز المقاضاة به، لأن الذمة لا تشغل غلا بمعين والمقاضاة لا تكون إلا بمعين.
ولهذا من رأى أن نفقة الزوجة الواجبة على زوجها، ونفقة القريب الواجبة على قريبه واجب غير محدد، لأنه لا يعرف مقداره، قال : إن ذمة الزوج أو القريب غير مشغولة به قبل القضاء أو الرضاء، وليس للزوجة أو القريب أن يطالب به إلا بعد القضاء أو الرضاء، وصحت المطالبة به.
ومن رأى أنها من الواجب المحدد المقدر بحال الزوج أو بما يكفي للقريب، قال إنهما واجب محدد في الذمة فتصح المطالب به عن مدة قبل القضاء أو الرضاء لأن القضاء أظهر مقدار الواجب ولم يحدده.

التقسيم الرابع: ينقسم الواجب إلى واجب معين، وواجب مخير.
فالواجب المعين:
ما طلبه الشارع بعينه كالصلاة والصيام، وثمن المشتري، وأجر المستأجر، ورد المغصوب، ولا تبرأ ذمة المكلف إلا بأدائه بعينه.
والواجب المخير:
ما طلبه الشارع واحدا من أمور معينة، كأحد خصال الكفارة فإن الله أوجب على من حنث في يمينه أن يطعم عشرة مساكين، أو يكسوهم، أو يعتق رقبة فالواجب أي واحد من هذه الأمور الثلاثة، والخيار للمكلف في تخصيص واحد بالفعل، وتبرأ ذمته من الواجب بأداء أي واحد.



المندوب
تعريفه:
المندوب هو ما طلب فعله من المكلف طلباً غير حتم، بأن كانت صيغة طلبه نفسها لا تدل على تحتيمه، أو اقترنت بطلبه قرائن تدل على عدم التحتيم، فإذا طلب الشارع الفعل بصيغة: "يسن كذا أو يندب كذا" كان المطلوب بهذه الصيغة مندوبا، وإذا طلبه بصيغة الأمر ودلت القرينة على أن الأمر للندب كان المطلوب مندوباً، كقوله تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ( [البقرة: 282]، فإن الأمر بكتابة الدين للندب لا للإيجاب بدليل القرينة التي في الآية نفسها، وهي قوله تعالى: )فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ) [البقرة: 283]، فإنها تشير إلى أن الدائن له أن يثق بمدينة ويأتمنه من غير كتابة الدين عليه، وكقوله تعالى: )فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً( [النور: 32]، فمكاتبة المالك عبده مندوبة بقرينة أن المالك حر التصرف في ملكه.
فالمطلوب فعله إن كانت صيغة طلبه نفسها تدل على أنه حتم ولازم، فهو الواجب مثل: كتب عليكم، وقضى ربك، وإن كانت صيغة طلبه نفسها تدل على أنه غير حتم فهو المندوب، مثل: ندب لكم، سن لكم، وإن كانت صيغة طلبه نفسها لا تدل على طلب حتم أو غير حتم، استدل بالقرائن على أن المطلوب واجب أو مندوب. وقد تكون القرينة نصا، وقد تكون ما يؤخذ من مبادئ الشريعة العامة وقواعدها الكلية، وقد تكون ترتيب العقوبة على ترك الفعل وعدم ترتيبها.
ولهذا اشتهر تعريف الواجب بأنه ما استحق تاركه العقوبة، وتعريف المندوب بأنه ما لا يستحق تاركه العقوبة وقد يستحق العتاب.

أقسامه:
المندوب ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
مندوب مطلوب فعله:
على وجه التأكيد وهو لا يستحق تاركه العقاب، ولكن يستحق اللوم والعتاب. ومن هذا السنن والمندوبات التي تعد شرعاً مكملة للواجبات كالأذان وأداء الصلوات الخمس جماعة. ومنه كل ما واظب عليه الرسول في شؤونه الدينية ولم يتركه إلا مرة أو مرتين ليدل على عدم تحتيمه كالمضمضة في الوضوء، وقراءة سورة أو آية بعد الفاتحة في الصلاة.
 ويسمى هذا القسم السنة المؤكدة أو سنة الهدي.
ومندوب مشروع فعله:
وفاعله يثاب وتاركه لا يستحق عقابا ولا لوماً، ومن هذا ما لم يواظب الرسول على فعله بل فعله مرة أو أكثر وتركه. ومنه جميع التطوعات كالتصديق على الفقير أو صيام يوم الخميس من كل أسبوع أو صلاة ركعات زيادة عن الفرد وعن السنة المؤكدة.
ويسمى هذا القسم السنة الزائدة أو النافلة.
ومندوب زائد:
أي يعد من الكماليات للمكلف، ومن هذا الاقتداء بالرسول في أموره العادية التي تصدر عنه بصفته إنسانا كأن يأكل ويشرب ويمشي وينام ويلبس على الصفة التي كان يسير عليها الرسول، فإن الاقتداء في هذه الأمور وأمثالها كمالي، ويعد من محاسن المكلف لأنه يدل على حبه للرسول وفرط تعلقه به. ولكن من لم يتقد بالرسول في مثل هذه الأمور لا يعد مسيئا، لأن هذا ليست من تشريعه.
ويسمى هذا القسم مستحبا وأدباً وفضيلة.



المُحرّم
تعريفه:
المحرم هو ما طلب الشارع الكف عن فعله طلبا حتما، بأن تكون صيغة طلب الكف نفسها دالة على أنه حتم كقوله تعالى: )حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير( [المائدة: 3]، وقوله: )قل تعالو أتل ما حرم ربكم عليكم( [الأنعام: 151]، وقوله: )لا يحل لكم( [النساء: 19]، أو يكون النهي عن الفعل مقترنا بما يدل على أنه حتم مثل: )ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة( [ الإسراء: 32] أو يكن الأمر بالاجتناب مقترنا بذلك نحو: )إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه( [المائدة: 90]، أو أن يترتب على الفعل عقوبة مثل: )والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة( [النور: 4]، فقد يستفاد التحريم من صيغة خبرية تدل عليه، أو من صيغة طلبية هي نهي، أومن صيغة طلبية هي أمر بالاجتناب، فالقرينة تعيِّن أن الطلب للتحريم.

أقسامه:
 المحرّم قسمان:
محرّم أصالة لذاته:
أي أنه فعل حكمه الشرعي التحريم من الابتداء، كالزنا والسرقة والصلاة بغير طهارة، وزواج إحدى المحارم مع العلم بالحرمة، وبيع الميتة، وغير ذلك مما حرم تحريما ذاتيا لما فيه من مفاسد ومضار، فالتحريم وارد ابتداء على ذات الفعل.
ومحرم لعارض:
أي أنه فعل حكمه الشرعي ابتداء الوجوب أو الندب أو الإباحة ولكن اقترن به عارض جعله محرما كالصلاة في ثوب مغصوب، والبيع الذي فيه غش، والزواج المقصود به مجرد تحليل الزوجة لمطلقها ثلاثا، وصوم الوصال، والطلاق البدعي، وغير ذلك لما عرض له التحريم لعارض. فليس التحريم لذات الفعل ولكن لأمر خارجي، أي أن ذات الفعل لا مفسدة فيه ولا مضرة، ولكن عرض له واقترن به ما جعل فيه مفسدة أو مضرة.
ومما يبني على هذا التقسيم أن المحرم أصالة غير مشروع أصلاً، فلا يصلح سببا شرعيا ولا تترتب أحكام شرعية عليه بل يكون باطلا، ولهذا كانت الصلاة بغير طهارة باطلة، وزواج إحدى المحارم مع العلم بالحرمة باطلا، وبيع الميتة باطلا، والباطل شرعا لا يترتب عليه حكم.
وأما المحرّم لعارض فهو في ذاته مشروع فيصلح سبباً شرعياً وتترتب عليه آثاره، لأن التحريم عارض له وليس ذاتيا. ولهذا كانت الصلاة في ثوب مغصوب صحيحة ومجزئة وهو آثم للغصب. والبيع الذي فيه غش صحيح، والطلاق البدعي واقع، والعلة في هذا أن التحريم لعارض لا يقع به خلل في أصل السبب لا في وصفه ما دامت أركانه وشروطه مستوفاة.
وأما التحريم الذاتي فهو يجعل الخلل في أصل السبب ووصفه بفقد ركن أن شرط من أركانه وشروطه فيخرج عن كونه مشروعا.



المكروه
تعريفه:
المكروه هو ما مطلب الشارع من المكلف الكف عن فعله طلبا غير حتم، بأن تكون الصيغة نفسها دالة على ذلك، كما إذا ورد أن الله كره لكم كذا، أو كان منهيا عنه، واقترن النهي بما يدل على أن النهي لكراهة لا للتحريم، مثل: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ( [المائدة: 101]، أو كان مأمورا باجتنابه ودلت القرينة على ذلك، مثل: )وَذَرُوا الْبَيْعَ( [الجمعة: 9].
فالمطلوب الكف عن فعله؛ إن كانت صيغة طلبه نفسها تدل على أنه طلب حتم فهو المحرم، مثل: حرم عليكم كذا.
وإن كانت الصيغة نفسها تدل على أن طلب غير حتم فهو المكروه، مثل: كره لكم كذا.
وإن كانت الصيغة نهيا مطلقا، أو أمرا الاجتناب مطلقا، استدل بالقرائن على أن طلب حتم أو غير حتم.
ومن القرائن ترتيب العقوبة على الفعل وعدم ترتيبها، ولهذا عرَّف بعض الأصوليين المحرم بأنه ما استحق فاعله العقوبة، والمكروه بأنه ما لا يستحق فاعله العقوبة، وقد يستحق اللوم.



المباح
تعريفه:
المباح هو ما خيَّر الشارعُ المكلََّف بين فعله وتركه، فلم يطلب الشارع أن يفعل المكلف هذا الفعل و لم يطلب أن يكف عنه.
وتارة تثبت إباحة الفعل بالنص الشرعي على إباحته، كما نص الشارع على أنه لا إثم في الفعل، فيدل بهذا على إباحته كقوله تعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ( [البقرة: 229]، وكقوله سبحانه:) وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء( [البقرة: 235]، وكما إذا أمر الشارع بفعل ودلت القرائن على أن الأمر للإباحة كقوله تعالى: )وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ( [المائدة: 2]، وكقوله سبحانه: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ( [الجمعة: 10]، وكقوله: )وكلوا واشربوا( [البقرة: 187].
وتارة تثبت إباحة الفعل بالإباحة الأصلية، فإذا لم يرد من الشارع نصل على حكم العقد أو التصرف أو أي فعل، ولم يقم دليل شرعي آخر على حكم فيه: كان هذا العقد أو التصرف أو الفعل مباحا بالبراءة الأصلية لأن الأصل في الأشياء المباحة.
هذه هي أقسام الحكم التكليفي الخمسة على ما ذهب إليه جمهور الأصوليين:
وأما علماء الحنفية فقد قسموه إلى سبعة أقسام لا إلى خمسة، وذلك أنهم قالوا: "إن ما طلب الشارع فعله طلبا حتما إذا كان دليل طلبه قطعيا بأن كان آية قرآنية أو حديثا متواترا فهو الفرضِ، وإن كان دليل طلبه ظنيا بأن كان حديثا غير متواترا أو قياسا فهو الواجب.
فإقامة الصلاة فرض لأنها طلبت طلبا حتما بدليل قطعي هو قوله تعالى: )وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ) [البقرة: 43]، وقراءة الفاتحة في الصلاة واجبة لأنها طلبت طلبا حتما، بدليل ظني هو قوله: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب"، وأما ما طلب فعله طلبا غير حتم فهو المندوب، وكذلك ما طلب الشارع الكف عن فعله طلبا حتما إن كان دليله قطعيا كآية أو سنة متواترة فهو المحرم، وإن كان دليله ظنيا كسنة غير متواترة فهو المكروه تحريما.
فالزنا محرم لأنه طلب الكف عنه طلبا حتما بدلي لقطعي هو قوله تعالى: (وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى) [الإسراء: 32]. ولبس الرجال الحرير وتختمهم بالذهب مكروهان تحريما، لأنه طلب الكف عنهما طلبا حتما، بدليل ظني، هو قوله صلى الله عليه وسلم: "هذان حرام على رجال أمتي حلال لنسائهم"، وأما ما طلب الكف عنه طلبا غير حتم فهو المكروه تنزيها.
فعند علماء الحنفية المطلوب فعله ثلاثة أقسام: الفرضِ، والواجب، والمندوب.
والمطلوب الكف عنه ثلاثة أقسام: المحرم، والمكروه تحريما، والمكروه تحريما، والمكروه تنزيها.
والقسم السابع: المباح.
وقد قدمنا أن نصوص القرآن كلها قطعية الورود ولهذا يثبت بها عند الحنفية الفرض والتحريم والندب والكراهة، وأما السنة فما كان قطعي الورود منها وهو المتواتر وفي حكمه المشهور، فيثبت به أيضا ما يثبت بالقرآن.
والفعل الواحد قد تعتريه هذه الأحكام كلها أو بعضها بحسب ما يلابسه، فمثلا: الزواج قد يكون فرضا على المسلم إذا قدر على المهر والنفقة وسائر واجبات الزوجية، وتيقن من حال نفسه أنه إذا لم يتزوج زنى، ويكون واجبا إذا قدر على ما ذكر وخاف أنه إذا لم يتزوج زنى، ويكون مندوبا إذا كان قادرا على واجبات الزوجية وكان في حال اعتدال لا يخاف أن يزني إذا لم يتزوج، ويكون محرما إذا تيقن أنه إذا تزوج يظلم زوجته ولا يقوم بحقوق الزوجية، ويكون مكروها تحريما إذا خاف ظلمها.



أقسام الحكم الوضعي
ينقسم الحكم الوضعي إلى خمسة أقسام:
لأنه ثبت بالاستقراء أنه إما أن يقتضي جعل شيء سببا لشيء، أو شرطاً، أو مانعاً، أو مسوغا الرخصة بدل العزيمة، أو صحيحاً، أو غير صحيح.

الســبب
تعريفه:
السبب؛ هو ما جعله الشارع علامة على مسببه وربط وجود المسبب بوجوده وعدمه. فيلزم من وجود السبب وجود المسبب، ومن عدمه عدمه، فهو أمر ظاهر منضبط، جعله الشارع علامة على حكم شرعي هو مسببه، ويلزم من وجوده وجود المسبب، ومن عدمه عدمه.
وقد قدمنا في مبحث العلة في القياس أن كل علة للحكم تسمى سببه، وليس كل سبب للحكم يسمى علته، وبينا الفرق بينهما أو أمثلتهما.

أنواعه:
قد يكون السبب سببا لحكم تكليفي؛ كالوقت جعله الشارع سببا لإيجاب إقامة الصلاة لقوله تعالى (أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) [الإسراء: 78]، وكشهود رمضان جعله الشارع سبا لإيجاب صومه بقوله تعالى: (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة: 185]، وملك النصاب النامي بمن مالك الزكاة جعل سببا لإيجاب إيتاء الزكاة، والسرقة جعلت سببا لإيجاب قطع يعد السارق، وشرك المشركة جعل سببا لتحريم زواج المسلم بها، والمرض جعل سببا لإباحة الفطر في رمضان، وأمثال ذلك.
وقد يكون السبب سببا لإثبات ملك أو حل أو إزالتهما، كالبيع لإثبات الملك وإزالته، والعتق والوقف لإسقاطه، وعقد الزواج لإثبات الحل، والطلاق لإزالته، والقرابة والمصاهرة والولاء لاستحقاق الإرث، وإتلاف مال الغير لاستحقاق الضمان على المتلف، والشركة أو الملك لاستحقاق الشفعة.
وقد يكون السبب فعلا للمكلف مقدورا له كقتله العمد سبب لوجوب القصاص منه، وعقدة البيع أو الزواج أو الإجارة أو غيرها أو أسباب لأحكامها، وملكه مقدار النصاب لوجوب الزكاة عليه، وقد يكون أمرا غير مقدور للمكلف وليس من أفعاله، كدخول الوقت لإيجاب الصلاة والقرابة للإرث والولاية، والصغر لثبوت الولاية على الصغير.
وإذا وجد السبب سواء أكان من فعل المكلف أم لا، وتوافرت شروطه وانتفت موانعه، ترتب عليه مسببه حتما، سواء أكان مسببه حكما تكليفياً، أم إثبات ملك أو حل، أم إزالتهما، لأن المسبب لا يتخلف عن سببه شرعا، سواء أقصد من باشر السبب ترتب المسبب عليه أم لم يقصده، بل يترتب ولو قصد عدم ترتبه، فمن سافر في رمضان أبيح له الفطر، سواء أقصد إلى الإباحة أم لم يقصد إليها، ومن طلق زوجته رجعيا ثبت له حق مراجعتها ولو قال لا رجعة لي، ومن تزوج وجب عليه المهر ونفقة زوجته ولو تزوجها على أن لا مهر عليه ولا نفقة. لأن الشارع إذا وضع العقد أو التصرف سببا لحكم، ترتب الحكم على العقد بحكم الشرع، ولا يتوقف ترتبه على قصد المكلف؛ وليس للمكلف أن يحل هذا الارتباط الذي ربط به الشارع المسببات بأسبابها.

الشرط
تعريفه:
الشرط: هو ما يتوقف وجود الحكم على وجوده ويلزم من عدمه عدم الحكم. والمراد وجوده الشرعي الذي يترتب عليه أثره. فالشرط أمر خارج عن حقيقة المشروط يلزم من عدمه عدم المشروط، ولا يلزم من وجوده وجوده.
فالزوجية شرط لإيقاع الطلاق، فإذا لم تود زوجية لم يوجد طلاق، ولا يلزم من وجود الزوجية وجود الطلاق.
والوضوء شرط لصحة إقامة الصلاة، فإذا لم يوجد وضوء لا تصح إقامة الصلاة، ولا يلزم من وجود الوضوء إقامة الصلاة.
ووجود الزواج الشرعي الذي تترتب عليه أحكامه يتوقف على حضور الشاهدين وقت عقده، ووجود البيع الشرعي الذي تترتب عليه أحكامه يتوقف على العلم بالبدلين، وهكذا كل ما شرط الشارع له شرطا لا يتحقق وجوده الشرعي إلا إذا وجدت شروطه، ويعتبر شرعا معدوما إذا فقدت شروطه ولكن لا يلزم من وجود الشرط وجود المشروط.
والشروط الشرعية هي التي تكمل السبب وتجعل أثره يترتب عليه، فالقتل سبب لإيجاب القصاص ولكن بشرط أن يكون قتلا عمدا وعدوانا، وعقد الزواج سبب لملك المتعة، ولكن بشرط أن يحضره شاهدان، وهكذا كل عقد أو تصرف لا يترتب عليه أثره إلا إذا توافرت شروطه.
والفرق بين ركن الشيء وشرطه، مع أن كلا منهما يتوقف وجود الحكم على وجوده: أن الركن جزء من حقيقة الشيء، وأما الشرط فهو أمر خار عن حقيقته وليس من أجزائه. فالركوع ركن الصلاة لأنه جزء من حقيقتها، والطهارة شرط الصلاة لأنها أمر خارج عن حقيقتها، وصيغة العقد والعاقدان ومحل العقد أركان العقد لأنها أجزاؤه، وحضور الشاهدين في الزواج، وتعيين البدلين في البيع، وتسليم الموهوب في الهبة، شروط لا أركان، لأنها ليست من أجزاء العقد، ومن أجل هذا كان للوقف أركان وشروط، وكذا للبيع وسائر العقود والتصرفات، وإذا حصل خلل في ركن من الأركان كان خللا في نفس العقد و التصرف، وإذا حصل خلل في شرط من الشروط كان خللا في وصفه أي في أمر خارج عن حقيقته.
وقد يكون اشتراط الشرط بحكم الشارع، ويسمى الشرط الشرعي.
وقد يكون اشتراط الشرط بتصرف المكلف ويسمى الشرط الجعلي.
فمثال الأول: جميع الشروط التي اشترطها الشارع في الزواج والبيع والهبة والوصية، والتي اشترطها لإيجاب الصلوات الخمس والزكاة والصيام والحج، والتي اشترطها لإقامة الحدود ولغير ذلك.
ومثال الثاني: الشروط التي يشترطها الزوج ليقع الطلاق على زوجته، والتي يشترطها المالك لعتق عبده، فإن تعليق الطلاق أو العتق على وجود شرط مقتضاه أنه يتوقف وجود الطلاق أو العتق على وجود الشرط ويلزم من عدمه عدمه، فصيغة الطلاق سبب يترتب عليه الطلاق، ولكن إذا توافر الشرط.
وليس للمكلف أن يعلق أي عقد أو تصرف على أي شرط يريدهن بل لابد أن يكون الشرط غير مناف حكم العقد أو التصرف. وأما إذا كان الشرط منافيا حكم العقد فيبطل العقد، لأن الشرط مكمل للسبب فإذا نافى حكمه أبطل سببيته.
مثال ذلك: العقود التي تفيد الملك التام أو الحل التام، كعقد البيع، وعقد الزواج حكمها الشرعي أن الأثر المترتب على كل واحد مها لا يتراخى عن صيغته، فإذا عقد المكلف بيعاً أو زواجاً، وعلق واحدا منهما على أن يوجد في المستقبل شرط شرطه، فإن مقتضى هذا الاشتراط أن لا يوجد أثر العقد إلا إذا وجد الشرط، وهذا ينافي مقتضى العقد، وهو أن حكمه لا يتراخى عنه، ولهذا بطل البيع المعلق على شرط، وكذلك الزواج المعلق على شرط، فالشرط الجعلي إذا اعتبره الشارع صار كالشرط الشرعي.

المانع
تعريفه:
المانع: هو ما يلزم من وجوده عدم الحكم، أو بطلان السبب، فقد يتحقق السبب الشرعي وتتوافر جميع شروطه ولكن يوجد مانع يمنع ترتب الحكم عليه، كما إذا وجدت الزوجية الصحيحة أو القرابة ولكن منع ترتب الإرث على أحدهما كاختلاف الوارث مع المورث دينا، أو قتل الوارث مورثه، وكما إذا وجد القتل العمد العدوان ولكن منع من إيجاب القصاص به أن القاتل أبو المقتول.
فالمانع في اصطلاح الأصوليين: هو أمر يوجد مع تحقق السبب وتوافر شروطه، ويمنع من ترتب المسبب على سببه، فقد الشرط لا يسمى مانعا في اصطلاحهم، وإن كان يمنع من ترتب المسبب على السبب.
وقد يكون المانع مانعا من تحقق السبب الشرعي لا من ترتب حكمه عليه كالدين لمن ملك نصابا من أموال الزكاة، فإن دينه مانع من تحقق السبب لإيجاب الزكاة عليه، لأن مال المدين كأنه ليس مملوكا له ملكا تاما، نظرا لحقوق دائنيه، ولأن تخليص ذمته مما عليه من الدين أولى من مواساته الفقراء والمساكين بالزكاة، وهذا في الحقيقة مخل بما يشترط توافره في السبب الشرعي فهو من باب عدم توافر الشرط، لا من قبيل وجود المانع.

الرخصة والعزيمة
تعريفهما:
الرخصة هي ما شرعه الله من الأحكام تخفيفا على المكلف في حالات خاصة تقتضي هذا التخفيف، أو هي ما شرع لعذر شاق في حالات خاصة، أو هي استباحة المحظور بدليل مع قيام دليل الحظر.
وأما العزيمة فهي ما شرعه الله أصالة من الأحكام العامة التي لا تختص بحال دون حال ولا بمكلف دون مكلف.

أنواع الرخص:
من الرخص إباحة المحظورات عند الضرورات أو الحاجات، فمن أكره على التلفظ بكلمة الكفر أبيح له ترفيهاً عنه أن يتلفظ بها وقبله مطمئن بالإيمان. وكذا من أكره على أن يفطر في رمضان أو يتلف مال غيره، أبيح له المحظور الذي أكره عليه ترفيهاً عنه. ومن اضطره الجوع الشديد أو الظمأ الشديد إلى أكل الميتة أو شرب الخمر أبيح له أكلها وشربها: قال تعالى: (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ) [النحل: 106]، وقال سبحانه: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) [الأنعام: 119]، وقال تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) [البقرة: 173].
ومن الرخص إباحة ترك الواجب إذا وجد عذر يجعل أداءه شاقا على المكلف، فمن كان في رمضان مريضا أو على سفر أبيح له أن يفطر، ومن كان مسافرا أبيح له قصر الصلة الرباعية أي أداؤها ركعتين بدل أربع: قال تعالى: (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقر: 184]، وقال تعالى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ) [النساء: 101].
ومن الرخص: تصحيح بعض العقود الاستثنائية، التي لم تتوافر فيها الشروط العامة لانعقاد العقد وصحته، ولكن جرت بها معاملات الناس وصارت من حاجاتهم، كعقد السلم فإنه بيع معدوم وقت العقد، ولكن جرى به عرف الناس وصار من حاجياتهم، ولذا جاء في الحديث: "نهي رسول الله عن بيع الإنسان ما ليس عنده، ورخص في السلم"، وكذلك الاستصناع والإجارة وعقد الوصية، فهذه كلها عقود إذا طبقت عليها الشروط العامة لانعقاد العقود وصحتها في العاقد والمعقود عليه لا تصح؛ ولكن الشارع رخص فيها وأجازها سدا لحاجة الناس ودفعا للحرج.
ومن الرخص: نسخ الأحكام التي رفعها الله عنها وكانت من التكاليف الشاقة على الأمم قبلنا: وهي المشار إليها بقوله سبحانه: (رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا) [البقرة: 286]، مثل التكليف بقرض موضع النجاسة من الثوب، وأداء ربع المال في الزكاة، وقتل النفس توبة من المعصية، وعدم وجواز الصلاة في غير المساجد - وتسمية هذه رخصاً فيها توسع- ومن هذه الأنواع يتبين أن ترخيص الشارع للتخفيف عن المكلفين تارة بإباحة المحرم للضرورة أو بإباحة ترك الواجب للعذر، أو باستثناء بعض العقود من الأحكام الكلية للحاجة، كلها ترجع عند التحقيق إلى إباحة المحظور للضرورة أو الحاجة.
وعلماء الحنفية قسموا الرخصة إلى قسمين: رخصة ترفيه، ورخصة إسقاط، وفرقوا بينهما بأن رخصة الترفيه بكون حكم العزيمة معها باقيا ودليله قائما ولكن رخص في تركه تخفيفا وترفيها عن الكف، ومثلوا لهذا بمن أكره على التلفظ بكلمة الكفر، على إتلاف مال غيره، أو على الفطر برمضان. وقالوا إن النص المرخص لم يسقط حرمة التلفظ بكلمة الكفر عمن أكره عليه، ولكن استثنى من أكره من غضب الله عليه واستحـقاقه العذاب، قـال تعالى: (مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ) [النحل: 106] ولكن يلاحظ أن الله قال: (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [المائدة: 3]، وقال: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) [البقرة: 173] فقد استثنى المضطر من الإثم، كما استثنى المكره على التلفظ من الإثم واستحقاق العذاب.
بل إن قوله سبحانه: (فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [المائدة: 3]، يشعر بأنه فعل محرماً ولكن الله لم يعاقبه عليه رحمة منه. وقالوا كذلك: لم يسقط الإكراه حرمة إتلاف مال الغير ولا حرمة الفطر في رمضان، بل الحرمة مع الإكراه ثابتة، وإنما المقصود بالإباحة الترفيه عن المكلف. ولبقاء هذه الحرمة قالوا: إن العمل بالعزيمة أولى وإن من تمسك بالعزيمة واحتمل ما كره عليه حتى مات، مات شهيدا.
وأما رخصة الإسقاط فلا يكون حكم العزيمة معها باقيا، بل إن الحال التي استوجبت الترخيص أسقطت حكم العزيمة، وجعلت الحكم المشروع فيها هو الرخصة ومثلوا لهذا بإباحة أكل الميتة أو شرب الخمر عند الجوع والظمأ، وقصر الصلاة في السفر. فالمضطر إلى أكل الميتة أو شرب الخمر سقطت حرمتهما عنه في حال اضطراره، لأن الله سبحانه بعد ان بين هذه المحرمات قال: (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [المائدة: 3]، وهذا يقتضي رفع التحريم ولو لم يأكل أو يشرب أثم. والمسافر سقطت عنه الأربع ولو صلى أربعا كانت الركعتان الأخيرتان نافلة وتطوعا لا من المفروض.
والحق أن النصوص التي شرعت الرخص لا يدخل ظاهرها على هذا التفريق، فإن الله سبحانه قال: (وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) [الأنعام: 119]، فكل محرم عند الضرورة يباح بلا تفريق بين محرم ومحرم.
والقول بأنه عند الإكراه على إفطار رمضان يكون حكم العزيمة، وهو فرض الصيام باقياً، وعند الاضطرار إلى أكل الميتة، أو شرب الخمر، لا يكون حكم العزيمة. وهو تحريمها باقيا، تفريق لا يظهر له وجه، لأن الإكراه نوع من الاضطرار؛ وفي الحالتين أبيح المحظور للضرورة، وكما قال سبحانه: (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ) [النحل: 106]، قال: (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [المائدة: 3]، وصريح قوله سبحانه: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ) [النساء: 101]، أن القصر مباح ومقتضى أنه مباح أن الأخذ بالعزيمة وهو إتمام الصلاة أربعا مباح أيضا، فكيف يقال إن حكم العزيمة هنا غير قائم، وإن الرخصة في هذا رخصة إسقاط؟
فالذي يؤخذ من النصوص أن الرخص كلها شرعت للترفيه والتخفيف عن المكلف بإباحة فعل المحرم، وأن حكم الحظر ودليله قائمان. ومعنى إباحة المحظور ترخيصا أنه لا إثم في فعله. وإلى هذه الإشارة بقوله تعالى: (فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [المائدة: 3]، فللمكلف أن يتبع الرخصة تخفيفا عن نفسه، وله أن يتبع العزيمة محتملا ما فيها من مشقة، إلا إذا كانت المشقة يناله من احتمالها ضرر، فإنه يجب عليه اتقاء الضرر وإتباع الرخصة لقوله تعالى: (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة: 195]، وقوله: (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ) [النساء: 29]، والله سبحانه يحب أن تتبع رخصة، كما يجب أن تؤتى عزائمه، لأنه سبحانه ما جعل على الناس في الدين من حرج.
ومما قدمناه في تعريف الرخصة وبيان أنواعها يظهر الوجه في عدها من أقسام الحكم الوضعي، لأن الحكم المشروع هو جعل الضرورة سببا في إباحة المحظور أو طروء العذر سبا في التخفيف بترك الواجب، أو دفع الحرج عن الناس سبا في تصحيح بعض عقود المعاملات بينهم، فهو في الحقيقة وضع أسباب لمسببات.

الصحة والبطلان:
ما طلبه الشارع من المكلفين من أفعال، وما شرعه لهم من أسباب وشروط، إذا باشرها المكلف قد يحكم الشارع بصحتها، وقد يحكم بعدم صحتها.
فإذا وجدت على وفق ما طلبه الشارع وما شرعه، بأن تحققت أركانها وتوافرت شرائطها الشرعية، حكم الشارع بصحتها، وإن لم توجد على وفق ما طلبه الشارع وما شرعه، بأن اختل ركن من أركانها أو شرط من شروطها حكم الشارع بعدم صحتها.
ومعنى صحتها شرعا: ترتب آثارها الشرعية عليها.
فإن كان الذي باشره المكلف فعلا واجبا عليه، كالصلاة والصيام والزكاة والحق وأداء المكلف مستكملا أركانه وشروطه سقط عنه الواجب، وبرئت ذمته منه، ولم يستحق تعزيزا في الدنيا واستحق المثوبة في الآخرة.
 وإن كان الذي باشره المكلف سببا شرعيا كالزواج والطلاق والبيع والهبة وسائر العقود والتصرفات، واستوفى المكلف أركانه وشرائطه الشرعية، وترتب على كل سبب أثره الشرعي الذي رتبه الشارع عليه من إثبات الحل أو إزالته، أو تبادل ملك البدلين أو الملك بغير عوض، أو غير ذلك من الآثار والحقوق التي تترتب على الأسباب الشرعية الصحيحة.
وإن كان الذي باشره شرطا كالطهارة للصلاة، واستوفى المكلف شروطها وأركانها، أمكن تحقيق المشروط صحيحا.
ومعنى عدم صحتها عدم ترتب آثارها الشرعية عليها.
فإن كان الذي باشره واجبا لا يسقط عنه ولا تبرأ ذمته منه.
وإن كان سببا شرعيا لا يترتب عليه حكمه.
وإن كان شرطا لا يوجد المشروط.
وذلك لأن الشارع إنما رتب الآثار على أفعال وأسباب وشروط تتحقق كما طلبها وشرعها، فإذا لم تكن كذلك فلا اعتبار لها شرعا.
ومن هذا البيان يؤخذ أن ما صدر عن المكلف من أفعال أو أسباب أو شروط ولم يتفق وما طلبه الشارع أو ما شرعه يكون غير صحيح شرعا، ولا يترتب عليه أثره، سواء كان عدم صحته لاختلال ركن من أركانه أو لفقد شرط من شروطه، وسواء أكان عبادة أو عقداً أو تصرفاً. وعلى هذا لا فرق بين باطل وفاسد، لا في العبادات ولا في المعاملات.
فالصلاة الباطلة لا تسقط الواجب عن المكلف ولا تبرئ ذمته.
والزواج الباطل كالزواج الفاسد لا يفيد ملك المتعة ولا يترتب عليه أثره.
والبيع الباطل كالبيع الفاسد لا يفيد نقل الملك في البدلين ولا يترتب عليه حكم شرعي.
وتكون القسمة ثنائية، أي أن الفعل أو العقد أو التصرف إما صحيح تترتب عليه آثاره، وإما غير صحيح لا يترتب عليه أثر شرعي، وهذا هو رأي الجمهور.
وقال علماء الحنفية: إن القسمة ثنائية في العبادات، فهي إما صحيحة وإما غير صحيحة، ولا فرق بين باطل الصيام مثلاً وفاسده في أنه لا يترتب عليه أثره ولا يسقط الواجب، وعلى المكلف قضاؤه. وأما في العقود والتصرفات فالقسمة ثلاثية، لأن العقد غير الصحيح ينقسم إلى باطل وفاسد؛ فإن كان الخلل في أصل العقد أي في ركن من أركانه بأن كان في الصيغة أو العاقدين أو المعقود عليه، كان العقد باطلا لا يترتب عليه أثر شرعي، وإن كان الخلل في وصف من أوصاف العقد بأن كان في شرط خارج عن ماهيته وأركانه، كان العقد فاسدا، وترتبت عليه بعض آثاره.
وعلى هذا قالوا: إن بيع المجنون أو غير المميز أو بيع المعدوم باطل وأما البيع بثمن غير معلوم فهو فاسد. وإن زاوج غير المميز أو زواج إحدى المحرمات مع العلم بالحرمة باطل، وأما الزواج بغير شهود فهود فاسد. ولم يرتبوا على الباطل أثرا، ورتبوا على الفاسد المهر والعدة وأثبتوا النسب، وفي البيع الفاسد إذا رفع سب الفساد في المجلس بأن عيَّن الثمن أو الأجل ترتبت على العقد آثاره، وهو يفيد الملك بالقبض.
ومما قدمنا بيانه من معنى الصحة ومعنى البطلان: يظهر الوجه في عدهما من الحكم الوضعي؛ لأن الصحة هي ترتب الآثار الشرعية على الأفعال والأسباب أو الشروط التي باشرها المكلف، والبطلان عدم ترتب شيء من تكلك الآثار، فالحكم بصحة البعض حكم بسببيته شرعا لأحكامه.




المحكوم فيه:
 المحكوم فيه: هو فعل المكلف الذي تعلق به حكم الشارع.
فقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) [المائدة: 1]، الإيجاب المستفاد من هذا الخطاب تعلق بفعل من أفعال المكلفين هو: الإيفاد بالعقود فجعله واجبا.
وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) [البقرة: 282]، الندب المستفاد من هذا الخطاب تعلقت بفعل من أفعال المكلفين هو كتاب الدين، فجعله مندوباً.
وقوله تعالى: (وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ) [الأنعام: 151]،التحريم المستفاد من هذا الخطاب تعلّق بفعل من أفعال المكلفين هو قتل النفس، فجعله محرّماً.
وقوله تعالى: )وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ) [البقرة: 267]، الكراهة المستفادة من هذا الخطاب تعلقت بفعل من أفعال المكلفين هو إنفاق المال الخبيث فجعلته مكروهاً.
وقوله تعالى: (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة: 184]، الخطاب تعلق بالمرض والسفر فجعل كلا منهما مبيحا للفطر.
فكل حكم من أحكام الشارع فهو لابد متعلق بفعل من أفعال المكلفين على جهة الطلب، أو التخيير، أو الوضع.
ومن المقرر أنه لا تكليف إلا بفعل، أي أن حكم الشارع التكليفي لا يتعلق إلا بفعل المكلف.
فإذا كان حكم الشارع إيجابا أو ندبا فالأمر واضح، لأن متعلق الإيجاب فعل الواجب على سبيل الحتم، ومتعلق الندب فعل المندوب لا على سبيل الحتم والإلزام، فالتكليف في الحالتين بفعل. وإذا كان الشارع تحريما أو كراهة فالمكلف به في الحالتين هو فعل أيضا، لأنه هو كف النفس عن فعل المحرم أو المكروه، فمعنى قولهم: "لا تكليف إلا بفعل"، أن الفعل يشمل الكف، أي المنع للنفس عن فعل. وبهذا تكون جميع الأوامر والنواهي متعلقة بأفعال المكلفين، ففي الأوامر: المكلف به: فعل المأمور به، وفي النواهي: هو الكف عن المنهي عنه.

شرط صحة التكليف بالفعل:
يشترط في الفعل الذي يصح شرعا التكليف به ثلاثة شروط:
أولها: أن يكون معلوماً للمكلف علماً تاماً حتى يستطيع المكلف القيام به كما طلب منه، وعلى هذا فنصوص القرآن المجملة؛ أي التي لم يبين المراد منها، لا يصح تكليف المكلف بها إلا بعد أن يلحق بها بيان الرسول عليه الصلاة والسلام.
فقوله تعالى: (وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ) [البقرة: 43]، لم يبين النص القرآني أركان الصلاة وشروطها وكيفية أدائها، فكيف يكلف بالصلاة من لا يعرف أركانها وشروطها وكيفية أدائها؟ لذلك بين الرسول عليه الصلاة والسلام هذا المجمل وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي".
وكذلك الحج والصوم والزكاة وكل فعل تعلق به خطاب من الشارع مجمع لا يعلم مراد الشارع به، لا يصح التكليف به ولا مطالبة المكلفين بامتثاله إلا بعد بيانه. ولهذا أعطى الله ورسوله سلطة التبيين بقوله: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل: 44]، وبيّن الرسول بسننه القولية والفعلية ما أجمل في القرآن، واتفق العلماء على أنه لا يسوغ تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه.
وثانيها: أن يكون معلوما أن التكليف به صادر ممن له سلطان التكليف، وممن يجب على المكلف اتباع أحكامه لأنه بهذا العلم تتجه إرادته إلى امتثاله، وهذا هو السبب في أن أول بحث في أي دليل شرعي هو حجيته على المكلفين، أي أن الأحكام التي يدل عليها أحكام واجب على المكلفين تنفيذها. وهو السبب أيضا في أن كل قانون وضعي يتوجب بالديباجة الخاصة التي تدل على أن الحاكم أصدر القانون بناء على عرض مجلس الوزراء وموافقة البرلمان، ليعلم المكلفون أن القانون صادر ممن لهم سلطان التشريع، وممن يجب عليهم امتثال تكاليفهم؛ فيتجهوا للتنفيذ.
ويلاحظ أن المراد بعلم المكلف بما كلف به إمكان علمه به، لا علمه به فعلا، فمتى بلغ الإنسان عاقلا قادرا على أن يعرف الأحكام الشرعية بنفسه أو بسؤال أهل الذكر عنها، اعتبر عالما بما كلف به، ونفذت عليه الأحكام وألزم بآثارها ولا يقبل منه الاعتذار بجهلها. ولهذا قال الفقهاء: لا يقبل في دار الإسلام عذر الجهل بالحكم الشرعي، لأنه لو شرط لصحة التكلف علم المكلف فعلا بما كلف به ما استقام التكليف، واتسع المجال للاعتذار بجهل الأحكام.
وعلى هذا التقنين الوعي، فالناس يعتبرون عالمين بالقانون بتيسير إمكان علمهم به، وذلك بنشره بالطريق القانوني بعد إصداره. ولا اعتبار لأن كل فرد من المكلفين علم به فعلا أو لا، ولذا جاء في مادة (22) من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية: "لا يقبل من أحد أن يدعي بجهله القانون". وكذلك المراد بعلم المكلف بأن تكليفه بما كلف به صادر ممن يجب عليه امتثال أحكامه، وإمكان علمه بهذا لا علمه به فعلا.
فكل حكم شرعي يمكن للمكلف أن يعرف دليله، وأن يعرف أن دليله حجة شرعية، على المكلفين إتباع ما يستمد منه، سواء أكان هذا بنفسه أم بواسطة سؤال أهل الذكر عنه.
وثالثها: أن يكون الفعل المكلف به ممكنا، أو أن يكون في قدره المكلف أن يفعله أو أن يكف عنه. وتفرع عن هذا الشرط أمران:
أحدهما: أنه لا يصح شرعيا التكليف بالمستحيل، سواء أكان مستحيلا لذاته أم مستحيلا لغيره. فالمستحيل لذاته أي المستحيل عقلا هو ما لا يتصور العقل وجوده، كالجمع بين الضدين، مثل إيجاب الفعل وتحريمه في وقت واحد، على شخص واحد؛ أو الجمع بين النقيضين كالنوم واليقظة في وقت واحد. والمستحيل لغيره، أو العادي، وما يتصور العقل وجوده ولكن ما جرت سنن الكون ولا العادة المطردة بوجود، كطير الإنسان في الهواء بغير طائرة ووجود زرع بغير بذرة، لأن ما لا يتصور وجوده عقلا أو عادة لا يمكن للمكلف فعله، وهو ليس في وسعه، والله لا يكلف نفسها إلا وسعها، وهو حكيم منزه عن العبث وعن التكليف بفعل ما لا سبيل إلى فعله. وعن هذا تفرع قول الأصوليين: "الشخص الواحد في الوقت الواحد بالشيء الواحد لا يؤمر وينهي"، لأن هذا تكليف بالجمع بين النقيضين، وهما فعل الشيء وتركه في وقت واحد من مكلف واحد.
وثانيهما: أنه لا يصح شرعا تكليف المكلف بأن يفعل غيره فعلا أو يكف غيره عن فعل، لأن فعل غيره أو كف غيره ليس ممكنا لو هو، وعلى هذا لا يكلف إنسان بأن يزكي أبوه أو يصلي أخوه أو يكف جاره عن السرقة. وكل ما يكلف به الإنسان مما يخص غيره هو النصح، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهذا من فعله المقدور له.
وكذلك لا يصح شرعا أن يكلف الإنسان بأمر من الأمور الجبلية للإنسان التي هي مسببات لأسباب طبيعية ولا كسب للإنسان فيها ولا اختيار، كالانفعال عند الغضب، والحمرة عند الخجل، والحب والبغض، والحزن والفرح، والخوف حين وجود أسبابها، والهضم والتنفس، والطول والقصر، والسواد والبياض، وغير ذلك من الغرائز التي فطر عليها الناس، ووجودها وعدمها خاضع لقوانين خلقية، وليس خاضعا لإدارة المكلف واختياره، فهي خارجة عن قدرته، وليست من الممكنات له .
وإذا ورد في بعض النصوص ما يدل ظاهره على أن فيه تكليفا بما ليس مقدورا للإنسان من هذه الأمور، فهو ليس على ظاهره، وبتحقيق النظر فيه يتبين أنه تكليف بما هو مقدور.
مثلا قوله: "لا تغضب" ظاهرة التكليف بالكف عن أمر طبيعي غير كسبي وهو الغضب عند وجود داعيته، ولكن حقيقته التكليف بالكف عما يعقب الغضب، ويلحق الغضوب من ثورة نفسه ومظاهر انتقامه، فالمراد: أضبط نفسك حين الغضب وكفها عن آثاره السيئة.
وقوله عليه السلام: "كن عبدالله المقتول، ولا تكن عبدالله القاتل" ظاهرة التكليف بأن يقتله غيره، ولكن حقيقته التكليف بأن لا يظلم ولا يبدأ بعدوان، فالمراد: لا تظلم.
وقوله عليه السلام: "أحبوا الله لما أسدي عليكم من نعمه" ظاهره التكليف بالحب، ولكن حقيقته التكليف بالنظر في النعم التي أسداها الله إليك حتى تكونوا دائما ذاكرين شاكرين.
وقوله تعالى: (وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ( [آل عمران: 102]، ظاهرة تكليفهم الآن بأن يكونوا يسيروا في طريق يثبت إيمانهم ويقوي عقائدهم حتى يؤدي بهم هذا إلى أن يموتوا على دينهم.
وقوله تعالى: (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) [الحديد: 23] ظاهره التكليف بأن لا يحزن الإنسان على شيء فاته، ولا يفرح بشيء أتاه، وهذا غير مقدور له لكن حقيقته التكليف بالكف عما يعقب الاسترسال في الحزن من السخط، وما يعقب الاسترسال في الفرح من البطر والزهو.
وهكذا كل ما ورد من أمثال هذه النصوص فهو مؤول بأن التكليف فيه إما ورد على ما يلحق الأمر الطبيعي ويترتب عليه من آثار، أو على ما يسبقه من بواعث ودوافع، وهذه اللواحق والسوابق أمور كسبية للإنسان وفي مقدوره.
ولا يتبادر إلى الذهن من اشتراط أن يكون الفعل مقدورا للمكلف لصحة التكليف به شرعا أن هذا يستلزم أن تكون في الفعل أية مشقة على المكلف، لأنه لا منافاة بين كون الفعل مقدورا أو كونه شاقا. وكل ما يكلف به الإنسان لا يخلوا من نوع مشقة، لأن التكليف هو الإلزام بما فيه كلفة ونوع مشقة.
غير أن المشقة نوعان:
النوع الأول: مشقة جرت عادة الناس أن يحتملوها وهي في حدود طاقتهم، ولو داوموا على احتمالها لا يلحقهم أذى ولا ضرر لا في نفس ولا في مال ولا في أي شأن من شؤونهم، كالمشقات التي يحتملها الناس في المداومة على طرق السعي للرزق من زرع وحرث واتجار وغيرها، والمشقات التي يحتملها الموظفون في أداء واجباتهم، وكل عامل في أداء عمله.
والتكاليف الشرعية لا تخلو من مشقات من هذا النوع فيها صعوبة ولكنها محتملة، والمداومة عليها لا تلحق بمن دوام عليها ضرراً ولا أذى. والشارع ما قصد بالتكاليف هذه المشقات التي تلابسها وإنما قصد بها المصالح المترتبة عليها، وإلزام المكلف أن يحتمل مشقة في حدود طاقته في سبيل ما يترتب له من مصالح؛ كالطبيب الذي لزم المريض أن يتناول الدواء المر لما يترتب علي تناوله من شفائه، فهو يحمله مرارته في سبيل السلامة من أمراضه. فالصلاة والزكاة والصيام وسائر ما أمر به المكلف وما نهى عنه: في القيام بها نوع مشقة وصعوبة على نفس المكلف، ولكنها صعوبة محتملة وفي حدود الطاقة، وهي وسيلة إلى غاية ومصالح لابد للإنسان منها لاستقامة حياته. والشارع ما أراد إيلام المكلف وتحميله المشقات، وإنما أراد إصلاح حاله، كما أن الطبيب ما أراد إيلام المريض بمرارة الدواء وإنما أرد شفاءه.
النوع الثاني: مشقة خارجة عن معتاد الناس ولا يمكن أن يداوموا على احتمالها، لأنهم إذا داوموا عليها انبتوا وانقطعوا ونالهم الضرر والأذى في أنفسهم قيام الليل، والترهب، والصيام قائماً في الشمس، والحج ماشيا، والتزام العزيمة في حال الترخيص بتركها مهما لحق من ضرر. فهذه المشقة لا يكلف الشارع بتكاليف تلابسها، ولا يلزم المكلف باحتمالها، لأن المقصد الأول رفع الضرر عن الناس، وفي التكليف بما فيه من هذا النوع من المشقة إضرار بالناس وتكليفهم بما ليس في وسعهم، وقد شعر الله أحاكم الرخص عند طروء الأعذار دفعا لهذا النوع من المشقة، فما أباح الله الفطر في رمضان لمن كان مريضا أو على سفر، وما أباح التيمم عند عدم الماء، أو حال المرض، وما أباح المحظورات عند الضرورات أو الحجات، إلا لدفع هذه المشقّات، فال يصح أن يكلف المكلف بأحكام فيها مشقات قد قصد الشارع دفعها.
فالمشقة التي من هذا النوع إذا كان يجلبها نفس العمل المكلف به فقد دفعها الله بتشريع الرخص، وإذا كان يجلبها المكلف على نفسه بإرادته فقد نهاه الله عن ذلك وحرمه عليه، ولهذا نهى الرسول عن صوم الوصال، وعن قيام الليل كله وعن الترهيب، وقال: "أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم؛ ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني". وقال لمن نذر أن يصوم قائما في الشمس: "أتم صومك ولا تقم في الشمس" . وقال "خذوا من الأعمال ما تطيقون"، و "القصد القصد تبلغوا"، "هلك المتنطعون"، "إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ولن يشاد الدين أحدا إلا غلبه"، "إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهرا أبقى". وحكم بإثم من ترك الرخص واستمسك بالعزيمة محتملا ما فيها من ضرر وقال: "ليس من البر الصيام في السفر"، وقال: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه".




المحكوم عليه:
المحكوم عليه: هو المكلف الذي تعلق حكم الشارع بفعله.
ويشترط في المكلف لصحة تكليفه شرعا شرطان:
أحدهما- أن يكون قادرا على فهم دليل التكليف:
بأن يكون في استطاعته أن يفهم النصوص القانونية التي يكلف بها من القرآن والسنة بنفسه أو بالواسطة، لأن من لم يستطيع فهم دليل التكليف لا يمكنه أن يمتثل ما كلف به ولا يتجه قصده إليه والقدرة على فهم أدلة التكليف إنما تتحقق بالعقل وبكون النصوص التي يكلف بها العقلاء في متناول عقولهم فهمها، لأن العقل هو أداة الفهم والإدراك، وبه تتوجه الإرادة إلى الامتثال. ولما كان العقل أمرا خفيا لا يدرك بالحس الظاهر، ربط الشارع التكليف بأمر ظاهر يدرك بالحس هو مظنة للعقل وهو البلوغ، فمن بلغ الحلم من غير أن تظهر عليه أعراض خلل بقواه العقلية فقد توافرت فيه القدرة على أن يكلف.
وعلى هذا لا يكلف المجنون ولا الصبي لعدم وجود العقل الذي هو وسيلة فهم دليل التكليف، ولا يكلف الغافل والنائم والسكران لأنهم في حال الغفلة أو النوم أو السكر ليس في استطاعتهم الفهم. ولهذا قال رسول الله "رفع القلم عن ثلاثة: النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل"، وقال عليه السلام: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها".
وأما إيجاب الزكاة والنفقة والضمان على الصبي والمجنون فليس تكليفا لهما، وإنما هو تكليف الولي عليهما بأداء الحق المالي المستحق في مالهما، كأداء ضريبة أطيانهما وأملاكهما.
وأما قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ) [النساء: 43]، فليس تكليفا للسكارى حتى سكرهم بأن لا يقربوا الصلاة، وإنما هو تكليفا للسكارى حين سكرهم بأن لا يقربوا الصلاة، وإنما هو تكليف للمسلمين في حال صحوهم أن لا يشربوا الخمر إذا دنا وقت الصلاة حتى لا يقربوا الصلاة وهم سكارى، فكأنه سبحانه قال: إذا دنا وقت الصلاة فلا تشربوا الخمر، وأما إيقاع طلاق السكران على مذهب الحنفية هو عقاب له على سكره، ولهذا شرطوا أن يكون جانياً بسكره بأن شرب محرما طائعا.
وأما من لا يعرفون اللغة العربية ولا يستطيعون فهم أدلة التكليف الشرعية من القرآن والسنة، كاليابانيين والهنود والجاويين وغيرهم فهؤلاء لا يصح تكليفهم شرعاً إلا إذا تعلموا اللغة العربية واستطاعوا أن يفهموا نصوصا، أو ترجمت أدلة التكليف الشرعية إلى لغتهم، بحيث يستطيعون أن يجدوا كتابا دينيا بلغتهم يبين لهم ما يكلفهم به الإسلام، أو قامت طائفة بتعلم لغات هذه الأمم التي لا تعرف اللغة العربية ونشرت بينهم تعاليم الإسلام وأدلته التكليفية مخاطبة لهم بلغتهم، وهذا الطريق الثالث هو الطريق القويم؛ لأن الرسول في خطبته يوم حجة الوداع أشهد الله أنه بلغ رسالته، وأمر المسلمين أن يبلغ منهم الشاهد الغائب؛ والشاهد يشمل كل من اهتدى إلى الإسلام وعرف أحكامه، والغائب يشمل كل من لم يعرف لغة القرآن ولم يستطع فهم آياته.
فأما إذا ترك هذا الغائب على حالة لا يعرف لغة القرآن ولا يستطيع أن يفهم دلائله، ولا ترجمت آياته إلى لغته، ولا قام أحد يعرف لغة القرآن بتعليمه ما يكلف به باللغة التي يفهمها؛ فهو شرعا غير مكلف، لأن الله لا يكلف نفسها إلا وسعها، ولهذا قال الله تعالى في سورة إبراهيم: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) [إبراهيم: 4].
وثانيهما- أن يكون أهلا لما كلف به:
والأهلية معنا ها في اللغة: الصلاحية، يقال فلان أهل للنظر على الوقف أي صالح له.
وأما في اصطلاح الأصوليين فالأهلية تنقسم إلى قسمين: أهلية وجوب، وأهلية أداء.
فأهلية الوجوب: هي صلاحية الإنسان لأن تثبت له حقوق وتجب عليه واجبات، وأساسها الخاصة التي خلق الله عليها الإنسان واختصه بها من بين أنواع الحيوان، وبها صلح لأن تثبت له حقوق وتجب عليه واجبات، وهذه الخاصة هي التي سماها الفقهاء الذمة، فالذمة هي الصفة الفطرية الإنسانية التي به ثبتت للإنسان حقوق قبل غيره، ووجبت عليه واجبات لغيره.
وأما أهلية الأداء: فهي صلاحية المكلف لأن تعتبر شرعا أقواله وأفعاله، بحيث إذا صدر منه عقد أو تصرف كان معتبرا شرعا وترتبت عليه أحكامه، وإذا صلى أو صام أو حج أو فعل أي واجب كان معتبرا شرعا ومسقطا عنه الواجب، وإذا جنى على غيره في نفس أو مال أو عرض أخذ بجنايته وعوقب عليها بدنيا ومالياً فأهلية الأداء هي المسئولية وأساسها في الإنسان التمييز بالعقل.

حالات الإنسان بالنسبة لأهلية الوجوب:
الإنسان بالنسبة لأهلية الوجوب له حالتان اثنتان فقط:
فقد تكون له أهلية وجوب ناقصة:
إذا صلح لأن تثبت له حقوق، لا لأن تجب عليه واجبات، أو العكس، ومثلوا للأول بالجنين في بطن أمه فإنه تثبت له حقوق لأنه يرث ويوصى له ويستحق في ربع الوقف ولكن لا تجب عليه لغيره واجبات، فأهلية الوجوب الثابتة له ناقصة، ومثلوا للثاني بالميت، إذا مات مدنيا فإنه تبقى عليه حقوق دائنيه، بل إن بعض الفقهاء اعتبر للميت بعد موته أهلية وجوب كاملة، إذا مات دائنا ومدنيا فتكون له حقوق على مدينيه، وعليه حقوق لدائنيه، وهذا كلام لا وجه له، والحق أن الموت قضى على خاصة الإنسان، فليست له ذمة أو أهلية وجوب كاملة ولا ناقصة، وأما مطالبة مدينيه بما عليهم من الديون فلأنها صارت حقا للورثة، والورثة خلفوا مورثهم فيما كان له، وفيما كان عليه في حدود ما تركه، وبعبارة أخرى ورثوا ماله من ديون على غيره ن وآلت إليهم تركته مشغولة بديون لغيره.
وقد تكون له أهلية وجوب كاملة:
إذا صلح لأن تثبت له حقوق وتجب عليه واجبات، وهذه تثبت لكل إنسان من حين ولادته، فهو في طفولته وفي سن تمييزه وبعد بلوغه، على أية حال كان في أي طور من أطوار حياته له أهلية وجوب كاملة. وكما قدمنا لا يوجد إنسان عديم أهلية الوجوب.

حالات الإنسان بالنسبة لأهلية الأداء:
الإنسان بالنسبة لأهلية الأداء له حالات ثلاث:
1- قد يكون عديم الأهلية للأداء أصلا، أو فاقدها أصلا:
وهذا هو الطفل في زمن طفولته، والمجنون في أي سن كان. فكل منهما لكون لا عقل له لا أهلية أداء له، ولك منهما لا تترتب عليه آثار شرعية على أقواله ولا على أفعاله، فعقوده وتصرفاته باطلة، غاية الأمر إذا جنى أحدهما على نفس أو مال يؤاخذ ماليا لا بدنيا، فإن قتل الطفل أو المجنون أو أتلف مال غيره ضمن دية القتيل أو ما أتلفه، ولكنه لا يقتص منه، وهذا معنى قول الفقهاء: "عمد الطفل أو المجنون خطأ"، لأنه مادام لا يوجد العقل لا يوجد القصد فلا يوجد العمد.
2- وقد يكون ناقص الأهلية للأداء: 
وهو المميز الذي لم يبلغ الحلم، وهذا يصدق على الصبي في دور التمييز قبل البلوغ، ويصدق على المعتوه، فإن المعتوه ليس مختل العقل ولا فاقده ولكنه ضعيف العقل ناقصة، فحكمه حكم الصبي المميز.
وكل منهما لوجود وثوب أصل أهلية الأداء له بالتمييز تصح تصرفاته النافعة له نفعا محضا، كقبوله الهبات والصدقات بدون إذن وليه.
وأما تصرفاته الضارة له ضررا محضا، كتبرعاته، وإسقاطاته، فلا تصح أصلا ولو أجارها وليه، فهبته، ووصيته ووقفه وطلاقه وإعتاقه كل هذه باطلة ولا تلحقها إجازة وليه. وأما تصرفاته الدائرة بين النفع له والضرر به، فتصح منه ولكنها تكون موقوفة على إذن وليه بها، فإن جاز وليه العقد أو التصرف نفذ، وإن لم يجزه بطل.
فصحة أصل هذه العقود والتصرفات من المميز أو المعتوه مبينة على ثبوت أصل أهلية الأداء له، وعلها موقوفة على إذن أولي مبنى على نقص هذه الأهلية، فإذا انضم إذن الولي أو إجازته إلى التصرف جبر هذا النقص فاعتبر العقد أو التصرف من ذي أهلية كاملة.
3- وقد يكون كامل الأهلية للأداء: 
وهو من بلغ الحلم عاقلا. فأهلية الأداء الكاملة تتحقق ببلوغ الإنسان عقالا.
والأصل أن أهلية الأداء بالعقل ولكنها ربطت بالبلوغ لأن البلوغ مظنة العقل، والأحكام تربط بعلل ظاهرة منضبطة، فالبالغ سواء كان بلوغه بالسن أو بالعلامات يعتبر عاقلا وأهلا للأداء كامل الأهلية ما لم يوجد ما يدل على اختلال عقله أو أنقصه.

عوارض الأهلية:
قدّمنا أن أهلية الوجوب تثبت للإنسان، وأنه وهو جنين في بطن أمه تثبت له أهلية وجوب ناقصة، وبعد ولادته تثبت له أهلية وجوب كاملة في طفولته وفي سن تمييزه وبعد بلوغه وفي نومه ويقظته وفي جنونه وإفاقته، وفي رشده وسفهه، وما دام حيا لا يعرض لهذه الأهلية ما يزيلها أو ينقصان.
وأما أهلية الأداء فقد قدمنا أنها لا تثبت للإنسان وهو جنين قبل أن يولد، ولا هو طفل لم يبلغ السابعة، وأنه من سن التمييز أي بعد السابعة إلى سن البلوغ أي خمس عشرة سنة تثبت له أهلية أداء ناقصة، ولهذا تصح بعض تصرفاته ولا يصح بعضها، ويتوقف بعضها على إذن الولي أو إجازته. وإنه من سن بلوغه الحلم تثبت له أهلية أداء كاملة غير أن هذه الأهلية قد تعرض لها عوارض، منها ما هو عارض سماوي لا كسب للإنسان فيه ولا اختيار، كالجنون والعته والنسيان، ومنها ما هون عارض كسبي يقع بكسب الإنسان واختياره كالسكر والسفه والدين.

وهذه العوارض التي تعرض لأهلية الأداء:
* منها ما يعرض للإنسان فيزيل أهليته للأداء أصلا كالجنون والنوم والإغماء، فالمجنون والنائم والمغمي عليه ليس لواحد منهم أهلية أداء أصلا، ولا تترتب على تصرفاته آثارها الشرعية، وما وجب على المجنون بمقتضى أهليته للوجوب من واجبات مالية يؤديها عنه وليه، وما وجب على النائم والمغمى عليه بمقتضى أهليتهما للوجوب من واجبات بدنية أو مالية يؤديها كل منهما بعد يقظته أو إفاقته.
* ومنها ما يعرض للإنسان فيقض أهليته للأداء ولا يزيلها كالعته، ولهذا صحت بعض تصرفات المعتوه دون بعضها كالصبي المميز.
* ومنها ما يعرض للإنسان فلا يؤثّر في أهليته لا بإزالتها ولا بنقصها، ولكن يغير بعض أحكامه لاعتبارات ومصالح قضت بهذا التغيير، لا لفقد أهلية أو نقصها كالسفه، والغفلة، والدين، فكل من السفيه وذي الغفلة بالغ عاقل له أهلية أداء كاملة، ولكن محافظة على مال كل منهما من الضياع، ومنعا من أن يكون كل منهما عالة على غيره حجر عليهما في التصرفات المالية فلا تصح معاوضة مالية منهما، ولا تبرعات مالية، لا لفقد أهليتهما، أو نقصها، ولكن محافظة على مالهما.
* وكذلك المدين بالغ عاقل له أهلية أداء كاملة، ولكن محافظة على دائنيه حجر عليه أن يتصرف في ماله بما يضر بحقوق الدائنين كالتبرعات.
* فأهلية الأداء أساسها التمييز بالعقل، وأمارة العقل البلوغ، فمن بلغ عاقلا فأهليته للأداء كاملة.
* وإذا طرأ عليه طارئ ذهب بعقله كالجنون، أو أضعفه كالعته، أو حال دون فهمه كالنوم والإغماء، فهذا الطارئ عارض له تأثير في أهلية الأداء بإزالتها أو بنقصها.
* وإذا طرأ على الإنسان طارئ لم يذهب بعقله ولم يضعفه ولم يحل دون فهمه، فهذا الطارئ لا تأثير له في أهلية الأداء لا بإزالة ولا بنقص، وإن كان يقضي بتغير بعض الأحكام لمصالح اقتضت هذا التغير، كالسفه والغفلة والدين. ولهذا لا يرى الإمام أبو حنيفة الحجر بواحد من هذه الثلاثة، لأنه لا تأثير لواحد منها في أهلية الإنسان، ويرى أن المصالح التي تترتب على الحجر بها لا توازن بالضرر الذي يلحق الإنسان من الحجر عليه واعتباره غير أهل.



القســم الثالث
في القواعد الأصولية اللغوية

تمهيد:
نصوص القرآن والسنة باللغة العربية، وفهم الأحكام منها إنما يكون فهما صحيحا إذا روعي فيه مقتضى الأساليب في اللغة العربية وطرق الدلالة فيها، وما تدل علية ألفاظها مفردة ومركبة. ولهذا عني علماء أصول الفقه الإسلامي، باستقراء الأساليب العربية وعباراتها ومفرداتها، واستمدوا من هذا الاستقرار ومما قرره علماء هذه اللغة قواعد وضوابط، يتوصل بمراعاتها إلى فهم الأحكام من النصوص الشرعية فهما صحيحاً، يطابق ما يفهمه منها العربي الذي وردت من النصوص الشرعية فهما صحيحا، يطابق ما يفهمه منها العربي الذي وردت هذه النصوص بلغته، ويتوصل بها أيضا إلى إيضاح ما فيه خفاء من النصوص، ورفع ما قد يظهر بينها من تعارض، وتأويل على تأويله، وغير هذا مما يتعلق باستفادة الأحكام من نصوصها.
وهذه القواعد والضوابط لغوية مستمدة من استقراء الأساليب العربية ومما قرره أئمة اللغة العربية، وليست لها صبغة دينية، فهي قواعد لفهم العبارات فهما صحيحا، ولهذا يتوصل بها أيضا إلى فهم مواد أي قانون وضع باللغة العربية، لأن مواد القوانين الوضعية المصوغة باللغة العربية، هي مثل النصوص الشرعية في أنها جميعها عبارات عربية مكونة من مفردات عربية ومصوغة في الأسلوب العربي، ففهم المعاني الأحكام منها يجب أن يسلك فيه السبيل العربي في فهم العبارات والمفردات والأساليب.
وليس من السائغ قانونا ولا عقلا أن يسن الشارع قانونا من القوانين بلغة، ويتطلب من الأمة أن تفهم ألفاظ مواده وعباراتها، على مقتضى أساليب وأوضاع لغة أخرى، لأن شرط صحة التكليف بالقانون قدرة المكلفين به على فهمه. ولهذا يوضع القانون في الأمة بلسانها، وبلغة جمهور أفرادها، ليكون في استطاعتهم فهم الأحكام منه بأساليب الفهم في لغتهم. ولا يكون القانون حجة على الأمة إذا وضع بغير لغتها أو كان طريق فهمه غير طريق فهم اللغة التي وضع بها، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) [إبراهيم: 4].
وعلى هذا فالقواعد والضوابط التي قررها علماء أصول الفقه الإسلامي في طرق دلالة الألفاظ على المعاني، وفيما يفيد العموم من الصيغ، وفيما يدل على العام والمطلق والمشترك، وفيما يحتمل التأويل وما لا يحتمل التأويل وفي أن الغبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وفي أن العطف يقتضي المغايرة، وأن الأمر المطلق يقتضي الإيجاب، وغير ذلك من ضوابط فهم النصوص واستثمار الأحكام منها؛ كما تراعي في فهم النصوص الشرعية، تراعي في فهم نصوص القانون المدني والتجاري وقانون المرافعات والعقوبات وغيرها من قوانين الدولة الموضوعة باللغة العربية طبقا للمادة (149) من الدستور "الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية".
ولا يقال إن بعض هذه القوانين معربة عن أصل فرنسي ن وواضع هذا الأصل ما عرف أساليب اللغة العربية في الفهم، ولا قصد أن تفهم مواده على وفقها، لأنها نقول إن القانون الذي كلفنا به صيغ باللغة العربية واعتبر صادرا عمن يفهم الأساليب العربية، ولا يستقيم التكليف به إلا إذا قصد فهمه على وفق أساليب اللغة التي صيغ بها، ولا عبرة بأساليب اللغة التي نقل عنها، وعلى هذا إذا تعارض النص العربي واصله الفرنسي، ولم يمكن التوفيق بينهما يعمل بمقتضى النص العربي، لأن الناس لا يكلفون إلا بما يفهمون وهو ما نشر بينهم.
نعم إذا كان النص العربي يحتمل ن يفهم على وجهين، وألفاظه تحتمل الدلالة على معنيين، ساغ الاستدلال بالأصل الفرنسي على ترجيح أحد المعنيين واختيار أحد الوجهين، كما يستدل على هذا بأية قرينة. وإذا كان في أصول القانون الوضعي أو في العرف التجاري اصطلاح خاص بدلالة بعض الأساليب على أحكام أو بدلالة بعض الألفاظ على معان، أو بإزالة بعض أنواع الخفاء بطرق خاصة، يتبع في فهم مواد القانون ما يقضي به الاصطلاح والعرف القانونيان، لا ما تقضي به الأوضاع اللغوية.
ولهذا قرر علماء أصول الفقه أن الألفاظ التي استعملت في معان عرفية شرعية، كالصلاة والزكاة والطلاق تفهم في النصوص بمعانيها العرفية لا بمعانيها اللغوية، لأن المقنن يراعي في تعبيره عرفه الخاص، فإذا لم يكن له عرف خاص يراعي العرف اللغوي العام.




القاعدة الأولى- في طريق دلالة النص:
"النص الشرعي- أو القانوني – يجب العمل بما يفهم من عبارته، أو إشارته أو دلالته، أو اقتضائه، لأن كل ما يفهم من النص بطريق من هذه الطرق الأربعة هو من مدلولات النص، والنص حجة عليه".
"وإذا تعارض معنى مفهوم بطريق من هذه الطرق، ومعنى آخر مفهوم بطريق آخر منها رجح المفهوم من العبارة على المفهوم من الإشارة، ورجح المفهوم من أحدهما على المفهوم من الدلالة".
المعنى الإجمالي لهذه القاعدة:
أن النص الشرعي، أو القانوني قد يدل على معان متعددة بطرق متعددة من طرق الدلالة، وليست دلالته قاصرة على ما يفهم من عبارته وحروفه، بل هو قد يدل أيضا على معان تفهم من إشارته ومن دلالته ومن اقتضائه، وكل ما يفهم منه من المعاني بأي طريق من هذه الطرق يكون من مدلولات النص ويكون النص دليلا وحجة عليه، ويجب العمل به، لأن المكلف بنص قانوني مكلف بأن يعمل بكل ما يدل عليه هذا النص، بأي طريق من طرق الدلالة المقررة لغة. وإذا عمل بمدلول النص من بعض الوجوه. ولهذا قال الأصوليون: يجب العمل بما تدل عليه عبارة النص وما تدل عليه روحه ومعقولة، وهذه الطرق بعضها أقوى دلالة من بعض، ويظهر أثر هذا التفاوت عند التعارض.
أما الشرح التفصيلي لهذه القاعدة:
فهو بيان المراد بكل طريق من هذه الطرق الأربع للدلالة، وأمثلته من نصوص القوانين الشرعية والوضعية.
1- عبارة النص:
المراد بعبارة النص صيغته المكونة من مفرداته وجملة. والمراد بما يفهم من عبارة النص المعنى الذي يتبادر فهمه من صيغته، ويكون هو المقصود من سياقه، فمتى كان المعنى ظاهرا فهمه من صيغة النص، والنص سيق لبيانه وتقريره، كان مدلول عبارة النص " ويطلق عليه المعنى الحرفي للنص" . فدلالة العبارة: هي دلالة الصيغة على المعنى المتبادر فهمه منها، المقصود من سياقها. سواء أكان مقصودا من سياقها أصالة أو مقصودا تبعا.
وأمثلة هذا لا تحصى، لأن كل نص قانوني إنما ساقه الشارع لحكم خاص، قصد تشريعه به وصاغ ألفاظه وعباراته لتدل دلالة واضحة عليه. فكل نص في أي قانون شعري أو وضعي له معنى تدل عليه عباراته، وقد يكون له مع هذا معنى يدل عليه بالإشارة أو الدلالة أو الاقتضاء، وربما لا يكون، فلا حاجة إلى ذكر أمثلة مما يدل عليه النص بعبارته، وإنما نقتصر على بعض أمثلة يتبين منها الفرق بين المقصود من السياق أصالة والمقصود منه تبعا.
قال تعالى: (وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) [البقرة: 275]، هذا النص تدل صيغته دلالة ظاهرة على معنيين كل منها مقصود من سياقه، أحدهما: أن البيع ليس مثل الربا، وثانيهما: أن حكم البيع الإحلال، وحكم الربا التحريم. فهما معنيان مفهومان من عبارة النص، ومقصودان من سياقه؛ ولكن الأول: مقصود من السياق أصلاً، لأن الآية سيقت للرد على الذين قالوا: إنما البيع مثل الربا، والثاني: مقصود من السياق تبعا، لأن نفي المماثلة استتبع بيان حكم كل منهما حتى يؤخذ من اختلاف الحكمين أنهما ليسا مثلين، ولو اقتصر على المعنى المقصود من السياق أصالة، لقال: وليس البيع مثل الربا.
وقال تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً) [النساء: 3].
يفهم من عبارة هذا النص ثلاث معان: إباحة زواج ما طاب من النساء، وتحديد أقصى عدد للزوجات بأربع، وإيجاب الاقتصار على واحدة إذا خيف الجور وكلها مقصودة من سياقه، ولكن المعنى الأول مقصود تبعا، والثاني والثالث مقصودان أصالة، لأن الآية سيقت لمناسبة الأوصياء على القصر الذين تحرجوا من قبول الوصاية خوف الجور في أموال اليتامى. فالله سبحانه نبههم إلى أن خوف الجور يجب أن يحول أيضا بينكم وبين عدد الزوجات إلى غير حد، وبغير قيد، فاقتصروا على اثنتين أو ثلاث أو أربع، وإن خفتم ألا تعدلوا حين التعدد فاقتصروا على واحدة، فهذا الاقتصار على اثنتين أو ثلاث أو أربع أو واحدة هو الواجب على من يخاف الجور، وهو المقصود أصالة من سياق الآية. وهذا استتبع بيان إباحة الزواج، فإباحة الزواج مقصود تبعا لا أصالة، والمقصود أصالة: قصر عدد الزوجات على أربع، أو واحدة. ولو اقتصر على الدلالة على المعنى المقصود من السياق لقال: وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فاقتصروا على عدد الزوجات لا يزيد على أربع، فإن خفتم ألا تعدلوا بين العدد منهم فاقتصروا على واحدة.

2- إشارة النص:
المراد بما يفهم من إشارة النص المعنى الذي لا يتبادر فهمه من ألفاظه ولا يقصد من سياقه ولكنه معنى لازم للمعنى لازم للمعنى المتبادر من ألفاظه، فهو مدلول اللفظ بطريق الالتزام. ولكنه معنى التزامياً وغير مقصود من السياق كانت دلالة النص عليه بالإشارة لا بالعبارة. وقد يكون وجه التلازم ظاهرا، وقد يكون خفيا، ولهذا قالوا: إن ما يشير غليه النص قد يحتاج فهمه إلى دقة نظر ومزيد تفكير، وقد يفهم بأدنى تأمل. فدلالة الإشارة هي دلالة النص عن معنى لازم لما يفهم من عبارته غير مقصود من سياقه؛ يحتاج فهمه إلى فضل تأمل أو أدناه، حسب ظهور وجه التلازم وخفائه.
مثال هذا قوله تعالى: (وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة: 233]، يفهم من عبارة من عبارة هذا النصل أن نفقة الوالدات من رزق وكسوة، واجبة على الآباء، لأن هذا هو المتبادر من ألفاظه، المقصود من سياقه. ويفهم من إشارته أن الأب لا يشاركه أحد في وجوب النفقة لولده عليه ،لأن أولاده له لا لغيره، والأب لو كان قرشيا والأم غير قرشية يكون الولد لأبيه قرشيا لأن ولده له لا لغيره، والأب لو كان قرشيا والأم غير قرشية يكون الولد لأبيه قرشيا لأن ولده له لغيره. وأن الأب له عند احتياج أن يتملك بغير عوض من مال ابنه ما يسد به حاجته لأن ولده له، فمال ولده له، وإنما فهمت هذه الأحكام من إشارة النص، لأن في ألفاظ النص نسبة المولود لأبيه بحرف اللام الذي يفيد الاختصاص "أنت ومالك لأبيك"، ومن لوازم هذا الاختصاص ثبوت هذه الأحكام، فهي أحكام لازمة لمعنى مفهوم من عبارة النصل وغير مقصودة من سياقه، ولذا كان فهمها من إشارته لا من عبارته.
مثال آخر: قوله تعالى في بيان من لهم نصيب في الفيء: (لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً) [الحشر: 8]، يفهم من عبارة هذا النص استحقاق هؤلاء الفقراء المهاجرين نصيبا من الفيء، ويفهم إشارته أن هؤلاء المهاجرين زال ملكهم عن أموالهم التي تركوها حين أخرجوا من ديارهم، لأن النص عبّر عنهم بلفظ الفقراء، ووصفهم بأنهم فقراء يستلزم أن لا يكون أموالهم باقية على ملكهم. فهذا حكم لازم لمعن لفظ في النص، ويغر مقصود من سياق النص.
مثال ثالث: قوله تعالى: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) [آل عمران: 159]، يفهم منه بطريق الإشارة إيجاد طائفة من الأمة تمثلها وتستشار في أمرها لأن تنفيذ الأمر ومشاورة الأمة يستلزم ذلك.
مثال رابع: قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [الأنبياء: 7]، يفهم منه بطريق الإشارة إيجاب أهل الذكر في الأمة.
مثال من قانون العقوبات: المادة (274): "المرأة المتزوجة التي ثبت زناها يحكم عليها بالحبس مدة لا تزيد عن سنتين، ولكن لزوجها أن يقف تنفيذ الحكم برضائه معاشرتها".
هذه المادة تدل بعبارتها على عقوبة الزوجة التي ثبت زناها، وعلى أن للزوج الحق في وقف تنفيذ هذه العقوبة، وتدل بإشارتها على أن زنا الزوجة ليس جناية على المجتمع في نظر الشارع المصري، وإنما هو جناية على الزوج، وهذا لازم لإثبات حق إسقاط عقوبته للزوج، إذ لو كان جناية على المجتمع كالسرقة ما ثبت لأحد حق إسقاط عقوبته.
مثال من القانون المدني – الملغي– مادة (155): "يجب على الفروع وأزواجهم مادامت الزوجية قائمة أن ينفقوا على الأصول وأزواجهم".
ومادة (156): كذلك يجب على الأصول القيام بالنفقة على فروعهم، وأزواج الفروع، والأزواج أيضا ملزمون بالنفقة على بعضهم"
ومادة (157): تقدير النفقات يكون بمراعاة لوازم من تفرض لهم ويسر من تفرض عليهم، وعلى كل حال يلزم دفع النفقات شهرا بشره مقدما".
يفهم من عبارة كل مادة من هذه المواد حكم موضعي من أحكام النفقات، ويفهم منها بالإشارة اختصاص المحاكم الأهلية بالقضاء بها، لأنه يلزم من النص عليها في قانونها وجوب تطبيقها، فهذا الاختصاص معنى بالإشارة اختصاص المحاكم الأهلية بالقضاء بها، لأنه يلزم من النص عليها في قانونها وجوب تطبيقها، فهذا الاختصاص معنى لازم لورود هذه المواد في القانون، وغير مقصود من سياق المواد فهو مفهوم بطريق الإشارة.
وكثير من النصوص القانونية الوضعية تدل عبارتها على أحكام، وتشير إلى أحكام، وهذا ما يعبر عنه رجال القانون بقولهم: النص صريح في كذا، ويؤخذ منه بطريق الإشارة كذا.
ويجب الاحتياط في الاستدلال بطريق الإشارة وقصره على ما يكون لازما لمعنى من معاني النص لزوما لا انفكاك له، لأن هذا هو الذي يكون النص دالا عليه، وإذ الدال على الملزوم دال على لازمه. أما تحميل النص معاني بعيدة لا تلازم بينهما وبين معنى فيه بزعم أنها إشارية فهذا شطط في فهم النصوص، وليس هو المراد بدلالة إشارة النص.

3- دلالة النص:
المراد بما يفهم من دلالة النص المعنى الذي يفهم من روحه ومعقوله، فإذا كان النص تدل عبارته على حكم في واقعه لعله بني عليها هذا الحم، ووجدت واقعة أخرى، تساوي هذه الواقعة في علة الحكم أو هي أولى منها، وهذه المساواة أو الأولوية تتبادر إلى الفهم بمجرد فهم اللغة من غير حاجة إلى اجتهاد أو قياس، فإنه يفهم لغة أن النص يتناول الواقعين، وأن حكمه الثابت لمنطوقه يثبت لمفهومه الموافق له في العلة، سواء كان مساويا أم أولى.
مثال هذا قوله تعالى في شأن الوالدين: )فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ( [الإسراء: 23]، تدل عبارة هذا النص على نهي الولد أن يقول لوالديه "أُفٍّ"؛ والعلة في هذا النهي ما في هذا النهي ما في هذا القول لهما من إيذائهما وإيلامهما. وتوجد أنواع أخرى أشد إيذاء وإيلاما من التأفف كالضرب والشتم، فيبادر إلى الفهم أنهما يتناولهما النهي، وتكون محرمة بالنص الذي حرم بالتأفف، لأن المتبادر لغة من النهي عن التأفف النهي عما هو أكثر إيذاء للوالدين بالأولى، فهنا المفهوم الموافق المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق.
مثال آخر: قوله تعالى: )إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً) [النساء: 10] يفهم من عبارة هذا النص تحريم أكل الأوصياء أموال اليتامى ظلما، ويفهم من دلالته تحريم أن يؤكلوها غيرهم، وتحريم إحراقها وتبديدها وإتلافها بأي نوع من أنواع الإتلاف، لأن هذه الأشياء تساوى أكلها ظلما في أن كلا منها اعتداء على مال القاصر العاجز عن دفع الاعتداء، فيكون النص المحرم بعبارته أكل أموال اليتامى ظلما؛ محرما إحراقها وتبديدها بطريق الدلالة، وهنا المفهوم الموافق المسكوت عنه مساو للمنطوق.
فالفرق بين دلالة النص وبين القياس أن مساواة المفهوم الموافق النص تفهم بمجرد فهم اللغة من غير توقف على اجتهاد واستنباط، وأما مساواة المقيس للمقيس عليه، فلا تفهم بمجرد فهم اللغة، بل لابد من اجتهاد في استنباط العلة في حكم المقيس عليه، وفي معرفة تحققها في المقيس.
مثال من القانون المدني الملغي: نصت المادة (370) على أنه: "لا يكلف المؤجر يعمل أي مرمة كانت إلا إذا اشترط في العقد إلزامه ذلك"، يفهم من دلالة هذا النص أنه لا يكلف المؤجر بإنشاء حجرة مثلا، لأن هذا أولى من عمل المرمة في تحقق علة المنع من التكليف به، وهي التراضي على المعقود عليه بحالة وقت العقد.
مثال من قانون العقوبات: نصت المادة (274) على أن: "المرأة المتزوجة التي ثبت زناها يحكم عليها بالحسب مدة لا تزيد عن سنتين، ولكن لزوجها أن يقف تنفيذ هذا الحكم برضائه معاشرتها له كما كانت". يفهم من دلالة هذا النص أن للزوج أن يطلب وقف السير في دعوة الزنا قبل الحكم فيها، لأن من ملك وقف تنفيذ الحكم بعد صدوره ملك بالأولى وقف إجراءات الدعوة بشأنه.
ونصت المادة (237): "على أن من فاجأ زوجته حال تلبسها بالزنا وقتلها في الحال يعاقب بالحبس بدلا من العقوبات المقررة في المادتين (234)، (236)"، يفهم من دلالة هذا النص أنه لو ضربها هي ومن يزني بها ضربا أحدث عاهة مستديمة تعتبر جريمة جنحة لا جناية، لان هذا أولى بالقتل من التخفيف.
وجاء في حكم محكمة بني سويف الابتدائية الصادر في 9 ديسمبر سنة 1922 (رقم 213 ص 243، ص 4 مجلة المحاماة): "إن التي أدت بالشارع إلى سن قانون تشكيل اللجان لتخفيض إيجار الأطيان الزراعية إنما هو غلو المؤجرين في تقدير الإيجار نظرا لارتفاع أسعار القطن وأسعار سائر الحاصلات من حبوب وغيرها، وما دامت هذه هي العلة التي اقتضت التخفيض في السنة التي زرعت فيها الأطيان قطنا لأنها تقضي من باب أولى التخفيض أيضا في السنة التي تزرع فيها الأطيان قطنا وزرعت حبوبا".
وهذا الطريق، أي طريق الدلالة، كما يسمى دلالة النص يسمى القياس الجلي لظهور فهم المساواة أو الأولوية بين المنطوق والمفهوم الموافق له، ويسمى حكمه مفهوم الموافقة أي المفهوم الذي وافق المنطوق في حكمه بناء على موافقته له في علته موافقة تفهم بمجرد فهم اللغة. ويسمى فحوى الخطاب أي روحه وما يعقل منه، لأن كل نص دل على حكم في محل العلة، يدل على ثبوت هذا الحكم في كل محل تتحقق فيه العلة بتبادر الفهم، أو تكون العلة أكثر توافراً فيه.

4- اقتضاء النص:
المراد بما يفهم من اقتضاء النص المعني الذي لا يستقيم الكلام إلا بتقديره، فصيغة النص ليس فيها لفظ يدل عليه ولكن صحتها واستقامة معناها تقتضيه، أو صدقها ومطابقتها للواقع تقتضيه.
مثال هذا قوله: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". هذه العبارة يدل ظاهرها على رفع الفعل إذا وقع خطأ أو نسيانها أو مكرها عليه، وهذا معنى غير مطابق للواقع لأن الفعل إذا وقع لا يرفع، فصحة معنى هذه العبارة تقتضي تقدير ما تصح به، فيقدر هنا: رفع عن أمتي إثم الخطأ؛ فالإثم محذوف اقتضى تقديره صحة معنى النص، فيعتبر من مدلولات النص اقتضاء.
ومثال قوله تعالى: )حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ ...( [النساء: 23]، أي زواجهن، وقوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ( [المائدة: 3]، أي أكلها والانتفاع به، لأن الذات لا يتعلق بها التحريم، وإنما يتعلق التحريم بفعل المكلف فيقدر المقتضى في كل نص بما يناسبه.
ومثال هذا: من عبارات الواقفين قول الواقفين: جعلت الشروط العشرة لمن يكون ناظرا على وقفي، فإن هذا يدل اقتضاء على جعلها لنفسه، لأنه لا يملك أن يجعلها لغيره إلا إذا كانت له، فثبوت الشروط العشرة لناظر وقفه بعبارة نصه وثبوتها لنفسه باقتضائه .
ومن هذا قول إنسان لآخر يملك عبدا: "اعتق عبدك عني بألف"، فإن هذا يدل بمقتضاه على شراء عبده منه؛ لأنه لا ينوب عنه في عتقه إلا بعد أن يتملكه منه بشرائه، فالشراء ثابت بنص هذه الصيغة اقتضاء.
ومن هذا التفصيل يثبت ما قدمنه في الإجمال، وهو أن كل معنى فهم من النص بطريق من هذه الطرق الأربع يكون من مدلولات النص، ويكون النص حجة عليه، لأن المعنى المأخوذ من عباراته هو المعنى المتبادر من ألفاظه المقصود من سياقه، والمعنى المأخوذ من إشارته هو المعنى اللازم لمعنى عبارته لزوما لا ينفك، فهو مدلوله بطرق الالتزام، والمعنى المأخوذ من دلالته هو المعنى الذي تدل عليه روحه ومعقوله، والمفهوم اقتضاء هو معنى ضروري اقتضى تقديره صدق عبارة النص أو استقامة معناه.
وطريق العبارة أقوى دلالة من طريق الإشارة لأن الأول يدل على معنى متبادر فهمه مقصود بالسياق، والثاني يدل على معنى لازم غير مقصود بالسياق، وكل منهما أقوى من طريق الدلالة، لأن كلا منهما منطوق النص ومدلوله بصيغته وألفاظه، ولكن طريق الدلالة مفهوم النص ومدلوله بروحه ومعقوله. ولهذا التفاوت يرجح عند التعارض المفهوم من العبارة على المفهوم من الإشارة، ويرجح المفهوم من أحدهما على المفهوم من الدلالة.
مثال التعارض بين المفهوم بالعبارة والمفهوم بالإشارة من النصوص الشرعية:
قوله تعالى : )كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى( [البقرة: 178]، مع قوله سبحانه: )وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا( [النساء:93]، تدل الآية الأولى بعبارتها على وجوب القصاص من القاتل، وتدل الآية الثانية بإشارتها على أن القاتل العامد لا يقتص منه، لأن في اقتصارها على أن جزاءه جهنم إشارة إلى هذا، إذ يلزم من هذا الاقتصار في مقام البيان أنه لا تجب عليه عقوبة أخرى، ولكن رجح مدلول العبارة على مدلول الإشارة ووجب القصاص.
وقوله: "أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة" مع قوله في تعليل نقصان الدين في النساء: "تقعد إحداهن شطر عمرها لا تصلي"، فإن الحديث الأول يدل بعبارته على أن أكثر مدة الحيض عشرة أيام، والحديث الثاني يدل بإشارته على أن أكثر مدة الحيض خمسة عشرة يوما، لأنه نص على أن إحداهن تقعد نصف عمرها لا تصلي، ويلزم من هذا أن تكون مدة الحيض خمسة عشر يوما لأنه نص على أن إحداهن تقعد نصف عمرها لا تصلي، ويلزم من هذا أن تكون مدة الحيض نصف شره حتى يتحقق أنها في نصف عمرها لا تصلي، فلما تعارض المفهوم من عبارة النص الأول، والمفهوم من إشارة النص الثاني، رجح المفهوم من العبارة وهو تقدير أكثر مدة الحيض بعشرة أيام.
ومثال هذا من القانون المدني الملغي مواد النفقات الواردة في المواد (155، 157، 158):
تدل بطريق الإشارة على اختصاص المحاكم الأهلية بالفصل في قضايا هذه النفقات، لأن هذا يلزم من النص عليها في قانونها، والمادة (16) من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية الملغاة التي جاء فيها أن ليس لهذه المحاكم أن تنظر في الأنكحة وما يتعلق بها من قضايا المهر والنفقة، تدل بطريق العبارة على عدم اختصاص المحاكم الوطنية بقضايا النفقة. فلما تعارض المفهوم بطريق إشارة الأولى، والمفهوم بطريق عبارة الثانية، رجح المفهوم بطريق العبارة، فلا اختصاص للمحاكم الوطنية بمواد النفقات.
ومثال التعارض بين المفهوم بالإشارة والمفهوم بالدلالة من النصوص الشرعية:
قوله تعالى: )وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ( [النساء: 92]، يؤخذ منه بطريق الدلالة من قتل مؤمنا متعمدا عليه ِأن يحرر رقبة مؤمنة، لأنه أولى من القاتل خطأ بهذا التكفير عن جريمته، لأن تحرير الرقبة كفارة للقاتل عن ذنبه، والعامد أولى أن يكفر عن ذنبه من الخاطئ، وقوله تعالى: )وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا( [النساء: 93]، يؤخذ منه بطريق الإشارة أنه لا يجب عليه تحرير رقبة لأن الآية تشير إلى أنه لا كفارة لذنبه في الدنيا، إذا جعلت جزاؤه خلوده في جهنم لا غير، فلما تعارضا رجحت الإشارة على الدلالة، فلا يجب على القاتل عمدا تحرير رقبة.




القاعدة الثانية- في مفهوم المخالفة:
"النص الشرعي لا دلالة له على حكم في مفهوم المخالفة".
إذ دل النص الشرعي على حكم في محل مقيدا بقيد، بأن كان موصوفا بوصف أو مشروطا بشرط أو مغيّاً بغاية أو محددا بعدد، يكون حكم النص في المحل الذي تحقق فيه القيد هو منطوق النص، وأما حكم المحل الذي انتفى عنه القيد فهو مفهومه المخالف.
والمعنى الإجمالي لهذه القاعدة:
أن النص الشرعي لا دلالة له على حكم ما في المفهوم المخالف لمنطوقه، لأنه ليس من مدلولاته بطريق من طرق الدلالة الأربع، بل يعرف حكم المفهوم المخالف المسكوت عنه بأي دليل آخر من الأدلة الشرعية التي منها الإباحة الأصلية.
فقوله تعالى: (قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً( [الأنعام: 145]، منطوقة تحريم الدم المسفوح، وأما تحليل الدم غير المسفوح فهو مفهوم مخالف لمنطوقه ولا دلالة لهذه الآية عليه، بل يعرف بالإباحة الأصلية أو بأي دليل شرعي، مثل قول الرسول : "أحلت لكم ميتتان ودمّان، أما الميتتان فالسمك والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال".
وقوله تعالى: وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ( [النساء: 25] منطوقة أن من لم يستطع زواج الحائر يباح له أن يتزوج الإمام المؤمنات، وأما من استطاع زواج الحرائر فلا دلالة لهذه الآية على حكمه، وكذلك الإماء غير المؤمنات لا دلالة لهذه الآية على حكم فيهن.
أما الشرح التفصيلي لهذه القاعدة:
فيقتضى بيان أنواع مفهوم المخالفة، لأن هذا المفهوم يتنوع بحسب القيد الذي قيد به منطوق النص إلى خمسة أنواع:
1- مفهوم الوصف: 
كقوله تعالى في بيان المحرمات: )وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم( [النساء: 23]، مفهوم المخالفة حلائل الأبناء الذين ليسوا من الأصلاب كابن الابن رضاعا، وكقول الرسول: "في السائمة زكاة" مفهوم المخالفة المعلوفة التي ليست سائمة، وكقوله: "من باع نخلة مؤبّرة فثمرتها للبائع".
2- مفهوم الغاية: 
كقوله تعالى: (فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ( [البقرة: 230]، مفهوم المخالفة إذا تزوجت المطلقة ثلاثا زوجا غير مطلقها، وقوله تعالى: )وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ( [البقرة: 187]، مفهوم المخالفة إذا تبين الأبيض من الأسود من الفجر.
3- مفهوم الشرط: 
كقوله تعالى: )وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنّ( [الطلاق: 6]، مفهوم المخالفة إن كن لسن أولات حمل، وكقوله تعالى: (فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا) [النساء: 4]، مفهوم المخالفة إذا لم تطب نفس الزوجة عن شيء من مهرها.
4- مفهوم العدد: 
كقوله تعالى: ) فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً( [النور: 4]، مفهوم المخالفة الأقل والأكثر من ثمانين، وكقوله تعالى: ) فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ( [البقرة: 196]، مفهوم المخالفة الأقل والأكثر من ثلاثة.
5- مفهوم اللقب:
كقوله تعالى: ) مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ( [الفتح: 29] مفهوم المخالفة غير محمد، وكقول الرسول: "في البر صدقة": مفهوم المخالفة غير البر، وكقوله تعالى: )حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ([النساء: 23]، مفهوم المخالفة غير الأمهات.
وقد اتفق الأصوليون على عدم الاحتجاج بالنص على مفهوم المخالفة في صورة، وعلى الاحتجاج به في صورة، واختلفوا في الاحتجاج به في صورة.
1- فأما ما اتفقوا على عدم الاحتجاج بالنص على مفهوم المخالفة فيه:
فهو مفهوم اللقب، والمراد باللقب اللفظ الجامد الذي ورد في النص أسما وعلما على الذات المسند إليها الحكم المذكور فيه. ففي حديث: "في البر صدقة" لفظ البر اسم للحب المعروف الذي أوجبت فيه زكاة. ولا يفهم لغةً ولا شرعاً ولا عرفاً أن ذكر البر احترازاً عما عداه من الحبوب، ولا أنّ ذكر الغنم احتراز عما عداها من السوائم، ولا أن إيجاب صدقة في البر يفهم منه أن لا صدقة في الشعير والذرة وغيرها من الحبوب، ولا أن إيجاب زكاة في الغنم يفهم منه أن لا زكاة في الإبل والبقر وغيرهما. فلهذا اتفق الأصوليين على عدم الاحتجاج بمفهوم المخالفة في اللقب، لأنه لا يقصد بذكره تقييد و لا تخصيص ولا احتراز عما عداه.
ولا فرق في هذا بين النصوص الشرعية ونصوص القوانين الوضعية، وعقود الناس وتصرفاتهم وسائر أقوالهم. فمحمد رسول الله لا يفهم منها أن غير محمد ليس رسول الله، ودين المتوفي يؤدي من تركته لا يفهم منه أن غير دينه كنفقة تجهيزه ووصايا النافذة لا تؤدي إلى تركته، والبيع ينقل الملكية لا يفهم منه أن غير البيع لا ينقله، وأن بيع الحقوق في تركة إنسان على قيد الحياة ولو برضاه غير باطل. ولهذا قال الشوكاني: "والقائل بمفهوم المخالفة في اللقب لا يجد حجة لغوية ولا عقلية ولا شرعية، ومعلوم من لسان العرب أن من قال: رأيت زيدا لا يفهم من قوله أنه لم ير غيره. وأما إذا دلت القرينة على العمل في جزئية خاصة فما ذلك إلا للقرينة".
2- وأما ما اتفقوا على الاحتياج:
بمفهوم الوصف، أو الشروط، أو العدد، أو الغاية، في غير النصوص الشرعية، أي في عقود المتعاقدين وتصرفاتهم، وأقوال الناس وعبارات المؤلفين، ومصطلحات الفقهاء. فقول الواقف: جعلت ربع وقفي من بعدي لأقاربي الفقراء، منطوقة ثبوت الاستحقاق لأقاربه الفقراء، ومفهوم المخالفة له نفي استحقاق أقاربه غير الفقراء، ونصه حجة على الحكمين. وقول الواقف: جعلت ثمن ريع وقفي من بعدي لأرملتي إذا لم تتزوج، منطوقة ثبوت الاستحقاق لأرملته إذا لم تتزوج، ومفهوم المخالفة له نفي استحقاقها إذا تزوجت، ونصه حجة على الحكمين. وهكذا كل عبارة من أي عاقد أو متصرف أو مؤلف أو أي قائل، إذا قيدت بوصف أو شرط أو حددت بعدد أو غاية، تكون حجة على ثبوت الحكم الوارد بها حيث يوجد ما قيدت به، وعلى نفيه حيث ينتفي، لأن عرف الناس واصطلاحاتهم في النفس والتعبير على هذا؛ ولو لم يفهم النفي والإثبات كان التقييد في عرفهم عبثاً، إلا إذا قرينة على أن القيد ليس للتخصيص.
3- وأما الصورة التي اختلف الأصوليون في الاحتجاج بمفهوم المخالفة فيها:
فهي مفهوم المخالفة في الوصف، أو الشرط، أو الغاية، أو العدد في النصوص الشرعية خاصة. فذهب جمهور الأصوليين إلى أن النص الشرعي الدال على حكم في واقعة؛ إذا قيد بوصف أو شرط بشرط أو حدد بغاية أو عدد، يكون حجة على ثبوت حكمه في الواقعة التي وردت فيه بالوصف أو الشرط أو الغاية أو العدد الذي ذكر فيه، ويكون حجة على ثبوت نقيض حكمه في الواقعة التي وردت فيه إذا كانت على خلاف الوصف، أو الشرط، أو الغاية، أو العدد الذي ذكر فيه. ويسمى حكمه الأول منطوقة، ويسمى حكمه الثاني مفهومه المخالف. فالتحريم للدم المسفوح والتحليل للدم غير المسفوح، كل منهما مدلوله قوله تعالى: )أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً( [الأنعام: 145].
وذهب الأصوليون من الحنفية ؛ إلى أن النص الشرعي الدال على حكم في واقعة، إذا قيد بوصف أو شرط بشرط، أو حدد بغاية أو عدد، لا يكون حجة إلا على حكمه في واقعته، التي ذكرت فيه بالوصف أو الشرط أو الغاية أو العدد الذي ذكر فيه، وأما الواقعة التي انتقى عنها ما ور د فيه من قيد، فلا يكون حجة على حكم فيها، بل يكون النص ساكتا عن بيان حكمها، فيبحث عن حكمها بأي دليل من الأدلة الشرعية التي منها أن الأصل في الأشياء الإباحة.
استدل الجمهور على ما ذهبوا إليه بعده أدلة، أظهرها اثنان: 
الأول: أن المتبادر إلى الفهم من أساليب العرب وعرفهم في استعمال عباراتهم؛ أن تقييد الحكم بوصف أو شرط، أو تحديده بغاية أو عدد، يدل على إثبات الحكم حيث يوجد القيد، وعلى نفيه حيث ينتفي. فمن قال: مطل الغنى ظلم، يفهم من قوله أن الفقير ليس كذلك، ومن قال: هبب ابنك ساعة إذا نجح، يفهم منه لا تهبه إذا لم ينجح.
ولهذا لما رأى عمر أنهم يقصرون الصلاة في السفر ولا خوف من فتنة الكفار لهم، تعجب من هذا وسأل الرسول: ما بالنا نقصر الصلاة في الأمن؟ فقال الرسول "صدقة تصدق الله بها عليم فاقبلوا صدقته"، ومنشأ هذا التعجب أن عمر فهم من قوله تعالى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ( [النساء: 101]، أنهم إن لم يخافوا الفتنه لا يقصرون، وهذا هو مفهوم المخالفة، والرسول في جوابه لم يخطئه في فهمه، وإنما دل على أن الله وسع عليهم ورخص لهم في حال الأمن أيضا.
والثاني: أن القيود التي ترد في النصوص، لابد أن تكون لحكمة، لأن الشارع لا يقيد بوصف أو شرط أو غاية أو عدد عبثا. وأظهر ما يتبادر إلى الفهم أن تكون هذه الحكمة تخصيص الحكم بما وجد فيه القيد. والتخصيص يقتضي نفي الحكم عما لم يوجد فيه القيد. ولا فرق في هذا بين النص الشرعي وغيره من عبارات الناس، إلا إذا دلت قرينة على أن الوصف أو الشرط أو الشرط أو غيرهما، ليس للقيد بل لغرض آخر مثل التفخيم أو المدح أو الذم أو الجري على الغالب، فلا يحتج بمفهوم المخالفة له.
واستدل الأصوليين من الحنفية على مذهبهم بعدة أدلة، أظهرها اثنان:
الأول: إنه ليس مطردا في الأساليب العربية أن تقييد الحكم بوصف أو شرط أو تحديد، بغاية أو عدد، يدل على إثبات الحكم حيث يوجد القيد وعلى نفيه حيث ينتفي. وكثيرا ما ترد العبارة مقيدة، ويتردد السامع في فهم حكم ما في انتفى فيه القيد، ويسأل المتكلم عنه ولا يستنكر عليه السؤال. فمن قال: إذا سألك صباحا فاقض حاجته، لا ينكر على سامعه إذا استفهم عمن سأله مساء. وإذا كانت الدلالة على نفي الحكم حيث ينتفي القيد غير مقطوع بها، فلا يكون النص الشرعي حجة عليه لأن النصوص الشرعية يجب الاحتياط في الاحتجاج بها، ولا تكون حجة بمجرد الاحتمال.
والثاني: أن كثيرا من النصوص الشرعية التي دلت على أحكام وقيدت بقيود، لم ينتف حكمها حيث انتفى القيد، بل ثبت حكم النص للواقعة التي فيها القيد، وللواقعة التي انتقى عنها. فالصلاة في السفر تقصر عن خاف المصلون فتنة الذين كفروا وإن لم يخافوا، مع أن النص شرط القصر بهذا الشرط: (إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ( [النساء: 101]. والربيبة تحرم على زوج أمها إذا كانت في حجره، وإذا لم تكن في حجره، مع أن النص قيد التحريم بهذا الوصف: )وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم( [النساء : 23]. فالاحتياط في فهم النص الشرعي يوجب أن لا يحتج به على نفي الحكم إذا انتفى القيد. وكثير من النصوص، بعد أن ذكرت الحكم المقيد، نصت على مفهوم المخالفة له، مثل قوله تعالى: )مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ( [النساء: 23]، وقوله: )وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ( [البقرة: 222]، وهذا دليل على أنه غير مفهوم قطعا من النص السابق، وإلا ما ذكره ثانيا.
ويظهر أثر هذا الخلاف في مثل قوله تعالى في توريث بنات المتوفي: )فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ( [النساء: 11]، مع قول الرسول لأخي سعد بن الربيع: "أعط ابنتي سعد الثلثين وزوجة الثمن وما بقى فهو لك"، فعلى مذهب الجمهور يوجد تعارض بين مفهوم المخالفة للآية، وهو أن الواحدة والاثنتين لا يرثن الثلثين، وبين منطوق هذا الحديث الذي ورث البنتين الثلثين، ويرجح المنطوق. وعلى مذهب الأصوليين من الحنفية لا تعارض، لأن الحديث بين حكم واقعة مسكوت عنها في آية توريث البنات.
وفي مثل قوله تعالى في قصر الصلاة في السفر: )إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ( [النساء: 101]. مع قصر الرسول الصلاة في السفر حال الآمن وعدم خوف فتنة الذين كفروا، فعلى مذهب الجمهور يوجد تعارض بين مفهوم المخالفة ومنطوق الحديث، وعلى مذهب الأصوليين من الحنفية لا تعارض.
والذي نستخلصه من المقارنة والمقابلة بين أدلة الطرفين: أن النص الشرعي حجة على مفهم المخالفة للوصف أو الشرط أو الغاية أو العدد، ولكن بعد البحث وإمعان النظر والتحقق من أن القيد الوارد في النص، إنما ورد للتخصيص والاحتراز به عما عداه، ولم يرد لحكمة أخرى، ولم يعارض هذا المفهوم بمنطوق نص آخر.
وأما إذا دلت القرينة على أن القيد ليس للتخصيص ولا للاحتراز، بل ورد جريا على الغالب مثل )وربائبكم اللاتي في حجوركم( [النساء: 23] أو لمجرد تفخيم الأمر مثل قول الرسول: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد فوق ثلاث إلا على زوج"، أو لآية حكمه أخرى يدل عليها سياق النص أو حكمه التشريع، فلا يكون النص حجة على مفهوم المخالفة فيه.
هذا الاحتياط كما تجب مراعاة في النصوص الشرعية، تجب مراعاة في نصوص القوانين الوضعية. ولهذا قررت محكمة النقض في 30 مايو سنة 1935 أن وسائل الإثبات الواردة في مادة (229) من القانون المدني ليست واردة على سبيل الحصر، فلا تكون حجة على أن ما عداها ليست وسيلة للإثبات. وعلى هذا إذا قدمت ورقة في قضية وتناولتها المرافعة بالجلسة، فهذا كاف في إثبات تاريخ الورقة المقدمة في الجلسة.
أمثلة لأنواع المفاهيم من النصوص الشرعية ونصوص القوانين الوضعية:
مفهوم الوصف:
قوله تعالى: (وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ) [النساء: 92].
والمادة 466 من القانون المدني تنص على أنه: "إذا باع شخص شيئا معينا بالذات وهو لا يملكه جاز للمشتري أن يطلب إبطال البيع".
مفهوم الشرط:
قوله تعالى: (فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً) [النساء: 4].
والمادة 486 من القانون المدني تنص على أنه: "إذا حكم المشتري إبطال البيع وكان يجهل أن المبيع غير مملوك للبائع، فله أن يطالب بتعويض ولو كان البائع حسن النية".
مفهوم العدد:
"يسقط الحق في إبطال العقد إذا لم يتمسك به صاحبه خلال ثلاث سنوات"، والمادة 76 من الدستور الملغي: "مدة عضوية النائب خمس سنوات".
مفهوم الغاية:
قوله تعالى: )فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ( [البقرة: 230] وفي كثير من القوانين هذا النص : يعمل بهذا القانون إلى أن يصدر ما يخالفه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق