الأربعاء، 23 مارس 2016

1 - المذكرة الإيضاحية للقانون المدني الكويتي - الجزء الأول




المذكرة الإيضاحية للقانون المدني    (الكويت)

أحكام عامة
يستند كل نظام قانوني بالضرورة إلى أحكام عامة يقوم عليها، وتسري كأصل عام في شأن فروع القانون دون تخصيص. ومثال ذلك، ما يتعلق بمصادر القانون وتطبيقه في الزمان، وثبوت الشخصية وانتهاؤها، والخصائص التي تتميز بها، وتقسيم الأشياء والأموال، واستعمال الحقوق. وغير ذلك مما لا يختلف في شأنه عادةً فرع من فروع القانون.
وإذ كان تقنين هذه الأحكام أمرًا جوهريًا لا غناء عنه، فقد جرت التشريعات المختلفة على أن تفرد لها مكانًا رحبًا في مدونة القانون المدني باعتبار أن هذا القانون هو الفرع الأصيل في دوحة القانون الخاص. بل في دوحة القانون بوجه عام.
ولم تعرض مجلة الأحكام العدلية – وهي أساس القانون المدني المطبق في الكويت – لمثل هذه الأحكام العامة. وهو نقص قد لا يكون له من الناحية العملية كبير أثر بالنسبة إلى بعض الأمور التي يمكن الوصول إلى الحكم فيها على هدي المبادئ العامة المستقرة أو يمكن استخلاصه من تشريع قائم. فلا يمكن مثلاً أن يثور خلاف في شأن أولوية التشريع في التطبيق بالنسبة إلى غيره من مصادر القانون، ولا كذلك في شأن مبدأ عدم رجعية القوانين هو منصوص عليه في الدستور ولا يمكن أيضًا أن يثور حول الاعتراف بالشخصية الاعتبارية بعد أن منحها المشرع بالفعل لبعض الكائنات من مؤسسات وشركات ونقابات وجمعيات، ولكن الأمر يختلف بالنسبة إلى مسائل أخرى يكون إغفال التقنين فيها أكثر خطورة وأبعد أثرًا، ومن ذلك عدم النص على حكم عام يحدد مصادر القانون وترتيبها، وعدم تنظيم الآثار المترتبة على تعاقب القوانين في الزمان، وعدم وضع قاعدة موحدة في حساب المواعيد، وعدم تحديد موطن الأشخاص ودرجات القرابة، وعدم الأخذ بتقسيم للأشياء والأموال يتفق والتطور القانوني الحديث، إلى غير ذلك من المسائل التي أفضى سكوت التشريع عن إيراد حكم عام فيها، إلى خلق كثير من الصعوبات.
وغني عن البيان أن ما ورد من قواعد فقهية في المقالة الثانية من مقدمة مجلة الأحكام العدلية لا يُعتبر من قبيل الأحكام العامة المشار إليها فيما تقدم، وإنما هي في أغلبها أصول فقهية مكانها الصحيح كتب الفقهاء أو المذكرات الإيضاحية وليس مدونات القانون، وهو ما حرص تقرير المجلة ذاته على التنبيه إليه.
لذلك عني المشروع بأن يورد في صدره أحكامًا عامة في القانون والحق واختص القانون بباب أول حدد فيه مصادره وأورد فيه الأحكام المتعلقة بإلغاء التشريع وتعاقب القوانين في الزمان محيلاً في تنظيم تنازعها في المكان إلى قانون خاص، ثم عرض في باب ثانٍ للأحكام العامة في الحق، فخص صاحبه بفصل أول تناول فيه الشخص الطبيعي وبدء شخصيته ونهايتها وخصائص هذه الشخصية، وتناول بعد ذلك الأشخاص الاعتبارية فحدد أهليتها وموطنها، وعرض في فصلٍ ثانٍ لمحل الحق وتقسيم الأشياء والأموال، وأخيرًا خصص فصلاً ثالثًا لاستعمال الحقوق وضوابط عدم المشروعية في هذا الاستعمال. 

الباب الأول: القانون
المواد (1 – 8):
 ترسم المادة الأولى بفقرتها الأولى نطاق سريان النصوص التشريعية فتقضي بسريان نصوص التشريع على جميع المسائل التي ينسحب عليها حكمه، سواء استخلص هذا الحكم من منطوق النص أو من مفهومه التي يتم الكشف عن حقيقته بطرق التفسير المختلفة.
وجدير بالذكر أن كلمة التشريع هنا تصدق على جميع أنواع التشريع سواء أكان تشريعًا دستوريًا أو تشريعًا صادرًا من السلطة التشريعية أو تشريعًا فرعيًا.
وتعرض الفقرة الثانية من هذه المادة لمصادر القانون الاحتياطية التي يتعين استقاء الحكم منها عند سكوت التشريع فتحيل القاضي أولاً إلى العرف باعتباره المصدر الذي يلي التشريع في المرتبة، ومن ثم يكون على القاضي أن يلجأ إلى العرف مباشرةً في حالة سكوت النص، وغني عن البيان أن العرف المعتبر هنا هو ذاك الذي لا يخالف النظام العام أو حسن الآداب، فالعادات التي تتنافى مع الأسس الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية التي تقوم عليها الجماعة لا ترقى أبدًا إلى مرتبة العرف وإن طال عليها الأمد، وفي بلد – كالكويت – يدين بالإسلام بنص الدستور، لا يمكن أن يُعتبر عرفًا كل ما يخالف أصلاً من أصول الإسلام أو حكمًا من أحكامه الأساسية الثابتة.
ومكانة العرف من حيث أنه يلي التشريع ترجع إلى كونه المصدر الشعبي الأصيل الذي يتصل اتصالاً مباشرًا بالجماعة ويُعتبر وسيلتها الفطرية لتنظيم تفاصيل المعاملات ومقومات المعايير التي يعجز التشريع عن تناولها بسبب تشعبها أو استعصائها على النص، ولذلك يظل هذا المصدر – إلى جانب التشريع – مصدرًا تكميليًا خصبًا يتناول المسائل التي تسري في شأنها قواعد القانون المدني وقانون التجارة وغيرهما من فروع القانون التي تقبل ذلك بطبيعتها.
ويتفق نص المشروع، في الإحالة أولاً إلى العرف، مع نص الفقرة (2) من المادة الأولى من التقنين المدني المصري ومثيلتها من التقنين المدني العراقي، أما التقنينات العربية الأخرى، فقد قدم بعض منها (كالتقنين السوري والتقنين الليبي والتقنين السوداني والتقنين الأردني) مبادئ الشريعة الإسلامية أو الفقه الإسلامي على العرف، وأسقط بعض آخر منها العرف من بين مصادر القانون: فالتقنين المدني الصومالي، يحيل القاضي إلى مبادئ الشريعة الإسلامية ثم إلى مبادئ العدالة الاجتماعية وقواعد العدالة (م 1 ف 2) بينما يقتصر المشروع المصري الليبي على الإحالة إلى أصول الشريعة الإسلامية وأحكامها دون غيرها من المصادر.
والواقع أن تقديم مبادئ الشريعة الإسلامية على العرف لا يتفق تمامًا مع منطق ترتيب مصادر القانون، لأن العرف من أهم المصادر التي توجب الشريعة والفقه الإسلامي اعتمادها، واعتماد مبادئ أو أصول الشريعة الإسلامية مؤداه اعتماد العرف الذي له في الشريعة اعتبار أساسي في بناء الأحكام، فالأصل في المعاملات هو ما تراضى عليه الناس أو جرى به العرف بينهم، إلا أن يتراضوا أو يتعارفوا على ما يخالف حكم الشرع، من تحليل حرام، أو تحريم حلال، وقد قرر القرآن الكريم والسنة النبوية هذا الأصل، فقال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم "، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في صحيحه: " أنتم أعلم بأمر دنياكم "، وقوله فيما رواه أحمد في مسنده: " ما كان من أمر دينكم فإليَّ، وما كان من أمر دنياكم فأنتم أعلم به "، ولذلك فقد اشتهر على ألسنة الشرعيين قولهم العرف في الشرع له اعتباره وقولهم: العرف شريعة محكمة ومن ثم يكون ذكر العرف بعد مبادئ الشريعة الإسلامية من قبيل التزيد، ما دام أن العرف يعتبر من أهم المصادر في الشريعة الغراء.
فإذا لم يجد القاضي في التشريع أو العرف حكمًا يمكن تطبيقه، فإن المشروع يطلق للقاضي حرية الاجتهاد، مهتديًا بأحكام الفقه الإسلامي الأكثر اتفاقًا مع واقع البلاد ومصالحها وفي ذلك يضع المشروع في اعتباره ما جاء بالمذكرة التفسيرية للدستور تعليقًا على المادة الثانية منه، وكذلك ما ورد في قرار مجلس الوزراء بشأن تنقيح التشريعات وتطويرها، من أن تكون التشريعات الموضوعة متفقة مع واقع الكويت وتقاليدها.
ولا محل للتخوف من دعوة القاضي إلى الاجتهاد، ففي الشروط التي يشترطها القانون فيمن يولى القضاء، وفي رقابة محكمة التمييز على عمل القضاة خير ضمان لسلامة الاجتهاد وحسن الاهتداء بأحكام الفقه الإسلامي فضلاً عن توحيد الرأي، ثم إن هذا الاهتداء ينضبط بما يأتي:
أولاً: عدم التقيد بمذهب معين من المذاهب ولا الوقوف عند أرجح الأقوال فيها.
وثانيًا: الأخذ بالأحكام الأكثر اتفاقًا مع واقع البلاد ومصالحها والتي تتسق مع الأحكام والمبادئ العامة التي يقوم عليها القانون الكويتي في جملته، فلا يجوز الأخذ بحكم في الفقه الإسلامي يتعارض مع مبدأ من هذه المبادئ، حتى لا يفقد النظام القانوني تجانسه وانسجامه. وفي الرخصة في الأخذ بمذاهب الفقه جميعًا ما يجعل تحقيق هذا التجانس أمرًا ميسورًا.
وغني عن البيان أن نص المشروع لا يمنع القاضي من الاهتداء – إلى جانب أحكام الفقه الإسلامي – بمبادئ القانون العامة، أو بالقواعد المقررة في معاهدات دولية أو تشريعات أخرى، أو أن يستلهم الرأي من الأحكام التي أقرها القضاء والفقه كويتيًا كان أو غير كويتي، ما دامت متفقة مع واقع البلاد ومصلحة الجماعة وتتغيا تحقيق العدالة.
هذا ولم يشأ المشروع – بعد ذلك – أن يجاري التقنين المصري وبعض التقنينات العربية الأخرى في إحالتها إلى مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة لما يؤخذ على هاتين العبارتين من غموض وإبهام، ولأن مثل هذه العبارات لا ترد القاضي إلى ضابط يقيني وإنما تقتصر – في الحقيقة – على إلزامه أن يجتهد رأيه لتقطع عليه سبيل النكول عن القضاء، وهو ما يسره المشروع للقاضي في أرحب نطاق.
 وتعرض المادة الثانية لإلغاء التشريع أو نسخه. والإلغاء هو تجريد القاعدة القانونية من قوتها الملزمة، وقد وجد الإلغاء في الشرائع المنزلة وسُمي نسخًا: قال تعالى في سورة البقرة: " ما ننسخ من آية أو ننسها نأتِ بخير منها أو مثلها " وعرفه ابن قيم الجوزية بأنه: " .. رفع الحكم الذي ثبت تكليفه للعباد إما بإسقاطه إلى غير بدل أو إلى بدل " فإذا جاز النسخ في الشرائع السماوية فإن جوازه أولى في شريعة من صنع البشر.
وإلغاء التشريع إنما يكون بتشريع آخر في مثل منزلته أو أسمى منه، فالتشريع الدستوري لا يعدله إلا تشريع دستوري، والتشريع العادي يلغيه تشريع دستوري أو تشريع عادي مثله، ولكن لا يلغيه تشريع فرعي كما لا يلغيه العرف وإن طال استقراره.
وإلغاء التشريع قد يتم بنص صريح يتضمنه تشريع لاحق، وهو ما نص عليه المشروع في صدر الفقرة الأولى من المادة الثانية. ويتحدد الإلغاء وفقًا للنص الذي يقرره: فقد يكون الإلغاء شاملاً وقد يكون جزئيًا، وقد يكون هذا الإلغاء إلى غير بدل يحل محل النص الملغى وقد يكون إلى بدل، وقد يأت إلغاء التشريع ضمنيًا، وهو ما يتحقق في صورتين:
الأولى: أن يصدر تشريع جديد يتضمن نصًا يتعارض مع نص في تشريع قديم، وفي هذه الحالة يقتصر الإلغاء على النص القديم في حدود ما يتحقق به التعارض.
والثانية: أن يصدر تشريع ينظم من جديد تنظيمًا كاملاً موضوعًا كان ينظمه تشريع سابق، وفي هذه الحالة يعتبر التشريع السابق منسوخًا جملةً وتفصيلاً، حتى ولو تضمن حكمًا لا يتعارض ونصوص التشريع الجديد.
 وتتناول المواد من (3 - 6) أحكام تنازع القوانين من حيث الزمان، فإذا ألغى قانون جديد قانونًا كان معمولاً به من قبل فإن تعاقب القوانين يثير التنازع بين ولاية القانون القديم والقانون الجديد. فولاية القانون القديم وإن زالت بزواله قد تظل برغم ذلك تلاحق بعض الأوضاع في ظل القانون الجديد، وولاية القانون اللاحق وإن تناولت ما يجد في المستقبل من وقائع قد تتناول ما تم من أوضاع قبل صدوره، وفي هذا الوضع يعرض أمر التنازع واضحًا.
وقد يتدخل المشرع لفض التنازع بين القانونين القديم والجديد، ولكن ذلك لا يغني عن وضع مبادئ عامة تطبق في حالة عدم تدخل المشرع أو في حالة عدم كفاية القواعد التي أصدرها، وإذا كان الدستور قد تكفل بوضع المبدأ الأساسي في ذلك فنص في المادة (179) منه على أن " لا تسري أحكام القوانين إلا على ما يقع من تاريخ العمل بها، ولا يترتب عليها أثر فيما وقع قبل هذا التاريخ، ويجوز في غير المواد الجزائية، النص في القانون على خلاف ذلك ... "، غير أن هذا النص يحتاج إلى تفصيل وهو ما تكفل به المشروع في مادته الثالثة، فضمنها الضوابط التي تحكم ذلك النوع من التنازع.
فنص أولاً، على أن القانون الجديد لا يسري إلا على ما يقع عليه من تاريخ العمل به، ما لم ينص فيه على سريانه على ما تقدمه من أوضاع.
ونص ثانيًا، على أن القانون المنسوخ يظل ساريًا على آثار التصرفات التي أُبرمت تحت سلطانه، إلا إذا كانت أحكام القانون الجديد متعلقة بالنظام العام فتسري بأثر فوري على ما يترتب من تلك الآثار بعد نفاذه.
وقد أورد المشروع بعد ذلك أهم الحلول العملية لمسائل التنازع فعرض للنصوص المتعلقة بالأهلية وبالتقادم ثم المتعلقة بأدلة الإثبات، وذلك كله على نحو يكفل استقرار الحقوق والمعاملات.
 ( أ ) النصوص المتعلقة بالأهلية - تقضي المادة الرابعة، في فقرتها الأولى، بأن النصوص المتعلقة بالأهلية تسري على جميع الأشخاص الذين تتناولهم أحكامها، ومؤدى ذلك أن القانون الجديد إذا رفع سن الرشد، فإنه يرد من كان يعتبر رشيدًا إلى حالة القصر إذا لم يكن قد بلغ السن المحددة فيه، وإذا خفض القانون الجديد السن، كان من شأنه أن يدخل في عداد الراشدين من كان يعتبر قاصرًا في ظل القانون القديم، ذلك أن تحديد الأهلية يراعى فيه حماية الشخص من تصرفاته الإرادية، وهي حماية تتعلق بالنظام العام.
ولكن تغير أهلية الشخص بمقتضى قانون جديد، لا يؤثر في تصرفاته السابقة، كما تنص عليه الفقرة الثانية من هذه المادة. فإذا عاد شخص إلى حالة القصر بعد أن كان رشيدًا في ظل التشريع القديم. فإن هذا لا يؤثر في صحة التصرفات التي صدرت منه تحت سلطان ذلك التشريع، وكذلك إذا أصبح القاصر رشيدًا، فإن التصرفات التي صدرت منه في ظل التشريع القديم تظل باطله أو قابله للإبطال ويجوز الطعن فيها بسبب نقص الأهلية متى كان الشخص ناقص الأهلية وقت إجرائها ذلك أن القانون الجديد لا يغير في أهلية الأشخاص إلا بالنسبة للمستقبل فحسب، ولا تأثير له على التصرفات التي أُبرمت قبل صدوره.
 (ب) النصوص المتعلقة بالتقادم - لما كان من مقتضى الأثر الفوري للقانون الجديد، أن تسري نصوصه فور العمل به على كل تقادم لم يكتمل فلم يرَ المشروع داعيًا للنص على هذه القاعدة العامة على النحو الذي جرت عليه بعض التقنيات العربية، ونص في المادة الخامسة منه، على أنه إذا أطال القانون الجديد مدة التقادم، سرت المدة الجديدة على كل تقادم لم يكتمل، مع الاعتداد بما انقضى من مدته، أما إذا قصر القانون الجديد مدة التقادم، فإنه طبقًا للفقرة الثانية من هذه المادة، تسري المدة التي ينص عليها القانون الجديد من وقت العمل به وذلك بالنسبة لكل تقادم لم يكتمل دون اعتداد بالمدة التي انقضت في ظل القانون القديم، غير أن المشروع رأى عدم إعمال هذا الحكم في الحالة التي يكون فيها الباقي من المدة القديمة أقصر من المدة التي تقررت في التشريع الجديد. كما لو كانت المدة القديمة عشر سنوات ولم يبق لاكتمالها سوى ثلاث سنوات ثم جعل التشريع الجديد المدة خمس سنوات، ففي هذه الحالة يعتد بالمدة القديمة وما سرى منها ويتم التقادم بانقضاء باقيها (ثلاث سنوات)، وتكون ولاية التشريع القديم قد امتدت بعد زواله تحقيقًا للعدالة لأنه بغير هذا الاستثناء تطول مدة التقادم على عكس ما أراد الشارع، وهو حل أثره المشروع، اقتداءً بالتقنين المدني المصري والتقنيات العربية الأخرى التي حذت حذوه.
وجلي بعد ذلك أن المسائل الخاصة ببدء التقادم ووقفه وانقطاعه، هي وقائع تخضع للقانون الساري وقت وقوعها طبقًا للقاعدة العامة المنصوص عليها في الفقرة الأولى من المادة الثالثة من المشروع وكذلك طبقًا لقاعدة عدم رجعية القوانين المنصوص عليها في الدستور.
 (ج) النصوص المتعلقة بأدلة الإثبات - وتعرض المادة السادسة من المشروع للقواعد التي تحكم قبول أدلة الإثبات وتعين حجيتها فتنص على أنه يسري في شأنها أحكام القانون القائم وقت حصول الوقائع أو التصرفات المراد إثباتها، فإذا كان الدليل الذي يجوز أن يحصل به الإثبات وقت نشوء الواقعة أو حصول التصرف هو البينة، جاز أثبات هذه الواقعة أو التصرف بالبينة ولو كان القانون المعمول به وقت النزاع يمنع الإثبات بها ويتطلب الكتابة.
وغني عن البيان أن النصوص المتعلقة بإجراءات الإثبات، تسري فور العمل بها على جميع الدعاوى القائمة لتعلقها بنظام التقاضي واتصالها على هذا الوجه بالنظام العام.
أما القواعد الخاصة بتعاقب القوانين فيما يتعلق بالتنظيم القضائي واختصاص المحاكم وإجراءات الترافع والأحكام، فلم يرَ المشروع أن يتعرض لها، تاركًا ذلك لمكانه المناسب في قانون المرافعات.
 وتحيل المادة السابعة من المشروع إلى قانون خاص، لبيان القانون الواجب التطبيق على المسائل التي تتضمن عنصرًا أجنبيًا، أو ما يسمى بتنازع القوانين من حيث المكان. فتنظيم التنازع بين قوانين الدول المختلفة يتكفل به فرع مستقل من فروع القانون، هو القانون الدولي الخاص. والقواعد التي يقررها في ذلك لا تنظم العلاقات القانونية، وإنما تقتصر على تعيين القانون الواجب التطبيق على هذه العلاقات إذا تضمنت عنصرًا أجنبيًا، ومن ثم يكون من الأفضل أن تقنن هذه القواعد في تشريع قائم بذاته، وهو مسلك اتبعه كثير من الدول ومنها دولة الكويت نفسها التي أصدرت لذلك القانون رقم (5) لسنة 1961 بتنظيم العلاقات القانونية ذات العنصر الأجنبي.
 وتتضمن المادة الثامنة من هذا الباب حكمًا عامًا يقضي بحساب المواعيد بالتقويـم الميلادي، وهو حكم يسري على جميع المواعيد والمدد المنصوص عليها في القانون المدني أو في غيره من التشريعات، ما لم يخرج عليه المشرع بنص صريح، إذا رأى في ذلك مصلحة يستقل هو بتقديرها.

الباب الثاني: الحق
لم يعن علماء الفقه الإسلامي ببيان أركان الحق ومصادره واستعماله، مكتفين ببيان أنواع المعاملات وفروعها ومسائلها. ولكن علماء أصول الفقه بحثوا ذلك عند الكلام عن " المحكوم فيه "، وإن عمموا كلامهم في ذلك على جميع الحقوق المالية وغير المالية ما كان منها من حق الله تعالى، وما كان منها من حق العبد، واهتداءً بهذه الأصول عني المشروع – في هذا الباب - ببيان الأحكام العامة في الحق، مقتصرًا في ذلك على الحقوق المالية التي تدخل وحدها رحاب القانون الخاص، ووزع هذه الأحكام على فصول ثلاثة خصصها على التوالي: لصاحب الحق ولمحل الحق ولاستعمال الحق.

الفصل الأول: صاحب الحق:
العنصر أو الركن الأول في الحق – هو صاحبه. فما من حق إلا وله صاحب – وصاحب الحق هو الشخص في معناه القانوني، أي الكائن الذي يصلح لاكتساب الحقوق وتحمل الالتزامات، سواء كان شخصًا طبيعيًا - وهو الإنسان – أو شخصًا اعتباريًا يعترف له القانون بالشخصية الاعتبارية، ولذلك يقسم المشروع هذا الفصل إلى قسمين يتناول في أولهما الشخص الطبيعي ويخصص الثاني للشخص الاعتباري.

1- الشخص الطبيعي:
المـواد (9 – 17):
وتحدد المادتان (9 و10) بدء الشخصية ونهايتها، وطبقًا لأولاهما تبدأ الشخصية الطبيعية للإنسان بتمام ولادته حيًا.
فقبل أن تتم الولادة لا تبدأ الشخصية، وإذا تمت الولادة ولكن الجنين ولد ميتًا، فلا تقوم الشخصية كذلك. وهو حكم بُني على ما رآه الحنابلة والمالكية والشافعية، في بيان الحياة التي يثبت بها الميراث للمولود وأخذت به التقنينات العربية وفي مقدمتها القانون المصري (المادة 29 مدني وقانون الميراث رقم (77) لسنة 1943 وقانون الوصية رقم 71 لسنة 1946). وتنتهي الشخصية الطبيعية بالموت، سواء كان الموت حقيقيًا أو حكميًا، وغني عن البيان أن إثبات الولادة والوفاة، يرجع فيه إلى القانون الخاص بذلك، فقيد المواليد والوفيات ينظمه القانون رقم (36) لسنة 1969، كما أن قانون الأحوال الشخصية هو الذي يحدد أدلة الإثبات وقوتها في حالة عدم وجود شهادة ميلاد أو شهادة وفاة، وما بين الولادة والوفاة يوجد الشخص الطبيعي ويتمتع بأهلية الوجوب، أي القابلية لأن تكون له حقوق وأن تترتب في ذمته التزامات.
وإذا كانت الشخصية الطبيعية لا تبدأ إلا بتمام الولادة، فإن مقتضى ذلك ألا يكون للحمل شخصية، إذ يعتبر وهو موجود في بطن أمه جزءًا منها يتحرك بحركتها ويقر بقرارها.
ولكنه إلى جانب ذلك جزء يوشك أن ينفصل انفصالاً كاملاً مستقلاً بحياته. ولذلك نرى فقهاء الشريعة مجمعين على الاحتفاظ له ببعض الحقوق، وهي التي يكون فيها نفع له ولا تحتاج في وجودها وصحتها وثبوتها إلى القبول، مثل ثبوت نسبه من أبيه، وإرثه من مورثه، واستحقاقه ما أُوصي له به. وكذلك استحقاقه من غلة الوقف الذي يكون من بين مستحقيه فإذا ما ولد حيًا، ثبتت له هذه الحقوق، وإن ولد ميتًا لم تثبت له، أما غير ذلك من الحقوق التي فيها نفع له ولكنها تحتاج إلى قبول، كالهبة، فلا تثبت له، وكذلك لا تجب على الجنين حقوق قِبل غيره، لأن وجوب الحق على الشخص يكون بفعله أو بالتزام يلتزمه بعبارته أو بعبارة من له الولاية أو الوصاية عليه وهو غير متحقق في الجنين، إذ لا يتصور أن يصدر منه فعل أو عبارة وليس له ولي أو وصي حتى ينوب عنه في إنشاء الحقوق والالتزام بها فالأصل عند الحنفية ألا تبدأ الولاية على الإنسان إلا من وقت ولادته حيًا، ولم يرد عن فقهائهم نصوص صريحة تتعلق بصحة إقامة وصي على الحمل قبل انفصاله سوى استظهارات لبعض المتأخرين منهم، وقد كان هذا الموضوع محل خلاف في مصر، إلى أن صدر المرسوم بقانون رقم (119) لسنة 1952 – فنص في المادة (28) على أنه يجوز للأب أن يقيم وصيًا مختارًا لولده القاصر أو للحمل المستكن، وفي المادة (29) على أنه إذا لم يكن للقاصر أو للحمل المستكن وصي مختار تعين المحكمة وصيًا، ويبقى وصي الحمل المستكن وصيًا على المولود ما لم تعين المحكمة غيره. وفي الكويت، ردد المشرع في المادتين (37 و38) من قانون التسجيل العقاري ثم في المادة العاشرة من قانون إدارة شؤون القصر رقم (4) لسنة 1974 نص المادتين (28، 29) من قانون الولاية على المال المصري، كما عهد لإدارة شؤون القصر بالوصاية على الحمل المستكن إذا لم يكن له وصي مختار ولم تعين المحكمة وصيًا آخر، وما دام القانون قد أجاز تعيين وصي على الحمل المستكن، وهو احتياط حسن يدعو إليه افتراض ولادة الحمل حيًا، فإن امتناع الهبة لمصلحة الجنين لم يعد له مبرر، إذ يمكن للولي أو للوصي أن يقبل الهبة عنه وهو حكم ورد في فقه المالكية وأخذ به التقنين اللبناني للموجبات والعقود بنصه في المادة (518) على أن الهبات التي تمنح للأجنة في الأرحام يجوز أن يقبلها الأشخاص الذين يمثلونهم.
ولهذه الاعتبارات جميعها فإن المشروع بعد أن نص في الفقرة الأولى من المادة العاشرة على القاعدة العامة التي تقتضي بأن الحمل أهل لثبوت الحقوق التي لا يحتاج سبب إنشائها إلى قبول وذلك بشرط تمام ولادته حيًا، عاد في الفقرة الثانية من هذه المادة وأجاز الهبة له إذا كانت خالصة من العوض كما حمله بالالتزامات التي تقتضيها إدارة ماله، وغني عن البيان أن سلطات القيم على الحمل لا تستقر له بصفة نهائية إلا بتمام ولادته حيًا، فإن ولد ميتًا اعتبر كأن لم يكن موجودًا وآل ما كان قد حُجز له من حقوق إلى من كان يستحقها أصلاً.
وإذا كانت شخصية الإنسان تنتهي بموته موتًا حقيقيًا، فإنها قد تنتهي أيضًا باعتباره ميتًا حكمًا وهو أمر يلحق بالإنسان في حالة فقده، وقد آثر المشروع عدم التعرض لأحكام المفقود تاركًا إياها لقانون الأحوال الشخصية.
وعالج المشروع موطن الشخص الطبيعي في المواد (من 11 إلى 14) فصور في المادة (11) منه موطن الشخص تصويرًا واقعيًا يستجيب للحاجات العملية، مستهديًا في ذلك بأحكام الفقه الإسلامي كما فعل التقنين المصري والتقنينات العربية الأخرى التي حذت حذوه. فحدد موطن الشخص بالمكان الذي يقيم فيه على نحو معتاد. وهو ما يترتب عليه حتمًا نتيجتان – الأولى: أنه يجوز ألا يكون للشخص موطن ما، إذا كان ممن لا يقيمون في مكان معين بصفة مستقرة، كالبدو الرحل الذين لا يقر لهم على أرض قرار، والثانية: أنه يجوز أن يكون للشخص الواحد أكثر من موطن، كما إذا كانت للشخص زوجتان يقيم مع كل منهما في مكان على استقلال.
وإذا كانت القاعدة هي أن الموطن العام للشخص يتحدد بالمكان الذي يقيم فيه على نحو معتاد، إلا أنه يجوز أن يحدد القانون موطنًا خاصًا للشخص على أساس آخر، ومن هذا القبيل موطن الأعمال والموطن الحكمي الموطن المختار.
ففي المادة (12) اعتبر المشروع المكان الذي يباشر فيه الشخص تجارة أو حرفة، موطنًا له بالنسبة إلى كل ما يتعلق بهذه التجارة أو الحرفة من أعمال، وفي المادة (13) حدد لعديمي الأهلية وناقصيها موطنًا حكميًا، هو موطن من ينوب عنهم قانونًا، مجيزًا أن يكون لناقص الأهلية موطن خاص بالنسبة إلى التصرفات التي يعتبره القانون أهلاً لأدائها، كالقاصر إذا بلغ الثماني عشرة وأذن له في إدارة أمواله، وغني عن البيان أن الموطن الحكمي أو القانوني لا يكون إلا في الأحوال التي يحددها القانون، وأجاز المشروعفي المادة (14) – اتخاذ موطن مختار لعمل قانوني معين وذلك من باب التيسير على الأفراد في معاملاتهم وخصوماتهم، ولكن القانون قد يوجب أيضًا في بعض الأحيان اتخاذ موطن مختار في مكان معين ومن ذلك ما نصت عليه المادة (175) من قانون المرافعات من وجوب أن يعين طالب أمر الأداء في عريضة طلب الأمر موطنًا مختارًا له في الكويت، ويعتد بالموطن المختار بالنسبة إلى كل ما يتعلق بالعمل القانوني الذي اختير له، ما لم يشترط صراحةً قصر هذا الموطن على أعمال دون أخرى، ولكنه يجب لإثبات الموطن المختار أن يكون اختياره واردًا في ورقة مكتوبة.
وتعرض المواد (من 15 إلى 17) لحالة الشخص العائلية، فتحدد المادة (15) المقصود من الأسرة التي يرتبط بها الشخص سواء بالزواج أو القرابة، كما تحدد ذوي القربى بكل من يجمعهم بالشخص أصل مشترك.
وتقسم المادة (16) القرابة إلى قرابة مباشرة تربط بين الأصول والفروع، وقرابة حواشي تربط بين الشخص وبين كل من يجمعه به أصل مشترك دون أن يكون أحدهم فرعًا للآخر.
وأخيرًا تحدد المادة (17) درجة القرابة المباشرة ودرجة قرابة الحواشي، كما تحدد درجة المصاهرة بدرجة القرابة للزوج.
هذا ولم يشأ المشروع أن يعرض لحالة الشخص من حيث انتمائه إلى الدولة تاركًا أمر ذلك للقانون الخاص بالجنسية (انظر المرسوم الأميري رقم 15 لسنة 1959 بقانون الجنسية الكويتي).

2 -
الشخص الاعتباري:
المواد (18 – 21):
يقرر المشروع الشخصية الاعتبارية لكل مجموعة من الأشخاص أو الأموال يعترف لها القانون بهذه الشخصية (المادة 18)، وبذلك فإنه يجب لنشوء الشخص الاعتباري توافر عنصرين، عنصر موضوعي، هو وجود جماعة من الأشخاص أو مجموعة من الأموال بقصد تحقيق غرض معين، وعنصر شكلي، هو اعتراف القانون لهذه المجموعة بالشخصية الاعتبارية وفقًا للشروط والأوضاع التي يحددها.
ولم يضع المشروع بيانًا بالأشخاص الاعتبارية – كما فعلت التقنينات العربية الأخرىلاعتبارات منطقية وعملية.
فالدولة، وهي أولى الأشخاص الاعتبارية التي تذكرها هذه القوانين، تستمد شخصيتها من طبيعة وجودها ومن العرف والتقاليد ومن ثم يكون من غير المنطقي أن ينص القانون على الاعتراف بالشخصية لها، أما الكائنات الأخرى العامة والخاصة فذات حياة مشتقة من النظام القانوني وتابعة له، تنشأ وتتبدل وتتكاثر تبعًا لتطور أهدافه وتبدل الظروف والأحوال، مما يستقل المشرع بتقديره.
وقد وردت في الدستور إشارات متفرقة إلى بعض من هذه الكائنات كالجمعيات والنقابات والمؤسسات العامة وهيئات الإدارة والبلدية أو الأشخاص المعنوية المحلية العامة (المواد 43 و133 و137 و156). وورد النص في القوانين المتعلقة بالشركات التجارية والجمعيات التعاونية والأندية وجمعيات النفع العام (القوانين 15 لسنة 1960 و20 لسنة 1962 و24 لسنة 1962 على التوالي) على تمتعها بالشخصية الاعتبارية، كما اعترفت قوانين أخرى متعددة بهذه الشخصية لبعض من المؤسسات والهيئات العامة، كالصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية، والهيئة العامة لمنطقة الشعيبة الصناعية، ومؤسسة الخطوط الجوية الكويتية، وبنك التسليف والادخار والهيئة العامة للجنوب والخليج العربي والبنك الكويتي المركزي.
ولذلك فإن المشروع يكتفي ببيان الخصائص الرئيسية للأشخاص الاعتبارية تاركًا تحديد الحقوق التي تتمتع بها هذه الأشخاص وتنظيم الأحكام المتعلقة بها ومدى الرقابة عليها لتقدير المشرع.
ونص المشروع في المادة (19) على أن أهلية الشخص الاعتباري فيما يثبت له من حقوق وما يتحمل به من التزامات – أي أهلية الوجوب – تتحدد بالغرض الذي أنشئ الشخص من أجله، كما تتحدد بما يعينه له القانون من مجال عمل لا يجوز له تجاوزه، فضلاً عما يرسمه له سند إنشائه أو النظام الخاص به من حدود، وغني عن البيان أن تكون للشخص الاعتباري أهلية أداء كنتيجة لازمة لكونه أهلاً للوجوب، فيستطيع أن يقوم - بواسطة ممثله – بأداء التصرفات القانونية في الحدود التي هو أهل لها، بما يستتبعه ذلك من حقه في التقاضي.
ويستقل موطن الشخص الاعتباري عن موطن أعضائه، ويتحدد أصلاً بالمكان الذي يوجد فيه مركز إدارته (المادة 20 فقرة أولى). فإذا كان له فروع في أماكن متعددة، فإن المكان الذي يوجد فيه كل فرع يعتبر موطنًا خاصًا بالنسبة إلى ما يدخل في نشاط هذا الفرع (المادة 20 فقرة ثانية) وذلك تيسيرًا على المتعاملين معه ورفعًا للعنت عنهم.
وأخيرًا تعرض المادة (21) لحالة الشخص الاعتباري الأجنبي الذي يباشر نشاطه في الكويت ويكون مركزه الرئيسي في الخارج. فنصت على اعتبار المكان الذي توجد فيه إدارته المحلية موطنًا له بالنسبة لنشاطه الذي يباشره في داخل الدولة، وذلك حماية لمصالح المتعاملين معه من المقيمين في البلاد.

الفصل الثاني: محل الحق
:
المواد (22 - 29):
يبدأ هذا الفصل ببيان محل الحق بوجه عام. ثم يتابع بعد ذلك التقسيمات المختلفة للأشياء المادية. أما الأشياء غير المادية وما يرد عليها من حقوق فسوف يفرد لها قانون خاص.
وتنص المادة (22) من المشروع على أن الأشياء المتقومة هي وحدها التي تصلح محلاً للحقوق المادية. والأشياء المتقومة هي الأشياء التي لا تخرج عن التعامل بطبيعتها أو بحكم القانون.
فلا تكون محلاً للحق الأشياء التي لا يستطيع أحد أن يستأثر بحيازتها كالشمس والهواء، أو تلك لا يجيز القانون التعامل فيها كالخمر والخنزير والحشيش والأفيون، وكذلك الأشياء العامة، ولا يغير من هذا الوصف لتلك الأشياء إجازة نوع معين من التعامل فيها كبيع الأفيون لأغراض طبية وإعطاء رخص للانتفاع ببعض الأشياء العامة.
فالأشياء العامة باعتبارها من الأشياء التي تخرج عن التعامل بحكم القانون، لا يجوز أن تكون محلاً للحقوق المالية، وينص الدستور على أن لها " حرمة وحمايتها واجب على كل مواطن " (م 17).
وقد اعتبرت المادة (23) من المشروع الأشياء المملوكة للدول أو أي شخص اعتباري عام أشياء عامة إذا كانت مخصصة للنفع العام بالفعل أو بمقتضى القانون، ثم رتبت على اعتبارها كذلك ثلاث نتائج:
الأولى: عدم جواز التعامل في تلك الأشياء بما يتعارض مع تخصيصها للنفع العام.
الثانية: عدم جواز الحجز عليها، لأن الحجز بما يستتبعه مع بيع إجباري يتعارض مع ذلك التخصيص.
الثالثة: عدم جواز وضع اليد على هذه الأشياء بما يقتضيه ذلك من عدم جواز كسب أي حق عليها بمرور الزمان.
ومن ذلك يتضح أن المشروع أخذ في تحديد الأشياء العامة، بمعيار التخصيص للنفع العام وهو المعيار الذي تأخذ به غالبية التشريعات ويقره الرأي الراجح في الفقه والقضاء، كما يعتبر المشروع حق الدولة على الأشياء العامة حق ملكية، وهو ما يؤيده نص الدستور في المادة (21) على أن " الثروات الطبيعية جميعها و مواردها ملك الدولة "، ويُجرى عليه العمل حاليًا بشأن العقارات المستملكة فيتم تسجيلها في إدارة التسجيل العقاري باسم الدولة.
وينتهي التخصيص للنفع العام أيضًا بالفعل أو بمقتضى القانون وهو ما تنص عليه الفقرة الثانية من المادة (23)، وبانتهاء التخصيص تصبح الأشياء العامة مملوكة ملكية خاصة للدولة بما يترتب على ذلك من أحكام.
ويعرض المشروع بعد ذلك لتقسيم الأشياء التي يصح أن تكون محلاً للحقوق العينية فيقسمها إلى عقار ومنقول ومثلية وقيمية ثم إلى استهلاكية وغير استهلاكية.
وتعرف الفقرة الأولى من المادة (24) العقار بأنه كل شيء مستقر بحيزه ثابت فيه لا يمكن نقله منه دون تلف أو تغيير في هيئته وفي ذلك يتفق المشروع من الفقه المالكي في تحديد العقار فيدخل فيه الأرض والبناء، وكذلك الشجر لأنه لا يمكن نقله مع الاحتفاظ بصورته التي كان عليها، أما المجلة فتعرف العقار بأنه ما لا يمكن نقله من محل إلى آخر كالدور والأراضي (م 129)، كما يعرفه مرشد الحيران بأنه كل ما له أصل ثابت لا يمكن نقله وتحويله (م 2).
وأخذ المشروع في الفقرة الثانية من المادة (24) بنظرية استقرت في الفقه باسم نظرية المنقول بحسب المآل، وهي نظرية لا يوجد بشأنها في التقنينات الأخرى نص عام، وإن وردت لها بعض التطبيقات في نصوص متفرقة من تلك التقنينات تتعلق بالمحصول الزراعي - وهو عقار طبيعته - فتعتبره منقولاً حكمًا في بعض الأحوال لأن مآله الحتمي أن ينفصل عن الأرض ومن ثم يكون منقولاً بحسب المال (انظر على سبيل المثال المواد 1142 فقرة 1، 1143 فقرة 1 مدني مصري و499 مرافعات مصري، وما يقابلها في التقنينات العربية الأخرى).
على أن نظرية المنقول بحسب المآل لا يقتصر تطبيقها على المحصولات فحسب بل تتسع لتتناول كل ما هو معد للانفصال عن أصله، ومن ثم حرص المشروع على أن يستحدث حكمًا عامًا في شأنها فنص على اعتبار الشيء منقولاً إذا كان انفصاله عن أصله وشيك الحصول، ونظر إليه استقلالاً على هذا الاعتبار، ومن ثم يجب أن يتوافر شرطان لإمكان اعتبار العقار بطبيعته منقولاً بحسب المآل، الأول: أن يكون العقار معدًا بالفعل للانفصال عن أصله في مستقبل قريب، وأن يكون مصيره المحتوم هو هذا الانفصال، وهو ما قد يستخلص من طبيعة الأشياء كما في المحصول والثمار، أو من الإعداد الفعلي من جانب مالك العقار كصاحب الأشجار إذا أعدها للقطع وباعها خشبًا، وصاحب البناء إذا أعده للهدم وباعه أنقاضًا، والثاني: أن يكون التعامل قد جرى لا على أساس حقيقة العقار في الحال، بل على أساس ما يصير إليه في المآل، فإذا باع صاحب الثمار أو البناء ثماره أو بناءه لمشترٍ، وجب أن يكون كل منهما قد نظر في هذا التعامل إلى الثمار أو البناء لا على أنه قائم على الشجر أو على أنه متصل بالأرض، بل على أنه قد تم قطفه أو هدمه فأصبح منقولاً، فهما يتبايعان في منقول لا في عقار.
وإذا كان المشروع قد ناقض في الحالة السابقة طبيعة الأشياء، واعتبر العقار بطبيعته منقولاً بحسب المآل، فإنه يناقضها أيضًا في حالة أخرى عكسية ويعتبر المنقول بطبيعته عقارًا بالتخصيص في بعض الأحوال فينص في المادة (25) على أنه " يعتبر عقارًا بالتخصيص المنقول الذي يضعه صاحبه في عقار يملكه رصدًا على خدمته واستغلاله ". دون أن يشترط في تخصيص المنقول لخدمة العقار أو استغلاله أن يكون التخصيص ضروريًا، وفكرة العقار بالتخصيص منقولة أصلاً عن القانون المدني الفرنسي (م 524 و525)، ويأخذ بها جميع القوانين العربية. وهي تطبيق لفكرة أعم هي فكرة التبعية المتمثلة في قاعدة " الفرع يتبع الأصل " ولذا نجد بعض التقنينات الأوربية يستغني عنها اكتفاءً بفكرة التبعية، وهي ذات الفكرة التي أخذ بها الفقه الإسلامي وفي ذلك تنص المجلة على أن التابع تابع ... (م 47) وعلى أن التابع لا يفرد بالحكم (م 48) وعلى أن من ملك شيئًا ملك ما هو من ضروراته ... (م 49)، كما تنص على أن كل ما جرى عرف البلدة على أنه من مشتملات البيع يدخـل في البيـع من غـير ذكـر ... (م 230) وعلى أن ما كان في حكم جزء من المبيع أي ما لا يقبل الانفكاك عن المبيع نظرًا إلى غرض الاشتراء يدخل في البيع بدون ذكر ... (م 231)، وعلى أن توابع المبيع المتصلة المستقرة تدخل في البيع تبعًا بدون ذكر ... (م 232). ومع هذا فقد رأى المشروع أن يأخذ بفكرة العقار بالتخصيص، لأنها وإن كانت تطبيقًا لفكرة أعم، إلا أنها أكثر تحديدًا ووضوحًا، كما أنها أصبحت مستقرة في التشريعات الكويتية (انظر على سبيل المثال المادة 9 من قانون التأمينات العينية).
وتعالج المادة (26) تقسيم الحقوق. والحقوق بحسب الأصل أشياء معنوية لا تقبل أن تكون عقارًا أو منقولاً ولكن المشروع تبعًا للتقاليد القانونية يقسم الحقوق إلى عقار ومنقول، تبعًا لطبيعة المحل الذي تقع عليه، فيعتبر الحقوق العينية التي تقع على العقار عقارًا، سواء كانت من الحقوق العينية الأصلية أو التبعية، وسواء كانت واقـعة على عقار بطبيعته أو على عقار بالتخصيص.
ولم يجارِ المشروع التقنين المصري والتقنينات التي حذت حذوه (المادة 83 مصري وما يقابلها)، في اعتبارها كل دعوى تتعلق بحق عيني على عقار مالاً عقاريًا لأن الدعوى ليست مالاً وإنما هي وسيلة لحماية الحق عن طريق القضاء. كما لم يعرف المنقول تعريفًا مباشرًا كما فعلت بعض التقنينات العربية ومنها التقنين العراقي الذي يعرف المنقول بأنه " كل شيء يمكن نقله وتحويله دون تلف فيشمل النقود والعروض والحيوانات "، بل اقتصر على أن يقرر في المادة (27) أن " كل ما ليس عقارًا فهو منقول "، وفي ذلك كل الغناء.
وفي تحديد المقصود بالأشياء المثلية والقيمية، نقل المشروع في المادة (28) منه نص المادة (56) من القانون الأردني التي تتفق مع الفقه الإسلامي في تعريفه لهذه الأشياء (قارن المواد 145 - 148 و1119 من المجلة)، وهو تعريف أدق مما جاء في المادة (85) من التقنين المدني المصري التي تنص على أن " الأشياء المثلية هي التي يقوم بعضها مقام بعض عند الوفاء ... " لأن هذا القيام يعتبر نتيجة لكونها مثلية لا تعريفًا لها.
وأخيرًا يعرف المشروع في المادة (29) الأشياء الاستهلاكية بأنها ما لا يتحقق الانتفاع به إلا باستهلاكه أو إنفاقه، معتبرًا كل ما أعد في المتاجر للبيع من الأشياء الاستهلاكية.

الفصل الثالث: استعمال الحق:
المادة (30):
الأصل أن استعمال الحق من جانب صاحبه يعتبر فعلاً مشروعًا ما دام يلتزم فيه مضمون الحق وحدوده كما رسمها القانون. ومن هنا كان السائد زمنًا طويلاً أن صاحب الحق يتمتع بحرية مطلقة في استعمال حقه ولا يكون مسؤولاً عما يصيب الغير من جراء استعماله ولكن غالبية التشريعات الحديثة تقيد من هذه الحرية وتضع على استعمال الحقوق رقابة تكفل مشروعيته، فتُضفي حماية القانون على استعمال المشروع وحده، وتمنعها من الاستعمال الذي ينحرف به صاحب الحق عن طريقه الطبيعي بل وتساؤله عما يسبب للغير من ضرر، أو تمنعه أصلاً من المضي في هذا الاستعمال.
والفكرة قديمة تمتد جذورها إلى الشرائع السالفة، عرفها القانون الروماني في صورتها البدائية البسيطة فأثَّم استعمال الحق إذا قُصد به الإضرار بالغير. وكذلك عرفها الفقه الإسلامي، ولكن دون أن يحصرها في هذه الصورة البسيطة. بل توسع فيها وصاغها نظرية عامة تضارع في دقتها وأحكامها أحدث ما وصلت إليه الشرائع الحديثة وأسفرت عنه مذاهـب المحدثين من فقهاء الغرب. وقننت مجلة الأحكام العدلية هذا الفقه وأوردت له كثيرًا من التطبيقات، فلما تقرر العمل بها في الكويت، انتقلت نظرية التعسف بكل أبعادها إلى القانون الكويتي وذلك قبل إن يتقرر الأخذ بها في كثير من البلاد، فلا غرو إذن أن يتضمن قانون المرافعات الصادر في سنة 1960 تطبيقًا لهذه النظرية، في حالة رفع الدعوى أو الدفاع بقصد الإضرار بالغير (المادة 208)، وأن ينص الدستور بعد ذلك على أن الملكية حق من حقوق الفردية ذات الوظيفة الاجتماعية، ويقصد بذلك - كما جاء في المذكرة التفسيرية - تنظيم وظيفة الملكية بما فيه صالح الجماعة بهدف منع الإضرار بمصلحة المجموع أو إساءة استعمال الحق. فحيث يتعارض حق الملكية مع مصلحة عامة، قُدمت المصلحة العامة. فيما ينبغي أن تقف الملكية حجر عثرة في سبيل تحقيق المصلحة العامة، ولا يدخل هذا في وظيفتها الاجتماعية. وحيث يتعارض حق المالك مع مصلحة خاصة هي أولى بالرعاية من حق المالك فإن هذه المصلحة الخاصة هي التي تقدم، فما ينبغي استعمال حق الملكية فيما يضر بالغير ضررًا غير مشروع ولا يدخل هذا في وظيفتها الاجتماعية.
على أنه إذا كان الأخذ بنظرية عامة للتعسف قد أصبح مبدأ مستقرًا في كثير من التشريعات الحديث إلا أن هذه التشريعات تختلف فيما بينها عند تحديد المعيار الذي يقاس به التعسف فيكتفي بعضها بوضع مبدأ عام دون تحديد لصور التعسف، ومن ذلك معيار الهدف أو الغرض الذي منح الحق من أجله. ويفضل بعضها الآخر تحديد صور التعسف بغير إبراز للمبدأ العام الذي يحكمها، كما فعل المشرع المصري وغالبية القوانين العربية التي نحت نحوه، وإذا كانت الطريقة الأولى بتجردها ومرونتها أكثر مناسبة للعمل التشريعي حتى لا ينحصر معيار التعسف في صور محددة لا يلبث أن يظهر تقدم الزمان وتغير الأوضاع قصورها عن ملاحقة التطور، إلا أنه يعيبها في الوقت ذاته صعوبة تحديد الهدف أو الغرض من كل حق من الحقوق، ولذلك رأى المشروع أن يجمع بين الطريقتين، فيورد المبدأ العام الذي يحكم معيار التعسف، ثم يورد بعده التطبيقات الرئيسية للمبدأ.
وقد عُني المشروع بوضع المبدأ العام متحاميًا – كما فعل القانون المصري – اصطلاح التعسف لسعته وإبهامه، ودمغ استعمال الحق بعدم المشروعية إذا انحرف به صاحب الحق عن الغرض منه أو عن وظيفته الاجتماعية، وتحديد معيار عدم المشروعية بالانحراف عن غاية الحق أو الغرض منه يحظى بتأييد كبير في التشريع والفقه الحديث، أما الوظيفة الاجتماعية للحقوق فهي مكرسة في الدستور.
وفي تعديد التطبيقات الرئيسية لعدم المشروعية، حرص المشروع على أن تكون هذه التطبيقات مستمدة من الفقه الإسلامي بوجه خاص. وأول هذه التطبيقات، عدم مشروعية المصلحة التي تترتب على استعمال الحق، وهو تطبيق يقوم على ضرورة موافقة استعمال الحق لغايته أو الغرض منه، وإلا كان استعمالاً منحرفًا، وفي ذلك فإن المصلحة لا تكون غير مشروعة إذا كان تحقيقها مخالفًا لحكم من أحكام القانون فحسب، بل إنها تكون غير مشروعة أيضًا إذا كان تحقيقها يتعارض مع النظام العام أو الآداب. والتطبيق الثاني، هو استعمال الحق بقصد الإضرار بالغير، وهو تطبيق استقر عليه الفقه الإسلامي وأخذ به التقنين الألماني (المادة 226)، ونقلته عنه غالبية التقنينات الحديثة. والجوهري في شأنه هو توافر قصد الإضرار ولو أفضى استعمال الحق إلى تحصيل منفعة لصاحبه، وكما يُستخلص هذا القصد من تفاهة المصلحة التي تعود على صاحب الحق، فإنه يستخلص بالأولى من انتفاء كل مصلحة من استعمال الحق. والتطبيق الثالث، هو انعدام التناسب بين مصلحة صاحب الحق وبين الضرر الذي يصيب الغير، وهو ما يُتخذ قرينة على توافر قصد الإضرار بالغير. والتطبيق الأخير، هو استعمال الحق استعمالاً من شأنه أن يلحق بالغير ضررًا فاحشًا غير مألوف، وهو تطبيق يخصه الفقه الإسلامي بكيان مستقل ويوليه كثيرًا من الاهتمام – وقد قننته المجلة في المادة (1198) بقولها " كل أحد له التعلي على حائط الملك وبناءً ما يريد وليس لجاره منعه ما لم يكن ضرره فاحشًا " وعرفت الضرر الفاحش في المادة التالية بأنه " كل ما يمنع الحوائج الأصلية يعني المنفعة الأصلية المقصودة من البناء كالسكنى أو يضر بالبناء أي يجلب له وهنًا ويكون سبب انهدامه " ثم عقبت على ذلك بتطبيقات مختلفة في المواد (من 1200 إلى 1212). وإذا كان هذا التطبيق قد حذف من نص المادة الخامسة من القانون المصري بعد أن كان واردًا في مشروعه التمهيدي، غير أن هذا الحذف لم يكن عدولاً عن اعتباره تطبيقًا للتعسف وإنما اكتفاء بتطبيقه الخاص الوارد في باب الملكية وهو تطبيقه الرئيسي.
يبقى بعد ذلك أن يجتهد القاضي رأيه فيما يعرض عليه من مسائل لا تندرج تحت واحد من هذه التطبيقات، وذلك بإعمال المبدأ العام الذي وضعه المشروع، مهتديًا بأحكام الفقه الإسلامي ومتأسيًا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم " لا ضرر ولا ضرار ".
وعلى هذا النحو مكن المشروع لنظرية التعسف بين أحكامه العامة، باعتبارها فكرة ملازمة لفكرة الحق ومكملة لها، تستهدف تحقيق مصلحة الجماعة، وتجاوز في دورها وجزائها دور المسؤولية وجزائها التعويضي مما يجعل للقضاء رقابة مبتدأة على استعمال الحقوق إلى جانب رقابته اللاحقة على هذا الاستعمال.

القسم الأول: الحقوق الشخصية أو الالتزامات:
تنقسم الحقوق المالية، بصفة أساسية، إلى حقوق عينية وحقوق شخصية. وهو تقسيم تقليدي قال به الرومان، ولا زال القانون المعاصر في مجموعه يسير عليه إلى الآن، وإن كان قد اتسع بعض الشيء، ليشمل نوعًا جد من الحقوق، وهي تلك التي ترد على ثمرة الفكر والقريحة في جانبها المالي، والتي أُطلق عليها في البداية اسم " حقوق الملكية الأدبية والفنية والصناعية " ثم أخذ الفكر القانوني يبتعد عنه، مضفيًا عليها اسمًا آخر، بعد أن تبين مغايرتها واختلافها عن حق الملكية بمفهومه العلمي، ليقول تارة " الحقوق المعنوية " وتارة أخرى " الحقوق الذهنية ".
والتزام التقسيم التقليدي للحقوق المالية إلى شخصية وعينية كنهج يُتبع في سرد الأحكام التي تتضمنها مدونة القانون المدني، يتمشى تمامًا مع منطق القانون ومقتضيات فنه، سيما وأن أحكام النوع الثالث الذي جد من الحقوق المالية، لينتظم الحقوق المعنوية أو الذهنية، تجد مكانها، وفقًا لما جرت عليه العادة في الدول المختلفة، في قانون خاص بها، نظرًا لما تتسم به من طابع متميز، ولما تتجه إليه من دولية تقوى على مر الزمن.
ثم إن ذلك ليس غريبًا على الفقه الإسلامي. فهو يتجاوب في مجموعه مع ما سار عليه فقهاء المسلمين من تقسيم الحقوق المالية إلى عين ودين. من أجل ذلك رأى المشروع اتباع هذا النهج، فهو ينقسم قسمين أساسيين: يتناول أولهما أحكام الحقوق الشخصية أو الالتزامات. ويتضمن ثانيهما أحكام الحقوق العينية. وذلك بعد أن انتهى المشروع من سرد الأحكام العامة.
والمشروع، في سرده النصوص التي تتضمن أحكام الحقوق الشخصية أو الالتزامات، يتناول بادئ ذي بدء الالتزام بوجه عام، وهي الأحكام التي تدخل فيما يطلق عليه عادةً " نظرية الالتزام ". ثم يتناول أهم العقود المتداولة. من هنا لزم أن ينشطر القسم الأول المتعلق بالحقوق الشخصية أو الالتزامات شطرين، يتضمن أولهما أحكام الالتزام بوجه عام، ويتناول ثانيهما العقود المسماة.

الكتاب الأول: الالتزامات بوجه عام
الأحكام التي تنظم الالتزامات بوجه عام، تتسم بأهمية قصوى في دنيا القانون ككل. فهي التي تقوم عليها المعاملات المالية، أيًا ما كانت طبيعتها بل إن الأسس التي ترسيها نظرية الالتزام كثيرًا ما تراعى في غير المعاملات المالية من مظاهر حياة الناس، وإن لحقها تعديل هنا أو هناك وفقًا لما تقتضيه طبيعة العلاقة المحكومة.
ولأن أحكام الالتزامات بوجه عام، تُرسي الأسس التي تقوم عليها المعاملات المالية، فإن تطبيقها لا يقف عند حدود القانون المدني، بل يتجاوزها أي غيره من فروع القانون الأخرى بوجه عام، لا سيما فروع القانون الخاص، وعلى رأسها القانون التجاري، ثم قانون العمل.
ولقد كان من شأن الأهمية القصوى لأحكام الالتزامات أن أفردت لها بعض الدول مدونة خاصة بها، إما وحدها وإما مع العقود المسماة، بيد أن إفراد مدونة مستقلة لأحكام الالتزام بوجه عام ليس أمرًا ضروريًا، فيمكن لهذه الأحكام أن تجد مكانها المرموق بين دفتي مدونة القانون المدني. فالقانون المدني هو الفرع الأصيل في دوحة القانون الخاص، ومن ثم يمكن لمدونته أن تضم، الأحكام القانونية التي من شأنها أن تسري داخل نطاقه، كما تسري في نطاق غيره من فروع القانون الأخرى، وهي مهمة يضطلع بها بالفعل من قديم في الأغلبية الكبرى من البلاد.
وقد ارتأى المشروع أن يسلك هذا النهج فيتضمن بين نصوصه أحكام الالتزامات بوجه عام، أو أحكام نظرية الالتزام وبهذا تتاح الفرصة لمدونة قانون التجارة الكويتية الجديدة المزمع إصدارها أن تترك هذه الأحكام، لتحل في مكانها الطبيعي المألوف، بعد أن اتسعت لها دفتا مدونة قانون التجارة الحالية.
فقد رأى المشروع الكويتي، عند إصدار قانون التجارة في عام 1961، أن تشمل مدونته نصوصًا تتضمن أحكام نظرية الالتزام، أو أحكام " الالتزامات بوجه عام " كما شاء هو أن يقول، وهو وضع فريد لا يُعرف له مثيل، ولكنه كان أمرًا ضروريًا ليس عنه غناء، فقانون التجارة يتضمن لحكم المعاملات التجارية نصوصًا مستقاة من القانون المعاصر، فلا بد إذن من إرسائها على أسس هي بدورها معاصرة.
ولكن ورود أحكام نظرية الالتزام في مدونة قانون التجارة مع تضمين هذه المدونة نصًا يقضي بقصر سريان ما تضمنته من أحكام على المعاملات التجارية أثار شيئًا من التناقض من وجه، والكثير من التناقض من وجه آخر. فمن وجه أول، أصبحت المعاملات المالية مختلفة في حكمها باختلاف صبغتها المدنية أو التجارية، ليس في الجزئيات والتفريعات فحسب، كما هو الشأن في البلاد المختلفة، بل في ذات الأسس التي تقوم عليها أيضًا، ومن وجه آخر، ثار الجدل حول ما إذا كان يمكن لأحكام نظرية الالتزامات أن تسري خارج نطاق التجارة والتجار، وعلى الأخص كأساس للقواعد التي جاءت بها التشريعات الحديثة التي صدرت في الكويت مؤخرًا، وهي تتضمن أحكامًا مستقاة من القانون المصري، كقانون التسجيل وقانون التأمينات العينية وقانون العمل وقانون تنظيم الالتزامات الناشئة عن العمل غير المشروع وقانون إدارة شؤون القصر وقانون إيجار العقارات والأماكن.
وغني عن البيان أن نظرية الالتزامات تتضمن الأحكام المتعلقة بالالتزام بوجه عام، من غير أن تُعنى بالتزام بعينه، فهي تضم بين رحابها القواعد العامة الأساسية التي تسري على الالتزامات في مجموعها، بغض النظر عن ذاتية كل التزام، مدنيًا كان أم تجاريًا.
والنهج المنطقي لسرد الأحكام الداخلة في رحاب نظرية الالتزام يقتضي السير مع هذا النظام القانوني في مراحل حياته، فيواجه أولاً الالتزام في نشأته وهذا ما يدعو إلى البدء بمصادره على أن تليها الأحكام المتعلقة بآثاره، ثم تلك الخاصة بأوصافه وبانتقاله. وتأتي بعد ذلك المرحلة الأخيرة التي يواجهها الالتزام بالضرورة وهي مرحلة انقضائه، وهو ما التزمه المشروع في عرضه لتلك الأحكام.
وهذا النهج من المشروع ليس مبتدعًا، فقد سارت عليه من قبل مدونة القانون المدني المصري، والمدونات العربية الأخرى التي استوحتها، كمدونة القانون المدني السوري ومدونة القانون المدني العراقي، ومدونة القانون المدني الليبي، ومدونة القانون المدني الأردني، وهو نفس النهج الذي سار عليه بدوره قانون التجارة الكويتي.
ولم يشأ المشروع أن يعرض لقواعد الإثبات، لا بين الأحكام المتعلقة بنظرية الالتزام، ولا بين غيره من أحكامه الأخرى. فقد وجد من الملائم أن يفرد قانون خاص يجمع كافة قواعد الإثبات الموضوعية والإجرائية على السواء.

الباب الأول: مصادر الالتزام
لم يشأ المشروع أن يتضمن نصًا يُعرف الالتزام، وهو في ذلك يخالف ما سارت عليه بعض القوانين الأجنبية، ولكنه يساير غالبية القوانين العربية، كالقانون المصري والقانون العراقي والقانون السوري والقانون الليبي والقانون الأردني.
فحسن صناعة التشريع يأبى أن تلجأ النصوص لتعريف الأنظمة القانونية ما لم تتطلبه ضرورة أو حاجة، فذلك بعمل الفقه أخلق.
ولم يشأ المشروع كذلك أن يعرض في نصوصه لتقسم مصادر الالتزام وردها إلى أصولها، وهو في ذلك يخالف مدونة نابليون التي تبنت التقسيم التقليدي البالي لمصادر الالتزام إلى العقد والجريمة وشبه العقد وشبه الجريمة والقانون، وهو تقسيم وجهت إليه سهام النقد الجارحة لتصيبه في الصميم.
والواقع أن الاتجاه الحديث في التقنين ينبذ التعرض في النصوص لتقسيم مصدر الالتزام. وكان من أول التقنينات التي عرضت عن تقسيم مصادر الالتزام مشروع القانون الفرنسي الإيطالي للالتزامات والعقود، الذي رأى واضعوه بحق أن هذا التقسيم أليق بأغراض التعليم منه بأغراض صناعة التشريع، وجاء القانون المدني المصري، وغيره من القوانين العربية التي استوحته، لتسير في نفس الطريق وهو ما يراه المشروع أولى بالاتباع.
وإذا كان المشروع لا يعرض في ذات نصوصه لتقسيم مصادر الالتزام وردها إلى أصولها، إلا أنه يراعي بالضرورة ترتيبًا معينًا في تناوله، فهو يبدأ بالعقد، وهو المصدر الغالب في أهميته. ثم يتناول الإرادة المنفردة ويعرض بعد ذلك للفعل الضار، ويعقب بالفعل النافع، وينتهي بنشأة الالتزامات التي لا ترتد إلى أصل مما سبق، والتي جرت العادة على أن تُعزى نشأتها إلى القانون.

الفصل الأول: العقد:
العقد هو المصدر الأساسي لنشأة الالتزام، بل الحقوق المالية كلها عامة، وهو يتمثل، في العمل، أهم المصادر على الإطلاق، بل إنه ينشئ وحده، في واقع حياة الناس، الأغلبية الكبرى من الالتزامات، بحيث أن مصادر الالتزام الأخرى، كلها مجتمعة، لا تتناسب معه في الأهمية.
والعقد، إذا كان من شأنه أن يولد الالتزام، بل وغيره من الحقوق والواجبات، فليس هذا الأمر وحده، على جليل خطره، أثره الوحيد. فمن شأن العقد أن يرتب أيضًا آثارًا قانونية أخرى بعيدة المدى. فهو ينقل الحق أو الالتزام. وهو يعدل فيه على نحو أو على آخر، ويمكن له أن ينهيه. وهو بهذه المثابة يتمثل اصطلاحًا قانونيًا متفقًا تمامًا في مدلوله مع اصطلاح الاتفاق.
فالعقد والاتفاق أصبحا، في لغة القانون المعاصر السائدة، اصطلاحين مترادفين، يعني أحدهما ما يعنيه الآخر. وقد دعم هذا النهج سير فقهاء المسلمين في نفس الطريق، حيث استعملوا اصطلاح " العقد " في نفس المعنى الذي يمكن لاصطلاح " الاتفاق " أن يفيده، فضلاً عن شيوع الأول على ألسنتهم وندرة الثاني، لما لاصطلاح " العقد " من دلالة أقوى على ارتباط المتعاقد بما تعاقد عليه.
وقد جاءت في القرآن الكريم كلمة " العقدة " بمعنى العقد، في قوله عز شأنه: " ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله " وكان لهذا القول الإلهي أثره في بعض البلاد العربية كالمغرب، حيث يجري على الألسنة أحيانًا استعمال لفظ " العقدة " بدلاً من العقد. بيد أن الغالب، عند فقهاء المسلمين، هو استعمال اصطلاح " العقد " لعموم قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ".
وإذا كان المشروع يتناول أحكام العقد في الباب المخصص لمصادر الالتزام، فليس معنى ذلك، بطبيعة الحال، أن هذه الأحكام لا تسري عليه إلا حيثما ينتج هذا الأثر. فهي تلزمه في شتى مجالات أعماله، دون تفريق.
وغني عن البيان أن المشروع هنا لا يتناول أحكام عقد بعينه، فهو يستهدف وضع القواعد الأساسية العامة المشتركة في العقود. وبعبارة أخرى هو يتناول أحكام العقود بوجه عام، وهو ما درج الفقه على أن يطلق عليها " نظرية العقد ".
والأحكام التي يتضمنها المشروع في هذا الفصـل، اعتبارًا بأنها ترسي الأسس العامة المشتركة، تسري على العقود المالية كلها، مدنية كانت أم تجارية أم غيرها، وسواء أكانت هذه العقود مسماة أم غير مسماة، وذلك ما لم يقضِ القانون، في شأن عقد معين، بحكم خاص به، أو اقتضته طبيعة هذا العقد.

تعريف العقد (م 31):
تباين أمر التقنينات، في الدول المختلفة، في شأن تضمن النصوص تعريفًا للعقد. فبعضها سار عليه، وسلك نفس النهج قانون التجارة الكويتي الحالي (المادة 103). والبعض الآخر تجنب إيراد تعريف له.
وإذا كان الأصل هو أن تعريف الأنظمة القانونية أخلق أن يترك للفقه، على أن المصلحة قد تدعو التشريع أحيانًا إلى أن يتناوله. ويظهر ذلك، على وجه الخصوص، إذا كان من شأن إيراد التعريف في النص أن يبرز فلسفة النظام ويرسي أسسه، سيما إذا تعلق الأمر بنظام فذ وعملاق كالعقد.
وقد عرفت المادة (31) من المشروع العقد بقولها: " العقد هو ارتباط الإيجاب بالقبول على إحداث أثر يرتبه القانون ". ومقتضى هذا التعريف أن يبرز في شأن الرضاء بالعقد - وهو الركن الأساسي فيه - أمرين أساسين: الأول: ارتباط الإيجاب بالقبول، وهو ما يكون الإرادة المشتركة، الثاني: اتجاه الإرادة المشتركة إلى إحداث أثر قانوني.
ولم يشأ المشروع أن يساير الكثرة الغالبة من التقنينات في تعريفها العقد تارة بأنه اتفاق وتارة بأنه توافق إرادتين أو أكثر. فالاتفاق أو التوافق لا يكفي في ذاته لقيام العقد، ما بقيت الإرادة كامنة في نفس صاحبها، لم تتجاوزها إلى العالم الخارجي عن طريق التعبير عنها، وهو ما يُطلق عليه في الفقه الإسلامي، (الصيغة)، ثم إنه ينبغي أن يجيء القبول حالة كون الإيجاب باقيًا لم يسقط لسبب أو لآخر. وعبارة ارتباط الإيجاب بالقبول أخلق بأن تبرز هذه الأمرين كليهما.
وارتباط الإيجاب بالقبول، كأساس للعقد، قول مستمد من الفقه الإسلامي، وهو شائع على ألسنة رجاله وأوردته المجلة (المادة 103) ومرشد الحيران (المادة 262)، كما أورده أخيرًا مشروع تقنين الشريعة الإسلامية على مذهب الإمام أبي حنيفة، الذي أصدره مجلس البحوث الإسلامية بالقاهرة (المادة 3). وقد أقام القانون العراقي تعريف العقد على ذلك القول، فنقل عن مرشد الحيران، في المادة (73) منه النص على أن: " العقد هو ارتباط الإيجاب الصادر من أحد العاقدين بقبول الآخر على وجه يثبت أثره في المعقود عليه "، وجاء قانون التجارة الكويتي الحالي وتبنى نفس التعريف. في المادة (103) منه. وأخذ القانون الأردني في المادة (87) منه، بالتعريف ذاته مع شيء من الإضافة إليه.
ولم يشأ المشروع أن يأخذ بنفس التعريف الذي أورده قانون التجارة الكويتي الحالي، نقلاً عن القانون العراقي ومرشد الحيران، فهو من ناحية يعمم ارتباط الإيجاب بالقبول، دون أن يخصه بحصوله بين متعاقد وآخر، لإمكان أن يقوم العقد بين أكثر من طرفين، كما هو الشأن في الشركة والقسمة.
ومن ناحية أخرى، حرص المشروع على أن يذكر أن ارتباط الإيجاب بالقبول يرد في شأن إحداث أثر قانوني، بدلاً من القول بأن يرد " على وجه يثبت أثره في المعقود عليه " لإبراز ما يمكن للأثر المترتب على العقد من عمومية وشمول، وهو في إبراز هذه الفكرة، لم يشأ أن يجاري القانون الأردني الذي أضاف إلى القول بأن ارتباط الإيجاب بالقبول يكون على وجه يثبت أثره في المعقود عليه، عبارة " ويترتب عليه التزام كل منهما (المتعاقدين) بما وجب عليه للآخر، فأثر العقد أعم من أن ينشئ الالتزام، فيمكن له أن يعدل في التزام قائم، أو ينقله أو ينهيه.
فجوهر العقد أن يستهدف إنشاء أثر قانوني، أيًا ما كان هذا الأثر، وقد حرص المشروع على أن يبرز هذه الفكرة، حتى يبدد كل مظنة، وعلى الأخص ما ثار منها في خصوص النقل بالمجان، حيث التبس الأمر في شأن قيام عقد، سواء أكان عقد النقل أو غيره، وما يترتب عليه من الالتزام بضمان السلامة، وهو اتجاه رفضه القضاء بحق، اعتدادًا بانتفاء القصد في ترتيب أثر قانوني. ولا يهم بعد ذلك طبيعة الأثر القانوني المبتغى. فسواء أن يتعلق بالمعقود عليه مباشرة، كما إذا كان من شأنه أن ينقل ملكيته، أو يتعلق بأمر آخر من أمور إنشاء الالتزام أو تعديله أو نقله أو انتهائه، وهذا ما يتفق تمامًا مع ما سار عليه فقهاء المسلمين من التمييز بين حكم العقد، بمعنى ما يترتب عليه من أثر مباشر في المعقود عليه، كنقل ملكية المبيع إلى المشتري، وبين حقوق العقد، بمعنى آثاره المترتبة في ذمة المتعاقد. كالتزام البائع بالتسليم والتزامه بالضمان والتزام المشتري بدفع الثمن.

الفرع الأول – انعقاد العقد:
المواد (32 – 192):
تعدد المادة (32) أركان العقد التي لا يقوم بغير توافرها كلها مجتمعة، وتقضي بانعقاده بمجرد توافرها. وأركان العقد هي الرضاء – المتمثل في ارتباط الإيجاب بالقبول – والمحل والسبب، وذلك فضلاً على الشكل الذي يتطلبه القانون، في حالات خاصة، لانعقاد العقد.
وقد حرص المشروع، في هذه المادة، على أن يذكر المحل والسبب، باعتبارهما ركنين لازمين لانعقاد العقد، جنبًا إلى جنب مع الرضاء، وهو في ذلك يسير على نهج المادة (1103) من القانون المدني الفرنسي، بعد أن استبعد منها أهلية التعاقد، اعتبارًا بأنها لا ترتقي إلى مرتبة ركن في العقد، وبأن عدم توافرها لا يمنع من ذات انعقاده، وإنما يعيب الرضاء به فحسب بما يجعله قابلاً للإبطال.
ولم يشأ المشروع أن يساير بعض التقنينات الغربية التي تقول بقيام العقد بمجرد ارتباط الإيجاب بالقبول، أو توافق الإرادة، من غير ذكر للمحل والسبب. كما أنه لم يشأ أن يساير تقنينات أخرى عربية، كالقانون المصري (المادة 89)، والقانون الأردني (المادة 90)، التي وإن لم تذكر بدورها المحل والسبب كركنين لازمين لانعقاد العقد، قرنت توافق الإرادة، أو ارتباط الإيجاب بالقبول، بوجوب " مراعاة ما يقرره القانون فوق ذلك من أوضاع معينة لانعقاد العقد "، فالعقد لا ينعقد بتوافر الرضاء وحده. وإنما يلزم إلى جانبه المحل والسبب، وهذا أمر جوهري ينبغي التصريح به. ولا يجزئ عنه ذكر عبارة عامة تفيد وجوب مراعاة ما يقرره القانون من أوضاع معينة لانعقاد العقد. لأن هذه العبارة قد تنصرف إلى الشكل الذي يتطلبه القانون، في حالات خاصة. وهو بالفعل المعنى الذي يقصده منها المشروع، وهي على أية حال أدنى من أن تدل دلالة واضحة على أمرين يتمثلان ركيزتين أساسيتين يقوم العقد عليهما، إلى جانب الرضاء، وعلى نفس المرتبة معه.
وفي القول بأن العقد ينعقد إذا ورد الرضاء على محل واستند إلى سبب معتبرين قانونًا، لم يشأ المشروع أن يقف عند الجدل الذي ثار في الفقه حول ما إذا كان المحل أو السبب يعتبر ركنًا في الالتزام أو في العقد أو حتى في الإرادة، فأيًا ما كان من أمر الخلاف الذي نشب في هذا الخصوص، فإن كل ما يتعلق بالالتزام ينعكس بالضرورة على العقد الذي من شأنه أن يولده. فالمحل المباشر للعقد هو الالتزامات التي ينشئها. وبهذه المثابة، يتمثل ما يعتبر ركنًا في الالتزام، ركنًا في العقد أيضًا، وإن كان ذلك بطريق غير مباشر.
1 - الرضاء:
تواجه المادة (33) بفقرتيها رضاء المتعاقد الذي من شأنه أن يكون الرضاء بالعقد، عند اقترانه برضاء المتعاقد الآخر، وتبين عنصريه اللازمين لقيامه، وهما: الإرادة والتعبير عنها.
وتتناول الفقرة الأولى عنصري الرضاء السابقين من حيث الموضوع، متطلبة توافرهما. إذ أن الرضاء لا يقوم بغير الإرادة. ولا تتوافر الإرادة في المتعاقد، إلا إذا وعى وتدبر أمر التعاقد الذي هو قادم عليه، وانتهى إلى أن يقصده. بيد أن توافر الإرادة وحده لا يكفي، فالقانون لا يعتد بالإرادة طالما بقيت حبيسة في نفس صاحبها، فلابد أن تخرج إلى العالم الخارجي الملموس. ويتم ذلك عن طريق التعبير عنها. وبهذا يمكن أن يقال إن الإرادة التي يعتد بها القانون في إنشاء العقود والتصرفات القانونية بوجه عام، تمر بمراحل ثلاثة: التدبير والتقرير والتعبير.
والمرحلتان الأوليان نفسيتان. أما الثالثة فتأخذ مظهرًا ماديًا.
وتعرض الفقرة الثانية من المادة للإرادة من حيث الإثبات، وهي تقيم قرينة على توافرها عند إجراء التصرف، تمشيًا مع الغالب في شأن الناس، واستقرارًا للمعاملات بينهم. ولكن هذه القرينة بسيطة. فيجوز إثبات عكسها ممن يدعيه. ثم إن هذه القرينة لا يمكن لها أن تقوم بمخالفة حكم يمليه القانون بانعدام الإرادة كما هو الشأن في حالة الصبي غير المميز.
( أ ) التعبير عن الإرادة:
وتعرض المادة (34) لطريقة التعبير عن الإرادة. وهي مستوحاة من نص المادة (90) من القانون المصري والنصوص الأخرى التي أخذت عنه، وعلى الأخص نص المادة (106) من قانون التجارة الكويتي ونص المادة (93) من القانون الأردني، دون أن تأتي بحكم مغاير.
وحكمها يتمشى مع الاتجاه الغالب، سواء في القانون المعاصر أم في الفقه الإسلامي، من إطلاق الصورة التي يجيء عليها، التعبير عن الإرادة، بالتمكين له أن يأتي بأي طريق كان، طالما كان من شأن هذا الطريق أن يدل على حقيقة الإرادة بغير لبس أو غموض. فهي تقضي بأن التعبير عن الإرادة يمكن أن يحصل باللفظ، أو بالكتابة، أو بالإشارة الشائعة الاستعمال - أي تلك التي يعم بين الناس استعمالها في نفس المدلول - أو بالمبادلة الفعلية الدالة على التراضي - وهو ما يُطلق عليه، في الفقه الإسلامي " تعاقد المعاطاة " - أو باتخاذ أي موقف آخر غير ما ذُكر، إذا كانت ظروف الحال لا تدع شكًا في دلالته على حقيقة المقصود منه.
ولم يشأ المشروع أن يساير نص المادة (106) من قانون التجارة الكويتي الحالي ونص المادة (93) من القانون الأردني في حرصهما على ذكر أن الإشارة تصلح تعبيرًا عن الإرادة، ولو وقعت من غير الأخرس، مكتفيًا بإيراد لفظ الإشارة في عمومه، اعتبارًا بأنه يعنيها ما دامت شائعة بين الناس، أيًا ما كان الشخص الذي صدرت منه، أخرس كان أم غير أخرس.
ولم يشأ المشروع كذلك أن يعرض للجدل الذي ثار في الفقه الإسلامي حول الصيغة التي يأتي عليها اللفظ الدال على الرضاء، سواء أكانت صيغة الماضي أم المضارع أم الأمر، وهو جدل ترك أثره في بعض تقنيناتنا العربية، كقانون التجارة الكويتي الحالي (المادة 105)، والقانون المدني العراقي (المادة 77) والقانون الأردني (المادة 93). فالأمر مرده إلى الدلالة على حقيقة القصد، على نحو ما يتبينه قاضي الموضوع. وسيان بعد ذلك أن يأتي اللفظ على صيغة أو على أخرى. وهو من بعد الأمر الذي يسود في الفقه الإسلامي، وعلى الأخص وفقًا لما يقول به المذهب المالكي والمذهب الحنبلي.
وقد حرص المشروع على أن يشير، في عجز المادة الرابعة والثلاثين إلى ما قد يورده المشرع - في حالات خاصة - من قيود على مبدأ إطلاق طريقة التعبير عن الإرادة، ليتحفظ على الأخص، في شأن الشكل، حينما يستلزمه القانون لذات انعقاد العقد.
وتعرض الخامسة والثلاثون للتعبير الضمني عن الإرادة، وهو ذاك الذي تستخلص فيه الإرادة دلالة من ظروف الحال، بعد إعمال الفكر في الاستنتاج المنطقي، وهي تقرر جواز هذا النوع من التعبير عن الإرادة كأصل عام، مستثنية الحالات التي يقضي فيها القانون أو الاتفاق بأن يجيء التعبير عن الإرادة صريحًا، وتلك التي يكون من شأن طبيعة المعاملة ذاتها أن تستوجبه في خصوصها.
وحكم هذه المادة متفق مع ما يقضي به القانون المعاصر والفقه الإسلامي على حد سواء، وهو مستمد من المادة 90/ 2 مصري، بعد أن رئي إضافة طبيعة المعاملة كاستثناء للحالات التي يمكن فيها أن تستظهر الإرادة دلالة من ظروف الحال، إلى جانب القانون والاتفاق، إذ قد يكون من شأن جسامة الأثر المترتب على المعاملة أن يتطلب التعبير المباشر الصريح.
وتعرض الفقرة الأولى من المادة السادسة والثلاثين للتعبير عن الإرادة، من حيث قيامه وإنتاج أثره، وتحرص على التفرقة بين هذين الأمرين، فقد يوجد التعبير عن الإرادة، بأن يكتمل له مظهره المادي، من غير أن يترتب عليه الأثر القانوني المبتغى منه، على نحو ما تقرره أغلب التشريعات المعاصرة من تراخي هذا الأثر إلى وقت اتصال التعبير عن الإرادة بعلم من يوجه إليه.
وهذا التصور قائم أيضًا في الفقه الإسلامي، بالنسبة إلى الإيجاب، عند التعاقد بوساطة رسول، ففكرة وحدة مجلس العقد تؤدي إلى عدم الاعتداد بالتعبير الصادر من الموجب، قبل أن تبلغ الرسالة إلى الموجب له، حيث يبدأ بهذا التبليغ انعقاد مجلس العقد.
وتقرر المادة أن التعبير عن الإرادة يتكامل له وجوده، بمجرد صدوره من صاحبه، وهذا أمر ظاهر لا خلاف فيه.
إنما الخلاف الذي يمكن أن يثور يتعلق بالأثر القانوني الذي من شأن التعبير أن يحدثه، فقد يمكن لهذا الأثر أن يترتب فور صدور التعبير، وهنا يختلط الوجود القانوني للتعبير مع وجوده المادي، وقد يمكن لأثر التعبير أن يتراخى إلى وقت يلي صدوره. فيتفرق عندئذٍ الوجودان.
وقد آثر المشروع أن يأخذ بوجهة النظر الثانية فجعل أثر التعبير عن الإرادة متراخيًا إلى وقت اتصاله بعلم من يوجه إليه، مسايرًا في ذلك كثرة غالبة في التقنينات الحديثة، وهذا هو ما يقضي به على وجه الخصوص القانون الألماني (المادة 130) وإن كان قد جعل إنتاج التعبير أثره رهينًا بوصوله إلى من وجه إليه، ومدونة الالتزامات السويسرية (المادة 9)، ومشروع القانون الفرنسي الإيطالي (المادة 2/ 4)، والقانون البرازيلي (المادة 1081).
وهو ما يقضي به أيضًا القانون المصري (المادة 91)، وتبعه فيه القانون الليبي (المادة 91)، ووافقه فقه القانون العراقي وإن لم يصرح به. ولم يأخذ بحكم مغاير من التقنينات العربية التي أخذت أحكامها عن القانون المصري إلا القانون السوري، حيث ترك على غير عادته، نص المادة (91) مصري، وتضمن نصًا (المادة 98) يوحي بأنه يغايره في الحكم.
أما قانون التجارة الكويتي، فقد جاء على غرار القانون العراقي، آخذًا، في صدد القبول عند التعاقد بين الغائبين، بحكم تراخي أثر التعبير عن الإرادة إلى وقت اتصاله بعلم من وجه إليه، دون أن يصرح به كمبدأ عام (المادة 112).
وغني عن البيان أن تراخي أثر التعبير إلى فترة تأتي بعد صدوره لا يكون إلا في العقود، أما في التصرف القانوني الصادر من جانب واحد، فلا يوجد فيه طرف آخر يوجه التعبير إليه، ومن ثم ينتج التعبير عن الإرادة أثره بمجرد صدوره من صاحبه، طالما يظهر أنه يتضمن منه عزمه النهائي على إبرام التصرف.
ولا تظهر أهمية تراخي أثر التعبير عن الإرادة إلى وقت اتصاله بعلم من يوجه إليه إلا في التعاقد بالمراسلة بين الغائبين.
إذ توجد فيه بالضرورة فترة من الزمن، تطول أو تقصر، بين صدور التعبير من صاحبه، ووصوله إلى من يرسل إليه. أما في التعاقد بين الحاضرين، سواء أكان في مجلس العقد أو عن طريق الهاتف أو ما يشابهه، فلا تظهر الأهمية السابقة. إذ أن صدور التعبير ووصوله يتمان في نفس الوقت.
وتعرض الفقرة الثانية من المادة السادسة والثلاثين لإثبات وصول التعبير عن الإرادة إلى علم من يوجه إليه، لاتسامه بأهمية لا تخفى، ما دام أثر التعبير مناطًا بهذا الوصول، وهي تجعل من وصول التعبير إلى من يوجه إليه قرينة على علم هذا به. وهو حكم تقتضيه طبيعة الأمور ذاتها. إذ أنه يتمشى مع الغالب حصوله في واقع حياة الناس، ثم إنه يتعذر عملاً على من صدر التعبير منه إثبات العلم به ممن وجه إليه، ومن ثم لزم أن يتحول عبء الإثبات. على أن القرينة هنا بسيطة، فيجوز دحضها بإثبات العكس ممن يدعيه.
وتقضي المادة (37) بإمكان العدول عن التعبير عن الإرادة، برغم صدوره من صاحبه، ومنعه بالتالي من أن يرتب أثره، طالما أن هذا العدول قد وصل إلى من وجه إليه التعبير، قبل وصول هذا التعبير ذاته إليه، أو في نفس الوقت. ففي هذه الحالة يُعتبر التعبير كأن لم يكن.
ولا عبرة هنا بعلم من وُجه إليه التعبير بحصول العدول عنه أو عدم علمه به، طالما أنه قد وصل إليه في وقته. إذ لا يقبل منه هنا أن يدعي علمه بالتعبير وعدم علمه بالعدول عنه، أو علمه بالأول قبل الثاني.
والحكم الذي تقضي به المادة (37) هو نتيجة منطقية للحكم الذي تقضي به المادة (36)، وتظهر أهمية هذا الحكم، بشكل واضح بالنسبة إلى القبول، حيث يجوز لمن أرسل إلى الموجب، يبلغه بقبوله أن يعدل عنه، وبهذا يستطيع أن يقيل نفسه من الصفقة، إذا ندم على ارتضائها،  بيد أن هذا الحكم لا يعدم كل فائدة بالنسبة إلى الإيجاب. فتظهر له فائدته في الحالات التي يكون فيها الإيجاب ملزمًا له، لا يستطيع الرجوع فيه. إذ بالعدول، لا يتمثل التعبير إيجابًا أصلاً.
وهذا الحكم يتمشى أيضًا مع الروح السمحة للشريعة الإسلامية الغراء، التي من شأنها أن تسمح بالعدول عن ارتضاء الصفقة، طالما أنه لم يتعلق بهذا الرضاء حق للغير معتبر شرعًا. وهو يتجاوب مع الحديث النبوي الشريف: " من أقال نادمًا بيعته، أقال الله عثرته يوم القيامة ".
وتواجه المادة (38) موضوعًا ثار حوله الخلاف واحتدم، في القانون المعاصر، وفي الفقه الإسلامي على حد سواء. وهو موضوع عدم مطابقة التعبير عن الإرادة لحقيقة قصد صاحبه. فقد يختلف التعبير عن الإرادة، أو ما يُطلق عليه في لغة الفقه الإسلامي " الصيغة "، مع حقيقة ما انتواه صاحبه وعقد العزم عليه، وقد يحصل ذلك عن قصد أو عن غير قصد.
وأيًا ما كان من أمر الصورة التي يجيء عليها الاختلاف بين حقيقة الإرادة وبين التعبير عنها، فإنه يجب حسمه على نحو أو على آخر، وتتنازع هذا الأمر، في القانون المعاصر، نزعتان: نزعة تغلب الإرادة الحقيقية أو ما يُطلق عليها الإرادة الباطنة، ولا تعتد بالتعبير عنها، إلا إذا جاء مطابقًا لها، وفي حدود تلك المطابقة. وهذه هي النزعة اللاتينية التي تستند أساسًا إلى القانون الفرنسي. أما النزعة الأخرى فهي تغلب التعبير عن الإرادة أو ما يُطلق عليه الإرادة الظاهرة أو الإعلان عن الإرادة. وهذه هي النزعة الجرمانية.
وهذا التغاير في أساس الحكم الذي نجده في ظل القانون المعاصر بين النزعتين اللاتينية والجرمانية، نجده أيضًا في ظل الفقه الإسلامي، بين مذاهبه المختلفة، فالمذاهب الإسلامية لم يتفق فيها بدورها الرأي حول الحكم الواجب اتباعه، عند الاختلاف بين الإرادة الباطنة – وتُسمى عند الفقهاء بالقصد أو النية – وبين الإرادة الظاهرة، وتُسمى بالصيغة. فمن هذه المذاهب ما يغلب الإرادة الباطنة، ومنها ما يغلب الإرادة الظاهرة. وقد بلغ الأمر عند بعض المذاهب، في اعتدادها بالإرادة الظاهرة، إلى حد القول بأن عبارة الهازل تصلح لإنشاء العقود وترتب الآثار عليها، دون فرق في ذلك بين عقد وعقد (وهذا هو الراجح في مذهب الشافعية). وإن كان الغالب في الفقه الإسلامي هو عدم الاعتداد بعبارة الهازل، إلا فيما يكون فيه حق لله تعالى، اعتبارًا بأن حق الله - جلت قدرته - لا يكون موضعًا للهزل (مذهب الحنابلة وأكثر المالكية). وأساس هذا الرأي قوله صلوات الله عليه " ثلاثة جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والعِتاق ". وفي بعض الروايات أُضيفت الرجعة، وفي بعضها الآخر، أُضيفت اليمين. أما الحنفية، فيعتدون بإرادة الهازل، حتى في غير ما كان فيه حق لله تعالى، ولكن فقط من حيث كونها تصلح لانعقاد العقد، دون أن تكفي لصحته. فالعقد القائم على إرادة الهازل، عند الحنفية، ينعقد (لتحقيق الاختيار بمعنى القصد إلى التكلم بالعبارة)، ولكنه ينعقد فاسدًا (لفوات الرضاء، أي لانعدام الإرادة).
وقد ارتأى المشروع أن يحسم الخلاف بحكم توفيقي يتمشى مع منطق العقد ودور الإرادة فيه باعتبارها الأساس المكين لقيامه، وذلك من غير أن يضحي بما ينبغي أن يسود المعاملات من الثقة والائتمان والاستقرار. فهو ينزع، في الفقرة الأولى من المادة، إلى تغليب الإرادة الباطنة ويقرره كمبدأ عام، ثم يجيء في الفقرة الثانية، فيرخص لمن وجه إليه التعبير غير المطابق لحقيقة القصد، أن يعتد به، شريطة أن يثبت أنه عول عليه، حالة كونه يعتقد عندئذٍ مطابقته لحقيقة الإرادة، ومن غير أن يكون من شأن ظروف الحال أن تثير الشك حول تلك المطابقة.
وبهذا يلزم للاعتداد بالتعبير المخالف لحقيقة القصد أمران الأول: التعويل على التعبير، بمعنى أن يرتب من وجه إليه أموره على أساسه. الثاني: حسن النية، بأن يكون من وجه التعبير إليه معتقدًا مطابقته لحقيقة قصد غريمه، دون أن يكون من شأن ظروف الحال أن تثير الشك حول تلك المطابقة. وقد دفع المشروع إلى هذا رغبته في عدم التضحية بالإرادة الحقيقية، التي هي قوام العقد وأساسه، إلا في الحدود التي يتطلبها توفير الثقة والائتمان واستقرار المعاملات. وهو الاعتبار الذي يسوغ أمامه التضحية بحقيقة الإرادة.
الإيجاب:
تعرض المواد (من 39 إلى 42) للإيجاب، باعتباره الخطوة الأولى لقيام العقد.
وتعمد المادة (39) لتحديد ما يعتبر إيجابًا، يقوم العقد بقبوله، فقد يدق، في بعض الأحيان، تكييف ما يصدر من المتعاقد أهو إيجاب أم هو مجرد دعوة إلى التعاقد، أو من قبيل التفاوض بشأنه. ولهذا التكييف أهمية لا تخفى. فالإيجاب خطوة إلى العقد، تصل به إليه بمجرد أن يقترن به القبول، وعندئذٍ يمتنع على صاحبه الرجوع والنكوص. أما الدعوة إلى التعاقد، فإن تلبيتها تتضمن إيجابًا، يلزم قبوله من وجهها، ليقوم العقد، وبهذا المثابة، يجوز لهذا الأخير أن يتحلل من إبرام العقد، مع عدم الإخلال بما تقتضيه قواعد المسؤولية التقصيرية من تحميله بالتعويض، إذا كان له محل.
وقد عمد المشروع إلى وضع معيار مرن، من شأنه أن يساعد في تحديد ما إذا كان الإيجاب قد قام يتربص القبول، أم أنه لم يقم بعد، وينبني هذا المعيار على أمرين جوهريين، الأول: العزم النهائي من العاقد على إبرام العقد. فلا تكفي مجرد الرغبة فيه، إن لم تصل إلى حد البت. الثاني: أن يكون العرض قد حصل على صورة، بحيث يمكن للعقد أن يقوم على أساسه، بمجرد أن يقترن به القبول ممن وجه إليه. وهذا الأمر وذاك يتطلبان في العرض، لكي يرتقي إلى مرتبة الإيجاب، أن يتضمن، في الأقل طبيعة العقد وشروطه الأساسية.
ولم يشأ المشروع أن يقف عند نص اتفقت المادة (105) من قانون التجارة الكويتي الحالي، والمادة 77/ 1 من القانون المدني العراقي، والمادة 91/ 1 من القانون المدني الأردني، على أن تأتي به بحرفيته، قائلة كلها إن: " الإيجاب والقبول كل لفظين مستعملين عرفًا لإنشاء العقد. وأي لفظ صدر أولاً فهو إيجاب والثاني قبول ... " كما أنه لم يشأ أن يقف عند نص المادة (101) من المجلة التي تقضي بأن: " الإيجاب أول كلام يصدر من أحد العاقدين لإنشاء التصرف، وبه يوجب ويثبُت التصرف "، فكل من هذين النصين لا يحقق الغاية التي استهدفها المشروع وهي تحديد ما يعتبر إيجابًا وتمييزه عما قد يصاحبه من مقدمات أو مفاوضات.
وتعرض المادة (40) لصورة من صور الإيجاب شائعة في واقع حياة الناس وهي صورة الإيجاب المقدم للجمهور، فتقرر الفقرة الأولى مبدأ جواز مجيء الإيجاب في هذه الصورة بعد أن تقيدها بقيد تقتضيه طبيعة الأمور ذاتها، ومؤداه ألا تكون شخصية المتعاقد ذات اعتبار أساسي في التعاقد، فالعرض الذي يوجهه مثلاً رب عمل للجمهور في شأن تشغيل العمال عنده لا يكون إيجابًا حتى لو تضمن شروط العقد الأساسية، لما لشخصية العامل من اعتبار أساسي في التعاقد.
وقد حرص المشروع على أن يتحفظ، في شأن الإيجاب الموجه للجمهور، بوجوب مراعاة ما تقتضيه ظروف الحال، إذ أن الإيجاب هنا يرد بالضرورة معلقًا على إمكانية تمشي صاحبه مع مقتضاه.
وتجيء الفقرة الثانية لتخص بالذكر، حالة عرض البضائع في واجهات المتاجر أو ما يشبهها مع بيان أثمانها، باعتبارها أكثر حالات العرض الموجه للجمهور شيوعًا في العمل، مضفية عليه وصف الإيجاب. ولا يعدو هذا الحكم أن يكون مجرد تطبيق للمبدأ الذي قررته الفقرة الأولى.
أما الفقرة الثالثة، فتعرض لحالات النشر والإعلان وإرسال وتوزيع قوائم الأسعار الجاري التعامل بها وكل بيان آخر متعلق بعروض أو طلبات موجهة للجمهور أو لأفراد معينين، وتقرر أنها لا تعتبر، بحسب الأصل إيجابًا، ولا يخالف هذا الأصل إلا إذا استبان عكسه من ظروف الحال. وهذا الحكم يتمشى تمامًا مع الغالب حصوله في العمل. حيث أنه يقصد في العادة بإرسال ما سبق، الدعاية، أو في الأكثر الدعوة إلى التعاقد.
وحكم الفقرتين الثانية والثالثة مستمد في أصله من المادة 7/ 2 و3 من مدونة الالتزامات السويسرية، والمادة (73) من مدونة القانون البولوني، وقد أخذه عنهما مشروع تنقيح القانون المدني المصري (المادة 134). وعن هذا الأخير، انتقل إلى قانون التجارة الكويتي الحالي (المادة 107).
وقد حرص المشروع، في الفقرة الثانية من المادة (40) على أن يورد على مبدأ اعتبار عرض البضائع مع بيان أثمانها إيجابًا تحفظًا تفرضه طبيعة الأمور مؤداه وجوب مراعاة ما تقتضيه التجارة من أوضاع. ولهذا التحفظ ما يبرره. فقد لا يقصد التاجر، بعرض سلعة معينة في واجهة محله، أن يوجب بيعها بذاتها، وإنما بيع سلعة أخرى تماثلها. وقد لا تكون في المتجر سلعة غير تلك المعروضة في واجهته. فيعمد التاجر إلى إبقائها فيها على سبيل الدعاية لا أكثر، انتظارًا منه لوصول غيرها.
وتعرض المادة (41) للأثر المترتب على الإيجاب. وتتنازع هذا الحكم في القانون المقارن فكرتان: تقوم أولاهما على التزام الموجب بإيجابه، فتحرمه من الرجوع فيه، ما لم يتضمن ما ينم عن قصده في الاحتفاظ بحقه في ذلك. أما الفكرة الثانية، فلا تضفي على الإيجاب في ذاته صفه الإلزام، وتخول بالتالي لصاحبه أن يرجع فيه، طالما لم يقترن به بعد قبول، وهذه الفكرة هي التي تسود في الغالبية الكبرى من القوانين المعاصرة، ومنها قانون التجارة الكويتي الحالي، وهي الفكرة التي تسود أيضًا في الفقه الإسلامي، حيث يثبت للموجب ما يطلق عليه الفقهاء (خيار الرجوع). وقد أخذت بها المجلة بدورها (المواد 182 - 185)، وذهب رأي في المذهب المالكي يقول بلزوم الإيجاب على صاحبه، حتى أنه إذا رجع فيه، وصدر مع ذلك القبول في مجلس العقد، انعقد العقد (راجع الخطاب ج 4 ص 240).
وقد آثر المشروع أن يأخذ بمبدأ عدم لزوم الإيجاب على صاحبه، لما فيه من التيسير عليه، بمنحه فرصة التحلل من العقد، إذا أصبح عنه راغبًا.
وتورد الفقرة الثانية استثناءً على مبدأ عدم لزوم الإيجاب على صاحبه ومنحه خيار الرجوع فيه. وذلك في الحالة التي يحدد فيها الموجب ميعادًا للموجب له، يبدي خلاله رأيه فيه، قبولاً أو رفضًا. وهذا الحكم لا يعدو أن يكون تفسيرًا لإرادة الموجب. وقد يأتي تحديد الميعاد من الموجب صراحةً. وقد يُستدل عليه من ظروف الحال أو طبيعة المعاملة، كما هو الشأن، على وجه الخصوص، في التعاقد بالمراسلة أو التعاقد بالمزاد أو التعاقد بالتجربة.
وقد ارتأى المشروع أن يعدل بعض الشيء في الصياغة المألوفة التي جرت عليها المدونات المختلفة، في صدد تقرير لزوم الإيجاب المقترن بمدة تحديد للقبول، والتي جاء عليها القانون المصري (المادة 93)، واتبعته فيها المدونات العربية الأخرى، ومنها قانون التجارة الكويتي الحالي (المادة 110). فهو لم يشأ أن يساير تلك المدونات فيقول إنه، في حالة ما إذا اقترن الإيجاب بميعاد محدد للقبول، " التزم الموجب بالبقاء على إيجابه "، أو " التزم الموجب بإيجابه " وإنما قال " بقي الإيجاب قائمًا ".
وهذه العبارة أدق في التعبير عن الحكم المبتغى، وهو استمرار بقاء الإيجاب قائمًا، طوال الميعاد المحدد، حتى لو رجع الموجب فيه، الأمر الذي من شأنه أن يمكن من قيام العقد، بمجرد علم الموجب بالقبول.
وارتأى المشروع أيضًا أن ينهج منهجًا يغاير ما سارت عليه المدونات السابقة كلها، فجاء يصرح بسقوط الإيجاب المقترن بميعاد محدد للقبول، بمجرد فوات هذا الميعاد، وذلك لكي يزيل مظنة استمرار بقائه بعدئذٍ، ولكن مجردًا من وصف الإلزام.
وتعرض المادة (42) لأثر الموت وفقد الأهلية على الإيجاب، قبل أن يقترن به القبول، وتجعل من كل منهما سببًا لسقوطه. سواء ألحق الموت أو فقد الأهلية الموجب أم الموجب له.
وهذا حكم تقتضيه المصلحة. فمن شأن سقوط الإيجاب بموت الموجب، أن يقيل ورثته من صفقة ربما كانت لا تحوز رضائهم، سيما إذا كان الإيجاب ملزمًا، أما موت الموجب له، فمن شأنه أن يتيح للموجب التحرر من عقد الصفقة مع ورثته، إذ قد لا يكون راغبًا في التعاقد معهم، ثم إن سقوط الإيجاب بموت الموجب يتمشى مع الحكم الذي سبق أن أورده، في المادة 36/ 1 منه، من أن التغيير عن الإدارة لا ينتج أثره إلا بعد وصوله إلى علم من وجه إليه. وقد رُئي أن يأخذ فقد الأهلية حكم الموت في أثره على الإيجاب. والحكم الذي جاءت به المادة (42) يتفق مع السائد في الفقه الإسلامي، إذ أن القول الغالب فيه هو أنه إذا صدر الإيجاب من أحد المتعاقدين وهو أهل للتعاقد، وقبل القبول من الطرف الآخر مات الموجب، أو خرج عن الأهلية، بطل الإيجاب، حتى إذا صدر بعد ذلك القبول من الطرف الآخر لا ينعقد العقد. وهذا هو مذهب الحنفية (رد المحتار لابن عابدين 4/ 29) والشافعية (مغنى المحتاج 2/ 6)، والحنابلة (المغنى لابن قدامة 3/ 482) والشيعة الجعفرية (فقه الإمام جعفر 3/ 44). وهذه المذاهب تقيم سقوط الإيجاب بموت الموجب أو بفقد أهليته على أساس خيار الموجب في الرجوع فيه اعتبارًا بأنه يتعذر عليه عندئذٍ إعمال هذا الخيار.
القبول:
تعرض المادة (43) للقبول، باعتباره الخطوة الأساسية الثانية لانعقاد العقد. وتقضي في فقرتها الأولى، بأن للموجب له الخيار فيه، فله أن يرتضي الإيجاب، أو أن يرفضه. والأصل أنه لا معقب عليه في هذا ولا في ذاك. إذ الأمر أمره ومتروك لتقديره.
بيد أنه إذا كان الإيجاب قد جاء من صاحبه تلبية لدعوة إلى التعاقد سبق أن وجهت من الموجب له، فقد يتحمل هذا الأخير بالمسؤولية إذا لم يستند رفضه للإيجاب إلى مبرر سائغ، ولم يشأ المشروع أن يساير القانون اللبناني فيصرح مثله بهذا الحكم (المادة 181)، لأنه لا يعدو أن يكون تطبيقًا للقواعد العامة.
وتعرض الفقرة الثانية لما يعتبر قبولاً، وتستلزم لذلك أن يجيء الرد من الموجب له مطابقًا للإيجاب. ويجب أن تكون هذه المطابقة تامة شاملة كل ما تناوله الإيجاب من أمور التعاقد.
وتجيء الفقرة الثالثة لتبين حكم عدم التطابق بين الإيجاب وبين الرد عليه من الموجب له، وتقضي بأن مثل هذا الرد يعتبر رفضًا للإيجاب. فأي تخالف بين الإيجاب وبين الرد عليه، سواء بالزيادة أو النقصان في مداه أو بالتعليق على شرط، أو الاقتران بأجل، أو على أية صورة أخرى، يجعل من الرد رفضًا للإيجاب.
على أن الرد المخالف للإيجاب إذا اعتُبر رفضًا له، فهو يقع بمثابة إيجاب جديد.
والأحكام التي جاءت بها المادة (43) في فقراتها الثلاث متجاوبة تمامًا مع ما يقضي به الفقه الإسلامي، وما تقول به القوانين المعاصرة، ومنها قانون التجارة الكويتي الحالي (المادة 111).
وتعرض المادة (44) لحالة خاصة يجيء عليها القبول، في بعض الأحيان، وهذه هي حالة السكوت عن الرد على الإيجاب.
وينبغي التفريق بين السكوت وبين التعبير الضمني عن الإرادة، فهما، وإن اتفقا معًا في وجوب إعمال الاستنتاج المنطقي للوصول إلى حقيقة القصد، فإنهما يختلفان في طبيعتهما إذ أن التعبير الضمني يقوم على وضع إيجابي يصدر من المتعاقد، وإن لم يدل على إرادته بطريق مباشر، أما السكوت، فهو مجرد صمت عن الرد. فهو إذن وضع سلبي، وإن أمكن في بعض الأحيان أن يُستدل منه على الإرادة، وإذا كان التعبير الضمني عن الإرادة يصلح للإيجاب وللقبول، فإن السكوت لا يصلح إلا للقبول، بل هو لا يصلح للقبول، إلا إذا لابسته ظروف خاصة من شأنها أن تدعم دلالته عليه.
فقد تلابس السكوت بالنسبة إلى القبول ظروف تجعل منه دلالة على الرضاء، وليس يوجد في هذا الخصوص معيار أصلح من ذاك الذي قال به فقهاء المسلمين من الأحناف، وقننته المجلة عنهم (المادة 67)، من أن السكوت في معرض الحاجة إلى الكلام بيان. فكلما كان من شأن طبيعة المعاملة والظروف التي تكتنف إبرامها أن تقتضي من الموجب له أن يُصرح برفض الإيجاب الموجه له، إذا كان عنه راغبًا، فإن سكوته عن رفضه يتمثل دلالة واضحة على رضائه به. وقد آثر المشروع أن يأخذ بهذا المعيار الذي جاء به الفقه الإسلامي، وأخذته عنه المجلة، ثم القانون العراقي (المادة 81) ومن بعده قانون التجارة الكويتي الحالي (المادة 108) لأنه أدق وأسلم من المعيار الذي جاء به القانون الألماني ومدونة الالتزامات السويسرية (المادة 6) وسايرهما فيه القانون المصري (المادة 98) وهو معيار يقوم على عدم انتظار الموجب تصريحًا بالقبول يصدر من الموجب له. فالأمر مرده إلى الموجب له نفسه، هل أنه بسكوته عن الرد قد قبل الإيجاب أم أنه لم يقبله. وليس مرده إلى ما إذا كان الموجب ينتظر أو لا ينتظر تصريحًا بالقبول.
وتعرض المادة (44) في فقرتها الثانية لتطبيقات ثلاثة، لعلها من أبرز ما يقع في العمل. وهي مذكورة على سبيل التخصيص والتمثيل، وليس على سبيل التحديد والحصر، فلا يوجد ثمة ما يمنع من أن تتواجد حالات أخرى يتلابس فيها السكوت مع ظروف تدعم دلالته على القبول.
وتعرض المادة (45) لحالة موت الموجب له أو فقده الأهلية بعد صدور القبول منه، وقبل أن يتصل قبوله هذا بعلم الموجب. وهي تقضي هنا بسقوط القبول. وعلة هذا الحكم ما سبق للمشروع أن قرره في المادة 36/ 1 من أن التعبير عن الإرادة لا يحدث أثره إلا بعد اتصاله بعلم من وجه إليه. فطالما أن القابل مات أو فقد أهليته قبل أن ينعقد العقد، فأولى بقبوله أن يسقط.
ارتباط الإيجاب والقبول:
تبدأ المادة (46) بمواجهة الحالة الغالبة في حصول التعاقد، وهي تلك التي يتم فيها بين عاقدين حاضرين، أو ما يطلق عليه التعاقد في مجلس العقد.
ومجلس العقد اصطلاح شرعي قال به الفقه الإسلامي، وأخذه عنه بادئ ذي بدء القانون المدني المصري (المادة 94). ومن خلال هذا القانون، شق طريقه إلى كافة القوانين العربية التي استوحته، ومن بينها قانون التجارة الكويتي الحالي (المادة 109) وقد آثر المشروع أن يُبقي على هذا الاصطلاح، لما فيه من أحكام الدلالة على المقصود.
ومجلس العقد يعني اجتماع المتعاقدين في نفس المكان والزمان، بحيث يسمع أحدهما كلام الآخر مباشرةً، حالة كونهما منصرفين إلى التعاقد، لا يشغلها عنه شاغل. وهو يبدأ بتقديم الإيجاب وينتهي إما بالرد على الإيجاب قبولاً أو رفضًا، وإما بانفضاضه دون رد، سواء أكان هذا الانفضاض بالمفارقة الجسدية أم بكونهما قد انشغلا أحدهما أو كلاهما عن التعاقد بشاغل.
ومجلس العقد أمر أساسي في الفقه الإسلامي. إذ يلزم أن يجيء الإيجاب والقبول فيه، وهو ما يسمى بوحدة المجلس. وإن كان الفقه الإسلامي أجاز أيضًا التعاقد بالمراسلة، اعتبارًا بأن ثمة مجلسًا حكميًا للعقد، ينعقد إما حال أداء الرسول رسالته، وإما حال قراءة الخطاب، وقد أفرط بعض فقهاء المسلمين من الحنفية في فكرة وحدة المجلس، باعتبارها شرطًا لانعقاد العقد، على نحو لا يتسق مع روح الشريعة السمحة، ولا مع المبدأ الأساسي الذي يسود، تحت ظلها، وهو مبدأ الرضائية في العقود، فقالوا إن أي تغيير في موقف المتعاقدين أو في مكان وجودهما، ولو كان يسيرًا، ينهي المجلس، ويحول بالتالي دون قيام العقد. ولم يسد هذا التصوير المفرط في الشكلية في الفقه الإسلامي، حيث رأى جمهور رجاله، وعلى الأخص المالكية منهم والحنابلة، أن مجلس العقد يظل قائمًا، وفقًا لما تعارف عليه الناس، بل إن المجلة نفسها، برغم أنها تقنين للفقه الحنفي، لم تتضمن ما يدل على أنها تسايره في الإفراط في تصويره مجلس العقد.
وإذا كان المشروع يعرض، في المادة (46) منه، للتعاقد في مجلس العقد، فهو لا يحتم صدور الإيجاب والقبول فيه، إلا إذا كان المقصود هو أن يتم التعاقد في الحال، فإن اقترن الإيجاب بميعاد حُدد للقبول، ظل قائمًا طوال هذا الميعاد، بحيث يمكن للقبول أن يلحقه حينئذٍ، فيقوم العقد ولو تبلغ للموجب بعد انفضاض المجلس. ثم إن المشروع لا ينظر إلى مجلس العقد، إلا على النحو الذي ينظر إليه جمهور فقهاء المسلمين، من حيث أنه يعني قبل كل شيء، انصراف المتعاقدين إلى التعاقد، لا يشغلها عنه شاغل.
وإذا صدر الإيجاب في مجلس العقد من غير أن يتضمن ميعادًا للقبول، ظل قائمًا إلى آخر المجلس. وهنا يثبت لكل من المتعاقدين الخيار على صاحبه. فللموجب خيار الرجوع في إيجابه، طالما لم يقترن به قبول. وللموجب له خيار القبول إلى آخر المجلس.
وقد اختلف فقهاء المسلمين في تحديد الوقت الذي يسوغ فيه للقبول أن يصدر. ونجد تحت ظله نزعتين أساسيتين: فالشافعية يقولون بالفور، بمعنى وجوب أن يأتي القبول فور صدور الإيجاب، وإلا اعتُبر هذا الإيجاب مرفوضًا. ويقول بالفور أيضًا من القوانين المعاصرة: القانون المصري (المادة 94)، والقانون السوري (المادة 95)، والقانون الليبي (المادة 94)، والقانون الألماني (المادة 147)، ومدونة الالتزامات السويسرية (المادة 4)، ومدونة الالتزامات والعقود التونسية (المادة 27)، ومدونة الالتزامات والعقود المغربية (الفصل 185).
وثمة نزعة ثانية في الفقه الإسلامي، وهي النزعة السائدة فيه، ويقول بها على الأخص الحنفية والمالكية والحنابلة، ومؤداها أن الفور غير لازم، وأن الإيجاب طالما أن صاحبه لم يرجع فيه، يبقى قائمًا يتربص القبول إلى آخر مجلس العقد، وإن كان هذا المجلس لا ينتهي بالمفارقة الجسدية فحسب، بل أيضًا بكل ما يشغل المتعاقدين عن التعاقد وقد أخذت المجلة بهذه النزعة وقننتها في المادة (181) منها، في صدد البيع.
وقد آثر المشروع أن يأخذ بالنزعة الأخيرة. لأنها أكثر تمشيًا مع قصد المتعاقدين. ثم أنها أدعى إلى التحديد والانضباط، لقيامها على أساس بيِّن واضح، هو انعقاد مجلس العقد، فيبقى الإيجاب قائمًا إلى آخر المجلس. فإذا انفض المجلس بالمفارقة الجسدية، أو بأي قول أو فعل يقوم مقامها، لما يترتب عنه من الانشغال عن التعاقد، اعتُبر الإيجاب مرفوضًا، وهو الحكم الذي يأخذ به القانون الكويتي الحالي (المادة 109).
وتعرض المادة (47) للحالة التي يتم فيها اقتران الإيجاب بالقبول، وهي وإن كانت واردة في مجال التعاقد في مجلس العقد إلا أن حكمها يسري أيضًا على جميع الصور الأخرى في التعاقد، أيًا ما كانت، وهي تقضي بلزوم العقد على عاقديه، بمجرد أن يتم ارتباط الإيجاب بالقبول، فلا يسوغ بعد ذلك لأي منهما أن يتحلل من حكمه، برغم إرادة الآخر، ما لم يشفع له في ذلك الاتفاق، أو نص في القانون، أو حكم يقضي به العرف.
وقد آثر المشروع أن يورد هذا الحكم، نظرًا لأهميته العملية القصوى. ثم إن فقهاء المسلمين اختلفوا حوله اختلافًا كبيرًا، الأمر الذي يتعين معه أن يتخذ له موقفًا في شأنه.
فطائفة من فقهاء المسلمين، يتزعمها الفقه الشافعي والفقه الحنبلي، تقول بأن لأي من المتعاقدين أن يرجع في العقد، برغم توافق الإيجاب والقبول، طالما بقي المتعاقدان مجتمعين لم يتفارقا بالبدن. وهذا ما يسمى عندهم (خيار المجلس). ودعامة هذا الرأي الحديث الشريف (المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يفترقا إلا بيع الخيار)، والطائفة الثانية من فقهاء المسلمين يتزعمها الفقه الحنفي والفقه المالكي. وهي تقول بأن العقد، بعد انعقاده بتوافق الإيجاب والقبول، يصير لازمًا، ويمتنع على أي من طرفيه الرجوع فيه، برغم إرادة الآخر. فهي لا تقول بخيار المجلس. وعمدة هذا الرأي قوله، عز شأنه: “ يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود “، اعتبارًا بأنه مما يتنافى مع الوفاء بالعقد أن يُسمح لأي من طرفيه بالنكوص عنه بعد تمام انعقاده. وأنصار هذا الرأي يعمدون إلى تفسير الحديث الشريف (المتبايعان بالخيار ......) على نحو يجعله متسقًا مع إطلاق الآية الكريمة كقول بعضهم بأن المقصود، في الحديث الشريف، من كلمة المتبايعان هو المتساومان، أي المتفاوضان في شأن البيع، وكقول البعض الآخر إن المقصود بكلمة (يفترقا) هو الافتراق بالقول، لا التفرق بالأبدان. وهو يتم بصدور القبول.
وقد آثر المشروع أن يأخذ بالرأي الأخير، لأنه يتمشى مع إطلاق الآية الكريمة: “ يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود “ واطمئنانًا منه إلى تفسير فقهاء الحنفية والمالكية للحديث النبوي الشريف بما يجعله متسقًا مع هذا الإطلاق.
وتعرض المادة (48) والمادة (49) لصورة جد شائعة في التعاقد لا سيما في المعاملات التجارية وهي من بعد صورة يزداد شيوعها يومًا بعد يوم، على أثر تقدم العلم وتكنولوجيا العصر. وهذه هي صورة التعاقد بالمراسلة سواء أتم عن طريق إيفاد رسول يبلغ الرسالة من هذا الطرف لذاك، أو تم بالمكاتبة عن طريق البريد أو عن طريق البرق أو ما يشبهه من وسائل الاتصال الأخرى، وسمة هذا التعاقد أنه يتم بين غائبين، دون أن يسمع أحدهما الآخر فور أداء عبارته، الأمر الذي يتطلب بالضرورة فوات فترة من الزمن، تطول أم تقصر، بين تعبير كل من الطرفين عن إرادته ووصول تعبيره هذا إلى علم الآخر.
وقد جرت العادة، في تقنينات الدول المختلفة، عربية كانت أم أجنبية، على أن يُقتصر أمر التشريع، في تنظيمه التعاقد بالمراسلة، على مواجهة مسألة زمان انعقاد العقد ومكانه. وهي مسألة، على كبير أهميتها، ليست الوحيدة الجديرة بأن يعرض لها التشريع بالتنظيم المباشر. فإلى جانبها، توجد مسألة أخرى لا تقل عنها أهمية، بل تزيد وهذه هي مسألة تحديد مدى التزام الموجب بالإبقاء على إيجابه بعد أن يبعث به إلى الموجب له. وهذه المسألة وإن كان يمكن الوصول إلى بيان الحكم فيها عن طريق الاستنتاج من الفقرة الثانية من المادة (41) من المشروع، إلا أنه من المفيد أن يخصها التشريع بالذكر، لإقامة معيار يحدد على أساسه فترة بقاء الإيجاب ملزمًا، عندما لا يحدد الموجب لإيجابه ميعادًا صريحًا. وقد أقام المشروع لذلك معيارًا مرنًا قوامه الفترة المعقولة التي تقتضيها ظروف الحال لوصول الإيجاب للموجب له، وإبداء هذا رأيه فيه، ثم وصول قبوله للموجب، إذا قُدر له أن يكون.
وتعرض الفقرة الثانية من المادة (48) للحالة التي يصدر فيها القبول في وقت مناسب، بمعنى أن يجيء في وقت تسمح فيه الظروف، بحسب المألوف، بوصوله إلى الموجب خلال الفترة المعقولة التي يبقى فيها إيجابه قائمًا، ولكنه مع ذلك يتأخر في وصوله، لسبب أو لآخر، إلى ما بعد فوات تلك الفترة. وهي هنا ترخص للموجب أن يعتبر إيجابه مرفوضًا. إذ أنه أولى بالقابل أن يتحمل تبعة ذاك التأخير دونه.
وتواجه المادة (49) مسألة تحديد زمان ومكان انعقاد العقد، عندما يتم إبرامه بالمراسلة، وهي مسألة تباين وجه الحكم فيها تباينًا كبيرًا، في تقنينات الدول المختلفة. فمن هذه التقنينات ما يعتد في ذلك بصدور القبول. ومنها ما يعتد بتصدير القبول ومنها ما يعتد بوصول القبول إلى الموجب له. وقد تبنى القانون المصري هذا الرأي الأخير (المادة 97)، وتبعته فيه أغلب القوانين العربية التي استوحته، كالقانون الليبي (المادة 97)، والقانون العراقي (المادة 87) وأخذ بهذا الرأي كذلك قانون التجارة الكويتي (المادة 112).
وقد آثر المشروع أن يأخذ بمبدأ العلم بالقبول، لتمشيه مع المصلحة أكثر من غيره. فقضى بأن التعاقد بالمراسلة يُعتبر أنه قد تم في الزمان والمكان اللذين يتصل فيها القبول بعلم الموجب، ما لم يُتفق على غير ذلك، أو يقضي القانون أو العرف بخلافه. والحكم الذي أخذ به المشروع لا يعدو أن يكون تطبيقًا للمبدأ الذي سبق أن قرره في المادة 36/ 1.
وغني عن البيان أن وصول القبول إلى الموجب يقوم قرينة على علم هذا به، ما لم يقم الدليل على عكس ذلك، إعمالاً لحكم الفقرة الثانية من المادة (36).
وتعرض المادة (50) لصورة ثالثة من صور التعاقد، وهي تلك التي يتم فيها التعاقد بطريق الهاتف أو أي طريق آخر مشابه. وسمة التعاقد بالهاتف، أو ما يشبهه، أنه يتم بين شخصين غائبين أحدهما عن الآخر مكانًا، ولكنهما في حكم الحاضرين كلامًا، حيث أن كل منهما يسمع عبارة الآخر فور إبدائها منه. من أجل ذلك يعطي المشروع التعاقد الذي يتم على هذه الصورة حكم التعاقد بين الغائبين، أي التعاقد بالمراسلة، بالنسبة إلى مكان انعقاد العقد، حيث يتحدد هذا المكان بذاك الذي يتكلم منه الموجب. ويعطيه حكم التعاقد بين الحاضرين، أو التعاقد في مجلس العقد بالنسبة إلى كيفية تمام العقد وزمان انعقاده. إذ أنه من الممكن اعتبار التعاقد بالهاتف في خصوص تمام إبرامه وزمانه، في حكم التعاقد الحاصل في مجلس العقد.
وإذا كانت العادة قد جرت، في تقنينات الدول المختلفة، ألا تعرض، في صدد التعاقد بالهاتف، إلا لمكان انعقاد العقد وزمانه، كما هو الحال في قانون التجارة الكويتي (المادة 113) فالمشروع قد آثر أن يعرض أيضًا لكيفية تمام إبرام العقد لأهميتها القصوى، مقررًا في شأنها حكمًا مماثلاً لذاك الذي يسري على التعاقد في مجلس العقد.
وتواجه المادة (51) حالة أخذت تشيع في المعاملات المالية، لا سيما التجارية منها، وهي الحالة التي يتفق فيها المتعاقدان على الإحالة، في صدد حكم عقدهما، على عقد نموذج
contrat - type أو على لائحة نموذجية reglement - type والعقد النموذج ليس في حقيقته عقدًا. فهو لا يتضمن رضاء يقوم بين طرفين، ولكنه مجرد جماع لشروط توضع مسبقًا، لتتخذ نموذجًا لحكم عقود فردية تُبرم في تاريخ لاحق، إعمالاً لذات إرادة عاقديها وكان أولى به أن يطلق عليه (صيغة نموذجية للعقد formule - type) أو نموذج العقد. ولكن الفكر القانوني العالمي سار من قديم على أن يطلق عليه اصطلاح (العقد النموذج)، وقد آثر المشروع ألا يقطع هذا التقليد الثابت المستقر.
والعقد النموذج تضعه، في العادة، منظمات جماعية خاصة، كالنقابات وغيرها من الهيئات المهنية والغرف التجارية واتحاد البنوك. وقد تعمد الدولة نفسها أو غيرها من الأشخاص المعنوية العامة لوضع نموذج للشروط التي تتعاقد عليها مع الأفراد، كما إذا وضعت نموذجًا للشروط التي يتضمنها بيع أموال الدولة الخاصة أو تأجيرها، أو لمنح امتياز إدارة المرافق العامة. وقد يُطلق على جماع الشروط التي تضعها الإدارة اصطلاح (اللائحة النموذجية). ونظام العقد النموذج أو اللائحة النموذجية، وإن كان له جليل الفائدة، من حيث أنه يتضمن نموذجًا لتنظيم تفصيلي ودقيق لما يُبرمه الأفراد من عقود، وهو تنظيم كثيرًا ما تقعد عنه النصوص القانونية، إلا أنه لا يخلو من بعض مظاهر الخطورة. ففيه تقييد واضح لسلطان الإرادة، بل إنه أصبح اليوم – في كثير من الحالات – يُتخذ وسيلة فعالة لإعمال فكرة العقد الموجه.
بيد أن أخطر ما في نظام العقد النموذج يكمن في أن المتعاقد قد يرتضي الإحالة على حكمه، دون أن يكون في الحقيقة قد اطلع عليه وألم به، وقد جاء المشروع مستهدفًا تفادي هذا الخطر. فهو، إن كان يقضي بسريان أحكام العقد النموذج عند الاتفاق على الإحالة عليه، على العقد المبرم، ويفترض بذلك علم كل من المتعاقدين عندئذٍ بهذه الأحكام، إلا أنه أجاز لكل منهما أن يثبت عدم علمه بها كلها أو بعضها، فإن أفلح في إقامة الدليل، فإنه لا يسري عليه ما لم يعلم به من أحكام العقد النموذج.
على أن المشروع قد حرص هنا على ألا يقرر بطلان العقد، إلا إذا كانت الأحكام التي لم يحصل العلم بها أساسية، فإن كانت ثانوية، فما بطُل العقد، وتولى القاضي حسم الخلاف في شأنها، على هدي من طبيعة المعاملة والعرف الجاري ومقتضيات العدالة.
وقد سوى المشروع مع العلم بأحكام العقد النموذج أو اللائحة النموذجية الحالة التي يكون في مقدور المتعاقد فيها، عند إبرام العقد، أن يعلم بها، لكون الفرصة متاحة له في ذلك، وهو حكم يقتضيه استقرار المعاملات. ثم إنه ليس للمتعاقد هنا أن يلوم إلا نفسه.
وقد استوحى المشروع الفقرة الأولى من المادة (51) من نص المادة (9) من المشروع المقدم من الأستاذ
mazeaud للجنة تنقيح القانون المدني الفرنسي، مع تعديل في الصياغة. ولم يشأ أن يقف عند نص المادة (147) من المشروع التمهيدي للقانون المدني المصري، الذي جاء يطلق أثر الاتفاق على الإحالة على العقد النموذج بغير قيود.
وجاء حكم الفقرة الثانية متمشيًا مع فكرة اقتصار بطلان العقد على حالة عدم اتفاق طرفيه المسائل الجوهرية فيه، طالما يثبت أن خلافهما لم يرد عندئذٍ على ما بقي من مسائلة الثانوية، وهو الحكم الذي أرست أصله المادة (52) من المشروع.
وتواجه المادة (52) الحالة التي يحصل فيها الاتفاق الفوري على بعض مسائل العقد، دون بعضها الآخر. فإن لزم لقيام العقد، عدم حصول خلاف بين المتعاقدين على أية مسألة من المسائل الداخلة في رحابه، أيًا ما كانت، إلا أنه قد يحصل أن يتفق المتعاقدان بالفعل على بعض هذه المسائل، ويرتضيان إرجاء اتفاقهما على بعضها الآخر، إلى وقت لاحق، على أمل منهما في وصولهما إلى هذا الاتفاق مستقبلاً.
ويتجاذب حكم هذه الحالة حلان: فإما أن يتقرر أن العقد لا ينعقد إلا إذا تم الاتفاق على المسائل المعلقة، إن قُدر له أن يقع. وإما أن يتقرر انعقاد العقد فورًا، شريطة أن يكون الاتفاق قد ورد على كل المسائل الجوهرية فيه، ولم يُعلق إلا الاتفاق على ما هو ثانوي منها.
وقد نهج القانون المصري النهج الأخير (المادة 95) وسارت على دربه أغلب القوانين العربية التي استوحته، كالقانون العراقي (المادة 86)، والقانون السوري (المادة 96)، والقانون الليبي (المادة 95). أما قانون التجارة الكويتي، فقد التزم الصمت، ولم يشأ أن يصرح في نصوصه بالسير في هذا الاتجاه أو في ذاك. وقد آثر المشروع أن يساير الاتجاه الثاني، فقضى في الفقرة الأولى من المادة (52) بالانعقاد الفوري للعقد، إذا كان الاتفاق قد ورد بالفعل على المسائل الجوهرية فيه، واقتصر الإرجاء على ما يُعتبر منها ثانويًا. بيد أن هذا الحكم لا يعدو أن يكون مجرد تفسير للإرادة المشتركة للمتعاقدين. ومن ثم فلا يُعمل به إلا عندما لا يستبين من شروط العقد أو من الظروف التي اكتنفته أن نية المتعاقدين قد انصرفت إلى غيره.
وإذ يتقرر انعقاد العقد بمجرد الاتفاق على المسائل الجوهرية فيه، مع ارتضاء تعليق الاتفاق على ما هو ثانوي منها إلى وقتٍ تالٍ، كان لزامًا أن تواجه الحالة التي لا يصل فيها الطرفان التي الاتفاق على المسائل المرجأة، وهذا ما يفعله المشروع في الفقرة الثانية من المادة، مقررًا بقاء العقد، وتخويل القاضي سلطة حسم الخلاف، على هدي من طبيعة المعاملة والعرف الجاري ومقتضيات العدالة. وهذا هو الحل الواجب اتباعه، برغم ما فيه من إعطاء القاضي ما يتجاوز المألوف من سلطته.
وقد استوحى المشروع حكم المادة (52) بفقرتيها من المادة (2) من مدونة الالتزامات السويسرية، ومن المادة (95) من القانون المدني المصري ونصوص قوانين الدول العربية الأخرى التي أخذت عنه، وإن كان قد لجأ إلى صياغة أسلم وأدق.
النيابة في التعاقد:
تتسم النيابة في التعاقد بأهمية عظيمة، ولذاك أولاها المشروع فائق عنايته، وعمد إلى تنظيمها في إطار نظرية عامة، تتضمن الأسس التي تقوم عليها، وتؤدي على هديها وظيفتها. وهو في ذلك يتجه إلى سد نقص ظاهر في القانون الكويتي الحالي، حيث لا يتضمن نظرية عامة للنيابة. فقد قنع القانون الكويتي الحالي بوضع أحكام في شأن بعض صور النيابة القانونية، وعلى الأخص النيابة عن فاقدي الأهلية وناقصيها، وبوضع أحكام للنيابة الناشئة عن الوكالة. وقد جاء ذلك منه في مواضع مختلفة، تتفرق بين المجلة وقانون التجارة، وغيرهما من التشريعات الكويتية الأخرى، لا سيما المرسوم بقانون رقم (5) لسنة 1959 في شأن التسجيل العقاري، والقانون رقم (4) لسنة 1974 في شأن إدارة شؤون القصر.
تحدد المادة (53) الإطار العام الذي يعمل فيه نظام النيابة في التعاقد. وترسي في هذا الصدد قاعدة أساسية عامة يقول بها الفقه الإسلامي والقانون المعاصر على حد سواء ومؤدى هذه القاعدة أن كل ما يجوز فيه التعاقد بالأصالة يجوز فيه التعاقد بالنيابة، ما لم يقضِ القانون في حالة معينة ولحكمة خاصة يتوخاها وجوب أن يجرى التصرف من الشخص بذات نفسه.
وحكم هذه المادة مستوحى من نص المادة 93/ 1 من القانون البولوني ونص المادة (155) من مشروع تنقيح القانون المدني المصري، ومن المادة (108) من القانون الأردني ونص المادة (1382) من القانون البرتغالي.
وتعرض المادة (54) لتحديد سلطة النائب. وتجيء في فقرتها الأولى، تُرسي الأصل العام، ومؤداه أن سلطة النائب تتحدد بسند نيابته بمعنى المصدر المنشئ لها. فإذا كان القانون هو مصدر النيابة، كما هو الشأن في الولاية على عديمي الأهلية وناقصيها تحددت سلطة النائب بما تقضي به أحكامه، وإن كان يجوز للقانون أن يعهد للقاضي في حالات خاصة بتحديد سلطة النائب، كما هو الشأن في الحراسة القضائية. وإذا كان الاتفاق هو مصدر النيابة، كما هو الحال في الوكالة، تعينت سلطة النائب بمقتضاه.
وتأتي المادة (54) في فقرتها الثانية، فتعرض لحالة خاصة. لا تعدم أن تجد لها تطبيقات في واقع حياة الناس، لا سيما في مجال التجارة وهذه هي الحالة التي يعلن فيها الأصيل للجمهور عن طريق الصحف أو غيرها من سبل الإعلام، عن سلطات نائبه، أو يخطر بها شخصًا معينًا أو أكثر، وذلك بما يتجاوز ما يقضي به سند نيابته. وفي مثل هذه الحالة، يخول المشروع لكل من شمله الإعلان أو الإخطار أن يتمسك في مواجهة الأصيل بما تضمنه من سلطات حتى لو تجاوزت ما جاء في أصل النيابة، وحتى لو كان النائب نفسه يجهل هذا التجاوز، وعلة هذا الحكم واضحة فلمن يتعاقد مع النائب أن يركن إلى ما أعلنه أو أخطره به الأصيل.
وغني عن البيان أن حكم الفقرة الثانية لا يسري إلى في شأن النيابة الاتفاقية. وهو ما حرص المشروع على أن يخصه به إذ أن سلطة النائب في مجال النيابة القانونية، تتحدد بالقانون ذاته، مراعاةً لما يراه هو من مصلحة الأصيل، ومن ثم لا يكون للنائب من السلطات إلا ما يقرره له القانون نفسه.
وحكم الفقرة الأولى مجرد إعمال للقواعد العامة، وإن كان المشروع قد ارتأى تقنينه، سيرًا على نهج بعض التقنينات الأخرى، ومنها مشروع تنقيح القانون المدني المصري (المادة 156) والقانون الأردني (المادة 109)، أما حكم الفقرة الثانية، ففكرته مستوحاة في عمومها من القانون السويسري (المادة 33/ 3)، وإن كان هو، في حد ذاته، تجديدًا من المشروع اقتضته المصلحة.
 وتعرض المادة (55) للشكل الذي يأتي فيه سند النيابة أو مصدرها، عندما يراد بها أن يُجري النائب تصرفًا يتطلب له القانون شكلاً خاصًا لانعقاده. وهي ترسي القاعدة العامة في هذا الخصوص، ومؤداها أن الشكل المتطلب لقيام التصرف الذي يجريه النائب غير لازم لقيام مصدر النيابة ذاتها، وإن أوردت عليها الاستثناء في الحالة التي ينص فيها القانون على حكم مخالف، كما هو الشأن في الوكالة، حيث يتطلب القانون أن يجيء عقد الوكالة في نفس الشكل المرسوم لانعقاد العقد المناط بالوكيل إبرامه نيابةً عن موكله، وتظهر فائدة هذا النص في حالات النيابة التي تثبت بمقتضى تصرف قانوني، في غير حالات الوكالة، وعلى الأخص بالنسبة إلى حالات النيابة عن الأشخاص المعنوية كالشركات والجمعيات.
وحكم المادة (55) مستوحى من نص المادة (167) فقرة ثانية من القانون المدني الألماني.
 وتعمد المادة (56) إلى تحديد من يعتد بشخصه، عند النظر في عيوب الرضاء، أو فيما يتطلبه القانون، في بعض الأحوال، من وجوب العلم أو الجهل بظروف معينة، أهو شخص النائب أو شخص الأصيل. وترسي الفقرة الأولى المبدأ العام، وهو وجوب الاعتداد هنا بشخص النائب، لا بشخص الأصيل.
وهذا المبدأ يتمشى تمامًا مع الفكرة التي باتت تسود الفكر القانوني المعاصر، من أن إرادة النائب تحل محل إرادة الأصيل في إبرام التصرف، بمعنى أن النائب عندما يبرم التصرف، يعبر عن إرادته هو، وليس عن إرادة الأصيل. وهذا واضح تمامًا في أغلب تطبيقات النيابة القانونية، ولكن الحكم يسري أيضًا في كافة مظاهر النيابة الأخرى، حتى الاتفاقية منها.
وما دام النائب يعبر عن إرادته هو، وجب أن يكون متمتعًا بالإرادة فإن كان عديم الإرادة فإن تعاقده، باعتباره نائبًا عن غيره، يقع باطلاً، كما يبطل تعاقده أصيلاً عن نفسه. وهذا الحكم يتفق تمامًا مع ما قضت به المجلة من عدم صحة توكيل الصبي غير المميز والمجنون (المادة 1457)، ومن أنه يشترط أن يكون الوكيل عاقلاً مميزًا (المادة 1458).
ولا يكفي أن تتوافر الإرادة في النائب، بل يلزم، لصحة التعاقد، أن تجيء إرادته سليمة خالية من العيوب، فإن شاب رضاءه عيب، كغلط أو تدليس أو إكراه أو استغلال، تأثر به العقد الذي يبرمه باسم الأصيل، في نفس الحدود التي يتأثر بها من يتعيب رضاؤه، حالة كونه يبرم التصرف لحساب نفسه، وذلك حتى لو كانت إرادة الأصيل لم تتعيب، وكما يُعتد بشخص النائب في تحديد عيوب الرضاء. يعتد به أيضًا، دون شخص الأصيل، في صدد ما يتطلبه القانون من وجوب العلم أو الجهل ببعض الظروف الخاصة، أو افتراض هذا العلم أو الجهل.
وقد حرص المشروع، في الفقرة الثانية من المادة (56) أن يعرض للحالة التي تكون النيابة فيها اتفاقية، ويتصرف النائب وفق تعليمات محددة يتلقاها من الأصيل، ليقضي بأنه لا يجوز فيها للأصيل أن يتمسك بجهل نائبه أمرًا كان يعلمه هو، أو كان مفروضًا فيه أن يعلمه، وبأنه يعتد عندئذٍ بما يشوب رضاء الأصيل لمن عيوب الرضاء. وليس في هذا الحكم خروج على القاعدة العامة التي تضمنتها الفقرة الأولى، إذ أن من يتولى أمر التعاقد لحساب غيره، لا يعتبر نائبًا عنه، إلا في حدود ما يجيء فيه التعاقد تعبيرًا عن ذات إرادته، فإن اقتصر أمره على تنفيذ تعليمات الأصيل غلبت عليه، في حدود تنفيذه تلك التعليمات صفة الرسول لا النائب.
وحكم المادة (56) في مجموعه، مستوحى من نص المادة (166) من القانون الألماني، الذي سبق أن استوحاه أيضًا القانون المصري في المادة (104)، ثم وجد النص المصري مكانه الرحب في المدونات العربية الأخرى التي نقلت عنه، كالقانون السوري (المادة 105)، والقانون الليبي (المادة 104) والقانون الأردني (المادة 111).
ولم يلتزم المشروع، في الفقرة الثانية من المادة (56) الصياغة التي جاء بها القانون المصري، وانتقلت منه إلى قوانين البلاد العربية الأخرى. فقد أجرى تعديلاً فيها من ناحتين، فأورد أن حكمها يخص من تنشأ نيابته بمقتضى اتفاق، بدلاً من القول بأن حكمها يخص الوكيل، لأن النيابة الاتفاقية في الحقيقة أعم من الوكالة وفق ما يذهب إليه الفكر القانوني المعاصر، الذي أخذ يعزف عن الفكرة التقليدية، التي ترى في النيابة الاتفاقية مجرد وكالة. وفي هذا الخصوص، يتجه المشروع إلى المصدر الأصلي للنص، المتمثل في الفقرة الثانية من المادة (166) من القانون الألماني، حيث خصت حكمها من تعهد إليه النيابة بمقتضى تصرف قانوني، والتعديل الثاني الذي أورده المشروع أنه ذكر وجوب الاعتداد بشخص الأصيل بالنسبة إلى عيوب الرضاء، عندما لا يفعل النائب إلا تنفيذ تعليماته، ولم يقتصر في ذلك على علم الأصيل ببعض الظروف أو افتراض علمه بها. وفي ذلك تجديد تفرضه الملاءمة ويتفادى به عيبًا اتسمت به صياغة النص الألماني، ومن بعده النص المصري وما تبعته من نصوص عربية أخرى.
 وتعرض المادة (57) للأثر المترتب على النيابة في التعاقد، وهي تقضي بأنه إذا تم التعاقد بطريق النيابة، فإن كل ما يترتب على العقد الذي يبرمه النائب باسم الأصيل من آثار تنصرف إلى الأصيل، لا إلى النائب، وهي تنصرف إلى الأول مباشرةً، أي دون مرور بذمة الثاني، وهذا هو لب نظام النيابة.
ونص المادة (57) مستوحى من نص المادة (105) من القانون المدني المصري، بعد أن أجرى المشروع بعض التعديل في صياغته، توخيًا للدقة والانضباط، فذكر أن آثار العقد تنصرف إلى الأصيل، بدلاً من القول بانصراف الحقوق والالتزامات التي تنشأ من العقد. إذ قد يُقصد بالعقد الذي يبرمه النائب أمر آخر غير إنشاء الحق أو الالتزام، كما إذا أُريد به تعديل حق أو التزام قائم أو نقله أو انقضاؤه. وحرص المشروع أيضًا أن يذكر أن آثار العقد تنصرف إلى الأصيل مباشرةً، ولم يشأ أن يقول إن هذه الآثار تضاف إلى الأصيل، لما في عبارته من انضباط أكبر، يتمثل فيما يقتضيه نظام النيابة من انصراف آثار العقد إلى ذمة الأصيل، دون مرور بذمة النائب.
 وتعرض المادة (58) والمادة (59) للحالة التي لا يظهر فيها النائب صفته، عند إبرام العقد، الذي يريد له أن يكون باسم الأصيل ولحسابه. وهي حالة لا تعدم الشيوع في واقع حياة الناس.
والأصل أن يتم إعلام المتعاقد مع النائب بأمر النيابة من النائب نفسه، حيث يعلن له صفته. ولكن يستوي مع قيام النائب بإعلان صفته لمن يتعاقد معه أن يعلم هذا الأخير بحصول التعاقد باسم الأصيل ولحسابه من طريق آخر، أو أن يكون مفروضًا فيه حتمًا، وفق ظروف الحال، أن يعلم بذلك، أو كان يستوي عنده أن يكون التعاقد حاصلاً بينه وبين النائب شخصيًا أو بينه وبين الأصيل، بأن كانت شخصية المتعاقد معه ليست ذات اعتبار أصلاً، كما إذا كان قد قام ببيع مال واستوفى ثمنه بتمامه. في كل هذه الحالات الثلاث، لا يكون لمن تعاقد معه النائب مصلحة سائغة ومقبولة في تجاهل الأصيل، بدعوى أن النائب لم يعلن له حصول التعاقد لحسابه. ومن ثم كان مجبرًا على اعتبار التعاقد حاصلاً مع الأصيل. أما إذا لم يعلن النائب، عند التعاقد صفته، ولم يعلم بها المتعاقد الآخر، ولم يكن مفروضًا فيه حتمًا أن يعلم بها، وكانت له مصلحة سائغة في عدم اعتبار التعاقد حاصلاً مع الأصيل، فإنه لا يجبر على اعتبار أن التعاقد قد حصل من النائب بوصفه نائبًا.
هذا هو الحكم الذي تقرره المادة (58) وحكمة تقريره بينة الوضوح، وهو مستوحى من نص المادة (106) مدني مصري بعد إجراء تعديل في الصياغة اقتضته الملاءمة التشريعية، وهو مطابق لحكم المادة (32) فقرة ثانية من مدونة الالتزامات السويسرية ولحكم المادة (552) من قانون التجارة الكويتي، وإن اقتصر على الوكالة، دون غيرها من أحوال النيابة.
 وتعرض المادة (59) للحالة التي لا يظهر فيها النائب، وقت إبرام العقد لمن يتعاقد معه أنه يتعامل بوصفه نائبًا، حالة كون هذا الأخير غير مجبر على الاعتداد بصفته تلك إعمالاً للمادة (58)، ولم يرتضِ أن يكون التعامل بينه وبين الأصيل. وهي تقرر هنا الحق المتعاقد مع النائب في أن يعتبر التعاقد قد وقع بينه وبين النائب بصفته الشخصية، دون أن يكون ملزمًا باعتبار أنه قد قام بينه وبين الأصيل.
وهذا حكم تمليه المصلحة، فما دام أن النائب لم يظهر صفته، ولم يعلم بها من تعاقد معه، ولم يكن مفروضًا فيه أن يعلم بها، وكان يضره أن يقوم التعاقد بينه وبين الأصيل، وجب التمشي مع حقيقة قصده هو، وهو حصول التعاقد بينه وبين النائب بشخصه.
وليس للنائب هنا أن يحاج بأنه قد قصد أن يكون التعاقد باسم الأصيل ولحسابه. وأنه بذلك لم يرتضِ أن يتم التعاقد معه شخصيًا، فالقانون لا يُدخل في اعتباره مجرد النية، إذا ظلت حبيسة النفس، ثم أن ذلك لا يعدو أن يكون مجرد تطبيق لما سبق للمشروع أن قرره في المادة (38) من أنه يجوز لمن وجه إليه التعبير عن الإرادة أن يعتد به، برغم مخالفته لحقيقة قصد صاحبه، إذا أثبت أنه عول عليه، معتقدًا مطابقته لحقيقة الإرادة، من غير أن يكون من شأن ظروف الحال أن تثير الشك في تلك المطابقة.
ونص المادة (59) مستوحى من نص المادة (164) فقرة ثانية من القانون الألماني.
 وتعرض المادة (60) للحالة التي يلجأ فيها النائب، بعد انتهاء نيابته، إلى التعاقد باسم الأصيل ولحسابه. ومقتضى القواعد العامة عدم إعمال أثر النيابة في هذه الحالة. فلا تنصرف آثار العقد إلى الأصيل. ولكن المادة (60) تورد على هذا الأصل العام استثناءً هامًا، مؤداه الترخيص لمن تعاقد مع النائب، في اعتبار التعاقد قد حصل على أساس النيابة. شريطة أن يكون هو والنائب عند التعاقد لا يعلمان بانتهاء النيابة، ولم يكن في مقدورهما أن يعلما به، لو أنهما بذلا من الحرص ما تفرضه ظروف الحال على الشخص العادي. وهذ الحكم تمليه المصلحة. فمن شأنه أن يوفر للمعاملات ما ينبغي لها من أسباب الثقة والائتمان والاستقرار.
وقد حرص المشروع - على خلاف الكثير من التقنيات الأجنبية - على أن يصرح بقصر أعمال أثر النيابة بعد انتهائها، لمصلحة حسني النية من الأشخاص، على النيابة الاتفاقية وحدها، دون النيابة القانونية. ذلك لأن النيابة القانونية يفرضها القانون، من غير أن يترك للأصيل حرية اختيار نائبه، ومن ثم فمن المصلحة ألا تبقى قائمة، بعد أن يقرر القانون نفسه انتهاءها. وفضلاً عن ذلك، فالقانون حينما يفرض النيابة القانونية، يفرضها لمصلحة أساسية تتمثل في رعاية من هم في حاجة إلى الحماية من الأشخاص، فكان حريًا بها أن تنتهي آثارها، بعد أن يقول هو بوصولها إلى أجلها. ثم إن الأصيل في النيابة التعاقدية، دون النيابة القانونية، هو الذي ينشئ منذ البداية سند النيابة. فهو بالتالي يسهم في إقامة المظهر الذي يقع، فيما بعد، الانخداع به.
 وتعرض المادة (61) للحالة التي يبرم فيها شخص باسم آخر عقد، من غير أن تثبت له في الحقيقة صفة النيابة عنه، إما لانتفاء هذه النيابة أصلاً، أو لكون العقد قد أبرم منه خارج حدود نيابته.
وتواجه المادة (61) في فقرتها الأولى – هذه الحالة بالنسبة إلى الأصيل، لتقرر عدم انصراف آثار العقد إليه، إلا إذا حصل إقرار منه على نحو ما يقضي به القانون، وهذا حكم تمليه القواعد العامة، والإقرار هنا يتمشى في مصدره مع مصدر النيابة ذاتها، فإن نشأت النيابة من الاتفاق، كان للأصيل أن يجري الإقرار. وقد تمثل هذا الحكم، في شأن الوكالة، في القاعدة التي يقول بها الفقه الإسلامي والقانون المعاصر على حد سواء وقننتها المجلة بدورها في المادة (1453) منها، وهي أن الإقرار اللاحق أو الإجازة اللاحقة، كالوكالة السابقة. أما إذا كانت النيابة قانونية، وجب أن يحصل الإقرار ممن يمنحه القانون السلطة في إجرائه.
وتأتي الفقرة الثانية من المادة (61) لتواجه حالة انتفاء النيابة أو تجاوزها، من غير أن يحصل إقرار للتصرف بالنسبة إلى المتعاقد مع النائب. وهي تقرر لهذا المتعاقد الحق في مطالبة النائب بالتعويض عن الضرر الناجم له بسبب عدم نفاذ التصرف في مواجهة الأصيل، وبالتالي بسبب تفويت الصفقة عليه. ويلزم لاستحقاق التعويض أن يكون النائب مقصرًا، وهو يُعتبر كذلك، ما لم يثبت أنه لم يعلم في الحقيقة بانتفاء نيابته أو بانتهائها أو بتجاوزها، وأنه لم يكن في مقدوره أن يعلم بذلك أو أنه بذل من الجهد ما يبذله الشخص العادي، كما أنه يلزم أيضًا لا ستحاق التعويض، أن يكون المتعاقد مع النائب حسن النية، بأن كان يجهل انتفاء النيابة أو انتهاءها أو تجاوز حدودها، وأنه لم يكن في استطاعته أن يعلم بذلك، لو أنه بذل من الجهد ما تُمليه ظروف الحال على الشخص العادي.
وهذه الفقرة مستوحاة من المادة (554) من قانون التجارة الكويتي مع إجراء تعديل فيها، يتمثل في استلزام حصول التقصير ممن اتخذ صفة النيابة، لإمكان مطالبته بالتعويض.
 وتعرض المادة (62) لحالة تعاقد النائب مع نفسه، بأن يبرم النائب العقد وحده، وإن تعددت صفته، ويتصور هذا الوضع في إحدى حالتين: فإما أن يبرم شخص العقد، بوصفه نائبًا عن غيره وأصيلاً عن نفسه، وإما أن يبرم شخص العقد بوصفه نائبًا عن كل من طرفيه.
وإذا كان من شأن إعمال فكرة النيابة في ذاتها أن يجيز التعاقد مع النفس، إلا أن ملابسات هذا النوع من التعاقد تدعو إلى الارتياب فيه، في الكثير الأغلب من حالاته، ومن أجل ذلك تنظر التقنينات في الدول المختلفة إلى هذا التعاقد بعين الحذر وهي تتغاير مع ذلك في الوسيلة، فمنها ما يجيزه كقاعدة ولكنه يحرمه في بعض الحالات على سبيل الاستثناء، ومنها ما يمنعه كقاعدة، وإن أجازه في بعض الحالات على سبيل الاستثناء. وأغلب التقنينات تسير في الاتجاه الأخير، كالقانون الألماني (المادة 181)، ومشروع القانون الفرنسي الإيطالي (المادة 37) ومشروع تنقيح القانون الفرنسي (المادة 58)، والقانون المصري (المادة 108) والقوانين العربية الأخرى التي استوحته، مثل القانون السوري (المادة 109) والقانون الليبي (المادة 108)، والقانون الأردني (المادة 115).
وقد آثر المشروع هذا الاتجاه الأخير بحظر تعاقد النائب مع نفسه باسم من ينوب عنه في صورتيه، على أنه لا يقرر هذا الحكم إلا على سبيل أنه يمثل أصلاً عامًا، يمكن له أن يُخالف ويُلزم لإمكان مخالفته أن يأذن به مصدر النيابة على نحو قاطع الدلالة، سواءً أكان هو القانون أو الاتفاق. والمشروع في ذلك، فضلاً عن أنه يتمشى مع أغلب التقنينات الأجنبية والعربية، يتفق في حكمه مع ما يسير الفقه الإسلامي عليه، وقننته المجلة في المادة (1488) في شأن الوكالة بالشراء، وفي المادة (1496) في شأن الوكالة بالبيع، كما تقنن أيضًا في المرسوم بقانون رقم (5) لسنة 1959، الخاص بالتسجيل العقاري. وإذا تعاقد النائب مع نفسه، من غير أن يؤذن فيه، كان متجاوزًا حدود النيابة. ومن ثم فلا ينفذ تصرفه في حق الأصيل، ما لم يحصل إقراره وفقًا للقانون.
 وتحظر المادة (63) على النائب أن يحل محله شخصًا آخر غيره، يقيمه نائبًا مكانه، ما لم يسمح له بذلك مصدر نيابته من قانون أو اتفاق، وهذا حكم يتمشى مع أساس من أسس النيابة، متمثلاً في أنها شخصية لا تنتقل من صاحبها إلى غيره، ما لم يوجد إذن خاص.
وحكم المادة (63) مستوحى من المادة (55) من مشروع تنقيح القانون المدني الفرنسي الذي تضمنته أعمال لجنة التنقيح لعام 1946/ 1947.
 وتعرض المادة (64) للحالة التي تنتهي فيها النيابة، ويكون قد سبق للنائب أن تسلم ما يدل عليها، كسند توكيل أو إقرار أو حكم تعيين، وهي تُلزم النائب بالمبادرة برد ما قام شهيدًا على نيابته فور انتهائها، فإن كان سند نيابته قضائيًا التزم بأن يودعه قلم كتاب المحكمة، أو جهة حكومية أخرى مناسبة.
ويستهدف المشروع بهذا الحكم حماية الغير، الذين قد يُتخذ سند النيابة، بعد انتهائها أداة لخديعتهم، كما أنه يستهدف أيضًا في النيابة الاتفاقية حماية الأصيل بمنع المتعاقد مع النائب من التمسك في مواجهته بأعمال النيابة استنادًا إلى حسن نيتهم.
والمادة (64) مستوحاة من المادة (175) من القانون الألماني ومن المادة (58) من مشروع تنقيح القانون المدني الفرنسي الوارد في مجموعة أعمال لجنة التنقيح لسنة 1946/ 1947.
شكل العقد:
 تعرض المادة (65) في فقرتها الأولى للأصل الأساسي العام، في صدد الشكل الذي يمكن للعقد أن يرد فيه، بالنسبة إلى ذات قيامه، مجيزة له أن يأتي في أي شكل يريده له عاقداه، دون إخلال بما قد يتطلبه القانون من شكليات معينة، لغرض آخر غير انعقاد العقد كإثباته أو شهره وهذا حكم أساسي يتمثل في قاعدة رضائية العقود.
وإذ تقرر المادة (65)، في فقرتها الأولى قاعدة الرضائية في العقود، فهي تورد عليها استثناء تمليه طبيعة الأمور، يتمثل في الحالة التي يفرض فيها القانون نفسه، في خصوص عقد معين، شكلاً خاصًا يحدده لقيامه.
وتجيء المادة (65)، في فقرتها الثانية، لتتناول حكم عدم مراعاة الشكل الذي يفرضه القانون لقيام العقد، استثناءً من قاعدة رضائية العقود، مقررة أنه يتمثل في بطلان العقد. والبطلان لا يقع هنا إلا إذا كان الشكل الذي فرضه القانون متطلبًا لذات قيام العقد، فإن كان متطلبًا لغرض آخر، كإثبات العقد أو شهره، أُعمل الحكم الذي يرتبه القانون على إهماله.
وحكم المادة (65) بفقرتيها مجرد تقنين لما هو مستقر ثابت في الفكر القانوني المعاصر وفي الفقه الإسلامي على حد سواء. وهو متفق مع حكم المادة 11/ 1 من مدونة الالتزامات السويسرية، والمادة (125) من القانون المدني الألماني.
 وتعرض المادة (66) للحالة التي لا يفرض فيها القانون شكلاً معينًا لقيام العقد، ولكن المتعاقدين يتفقان على أن عقدهما لا يقوم، إلا إذا جاء في شكل معلوم يحددانه، كما إذا اتفق المتبايعان على عدم قيام بيعهما إلا إذا جاء في الشكل الرسمي، أو في محرر مكتوب. وتقضي المادة (66) بصحة هذا الاتفاق، مقررة وجوب مراعاته من كل طرفيه، مانعة أيًا منهما دون رضاء الآخر أن يتمسك بقيام العقد، ما لم يأتِ في الشكل المتفق عليه.
والحكم الذي ترسيه المادة (66) يتمشى مع ما هو ثابت في الفكر القانوني المعاصر. فإن كانت شكلية العقد، حينما يفرضها القانون، تتصل بالنظام العام، اعتبارًا بأن القانون حينما يستلزمها، يستهدف بها تحقيق مصلحة عامة، فقاعدة رضائية العقود لا تتصل بالنظام العام، ومن ثم لا يوجد ثمة ما يمنع المتعاقدين من الاتفاق على مخالفتها، في شأن العقد الذي يزمعان إبرامه، بأن يرتضيا عدم قيامه إلا إذا جاء في الشكل الذي يحددانه.
على أنه يلاحظ هنا أن الشكلية التي تجيء نتيجة اتفاق المتعاقدين لا ترتقي إلى الشكلية التي يفرضها القانون. ففي حين أن مقتضى الشكلية الأخيرة أن يقع العقد باطلاً عند عدم مراعاتها، حتى لو اتفق المتعاقدان على مخالفتها، فإن الشكلية التي يتطلبها الاتفاق لا تمنع المتعاقدين من إبرام العقد بمخالفتها، شريطة أن يجيء ذلك نتيجة رضاء قاطع منهما بالتخلي عنها.
 وتعرض المادة (67) للحالة التي يتطلب فيها القانون أو الاتفاق مراعاة شكل معين في شأن العقد، دون أن يستبين، على نحو قاطع الدلالة، ما إذا كان هذا الشكل متطلبًا لذات قيام العقد، فيبطل إن لم يراعَ، أو أنه متطلب لأمر آخر من الأمور المتعلقة به، والتي لا ترتقي إلى مرتبة قيامه، كإثباته أو إحداث أثر من آثاره.
ومن الممكن هنا أن يقال إن الأمر لا يعدو أن يكون مسألة تفسير لنص في القانون أو لشرط في العقد، ومن ثم كان أولى به أن يُترك للقضاء، يغلب في شأنه الناحية التي تستبين له متفقة أكثر مع قصد الشارع أو إرادة المتعاقدين. ولكن المشروع آثر مع ذلك أن يعرض له، مقتفيًا في ذلك أثر تقنينات أخرى، كالقانون الألماني (المادة 125) ومدونة الالتزامات السويسرية (المادة 11/ 2 والمادة 14/ 1 ) ومشروع تنقيح القانون المدني المصري (المادة 149).
وثمة اتجاهان يتنازعان في الفكر القانوني تنظيم الحالة التي لا تؤدي فيها وسائل التفسير إلى تبديد الشك حول ما إذا كان الشكل متطلبًا في العقد لذات قيامه، أو لأمر آخر من أموره. فاتجاه أول يفسر هذا الشك على أن الشكل غير متطلب لقيام العقد وإنما للأمر الآخر الذي يدنوه بالضرورة. أما الاتجاه الثاني، فيعمد إلى تفسير الشك على أن الشكل متطلب لذات قيام العقد. ولكل اتجاه ما يسوغه فالأول يتمشى أكثر مع مقتضيات المنطق القانوني لفكرة رضائية العقود، اعتبارًا بأنه ما دام الأصل في العقد أنه رضائي، فالشكل لا ينهض ركنًا لازمًا لقيامه، إلا إذا كان القصد فيه قاطع الدلالة. أما الاتجاه الثاني، فيبرره أن تطلب الشكل بخلاف الأصل، سواء أكان ذلك من المشرع أم من إرادة المتعاقدين، يستهدف بالضرورة تحقيق مصلحة أساسية أو في الأقل هامة، ومن ثم كان حريًا أن يفسر الشك على النحو الذي يوفر قدرًا أكبر من الحماية، وهو عدم قيام العقد برمته. وقد آثر المشروع أن يساير الرأي الأول.
 وتعرض المادة (68) لفكرة العقود العينية التي لا تقوم إلا إذا اقترن الرضاء بها بتسليم المعقود عليه، وهي تُرسي أصلاً عامًا مؤداه أن تسليم المعقود عليه، إذا كان من شأن العقد أن يقتضيه، لا يعتبر متطلبًا لذات قيام العقد إلا إذا قضى القانون أو الاتفاق أو العرف بغير ذلك.
وإذا كان الحكم الذي تقرره المادة (68) يمكن له أن يستخلص من حكم المادة (67)، اعتبارًا بأن تسليم الشيء قد يعتبر نوعًا من الشكل، إلا أن المشروع آثر مع ذلك أن يفرد له نصًا خاصًا، دفعًا لكل مظنة، وحتى يجهز على فكرة العينية في العقود، إلا لضرورة أو مصلحة، ترك زمام الأمر فيها للقانون أو لإرادة المتعاقدين، على حسب الأحوال.
وقد استوحى المشروع المادة (68) من نص المادة (40) من مشروع تنقيح القانون المدني الفرنسي المقدم للجنة التنقيح (أعمال لجنة التنقيح لسنة 1946/ 1947). ولكنه حرص على أن يبتعد كل البعد عن إطلاق حكم النص الفرنسي المقترح، والذي جاء يقول إن تسليم الشيء لا يعتبر أبدًا شرطًا لازمًا لصحة العقد، ولو اشترط غير ذلك. وواضح أن النص الفرنسي أراد أن ينتقل بفكرة العقود العينية من النقيض إلى النقيض، فقيد من إرادة المتعاقدين من غير مبرر، وهو الأمر الذي راعته بالفعل لجنة التنقيح، عند مناقشة النص المقترح، فقيدت من إطلاقه، لتترك الباب مفتوحًا، لبعض الاستثناءات.
 وتعرض المادة (69) للاتفاقات التي ترتبط بعقد يلزم فيه الشكل لذات قيامه، سواء أكانت سابقة عليه، كما هو الشأن في الوعد به أم لاحقة له، كما هو الشأن في الاتفاقات على تعديل أحكامه أو آثاره، وذلك من حيث الشكل الذي ينبغي أن يراعى في إبرامها بدورها. وهي تقرر وجوب أن يراعى فيها الشكل المتطلب لقيام العقد ذاته فإن لم يراع في إبرامها، وقعت باطلة.
والحكمة التي تستهدفها المادة (69) بينة الوضوح، فإن لم يراع الشكل المتطلب لقيام العقد ذاته في عقد الوعد به، أو في الاتفاقات اللاحقة التي تقضي بتعديل أحكامه أو آثاره، فإن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى الإفلات من الشكل المستلزم قانونًا أو اتفاقًا، وإن كان ذلك بطريق غير مباشر.
والحكم الذي تمليه المادة (69) لا يعدو أن يكون أمرًا مستقرًا ثابتًا فقهًا وقضاءً، بل إن كثيرًا من قوانين البلاد المختلفة قد نصت عليه في خصوص الوعد بالعقد، كما هو الشأن بالنسبة إلى القانون السويسري (المادة 22/ 2 من مدونة الالتزامات) والقانون المصري (المادة 101/ 2) والقوانين العربية الأخرى التي استوحته، ومن بينها قانون التجارة الكويتي (المادة 115/ 2). وقد آثر المشروع أن يصرح بالحكم، ليس فقط في صدد الوعد بالتعاقد، بل أيضًا بالنسبة إلى الاتفاقات التي تجيء بعد إبرام العقد، وتستهدف تعديل أحكامه أو آثاره، وذلك في المكان المخصص لشكل العقد، ما دام هو ينظم هذا الشكل في إطار نظرية عامة.
وقد حرص المشروع، بالنسبة إلى الاتفاقات اللاحقة للعقد، أن يتطلب مراعاة الشكل الواجب له، فيما يكون من شأنه أن يعدل في أحكامه أو آثاره. وهو بهذا يستبعد الاتفاقات التي تجيء لتفصل أو تسهل أو تضمن أعمال ما يقضي به العقد، طالما أنها لا تعتبر تعديلاً لما يقضي هو به، فلا يوجد ثمة ما يمنع، مثلاً من الاتفاق العرفي على تقسيط دين ناشئ من عقد رسمي أو على ضمانه برهن حيازي.
والمادة (69) إذ تتطلب مراعاة الشكل الواجب لقيام العقد في عقد الوعد به وفي الاتفاقات اللاحقة المعدلة لأحكامه أو آثاره، تتحفظ في شأن الحالة التي يقضي فيه القانون بحكم مخالف، وهي تتحفظ أيضًا في شأن الحالة التي تسمح فيها طبيعة المعاملة ذاتها بعدم مراعاة الشكل الذي يتطلبه القانون، كما إذا استلزم القانون الشكل في العقد لحماية الجانب الضعيف فيه، ثم طرأ بعد ذلك تعديل عليه يكون من شأنه أن يتضمن له نفعًا محضًا، ومثال ذلك أن يُتفق في صدد عقد الرهن الرسمي، على نزول المرتهن عن الرهن كله أو بعضه.
بعض صور خاصة في التعاقد:
العقد الابتدائي:
يتناول المشروع، في المواد من (70 إلى 73) لنوع خاص من العقود، تتميز بأنها تستهدف التمكين من قيام عقود أخرى غيرها، أو تستتبع إعادة إبرامها بذاتها في ثوب جديد، على نحو يقتضيه القانون، فالسمة الجامعة لهذه العقود أنها عقود أولية، أو هي كما يُطلق عليها أحيانًا، عقود ما قبل العقود avant contrats.
فتعرض المادة (70) للعقد الابتدائي، من حيث حالات قيامه وأثره. وهي تقضي بأن العقد يعتبر ابتدائيًا كلما كان من شأنه أن يبرم مره ثانية أو في صورة أخرى جديدة. وإعادة إبرام العقد الابتدائي، في شكله النهائي، قد تقتضيها طبيعة العقد ذاتها، وعلى الأخص إذا كان ذلك متطلبًا لإنجاز ما يفرضه القانون من إجراءات لسريان العقد أو لإنتاج أثر من آثاره، كما هو الشأن بالنسبة إلى بيع العقار، حيث يلزم إعادة إبرامه على نحو معين لإمكان تسجيله، ومن ثم لكي ينتج أثره في نقل الملكية، وكذلك بالنسبة إلى الرهن الحيازي، حيث قد يلزم إعادة صياغته في شكل جديد، حتى يتسنى شهره بالقيد، ويتيسر بذلك إتمام إجراءات نفاذه في حق الغير، ولا يوجد ثمة ما يمنع من أن يتفق المتعاقدان على إعادة إبرام عقدهما في صورة جديدة، كما إذا اتفقا على وجوب تحرير العقد الذي يبرمانه، تيسيرًا لإثباته، فيتصف عقدهما الأول حينئذٍ بأنه ابتدائي.
وترتب الفقرة الأولى من المادة (70) على كل من طرفي العقد الابتدائي التزامًا بإبرام العقد النهائي في الميعاد المحدد فيه. وإن لم تحدد مدة لإبرام العقد النهائي، وجب على المتعاقدين إبرام هذا العقد الأخير، في فترة معقولة، تخضع في تقديرها لقاضي الموضوع.
وتقضي الفقرة الثانية من المادة (70) بأن العقد النهائي يُبرم بنفس شروط العقد الابتدائي، ما لم يتفق طرفاه على إجراء تعديل فيها، أو كان هذا التعديل مما تستوجبه طبيعة المعاملة، كإجراء تعديل في حدود العقار مثلاً، على نحو ما يستبين من الإجراءات التمهيدية في التسجيل. كما أنه يمكن إجراء التعديل إذا اقتضته ظروف الحال، كما إذا مات المشتري، ورغب ورثته في أن يُكتب العقد النهائي بأسمائهم، ولم يكن في ذلك أي خطر يتهدد المشتري.
ويلاحظ أن إضفاء وصف (الابتدائي) على العقد لا يغير من حقيقته المتمثلة في أنه عقد كامل، وأنه ذات العقد الذي يقصده عاقداه أولاً وأخيرًا، وإذا كان العقد الابتدائي هو ذات العقد المقصود أولاً وأخيرًا، وجبت أن تراعى فيه كل الأحكام المتطلبة للانعقاد والصحة، بما فيها شرط الشكل إن لزم.
وتواجه المادة (71) الإخلال بالالتزام الذي يفرضه العقد الابتدائي على كل من طرفيه المشاركة في إبرام العقد النهائي، وهو الالتزام الذي قررته المادة (70) وتجعل له جزاءً متمثلاً في تخويل الطرف الذي يحصل الإخلال إضرارًا به الحق في أن يقاضي غريمه، ويطلب الحكم، بصحة العقد الابتدائي ونفاذه. وهو حق يثبت له دون إخلال بما تقضي به القواعد العامة من حقوق أخرى. على أنه يلزم للحكم بصحة العقد الابتدائي ونفاذه أن يكون المتعاقد الذي يطلبه غير مخل بدوره بالتزاماته. فإن كان مخلاً، بأن لم يوفِ بما فرضه عليه العقد من التزامات حالة، امتنع عليه طلب الحكم بصحة العقد ونفاذه، فلا عهد لمن لا عهد له.
وتقضي المادة (71) في فقرتها الثانية بأن الحكم الصادر بصحة ونفاذ العقد الابتدائي يقوم مقام العقد النهائي ويغني عنه وما ذلك إلا إعمال للقاعدة العامة في التنفيذ العيني للالتزام.
ونص المادة (71) وإن كان مستحدثًا غير أن حكمه لا يتمثل خلقًا جديدًا وابتكارًا، فهو من وجه مجرد تطبيق للقواعد العامة في تنفيذ الالتزام. وهو من وجه ثانٍ قد بات حكمًا مستقرًا ثابتًا في القضاء، في دولة الكويت كما هو الشأن في دول عربية أخرى سبقتها إليها، وعلى الأخص مصر.
الوعد بالعقد:
تعرض المادة (72) والمادة (73) للوعد بالعقد.
وتبين المادة (72) الشروط اللازمة لانعقاد الوعد بالعقد، وهي تتطلب لذلك أن تعين فيه المسائل الجوهرية للعقد الموعود بإبرامه، والمدة التي يجب أن يبرم خلالها، وذلك دون إخلال بوجوب اتباع نفس الشكل المتطلب للعقد الموعود بإبرامه، إذا استلزم له القانون شكلاً خاصًا، إعمالاً لما تقضي به المادة (69) من المشروع.
وغني عن البيان أن تطلب الشروط الخاصة المنصوص عليها في المادة (73) لا يغني عن شروط الانعقاد وشروط الصحة المتطلبة في العقود بوجه عام، اعتبارًا بأن الوعد بالعقد لا يعدو أن يكون هو في ذاته عقدًا وإن كان ليس هو العقد المقصود في النهاية.
وتجيء المادة (73) لتحدد الأثر المترتب على الوعد بالعقد. وهي تقرر في فقرتها الأولى، أن هذا الأثر يتمثل في قيام العقد الموعود بإبرامه، إذا ارتضاه من صدر الوعد لصالحه، قبل فوات المدة التي حددت له، واتصل رضاؤه هذا بعلم الواعد قبل هذا الوقت أيضًا، وقد حرص المشروع على أن ينص على قيام العقد الموعود بإبرامه، إذا ما ارتضاه الموعود له، على نحو ما يتطلبه القانون. وهو بذلك يريد أن يحسم خلافًا ثار في الفقه الفرنسي على الأخص حول ما إذا كان العقد الموعود بإبرامه يقوم بمجرد أن يأتي رضاء الموعود له به، أم أنه لا يترتب على هذا الرضاء إلا التزام الواعد بإبرامه، الأمر الذي يتطلب، عند نكول الواعد، الالتجاء إلى القضاء وإصدار حكمه بإيقاع العقد. وإذا كان الفقه في الكويت، كما هو الشأن في مصر، قد صار في الاتجاه الثاني، إلا أن المشروع آثر مع ذلك أن يتبنى الاتجاه الأول، توخيًا لليسر، ومنعًا لتفرقة تتجافى مع المنطق بين الوعد بالعقد والإيجاب به، إذا اقترن بميعاد للقبول وصار بذلك ملزمًا. حيث يتجه الفقه إلى القول بقيام العقد في هذا النوع من الإيجاب بمجرد أن يصدر القبول في ميعاده، ويتصل بعلم الموجب، دون حاجة به إلى أن يوقعه حكم القاضي. فليس من المعقول أن يكون للوعد بالعقد الذي هو في ذاته عقد، أثر أدنى من ذاك الذي يلحق الإيجاب المقترن بميعاد للقبول، وهو في ذاته ليس عقدًا وإنما مجرد خطوة إلى العقد. وحتى لو اعتُبر عرض الصفقة عقدًا كما يغلب في الفقه الفرنسي، فهو بالنسبة إلى العقد المقصود في النهاية أدنى بالضرورة من الوعد بالعقد.
وتعرض المادة (73) في فقرتها الثانية للحالة التي يموت فيها الواعد، أو يفقد أهليته، قبل استعمال الموعود له الخيار الذي يمنحه إياه الوعد، وتبقى له على هذا الخيار، حتى إذا ما ارتضى قيام العقد الذي وعد به في الميعاد، قام وانعقد.
وتجيء الفقرة الثالثة من المادة (73) لتقضي بأن موت الموعود له لا يُسقط الوعد، وينتقل خيار قبول العقد الموعود بإبرامه إلى خلفائه، على أن ذلك الحكم لا يتبع بالضرورة إذا كان الوعد قد أُعطى للموعود له بمراعاة شخصه.
وقد حرص المشروع، في هاتين الفقرتين، على بقاء أثر الوعد قائمًا برغم موت الواعد أو الموعود له، حتى يقطع مظنة سقوطه، قياسًا على الإيجاب. وهو من بعد الحكم الذي استقر الفقه عليه، اعتبارًا بأن الوعد عقد، ينشأ عنه التزام على الواعد بإبرام العقد، وحق للموعود له في إبرامه، والالتزام والحق لا ينقضيان بموت المدين أو الدائن.
والمادتان (72، 73) وإن تضمنتا أحكامًا مستحدثة، فهما في عمومها مستمدتان من القانون السويسري (المادة 22 من مدونة الالتزامات)، والقانون البولوني (المادة 62) والقانون المصري (المادة 101 والمادة 102)، والقانون السوري (المادة 102 والمادة 103)، والقانون الليبي (المادة 101 والمادة 102)، والقانون العراقي (المادة 91) والقانون الأردني (المادة 105 والمادة 106)، وقانون التجارة الكويتي (المادة 115).

التعاقد بالعربون:
عمد المشروع إلى تنظيم التعاقد بالعربون تنظيمًا متكاملاً، وخصه بأربع مواد، وذلك اعتبارًا منه بأهمية هذا النوع من التعاقد وشيوعه في المعاملات المالية، المدنية منها والتجارية على حد سواء.
تعرض المادة (74) لدلالة العربون، إذا قام الشك حولها، وتمثل بذلك أمرها على القاضي غمة، فدفع العربون عند إبرام العقد قد يقصد به المتعاقدان تأكيد قيامه، وأنه بالتالي بات، لا رجوع فيه ولا عدول عنه وقد يقصد به المتعاقدان، على نقيض ما سبق، تخويل كل منهما خيار العدول عن العقد، والأمر هنا وهناك مرده إلى قصد المتعاقدين. وتقتصر مهمة القاضي في البحث عن هذا القصد.
ولكن قصد المتعاقدين قد يغم على القاضي، وهنا يثور التساؤل حول الاتجاه الذي يفسر فيه هذا الشك، أيفسر دفع العربون على أن المتعاقدين قد قصدا به أن يكون عربون بتات أم عربون رجوع ؟
وفي سبيل الأخذ بهذا الاتجاه أو ذاك، اختلفت تقنينات الدول وتباينت أحكامها، فمنها ما سار في اتجاه عربون البتات، ومنها ما سار في اتجاه عربون الرجوع، وجاء القانون المصري الحالي وسار في اتجاه عربون الرجوع (المادة 103) وحذا حذوه أكثر قوانين البلاد العربية الأخرى التي استوحته، كالقانون السوري (المادة 104)، والقانون الليبي (المادة 103)، ولم يخالف هذا الاتجاه إلا القانون العراقي حيث اعتبر العربون، عند الشك، عربون بتات (المادة 92). وجاء قانون التجارة الكويتي على نهج القانون المصري ليعتبر دفع العربون، عند الشك، عربون الرجوع (المادة 116/ 1).
وقد آثر المشروع أن يسير في اتجاه عربون الرجوع أيضًا، فاعتبر دفع العربون وقت إبرام العقد، أنه يفيد، عند الشك، قصد المتعاقدين في منح كل منهما خيار الرجوع عن العقد، وهو بذلك أراد أن يتمشى مع حكم ألفه الناس في الكويت وساروا عليه، وأصبح بذلك أقرب إلى قصد المتعاقدين، وقد أدخل المشروع بعض التعديلات على صياغة نص المادة (116) من قانون التجارة اقتضتها الملاءمة، فاستبدل بعبارة (الحق في العدول) عبارة (خيار العدول) لأنها أكثر دقة من وجه، وأكثر تمشيًا مع مصطلحات الفقه الإسلامي من وجه آخر.
كما أنه استبدل بعبارة (إلا إذا قضى الاتفاق بغير ذلك)، عبارة (ما لم يظهر أنهما “ المتعاقدان “ قصدا غير ذلك)، توخيًا للدقة والانضباط، واعتبارًا بأن قصد المتعاقدين في اعتبار العقد نهائيًا قد يظهر من ظروف العقد ذاته، ومن غير أن يتفق عليه بطريق مباشر، كما إذا كان مبلغ العربون كبيرًا، لم تجرِ العادة على دفعة باعتباره مخولاً خيار الرجوع في العقد.
وتعرض المادة (75) للجزاء المترتب على عدول المتعاقد عن العقد الذي أبرمه مقترنًا بدفع العربون، عندما يثبت له الخيار فيه، وتركز هذا الجزاء في قيمة العربون ذاته، لا أقل منه ولا أكثر، ما لم يُتفق على غير ذلك. فإذا كان من عدل هو الذي دفع العربون فقده وأصبح مبلغ العربون بذلك حقًا خالصًا للمتعاقد الآخر، أما إذا كان العادل هو من قبض العربون، التزم برده ودفع مثله.
واستحقاق قيمة العربون للمتعاقد الذي يحصل ضده العدول، لا يثبت له على سبيل التعويض عما رتبه له هذا العدول من ضرر، وإنما هو يستحق له اعتبارًا بأنه مقابل استعمال غريمه خيار العدول فالتعويض في مجال العقد، يكون عند الإخلال بالالتزام الناشئ عنه، والمتعاقد بالعربون الذي يعدل عن العقد لا يفعل بعدوله إلا أنه يستعمل حقًا ثابتًا له، ومن يستعمل حقه لا يخل فالجواز الشرعي ينافي الضمان، ولتقرير هذا الحكم، حرص المشرع على النص على أن مبلغ العربون يثبت لمن حصل ضده العدول، دون اعتبار لما يترتب عنه من ضرر له، فهو يستحق له حتى ولو لم ينله من العدول أي ضرر، بل حتى لو استتبع له النفع، كما إذا أعاد الصفقة لآخر بثمن أكبر، وهو من ناحية أخرى، يُستحق له دون زيادة عليه، حتى لو نجم له عن العدول ضرر يتجاوزه، والعربون بهذه المثابة يختلف أساسيًا عن الشرط الجزائي، الذي هو تقدير اتفاقي للتعويض عن الإخلال بالالتزام.
والمادة (75) مستوحاة من المادة (116) من قانون التجارة الكويتي في شطرها الأخير، والتي هي مستوحاة بدورها من الفقرة الثانية من المادة (103) مصري، وذلك بعد إدخال تعديلات لفظية اقتضتها الملاءمة، من غير أن تغير في جوهر الحكم. وذلك الحكم يمكن له أن يتمشى مع السائد في الفقه الحنبلي، وإن كان يتخالف مع ما يقول به الفقه المالكي.
وتعرض المادة (76) لتحديد المدة التي يباشر خلالها خيار العدول عن العقد، عندما يسمح هو بذلك لأي من المتعاقدين أو لكليهما، وإذا حدد الاتفاق لذلك مدة، أو جرى العرف بتحديدها، لم تكن ثمة صعوبة، ووجب مباشرة رخصة العدول خلالها، وإلا تأكد قيام العقد، فإن لم تحدد مدة لمباشرة خيار العدول عن العقد عرفًا أو اتفاقًا، بقي هذا الخيار قائمًا للمتعاقد وحق له أن يعدل عن العقد إلى أن يصدر منه ما ينم عن رغبته في تأكيد قيامه، وبالتالي عن رغبته في النزول عن خيار العدول عنه. وتلك الرغبة من المتعاقد قد تجيء منه صراحةً، وقد تستخلص دلالة من ظروف الحال، وعلى الأخص من قيامه، بعد دفع العربون أو قبضه، على حسب الأحوال، بتنفيذ الالتزامات التي يولدها العقد في ذمته.
وتجيء المادة (76) في فقرتها الثانية، وتقضي بأن قعود المتعاقد الثابت له خيار العدول عن العقد عن تنفيذ الالتزامات الناشئة عنه في الأجل المضروب لأدائها أو تراخيه في ذلك مدة لا تتجاوز المعقول والمألوف عند عدم تحديد أجل لها من شأنه أن يجيز للمتعاقد الآخر اعتبار ذلك منه عدولاً عن العقد مباشرة منه للخيار الثابت له.
وحكم المادة (76) بفقرتيها مستحدث وهو مع ذلك لا يعدو أن يكون تقنينًا لما سار الفقه والقضاء عليه.
وتعرض المادة (77) لحالة استحالة تنفيذ الالتزامات الناشئة عن العقد التي تطرأ بعد إبرامه مقترنًا بخيار العدول، كما إذا ذبح البائع بالعربون البقرة المبيعة أو هدم المنزل، وتعذر بذلك عليه الوفاء بالتزامه بالتسليم إلى المشتري نتيجة خطئه، وتقضي هنا باعتبار استحالة التنفيذ في حكم العدول عن العقد، فلا يكون للمتعاقد الآخر أكثر من قيمة العربون المتفق عليه، على نحو ما تقضي به المادة (75) فلا يكون له حق في التعويض، ذلك لأنه كان عليه أن يتوقع من غريمه أن يعدل عن العقد، مباشرةً منه لخيار العدول الثابت له، فكأن ثمة ضررًا لم ينله على أن هذا الحكم لا يسري، بطبيعة الحال، إلا إذا وقعت استحالة تنفيذ الالتزام في الفترة التي يكون فيها خيار العدول قائمًا لما يزل، فإن زال خيار العدول، وصار العقد بالتالي إلى بتاته، ثم وقعت استحالة تنفيذ الالتزام بخطأ التعاقد، أثقلته المسؤولية وفقًا للقواعد القانونية العامة.
وتجيء الفقرة الثانية لتواجه حالة استحالة التنفيذ الراجعة إلى سبب أجنبي لا يد لأحد المتعاقدين فيه، كما إذا هلك محل الالتزام بقوة قاهرة، وهي تقضي هنا برد العربون إلى دافعه، وهذا الحكم إعمال للقواعد القانونية العامة، حيث أن العقد هنا ينفسخ ويعاد المتعاقدان إلى الحالة التي كانا عليها قبل إبرامه.
والمادة (77) بفقرتيها نص مستحدث، وإن كانت فقرتها في مطلق عمومها، مستوحاة من المادة (338) من القانون الألماني.
التعاقد بالمزايدة:
والمتعاقد عن طريق المزايدة، في الفقه الإسلامي جائز قضاءً ولا غبار عليه ديانةً، وعلى الأخص بالنسبة إلى البيع، حيث سمي (بيع المزايدة) أو (بيع من يزيد)، وذلك ما لم تكن المزايدة صورية، قُصد بها التواطؤ على رفع الثمن، وقد أطلق فقهاء المسلمين على المزاد الصوري الذي ابتُغي به التواطؤ على رفع الثمن (النجش).
وتُرسي المادة (78)، في فقراتها الأربع القواعد العامة التي يقوم عليها التعاقد عن طريق المزايدة، وهي – بين النزعتين اللتين قامتا في الفكر القانوني بصدد هذا النوع من التعاقد – تنحو منحى النزعة التي ترى الإيجاب في العطاء الذي يتقدم به المتزايد، تاركةً النزعة التي ترى الإيجاب متمثلاً في الإعداد للمزاد وفتحه، فالإعداد للمزاد أو حتى فتحه لا يعدو أن يكون من قبيل الدعوة إلى التعاقد، وفي ذلك يتمشى المشروع مع قانون التجارة الكويتي (المادة 114)، والقانون المصري (المادة 99)، والقانون السوري (المادة 100)، والقانون الليبي (المادة 99)، والقانون العراقي (المادة 89)، والقانون الأردني (المادة 103)، كما يتفق مع ما يقول به الفقه الإسلامي.
وعطاء المتزايد – وإن اعتبر إيجابًا – إلا أن صاحبه يبقى ملتزمًا به إلى حين تقدم متزايد آخر بعطاء أفضل، أو إلى أن يُقفل المزاد، دون أن يُرسى على أحد إذا كان عطاؤه هو الأفضل، وهذا ما تقرره الفقرة الأولى، وهو حكم يتفق مع ما يقول به الفقه الإسلامي، الذي يرى في مجموعه، وقوع عطاء المتزايد ملزمًا لصاحبه فترة من الزمن، خلافًا للأصل العام الذي يقوم على منح الموجب خيار الرجوع في إيجابه. وهذا الحكم الذي تقرره الفقرة الأولى يتمشى في الغالب من الأمر مع قصد المتعاقدين. فمن يتقدم بعطائه دون تحفظ، يريد بذلك بالضرورة أن يبقى عطاؤه قائمًا، ويظل ملتزمًا به إلى أن يتقدم متزايد آخر بعطاء يفوقه، أو إلى أن يُرسى المزاد عليه إذا كان عطاؤه هو أفضل عطاء، ثم إن هذا الحكم لا يعدو أن يكون تطبيقًا للأصل العام الذي سبق للمشروع أن قرره في المادة (41) منه والذي مؤداه أن يقع الإيجاب ملزمًا، إذا اقترن بميعاد للقبول. فإذا كان من الممكن لهذا الميعاد أن يجيء صريحًا، فإنه قد يستخلص دلالة من الظروف.
فإذا تقدم متزايد آخر بعطاء يزيد على عطاء من سبقه، سقط العطاء السابق، لمضي الفترة التي حددها صاحبة لقيامه، من غير أن يلحقه قبول، فإن كان عطاء المتزايد هو الأفضل وبالتالي الأخير، بقي وحده يتربص القبول، فإن أُرسي المزاد على صاحبه اعتُبر ذلك قبولاً، وتم العقد، أما إذا قُفل المزاد، دون أن يرسى عليه، سقط عطاؤه لفوات ميعاده أيضًا من غير أن يلحقه قبول.
وتقضي الفقرة الثانية بأنه لا يمنع من سقوط العطاء بعطاء أفضل منه أن يقع هذا العطاء الأخير باطلاً، كما إذا تقدم من مجنون أو من شخص يمنعه القانون من المزايدة، كعمال القضاء ونحوهم، أو أن يرفض العطاء الأفضل وهذا الحكم يتمشى تمامًا مع قصد المتزايد الذي يرتضي بالتقدم بعطائه، أن يظل عطاؤه هذا قائمًا فترة من الزمن، تتحدد بالتقدم من غيره بعطاء أكبر منه بغض النظر عن قيمة هذا العطاء الآخر في ذاته أو عن مصيره.
وتعرض الفقرة الثالثة لتحديد القبول الذي ينعقد به العقد، ويتمثل هذا القبول في إرساء المزاد ممن يتولاه، فلا ينعقد العقد لمجرد أن يتمثل العطاء هو الأفضل أو الأوحد. وإنما يلزم أن يلحقه قبول، وهو ما يجيء في صورة إرساء المزاد وليس ثمة ما يمنع متولي المزاد من عدم قبول عطاء المتزايد، ولو كان هو الأفضل أو الأوحد، دون إخلال بما عساه أن يتحمل به من مسؤولية، وفقًا للقواعد العامة، إن تمثل رفض إرساء المزاد خطأ، كما إذا وقع دون مبرر معقول، وإن جرت عادة الكثيرين على مواجهة هذه الحالة بتضمين قائمة المزاد شرطًا يقضي بأن لمتوليه الحق في رفض إرسائه على المتزايد ذي العطاء الأفضل دون إبداء الأسباب.
وتستطرد الفقرة الثالثة، فتقرر استثناءً للحكم الذي يقضي بقيام العقد بإرساء المزاد، في حالة وجوب المصادقة على إرسائه من شخص معين أو هيئة معلومة، وهذا شائع في المزايدات وعلى الأخص في المزايدات التي تقوم في شأن أموال ومشروعات الدولة أو غيرها من الأشخاص المعنوية العامة، وتقضي الفقرة الثالثة بعدم تمام العقد، في هذه الحالة، إلا بصدور المصادقة ممن يملكها، وإن ردت تاريخ انعقاد العقد عند حصولها التي تاريخ رسو المزاد.
وتأتي الفقرة الرابعة لتتحفظ في شأن الأحكام التي أوردتها الفقرات السابقة عليها، بقولها أنها لا تسري في الأحوال التي ينص القانون على خلافها أو يظهر أن المتعاقدين قد قصدا حكمًا مغايرًا لما تقضي به.
والمادة (78) مستوحاة من القانون المصري (المادة 99) وغيره من القوانين العربية الأخرى التي استوحته، ومن بينها قانون التجارة الكويتي (المادة 114)، وهي مع ذلك تتضمن تعديلاً كبيرًا في الصياغة والمضمون، اقتضته الملاءمة التشريعية.
وتعرض المادة (79) لصورة خاصة من المزايدات، وهي تلك التي لا تتم علنًا، بحيث يعرف المتزايد العطاءات المقدمة من غيره، وإنما تقدم فيها العطاءات، بحيث لا يعرفها المتزايدون الآخرون. وهذه هي الصورة التي جرى عرف التعاقد على أن يطلق عليها: المزايدات أو المناقصات داخل مظروفات، والمناقصة ما هي إلا مزايدة، ولكن لا في رفع المقابل الذي يعرضه المتزايد في نظير ما سوف يأخذ وإنما في الإقلال من المقابل الذي يرتضي أن يأخذه في نظير ما سوف يعطيه.
وتسري على المزايدات أو المناقصات داخل مظروفات الأحكام العامة التي تسري على المزايدات المنصوص عليها في المادة (78)، ويُستثنى من ذلك ما تعلق بالوقت الذي يبقى فيه العطاء قائمًا يلتزم به صاحبه، فالعطاء في المزايدات داخل مظروفات يظل ملزمًا لصاحبه، حتى يبت متولي المزاد فيه مع غيره من العطاءات الأخرى، دون نظر إلى قيمته بالنسبة إلى قيمة غيره. فهو لا يسقط إذا اتضح أن ثمة عطاء أفضل منه، ويكون لمتولي المزاد أن يقبل العطاء الذي يراه له أفضل، دون أن يكون ملزمًا بالضرورة بقبول العطاء الأكبر في المزايدة، أو الأقل في المناقصة، وذلك ما لم يقضِ القانون، في حالة خاصة بغيره أو يتضح أن المتعاقدين قد قصدا خلافه.
ونص المادة (79) مستحدَث، ومع ذلك فحكمه متفق تمامًا مع ما يجري العمل عليه، وهو من بعد يتمشى مع قصد المتعاقدين.
التعاقد بالإذعان:
وتجيء المادة (80) لتحسم خلافًا ثار واحتدم في الفكر القانوني في فرنسا وفي بلاد أخرى كثيرة غيرها، حول طبيعة عقد الإذعان ذاتها، وهو خلاف تركز حول ما إذا كان عقد الإذعان يُعتبر عقدًا، وبالتالي تسري في شأنه أحكام العقود بوجه عام، أو أنه لا يُعتبر كذلك.
وقد آثر المشروع أن يحسم هذا الخلاف العنيف الحاد حول عقود الإذعان، فناصر فكرة العقدية في صددها، قاضيًا في المادة (80) أنه: (لا يمنع من قيام العقد أن يجيء القبول من أحد طرفيه إذعانًا لإرادة الطرف الآخر، بأن يرتضي التسليم بمشروع عقد وضعه مسبقًا، ولا يقبل مناقشة في شروطه). والمشروع بذلك يغلب الرأي السليم، الذي ناصره القضاء دومًا، فضلاً عن كثرة من الفقهاء، وقد راعى في ذلك أن الطرف المذعن، ولو كان في مركز اقتصادي أو اجتماعي أضعف بكثير من غريمه، ولو أن رضاءه يأتي على صورة التسليم بشروطه والإذعان لمشيئته، إلا أنه مع ذلك رضاء قائم وكافٍ لقيام العقد، ثم إن علاج رضوخ الطرف المذعن لإرادة غريمه والتسليم بشروطه من غير مناقشة فيها لا يتمثل في رفض فكرة العقدية في ذاتها، وإنما في حماية هذا الطرف الضعيف عندما تقتضيها المصلحة واعتبارات العدالة، وهو الأمر الذي عمد المشروع بالفعل إليه في المادتين التاليتين.
والمادة (80) مستوحاة في مجموعها من المادة (161/ 1) تجاري كويتي، التي هي مستوحاة بدورها من المادة (100) من القانون المصري، عبر المادة (167/ 1) عراقي، ولكن المشروع عدل في صياغة المادة (80)، تعديلاً كبيرًا استهدف به تحقيق الغاية التي استهدفها وهو تقرير صفة العقدية في عقد الإذعان، حسمًا للخلاف الكبير الذي احتدم حولها، وذلك بطريق صريح ومباشر، ثم إن المشروع بصياغته للمادة (80) يتفادى العيب الذي يشوب صياغة النص المصري والنصوص العربية الأخرى التي نقلت عنه، فهذه النصوص جاءت في صياغة من شأنها أن تجعلها تقنع بمجرد عرض الطريقة التي يتم عليها القبول في عقود الإذعان، من غير أن تقرنه بأي حكم إيجابي، على الأقل بطريق مباشر، وليس هذا هو الشأن في التشريع، بل هو الشأن في الفقه.
وتقرر المادة (81) حماية فعالة للطرف المذعن – وهي الغاية التي استهدفها الفكر القانوني دومًا – اعتبارًا بأنه في قبوله العقد يرضخ لإرادة المتعاقد الآخر ويسلم بشروطه من غير نقاش، وتتركز الحماية في تجنيبه المذعن أثر إعمال الشروط التعسفية الجائرة المجحفة به، وهي تكون كذلك إذا جاءت متجافية مع ما ينبغي أن يسود التعامل من شرف ونزاهة، أو مع ما يستوجبه من مراعاة مقتضيات حسن النية، وتثبت هذه الحماية، حتى لو كان المذعن يعلم بها وشملها بالتالي رضاؤه.
وسبيل الطرف المذعن إلى توفير الحماية لنفسه هو أن يلجأ إلى القضاء، الذي له، بناءً على طلبه، وعلى حسب الأحوال، ووفقًا لما تقتضيه العدالة، أن يعدل من الشروط التعسفية بما يرفع إجحافها عن الطرف المذعن، أو يعفيه كلية منها، ويقع باطلاً كل اتفاق من شأنه أن يرفع تلك الحماية بوجهيها.
والمادة (81) مستوحاة من نص المادة 161/ 2 تجاري كويتي، التي هي بدورها مستوحاة من نص المادة (149) مدني مصري، عبر المادة 167/ 2 مدني عراقي، بعد إجراء تعديلات في الصياغة، اقتضتها الملاءمة.
وتعرض المادة (82) لتفسير الشك الذي يبقى في عبارات عقد الإذعان الغامضة، والتي لا تصل وسائل التفسير إلى تبديده، وتقضي بأن هذا الشك يفسر دائمًا، وفي كل الأحوال، لمصلحة الطرف المذعن، وهذا مظهر آخر من مظاهر الحماية للجانب الضعيف في عقد الإذعان.
والمادة (82) مستوحاة من نص المادة 161/ 3 من قانون التجارة الكويتي، الذي هو بدوره مستوحى من نص المادة (151) مدني مصري، عبر المادة 167/ 3 مدني عراقي.
ولكن المشروع أجرى تعديلاً جوهريًا في الصياغة، توخيًا للدقة، فلم يشأ أن يقول أن تفسير العبارات الغامضة يكون في مصلحة الطرف المذعن – لأن ذلك ليس هو المقصود، وإنما قال بأن الذي يفسر لمصلحة الطرف المذعن هو الشك الذي يبقى، بعد أن يعمد القاضي إلى وسائل التفسير المختلفة بغية إزالة غموض العبارة، كما أن المشروع لم يشأ أن ينص على أن الشك يفسر لمصلحة الطرف المذعن، ولو كان دائنًا. وإنما استعاض عن ذلك بالقول بأن الشك يفسر دائمًا لمصلحته، إذ أن تفسير الشك لمصلحة الدائن، أمر تقتضيه القواعد العامة نفسها في بعض الأحيان، ويحصل ذلك كلما كان من مقتضى الشرط الغامض أن يؤدي إلى تقرير حكم يخالف القواعد العامة، فيفسر هذا الشرط على النحو الذي يسايرها، ولو كان من شأن ذلك أن يعود بالنفع على الدائن، كما هو الحال في شروط الإعفاء من المسؤولية أو شروط الإعفاء من الضمان، في صوره العديدة.
(ب) سلامة الرضاء:
الرضاء قوام العقد وأساسه وركنه الركين، فلا قيام للعقد بغيره، بحيث أنه إذا انعدم الرضاء بطل العقد، ولكن توافر الرضاء، وإن مكن للعقد أن يقوم، إلا أنه بذاته غير كافٍ، ليكون العقد بمنأى عن كل خلل يعتريه، إذ يلزم كذلك، أن يجيء الرضاء سليمًا. وهو لا يكون كذلك، إلا إذا صدر عن شخص متمتع بأهلية إجراء العقد، وجاء خاليًا من العيوب التي تشوبه، وهي تلك التي استقر الفكر القانوني على أن يطلق عليها (عيوب الرضاء).
والمادة (83) تستهدف إبراز هذه الفكرة، وهي وإن كانت تقرر حكمًا عامًا بات مسلمًا، إلا أنها لا تخلو من كل فائدة، فإلى جانب كونها تتضمن تركيزًا وتأصيلاً لفكرة أساسية في العقد، فهي تتمثل تقديمًا منطقيًا للنصوص التالية التي تعرض لأحكام الأهلية ولعيوب الرضاء.
الأهلية:
وتُرسي المادة (84) الأصل العام في صدد التمتع بأهلية إجراء العقود، ومؤداه أن هذه الأهلية تثبت للشخص، ما لم يقرر القانون عدم أهليته لإجراء العقد أو نقصها، وذلك مبدأ مسلم في الفقه الإسلامي وفي القانون المعاصر على حد سواء، وتكاد المادة التي أتى بها المشروع أن تكون مطابقة في صياغتها لنص المادة (117) تجاري كويتي، حيث لم تأتِ عليه إلا بتعديل جد طفيف لا يغير في المدلول، فقد آثر المشروع أن يستعمل عبارة “ ينقص منها (من الأهلية) بدلاً من عبارة (يحد منها) حتى يتمشى النص مع السائد في لغة القانون، حيث يقال عادة: “ نقص الأهلية “ و“ ناقصو الأهلية “، ولا يقال “ الحد من الأهلية “ أو “ محدودو الأهلية “.
وثمة حالة لم يتطرق إليها شك ولم يقع في صددها خلاف، وتلك هي حالة الصغير الذي لما يبلغ سن الرشد، فهو عديم الأهلية أو ناقصها، بحسب ما إذا كان غير مميز أو مميزًا، من غير حاجة إلى تدخل من القاضي، وبعبارة الفقه الإسلامي، هو محجور لذاته، والعلة في ذلك واضحة، إذ أن مرجع الصغر أو القصر هو السن، والسن أمر موضوعي، ليس من شأنه أن يثير كبير خلاف، وإن أثاره، أمكن حسمه من غير حاجة التي تدخل من القاضي.
أما المجنون والمعتوه، فقد اختلفت في شأن الحجر عليهما قوانين البلاد العربية، فالقانون المصري (المادة 113) لا يجعل منهما محجورين لذاتهما وإنما يتطلب لإيقاع الحجر عليهما حكم القاضي، بل إنه لا يجعل هذا الحجر ساريًا في مواجهة الغير إلا بتسجيله، وقد ساير القانون المصري في ذلك كل من القانون السوري (المادة 114) والقانون الليبي (المادة 113)، أما القانون العراقي (المادة 94) فقد أخذ بحكم يتخالف مع حكم القانون المصري، ولكنه يتوافق مع ما جاءت به المجلة (المادة 958) ومع ما يسود في الفقه الإسلامي من أن المجنون والمعتوه، كالصغير، محجور عليهما لذاتهما، أي بحكم الشرع وبغير حاجة إلى تدخل القاضي، وقد نهج القانون الأردني نفس النهج الذي اتبعته المجلة، وسايرها فيه من قبل القانون العراقي.
وقد آثر المشروع أن يسير في هذا الاتجاه، قاضيًا في الفقرة الأولى من المادة (85) بأن المجنون والمعتوه كالقاصر، محجور عليهما لذاتهما وهذا الذي أخذ به المشروع، فضلاً عن توافقه مع ما يقول به الفقه الإسلامي وتبنته المجلة، هو الذي يتفق مع طبيعة الأمور نفسها، إذ أن الجنون والعته يمسان من الإنسان ذات عقله، وهما من بعد أمران واضحان يدمغان ببصماتهما تصرفات صاحبهما، بحيث يصعب عدم التعرف عليهما، إلا فيما ندر.
ومن ناحية أخرى انعقد الإجماع في الفكر القانوني المعاصر على وجوب تدخل القاضي لإيقاع الحجر على السفيه وذي الغفلة. ذلك لأن السفه والغفلة لا يمسان من الإنسان إدراكه، كما هو الشأن عند الصغير والمجنون والمعتوه، وإنما مجرد تدبيره أمره. فهما يتمثلان في ضعف بعض الملكات الضابطة للنفس، يعتري الإنسان فيجعله يسرف في إنفاق ماله، أو يغبن في معاملاته. وذاك أمر لا يمكن الاطمئنان إلى وجوده ما لم يتثبت منه القاضي، كما أن في الفقه الإسلامي، اتجاهًا قويًا يقول بوجوب تدخل القاضي لإيقاع الحجر على السفيه. ويناصر هذا الرأي في الفقه الحنفي أبو يوسف، ولكن محمدًا عارضه، حيث قال إن الحجر يثبت بنفس السفه، ولا يتوقف على القضاء، وقد أخذت المجلة برأي محمد وأبي يوسف من حيث الحجر على السفيه، وبرأي أبي يوسف من حيث لزوم حكم القاضي لوقوعه، والغفلة عن الحنفية، نوع من السفه، وهو ما أقرته المجلة (المادة 946).
وقد آثر المشروع أن يسير على نهج المجلة فجاءت المادة (85) وفقرتها الثانية تقضي بأن الحجر لا يقع على السفيه وذي الغفلة إلا بحكم القاضي، كما قضت بأن المحكمة تحجر عليهما وترفع الحجر عنهما وفقًا لما تقتضيه ظروف الحال، أي تمشيًا مع علة الحجر ثبوتًا وزوالاً، كما استوجبت شهر الحكم الصادر بالحجر على السفيه وذي الغفلة، حماية للغير، بإتاحة الفرصة لهم في العلم بالحجر أو برفعه، حتى لا يفاجئوا به وبما عساه أن يترتب عليه من أثر في صدد العقود التي أبرموها، ونصت كذلك على أنه يتم شهر الحجر ورفعه وفق قواعد يصدر بها قرار من وزير العدل.
وتعرض المادة (86) لأهلية الأداء، وأهلية أداء التصرفات مناطها الإدراك أو التمييز، فهي تدور معه وجودًا وعدمًا، كمالاً ونقصانًا، والقانون يعتبر الصبي غير المميز عديم الإدراك وهو بالتالي منعدم الأهلية، وتقع تصرفاته كلها باطلة، ولو أجازها وليه لأن التصرف الباطل لا تلحقه الإجازة، وقد نصت المادة (86) في فقرتها الأولى على هذا الحكم وهي في ذلك تتفق مع القوانين المعاصرة كلها عربية كانت أم أجنبية، وهي أيضًا تتوافق مع ما يقضي به الفقه الإسلامي، ومع ما تقضي به المجلة (المادة 966).
ولم يتفق فقهاء الشرع الإسلامي حول تحديد السن الذي يتجاوز فيه الصغير مرحلة انعدام التمييز، فيصير بذلك صبيًا مميزًا. ولم تحدد المجلة بدورها هذا السن، والسائد عند الحنفية أن مرحلة انعدم التمييز تصاحب الصبي من ميلاده إلى بلوغه سن السابعة قمرية من عمره، وهم في ذلك يستندون إلى حديث الرسول، صلوات الله عليه “ مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع “.
وقد حددت المادة (86) في فقرتها الثانية، سن التمييز بسبع سنوات كاملة، وهي في ذلك تتمشى مع رأي سائد في الفقه الإسلامي، يناصره على الأخص الأحناف، مع ملاحظة الفارق بين القمرية والشمسية في السنين، إذ أن السنوات السبع التي تتطلبها المادة (86) تحسب وفقًا للتقويم الميلادي، إعمالاً للأصل العام الذي سبق للمشروع أن قرره في المادة (8) وحكم المادة 86/ 2 يتوافق أيضًا مع الكثير من قوانين البلاد العربية كمصر وسوريا وليبيا والعراق والأردن، ومع الكثير أيضًا من قوانين البلاد الأوربية كالقانون الألماني (المادة 104).
والمادة (87) لا تعدو في مجموع أحكامها، أن تكون تقنينًا لما يقول به الفقه الإسلامي، في صدد حكم تصرفات الصبي المميز، ولما جاءت به المجلة، وسار عليه الكثير من قوانين الدول العربية، فهي تقضي، في فقرتها الأولى، بصحة تصرفات الصبي المميز، إذا كانت نافعة له نفعًا محضًا، وبطلان تصرفاته الضارة به ضررًا محضًا، وهي بذلك تمنحه أهلية الاغتناء، وتحظر عليه أهلية الافتقار، وتعرض في فقرتها الثانية، لتصرفات الصبي المميز الدائرة في ذاتها بين النفع والضرر، أي تلك التي بمقتضاها يأخذ الصبي ويعطي بغض النظر عن مدى ما يخلص له شخصيًا من نفع أو خسارة، نتيجة أخذه وعطائه. فالعبرة هنا هي بطبيعة العقد ذاته، وليس بمدى ما يترتب عنه في النهاية من غنم أو غرم، وتقر بأنها قابلة للإبطال لمصلحته.
وقد آثر المشروع هنا أن يأخذ بفكرة القابلية للإبطال كجزاء يرد على عقد القاصر، دون فكرة العقد الموقوف، ذلك لأن وقوع العقد قابلاً للإبطال فيه حماية أكبر للقاصر من وقوعه موقوفًا على الإجازة، فالعقد القابل للإبطال ينتج آثاره بمجرد انعقاده، مع تخويل القاصر حق إبطاله، وهو حق يمكن لمن له الولاية على أن يباشره فورًا نيابةً عنه، أو يباشره هو بنفسه عند بلوغه رشده. فكأنه يمكن بذلك للقاصر أن يفيد من العقد، إذا كان له فيه مصلحة، من غير حاجة إلى أي إجراء يتخذه هو أو وليه. فإن تلمس فيه بعد بلوغه رشده، ضررًا له، أو تلمسه فيه وليه حال قصره، أمكن له أن يطلب من القاضي الحكم بإبطاله بنفسه أو بوساطة وليه، فيزول بذلك أثره من وقت إبرامه. ثم إن فكرة العقد الموقوف ليست فكرة إسلامية بالمعنى الشامل. وإنما هي فكرة قال بها الحنفية والمالكية، ولم يأخذ بها من مذاهب السنة، لا الشافعية ولا الحنابلة، فيما عدا إحدى الروايات عن الإمام أحمد، أخذ فيها بنظام العقد الموقوف.
ولعل ميزة فكرة قابلية العقد للإبطال، كجزاء يرد على تصرفات القاصر وغيره من ناقصي الأهلية، على فكرة العقد الموقوف هي التي حدت بالأغلبية الكبرى من قوانين البلاد العربية إلى تأخذ بها دونها. فلم يسلك النهج المغاير إلا القانون العراقي، ثم القانون الأردني، بل لعل هذا القانون الأخير لا يأخذ بفكرة العقد الموقوف على نحو مطلق (تراجع المادة 128/ 2، والمادة 134/ 1 أردني).
وقد حرص المشروع أن يتحفظ في شأن وقوع تصرفات القاصر الدائرة بين النفع والضرر قابلة للإبطال، فنص على أنها تأخذ هذا الحكم، مع مراعاة ما تقضي به النصوص التالية وغيرها من أحكام القانون الأخرى، وهو بذلك أراد الإشارة إلى الأهليات الخاصة التي تثبت للقاصر في إبرام نوع أو آخر من التصرفات، سواء ما تقضي به منها النصوص الواردة في هذا الباب، أم أحكام القانون الأخرى.
وتعرض المادة (87) في فقرتها الثالثة، للمدة التي يعتبر فيها القاصر صغيرًا مميزًا، قاضية بأنه يعتبر كذلك، بدءًا من سن التمييز إلى بلوغه سن الرشد، وذلك ما لم تكن به عاهة في عقله.
وحددت المادة (88) الثامنة عشرة من العمر سنًا يمكن للصغير بعد بلوغه إياه أن يؤذن في إدارة أمواله، وهو نفس السن الذي يحدده قانون إدارة شؤون القصر (المادة 9) للإذن بالإدارة للقاصر المشمول بوصاية إدارة شؤون القصر، ويحصل الإذن في الإدارة من ولي القاصر أو وصيه على حسب الأحوال، إذا آنس منه القدرة على أن يتولى إدارة أمواله بنفسه، ويكون الإذن مطلقًا أو مقيدًا، وفق ما يراه مصدره.
وتقضي المادة (89) بجواز سحب الإذن للصغير في الإدارة أو تقييده، بعد إعطائه إياه، فالإذن بالإدارة يستهدف ابتلاء الصغير وتجربته، فإن لم تثبت جدارة الصغير في أداء ما أذن فيه وجب سحب الإذن منه، وإن كان ذلك لا يمنع بالضرورة صدور الإذن له من جديد، إذا تبين لوليه أو وصيه أنه اكتمل ما كان يفتقده.
وإذا جاز سحب الإذن في الإدارة لولي الصغير أو وصيه على حسب الأحوال، إلا أن هذا الإذن لا يبطل بزوال الولاية عمن أعطاه، وقد حرص المشروع على أن يصرح بهذا الحكم دفعًا لأية مظنة، واعتبارًا منه بأن الإذن للصغير في إدارة أمواله يستقل عمن يصدره ممن تكون له الولاية على أمواله، فلا يتأثر بموته أو بزوال أهليته أو بعزله، والمشروع في ذلك يجاري القانون العراقي (المادة 98) والقانون الأردني (المادة 119) وإن خالف المجلة (المادة 976).
وتتطلب المادة (90) أن يحصل الإذن بالإدارة أو سحبه أو تقييده بإشهاد رسمي، توخيًا للانضباط، وذلك دون إخلال بما يقضي به قانون إدارة شؤون القصر بالنسبة إلى المشمولين بوصاية إدارة شؤون القصر، حيث يكفي أن يصدر الإذن في الإدارة أو سحبه أو تقييده وفق ما يقضي هو به، لما في ذلك من كفاية في تحقيق الغاية المطلوبة.
وتعرض المدة (91) للتظلم من رفض الإذن في الإدارة، أو سحبه أو تقييده بعد إعطائه، وتجيزه إذا كان الرفض أو التقييد أو السحب قد صدر من الوصي، أما الولي فلم يرَ المشروع أن يجعل على رفضه الإذن لصغيره أو سحبه أو تقييده معقبًا احترامًا للأبوة وحفاظًا على أواصر العلاقة بين الولد وأبيه من وجه، ولكون الولي أبًا كان أم جدًا بعيدًا عن المظنة، من وجه آخر.
وقد أجاز المشروع التظلم للصغير نفسه، كما أجازه لإدارة شؤون القصر ولكل ذي شأن آخر، ويُرفع التظلم إلى المحكمة وفقًا للقواعد والإجراءات التي يقضي بها قانون المرافعات، وللمحكمة أن تأذن للقاصر في إدارة أمواله كلها أو بعضها، إذنًا مطلقًا أم مقيدًا، وفق ما ترى، وذلك إذا تبينت أن رفض الوصي الإذن أو تقييده أو سحبه لا يستند إلى أساس، فإن قضت برفض طلب القاصر تعين عدم قبول تجديده قبل مضي سنة من التاريخ الذي يصبح فيه رفضها نهائيًا.
وتعرض المادة (92) لأهلية الصغير المميز المأذون في الإدارة وتقرر له، في الفقرة الأولى منها، أهلية إجراء كل التصرفات التي تقتضيها إدارة أمواله التي تُسلم له، سواءً أكانت تعتبر هي في ذاتها من أعمال الإدارة، كالاتفاق الذي يبرمه الصبي مع مقاول على ترميم منزله أو مع ميكانيكي لإصلاح سيارته وكتأجير أمواله، أو من أعمال التصرف، كوفاء واستيفاء الديون الناشئة عن إدارة المال، وبيع وشراء ما يلزم لها، ثم تجيء المادة (92) في فقرتها الثانية، وتستثني من أعمال الإدارة التي يكون للصغير المأذون إجراؤها إيجار المال لمدة تزيد على سنة، منقولاً كان هذا المال أو عقارًا، وذلك نظرًا لما قد ينجم للصغير من ضرر من الإيجار الذي تزيد مدته على هذا القدر، وإذا كان إيجار عقار القاصر لمدة سنة لا يمنع من امتداده في الحالة التي يقضي فيها القانون بذلك، إلا أن الحد من أهليته فيما يتجاوز هذه المدة لا يكون مجردًا من المصلحة له حتى في هذه الحالة.
وتقرر المادة (93)، في فقرتها الأولى، للصغير المميز أيًا ما كانت سنه، أهلية التصرف فيما يُعطى له من مال لأغراض نفقته، وهذا الحكم يتمشى مع واقع حياة الناس، حيث يقوم الصغير بنفسه بإنفاق ما يُعطى له من مصروف، ثم أنه لا خوف أن يسمح للصغير أن يتصرف فيما يُعطى له من مال لأغراض نفقته، لضآلة هذا المال من وجه، ولخضوع الصغير لرقابة ذويه في إنفاقه من وجه آخر، بحيث يمكنهم أن يحجبوه عنه كله أو بعضه، إن رأوا منه تبذيرًا، وبعد هذا كله فمال النفقة يعطى للصغير لكي يصرفه بنفسه، ومن ثم لزم الإقرار له بأهلية التصرف فيه كاملة.
وقد حرص المشروع على أن يطلق أهلية الصغير في التصرف فيما يُعطى من مال لأغراض نفقته، فلم يقيدها بقيد، حتى يتيح له التصرف فيه على نحو ما يريد، ولو جاء ذلك منه على سبيل التبرع، لأنه إن فعل، فلم يتبرع إلا بقليل، لا يضيره أن يؤثر به غيره على نفسه، في حين أن تبرعه بهذا القليل يُربَّي فيه، على حداثة سنه أسمى الفضائل وأنبلها طرًا، من غيرية وإيثار ومساعدة المحتاجين وإحسان إلى الفقراء، ولا يقتصر هذا الحكم، على منح الصبي المميز، أيًا ما كانت سنه، أهلية التصرف فيما يُعطى من مال لأغراض نفقته، وإنما يقرر له أيضًا أهلية أداء التصرفات الأخرى، طالما جاءت في حدود تلك الأغراض. والمشروع يريد بذلك أن يتيح للصبي أن يُشبع بنفسه حاجاته اليومية، كأن يشتري شيئًا يلزمه من غير أن يدفع في الحال ثمنه، أو يقترض مالاً يشتري به هذا الشيء.
وتأتي المادة (93) في فقرتها الثانية، تحدد مسؤولية الصغير المميز عن الالتزامات الناشئة عن التصرفات التي يجريها بنفسه لأغراض نفقته، بما يُعطى إياه من مال لهذه الأغراض.
والمادة (93) مستوحاة من المادة (61) من قانون الولاية على المال في مصر مع تعديلات أساسية في الصياغة، توخيًا للدقة والانضباط.
وتعرض المادة (94) لأهلية إبرام عقد العمل والتصرف فيما يجيء ثمرة العمل من مال، أجرًا كان أم غيره. وقد ارتأى المشروع، لثبوت هذه الأهلية، أن يحدد سن الصغير المميز بالخامسة عشرة من عمره، اعتبارًا بأن هذه السن، فضلاً عن كونها مناسبة، فهي تلك التي تحددها الاتفاقات الدولية، كحد أدنى لتشغيل الأحداث (الاتفاقيتان الدوليتان الصادرتان من مؤتمر هيئة العمل الدولية رقم “ 59 و60 “ لسنة 1937 – والمادة “ 367 “ من مدونة العمل الدولية) وإن كان الاتجاه الدولي يسير نحو رفعها إلى السادسة عشرة.
وإذا كان المشروع قد ارتأى تحديد سن الخامسة عشرة لكي تثبت للصغير المميز أهلية إبرام عقد العمل والتصرف فيما يكسبه من عمله، فهو لم يغفل عن أن قانون العمل الكويتي يجيز تشغيل الأحداث عند بلوغهم الرابعة عشرة (المادة “ 18 “ من قانون العمل في القطاع الأهلي) فضلاً عن أن هذه السن أدنى من متطلبات هيئة العمل الدولية التي تتمتع دولة الكويت بعضويتها، فهي سن يغلب ألا يصل فيها الصغير إلى الإدراك الكافي الذي يؤهله لإبرام عقد العمل وللتصرف فيما يجيء ثمرة كسبه من عمله. ثم إن قانون العمل الكويتي، وإن شمل بحمايته السخية العمال الذين يخضعون لأحكامه، فهناك طوائف عديدة من العمال مبعدة عن دائرة سلطانه.
والغاية التي يتوخاها المشروع من تقرير أهلية خاصة للصغير المميز، عند بلوغه الخامسة عشرة من عمره، لإبرام عقد العمل وللتصرف فيما يكسبه من عمله، أجرًا كان أو غيره، هي التيسير عليه، دون التخلي عما يلزم لحمايته، فهو يتيح للصغير، في هذه السن، أن يُبرم عقد العمل بذات نفسه، دون حاجة إلى أن يلجأ إلى وليه أو وصيه، وبهذه المثابة يستطيع أن يتخير بنفسه العمل الذي يروقه، ثم أنه يتفادى ما قد يكون من شأنه أن يفوت عليه فرصة الحصول على مورد رزقه، سيما إذا كان تدخل الوصي يتطلب إجراءات معينة تقتضي وقتًا قد يطول، كما هو الشأن بالنسبة إلى المشمولين بوصاية إدارة شؤون القصر.
والمشروع مع ذلك لم يترك القاصر بعيدًا عن الحماية، فهو لم يطلق أهليته في إبرام عقد العمل، إذ هو يحددها بإبرام هذا العقد لمدة سنة، إذا كان محدد المدة، أما إذا كان عقد العمل غير محدد المدة، ففي قواعد قانون العمل ما يحمي القاصر على وجه كافٍ، حيث يجوز له أن ينهي العقد في أي وقت يشاؤه، بعد المدة التي يتطلبها القانون للتنبيه على رب العمل برغبته في إنهائه، وهي مدة تتراوح بين سبعة أيام وخمسة عشر يومًا على حسب الأحوال وفق ما تقضي به المادة (53) من قانون العمل في القطاع الأهلي.
أما أهلية التصرف فيما يكسبه الصغير المميز البالغ من العمر خمسة عشر عامًا من عمله، أجرًا كان أم غيره، فهي من وجه نتيجة طبيعية لأهلية إبرام عقد العمل، وهي من وجه آخر، تشجيع للصبي على أن يعمل ويكسب، وإذا كان المشروع يمنح الصغير، عند بلوغه الخامسة عشرة أهلية إبرام عقد العمل، وأهلية التصرف في أجره وفي غيره مما يكسبه من عمله، فقد حرص، توخيًا لحمايته، على أن يحدد مسؤوليته الناجمة عن الوفاء بالتزاماته الناشئة عن هذه التصرفات بالأموال التي عادت عليه من كسب عمله.
وتأتي المادة (94) في فقرتها الثانية، وترخص للمحكمة في أن تقيد أهلية الصغير في التصرف في أجره وفي غيره مما يعود عليه من عمله، إذا رأت لذلك مقتض، والمشروع وإن كان في تقريره أهلية الصغير المميز في التصرف فيما يكسبه من عمله من أجر وغيره، قد استوحى المادة (93) من قانون الولاية على المال في مصر، مع جعل السن خمسة عشر عامًا بدلاً من ستة عشر، إلا أنه قد استحدث الحكم الذي يقرر أهلية إبرام عقد العمل ذاته ببلوغ تلك السن وهو في هذا الصدد يتوسط، من بين قوانين بلادنا العربية، بين نهجين: نهج يقرر للصغير المميز أهلية إبرام عقد العمل بمجرد بلوغه سن التمييز، أي سن السابعة، وهو النهج الذي سار عليه القانون المصري (المادة 62) ونهج لم يحدد أهلية خاصة لإبرام عقد العمل، الأمر الذي اقتضى بلوغ سن الرشد لثبوت الأهلية في إبرام عقد العمل، اعتبارًا بأنه عقد يتردد بين النفع والضر. وكل من هذين النهجين لا يخلو من تطرف. وقد ارتأى المشروع أن يسلك بينهما طريقًا وسطًا، فحدد لثبوت أهلية إبرام عقد العمل خمسة عشر عامًا، وهي نفس السن اللازمة لثبوت الأهلية في التصرف فيما يعود على الصغير من عمله أجرًا كان أم غيره.
وتقرر المادة (95) للصغير عند بلوغه الثامنة عشرة من عمره أهلية إبرام الوصية، ولم يشأ المشروع أن يقيد هذه الأهلية بوجوب صدور إذن المحكمة، على نحو ما يقتضيه قانون الوصية في مصر (المادة 5 القانون من رقم 71 لسنة 1946)، لأن في تطلب هذا الإذن، من الناحية العملية، ما يقعد الصغير عن إشباع رغبته المشروعة في أن يؤثر، بعد موته ببعض ماله من تجوز له الوصية قانونًا، وهو بعد غض الإهاب، لم يألف التعامل مع المحاكم.
وتعرض المادة (96) لاكتمال أهلية الأداء ببلوغ سن الرشد، وللحكم العام لعوارض الأهلية بعد بلوغ الرشد ومؤدى نصها أن الأصل أنه ببلوغ الإنسان سن الرشد، يصبح كامل الأهلية لأداء كافة التصرفات القانونية، اعتبارًا بأن إدراكه حينئذٍ يكتمل وهو عند بلوغه هذه السن، يصبح كامل الأهلية بقوة القانون، ومن غير لزوم لاتباع أي إجراء من أي نوع كان وسن الرشد إحدى وعشرون سنة ميلادية كاملة.
على أن اكتمال الأهلية ببلوغ سن الرشد يقوم على افتراض توافر العقل وحسن التدبير في الإنسان، وهو افتراض يتمشى مع الغالب من الناس، فإن كانت في الصبي علة في عقله أو في تدبيره أمره، كان لمن له ولاية على ماله، أو لأي ذي شأن آخر، أن يرفع الأمر للقاضي طالبًا الحكم باستمرار الولاية أو الوصاية على حسب الأحوال، على أنه ينبغي أن يُرفع هذا الطلب إلى القاضي قبل بلوغ سن الرشد، فإن بلغ الصبي سن الرشد، من غير أن يطلب استمرار الولاية أو الوصاية على ماله، انتهت هذه أو تلك بقوة القانون، ويصبح الطريق في إضفاء الحماية على الشخص متمثلاً في نظام القوامة.
وإذا صار الصبي إلى رشده، واكتملت عنده بالتالي أهلية أدائه، فإنه يستمر على هذا النحو ما قدر له أن يعيش، ما لم يطرأ عليه عارض من عوارض الأهلية التي يحددها القانون.
وتعرض المادة (97) للحالة التي يدعي فيها ناقص الأهلية توافر الأهلية عنده، أو يعمد إلى إخفاء النقص في أهليته. وهي حالة لا تعدم الحصول في واقع حياة الناس، وتجيء الفقرة الأولى، لترسي الأصل العام في هذا الخصوص. ومؤداه أن مجرد ادعاء الشخص توافر الأهلية لديه، حالة كونه في الواقع ناقصها، لا يغير شيئًا من حقيقة أمره، ولا يمنعه بالتالي من أن يتمسك بنقص أهليته، وهذا حكم بين واضح، فعلى كل متعاقد أن يتأكد بنفسه من توافر الأهلية فيمن يتعاقد معه، دون أن يركن لمجرد كلامه، ثم إن حماية ناقص الأهلية تتضاءل إلى حد بالغ، إذا كان في مجرد تصريحه بأهليته ما يمنعه من أن يتمسك بما يعتورها من نقص.
وتقضي المادة (97) في فقرتها الثانية، بمسؤولية القاصر عن التعويض عن الضرر الذي يرتبه الإبطال لمن تعاقد معه، إذا كان في سبيل إخفاء نقص أهليته، قد لجأ إلى طرق تدليسية من شأنها أن تحمل على الاعتقاد بتوافر الأهلية لديه، وهذا الحكم لا يعدو أن يكون تطبيقًا للقاعدة العامة في المسؤولية التقصيرية، وقد حرص المشروع على أن يتطلب في الطرق التدليسية التي من شأنها أن تثقل ناقص الأهلية بالمسؤولية، أن يكون من شأنها أن تحمل على الاعتقاد بتوافر الأهلية عنده، فالمعيار هنا ليس شخصيًا يتعلق بذات المتعاقد مع القاصر، ولكنه معيار موضوعي أساسه الشخص العادي، فإذا كانت الحيلة، التي أخفى بها القاصر نقص الأهلية قد انطلت على المتعاقد نفسه، وما كانت لتنطلي على غيره من سواد الناس وجمهرتهم، فإنها لا تصلح دعامة للمسؤولية.
وإذا كانت الفقرة الثانية قد خصت بالذكر القاصر، دون غيره من ناقصي الأهلية، فإن ذلك يرجع إلى أن الحيلة التي يمكن أن تُتخذ سبيلاً لإخفاء سنه يمكن أن تنطلي على الشخص العادي، كما إذا زُورت شهادة ميلاده، أما بالنسبة إلى غير القاصر من ناقصي الأهلية، فيصعب أن تنطلي الحيلة على الشخص العادي، إما بسبب ما يميله عليه الحرص في الكشف في السجلات الخاصة بشهر سبب النقص في الأهلية، كما هو الحال في السفه أو الغفلة، وإما بسبب الضعف الظاهر في الإدراك الذي لا يخفى على فطنته، كما هو الشأن في العته.
وترخص الفقرة الثالثة من المادة (97) للقاضي بأن يحكم على سبيل التعويض المستحق على القاصر نتيجة التجائه إلى الغش لإخفاء نقص أهليته، برفض الدعوى التي يرفعها بإبطال العقد، وما هذا إلا مجرد تطبيق للقاعدة العامة في التعويض العيني.
وتعرض المادة (98) للمجنون من حيث أهلية أداء التصرفات، وتقضي في فقرتها الأولى بانعدام هذه الأهلية عنده، وهذا حكم تفرضه طبيعة الأمور ذاتها، ويجمع عليه فقهاء المسلمين، كما يجمع عليه الفكر القانوني المعاصر على حد سواء، إذ أن الجنون خلل يلحق من الإنسان عقله، فيُعدم الإدراك عنده، والأهلية مناطها الإدراك، تدور معها وجودًا وعدمًا كمالاً ونقصانًا.
على أن الشخص لا يكون عديم الأهلية، إلا عندما يعتريه الجنون، فالعلة تدور مع معلولها، فإن كان الجنون غير مطبق، بحيث تتخلله فترات إفاقة، وأبرم الشخص العقد أثناء فترة منها، كان عقده سليمًا، إذا الفرض أنه أبرمه وهو عاقل، وهذا هو ما تقرره الفقرة الثانية، وهو حكم يقول به فقهاء المسلمين، وأقرته المجلة (المادة 980).
وحكم تصرفات المجنون، من البطلان أو الصحة، على حسب ما إذا كان الشخص عند إبرامها، مجنونًا، أو عاقلاً، لا يتأثر بتنصيب القيم أو عدم تنصيبه، فعلة الحكم هي في ذات اضطراب العقل، وتنصيب القيم أو عدم تنصيبه لا يؤثر في ذلك الاضطراب. ومن هنا كان الحكم في الفقه الإسلامي، أن المجنون محجور عليه لذاته، مثله في ذلك مثل الصغير، مميزًا كان أم كان غير مميز، وهو نفس الحكم الذي سبق للمشروع أن تبناه في المادة (85) فقرة أولى.
وقد حرص المشروع على أن يُصرح، في الفقرة الثالثة، بأن تنصيب المحكمة قيمًا على المجنون لا يغير من الأحكام التي تنظم الأهلية عنده، دفعًا لأية مظنة، برغم أنه لا يعدو أن يكون تطبيقًا لما سبق له أن أورده من أن المجنون محجور عليه لذاته.
وتواجه المادة (99) أهلية المعتوه، ويلاحظ في ذلك الخصوص أن فقهاء المسلمين اختلفوا على تحديد المقصود من العته. فرأى البعض منهم أنه نوع من الجنون، يتميز بأن صاحبته لا يلجأ إلى العنف، فهو جنون هادئ، ورأى البعض الآخر أنه، وإن تشابه مع الجنون في كونه يقوم مثله على علة تلحق العقل، إلا أنه يتخالف معه في أن الخلل الذي يقوم عليه أدنى درجة من ذاك الذي يقوم عليه الجنون، بحيث لا يعدم عند صاحبه الإدراك، وإنما ينقصه فحسب.
وإذا كان الفرق بين الجنون والعته يتمثل، في واقع الأمر في خيط رفيع، يُترك أمر التقدير فيه لقاضي الموضوع، إلا أنه قائم على أية حال، والمصلحة هي في تقرير الخلاف بين الجنون والعته، ليتغير الحكم في شأنهما، فإن كان الخلل الذي يلحق العقل يعدم عند صاحبه الإدراك، اعتبر جنونًا يعدم الأهلية بغض النظر عن هدوء الشخص أو هياجه. أم إذا كان الخلل لا يعدم من الإنسان إدراكه، وإنما ينقصه فحسب، اعتبر عنها، ونقصت الأهلية بسببه، دون أن تنعدم وهذا هو الاتجاه الذي آثر المشروع أن يسايره، مقتفيًا أثر المجلة وما سار على دربها من قوانين دولنا العربية، كالقانون العراقي والقانون الأردني، وقضت المادة (99) بأنه تسري على تصرفات المعتوه الأحكام التي تخضع لها تصرفات الصغير المميز المنصوص عليها في المادة (87).
ولم يشأ المشروع أن يساير المجلة والقانون العراقي والقانون الأردني، فيكتفي بالقول بأن المعتوه هو في حكم الصغير المميز، رغبةً منه في تقييد ما يثبت للمعتوه من أهلية بتلك التي يقررها المشروع للصغير المميز بوجه عام في المادة (87) منه دون الأهليات الخاصة التي تقررها للصغير المميز المواد التي تتلوها.
وتعرض المادة (100)، لإثبات الجنون أو العته، وإذا كانت القاعدة العامة هي أن يفترض في الشخص، عند إجرائه تصرفًا ما أن الإرادة كانت متوافرة لديه حال إبرامه، ما لم يثبت العكس، وهي القاعدة التي سبق للمشروع أن قننها في المادة 33/ 2، إلا أنه أراد أن يأخذ بحكم مغاير في صدد المجنون أو المعتوه، عندما يكون جنونه أو عتهه مشهورًا، أو عندما يكون القاضي قد عين له قيمًا، ليقرر في هذه الحالة وتلك افتراض إبرام التصرف حالة الجنون أو العته، ليلقي بذلك عبء إثبات إبرام التصرف، حالة الإفاقة، على من يدعيه، وهو حكم يجد له ما يبرره ويسوغه إذ أن الشخص الذي يشتهر عنه الجنون أو العته، أو ذاك الذي يُعين له القاضي قيمًا، يكون في أغلب أوقاته فريسة هذا الأمر أو ذاك، بحيث تتمثل فترات إفاقته إن تواجدت، قليلة عارضة، ولقد أراد المشروع أن يتمشى مع الغالب، فيفترض حصوله، ليُلقي بذلك عبء إثبات النادر على من يدعيه.
ويعرض المشروع، في المواد (101 إلى 106) لأحكام تصرفات السفيه وذي الغفلة. والأصل أن حكم تصرفات السفيه وذي الغفلة واحد، اعتبارًا بأن كلاً من السفه والغفلة يتشابهان في أنهما لا يمسان من الإنسان عقله، وإنما مجرد تدبيره أمره – على ما تقدم – وقد تمشى المشروع كأصل عام مع فكرة وحدة الحكم في تصرفات كل من السفيه وذي الغفلة في تقريره في المادة (101) الأصل العام في هذا الخصوص، وكذلك في المادة (102)، حيث أجاز لكليهما إبرام الوقف والوصية، متى أذن لهما به القاضي.
ومع ذلك، لم يغفل المشروع عن أن التماثل بين السفه والغفلة غير قائم، وأن ثمة خلافًا بينهما وإن لم يعظم، فإن كان كل منهما يتمثل في ضعف بعض الملكات الضابطة للنفس، فإن هذا الضعف في السفه يحمل صاحبه على تبذير ماله، في حين أنه، في الغفلة يحمل صاحبه على أن يغبنه غيره في معاملاته، لفرط الطيبة في قلبه، ولما يعتريه من سذاجة، وهذا ما أدى بالمشروع إلى أن يخص السفيه، دون ذي الغفلة، بأهمية إدارة أمواله، إذا أذنته المحكمة في ذلك، وتحت رقابتها، ليصل بذلك إلى مرتبة الصغير المميز عند بلوغه الثامنة عشرة، كما أنه أدى به أيضًا إلى أن يمنحه، دون ذي الغفلة، أهلية إبرام عقد العمل والتصرف فيما يكسبه من عمله، أجرًا كان أم غيره، تحت رقابة المحكمة، ليأخذ بذلك حكم الصغير المميز عندما يبلغ الخامسة عشرة من عمره.
وتقرر المادة (101) الأصل العام الذي يحكم تصرفات كل من السفيه وذي الغفلة. فتقضي بأن ما جاء من تلك التصرفات بعد صدور الحجر وشهره، تسري عليه أحكام تصرفات الصغير المميز المنصوص عليها في المادة (87) من المشروع. أما ما جاء منها قبل شهر قرار الحجر، فيقع صحيحًا، ما لم يكن قد أُبرم بالتواطؤ توقعًا للحجر، وهذا الذي تقرره المادة (101)، من جعل نقص الأهلية عند كل من السفيه وذي الغفلة رهينًا بصدور قرار الحجر وشهره، لا يعدو أن يكون إعمالاً للفكرة التي تقضي بأنهما ليسا محجورين لذاتيهما وإنما يقع حجرهما بحكم القاضي.
أما شهر قرار الحجر، فقد تطلبه المشروع حمايةً للغير، بإتاحة الفرصة لهم في العلم بالحجر، فإن كان قرار الحجر لما يصدر، أو كان قد صدر ولكنه لما يشهر، وتعاقد السفيه مع شخص يعلم بدعوى الحجر أو حتى بالعزم عليها، فعمدا معًا إلى إبرام العقد تواطؤًا منهما على استباق الزمن، فوت عليهما المشروع قصدهما، وأهدر احتيالهما، وأعطى تصرفهما الحكم الذي كان ليأخذه، لو أنه أُبرم بعد قرار الحجر وشهره.
وقد اقتصر المشروع على النص على التواطؤ توقعًا للحجر، باعتبار أن من شأنه إعطاء تصرف السفيه أو ذي الغفلة، قبل شهر قرار الحجر، حكم تصرفه الذي يُبرم بعد ذلك، دون أن يقرن به الاستغلال، على خلاف ما فعل القانون المصري وبعض القوانين العربية الأخرى التي استوحته كالقانون الأردني، إذ أن الاستغلال أصبح عيبًا عام يشوب الرضاء، ويمكن بالتالي إعمال حكمه على تصرفات السفيه أو ذي الغفلة بدون نص خاص، إذا استبان أن من تعاقد معه قد عمد إلى استغلال طيش بين أو هوى جامح أو ضعف ظاهر فيه.
وتمنح المادة (102) للسفيه وذي الغفلة، على خلاف الأصل، أهلية إبرام الوصية والوقف، شريطة أن تأذن المحكمة لهما في إبرامهما، والمشروع في ذلك يحذو حذو كل من القانون المصري (المادة 116/ 1) والقانون الأردني (المادة 130/ 1)، وقد ارتأى المشروع المصلحة في منح السفيه وذي الغفلة أهلية إبرام الوصية والوقف، برغم كونهما من أعمال التبرع، وإن كان قد اشترط لإجرائهما منهما إذن المحكمة، وذلك اعتبارًا منه بأنهما تصرفان يتسمان بنزعة شخصية تخص السفيه أو ذي الغفلة وحده، دون القيم عليه، وأن الواجب ألا يُحرم هذا أو ذاك من أدائهما، لما عساه أن يكون له فيهما من هدوء البال أو راحة الضمير أو إشباع نزعة إنسانية أو دينية سامية، ثم إنه لا خوف مما يبرمانه، طالما أن الأمر يتم بإذن المحكمة، التي تعمل حكمتها في الرقابة.
وتعرض المادة (103) والمادة (104) للسفيه المأذون في إدارة أمواله كلها أو بعضها.
وتقضي المادة (103) في فقرتها الأولى، بأن للمحكمة أن تأذن للسفيه في تلك الإدارة إذنًا مطلقًا أو محددًا بما تراه من قيود، وعلى الأخص ما تراه من إلزام السفيه بأن يقدم لها حسابًا عن إدارته في المواعيد التي تعينها، وقد آثر المشروع أن يقصر الإذن في الإدارة على المحكمة، بخلاف ما سبق له أن قرره في شأن الإذن للصغير المميز في الإدارة، حيث أناط به الولي أو الوصي تحت رقابة المحكمة، ذلك لأن الإذن للسفيه بالإدارة أكثر خطورة من ذاك الذي يُمنح للقاصر، سيما وإن سوء إدارته لا ينعكس عليه وحده، وإنما قد ينعكس أيضًا على من يعولهم من زوج أو ولد، بخلاف القاصر، الذي يندر أن يكون له زوج أو ولد، في تلك السن المبكرة التي يُتاح له فيها أن يستحصل على الإذن في إدارة أمواله.
وتقضي المادة (103) في فقرتها الثانية، بأن للمحكمة أن تسحب الإذن الذي سبق لها أن أعطته للسفيه في إدارة أمواله، أو أن تقيده، إذا رأت لذلك مقتضيًا ذلك لأن الإذن للسفيه في الإدارة يُعطى له، كما يُعطى للقاصر، على سبيل التجربة والابتلاء، وتحت رقابة المحكمة، فإن تلمست فيه المحكمة صلاحًا أبقته يدير ماله، وإن رأت فيه اعوجاجًا، سلبته ما سبق لها أن منحته من أهلية الإدارة.
وتقضي المادة (103)، في فقرتها الثالثة، بوجوب التأشير على هامش شهر قرار الحجر بما عساه أن تصدره المحكمة من الإذن بالإدارة أو تقييده أو بسحبه، حماية للغير، عن طريق إتاحة الفرصة لهم في أن يكونوا على بينة مما تقرره المحكمة. ويتم التأشير الهامشي على مقتضى النظام الذي يقضي به قرار يصدر من وزير العدل.
وتقضي المادة (104) بأن للسفيه المأذون في الإدارة أهلية إجراء التصرفات التي تقتضيها إدارة ما يسلم إليه من أمواله لإدارتها، في حدود القيود التي يتضمنها الإذن الصادر من المحكمة، ولم يشأ المشروع أن يقيد أهلية السفيه المأذون في الإدارة بالنسبة إلى تأجير الأموال، بخلاف ما سبق له أن فعله في شأن الصغير المميز، حيث قيد أهليته في تأجير ماله بمدة سنة، وقد حدا به إلى ذلك أن الإذن للسفيه في الإدارة لا يكون إلا من المحكمة، فهو لا يكون ممن له الولاية على ماله، بخلاف القاصر. وللمحكمة أن تضع لإدارة السفيه لأمواله من القيود ما ترى أن المصلحة تقتضيه.
وتعرض المادة (105) في فقرتها الأولى، لما يخصص للسفيه من مال لأغراض نفقته هو ومن يعول، وتمنحه أهلية التصرف فيه، في نفس الحدود التي تثبت فيها أهلية الصغير المميز في التصرف فيما يُعطى له من مال لأغراض نفقته.
وتجيء الفقرة الثانية لتخول المحكمة، بناءً على طلب السفيه أو القيم عليه أو أي ذي شأن آخر كزوجته أو ولده، سلطة تحديد ما يجب تخصيصه للسفيه من مال لأغراض النفقة، على أن تراعي المحكمة في ذلك موارد السفيه وحاجاته هو ومن يعول.
وتعطي المادة (105) في فقرتها الثالثة، السلطة للمحكمة في أن تمنع عن السفيه المال المخصص لأغراض النفقة، إذا توافرت أسباب جدية تدعو إلى الخشية من قيامه بتبذيره، وللمحكمة عندئذٍ أن تعهد بمال النفقة إلى من ترى الصلاح في توليه أمر الإنفاق على السفيه وأسرته من زوجة أو ولد أو غيرهما.
وتقرر المادة (106) أن للسفيه أهلية إبرام عقد العمل وأهلية التصرف فيما يعود عليه من عمل، أجرًا كان أم غيره، في نفس الحدود التي تقررها المادة (94) من المشروع في شأن الصغير المميز، وفي منح السفيه أهلية إبرام عقد العمل والتصرف فيما يكسبه من عمله، لا سيما الأجر، مصلحة لا تخفى، إذ أن من شأن ذلك أن يسهل عليه أن يجد لنفسه عملاً يتمثل موردًا لرزقه ورزق من يعول، ثم إن في ذلك رفعًا للعنت عن رب العمل، حيث يكون له أن يوفي الأجر للعامل بنفسه، دون أن يلزم بأن يدفعه للقيم عليه وبعد ذلك كله فالرقابة ثابتة للمحكمة بالنسبة إلى التصرف في الأجر أو في غيره مما يعود على السفيه ثمرة لعمله، فإن رأت مقتضيًا للحد من أهلية السفيه في هذا التصرف، قضت به.
وتجيز المادة (107) للمحكمة المختصة أن تعين مساعدًا قضائيًا لمن يكون به عجز جسماني شديد من شأنه أن يصعب عليه التعبير عن إرادته أو يعسر عليه الإلمام بظروف التعاقد، وعلى الأخص إذا كان هذا العجز الجسماني راجعًا للإصابة بعاهتين من عاهات فقد السمع والكلام والبصر، بأن كان الشخص أصم أبكم أو أعمى أصم أو أعمى أبكم، فمثل هذا الشخص، يعترض العجز جسمه، فلا يمس عقله، ولا يلحق تدبيره. فهو بالتالي كامل الإدراك، سليم التدبير، ولكنه يتعذر عليه، بسبب عاهاته أو حالته المرضية أو الجسمية، أن يعبر وحده عن إرادته تعبيرًا واضحًا سليمًا، كما قد يُخشى عليه بسببها من عدم تبين ظروف التصرف الذي يجريه على نحو سليم، ولهذا يقرر له المشروع نظام المساعدة القضائية، بأن يجيز للمحكمة أن تعين له من يتولى معاونته في إبرام التصرفات التي تحددها له، على أن يُشهر قرار تعيين المساعد القضائي، حماية للغير، عن طريق إتاحة الفرصة لهم في العلم بصدوره.
ويختلف دور المساعد القضائي اختلافًا أساسيًا عن دور الولي أو الوصي أو القيم أو الأشخاص الآخرين، الذين يتولون مثلهم النيابة عن غيرهم، كمدير التفليسة والحارس القضائي، فالمساعد القضائي، بخلاف هؤلاء جميعًا، لا ينوب عن العاجز جسمانيًا في إبرام التصرفات، وهو بالتالي لا يُغني عنه في ذلك. فالذي يبرم التصرف هو هذا العاجز نفسه، ويقتصر دور المساعد القضائي بحسب الأصل، في أن يكون مجرد معين له في إبرامه، بأن يعاونه في الإلمام بظروف التعاقد، كما يعاونه أيضًا في التعبير عن إرادته، فهو بمثابة المترجم له وعنه. ومن أجل ذلك حرص المشروع على ألا يجاري القانون العراقي في إطلاق اصطلاح (الوصي) عليه، وإنما حذا حذو القانون المصري في إطلاق اصطلاح (المساعد القضائي) وقد حرص المشروع على أن يجعل العجز الجسماني الشديد مناط تعيين الحارس القضائي كلما كان من شأن هذا العجز أن يصعب على صاحبة الإلمام بظروف التعاقد، أو يعسر عليه التعبير عن إرادته في شأنه، وبهذا يضع للقاضي معيارًا مرنًا، يصل به إلى العموم والشمول بالنسبة إلى حالات العجز الجسماني الذي يقتضي المساعدة لصاحبه، والمشروع بذلك يتدارك عيبًا وقع فيه القانون المدني المصري، بقصره الحكم على ذي العاهتين من عاهات الصم والبكم والعمى، وهو عيب عمد المشرع المصري نفسه إلى تفاديه في قانون لاحق، هو قانون الولاية على المال، حيث أضاف العجز الجسماني الشديد، وإنما كمجرد حالة من الحالات المسوغة لإعمال نظام المساعدة القضائية، أما المشروع فيجعل من العجز الجسماني الشديد مناطًا لأعمال هذا النظام. ويذكر ذا العاهتين كمثال يستنير به القاضي لتحديد نوعية العجز المقصود، والأمر بعد ذلك متروك لتقديره، حسب ظروف كل حالة.
وتقرر المادة (108) الأثر المترتب على تعيين المساعد القضائي، ويتركز هذا الأثر في وجوب اشتراك المساعد القضائي مع العاجز عجزًا جسمانيًا في إبرام العقد أو غيره من التصرفات التي تقررت المساعدة في شأنها، على أن اشتراك المساعد القضائي في التصرف يتمثل، بحسب الأصل، في مجرد معاونة العاجز في إبرامه، دونما تجاوز في ذلك، فهذا العاجز هو الذي يبرم التصرف، وإنما يلزمه أن يبرمه بمعاونة مساعدة، ومن ثم وجب الاعتداد بإرادة العاجز نفسه من حيث ذات وجودها، ومن حيث العيوب التي تشوبها، بخلاف غيره من المشمولين بالولاية أو الوصاية أو القوامة، على أن المشروع يتطلب، حمايةً للعاجز، أن يعبر عن إرادته بمعاونة مساعدة، فإن صدر منه التصرف، بغير تلك المعاونة، وقع تصرفه قابلاً للإبطال لمصلحته، طالما صدر بعد قرار تعيين المساعد.
على أن المشروع قد استثنى من هذا الأصل الحالة التي تأذن فيها المحكمة لمن تقررت مساعدته بالانفراد في إبرام التصرف، دون معاونة مساعدة وقد أراد بذلك أن يواجه الحالة التي يحجم فيها المساعد عن تقديم العون، في حين أن المحكمة ترى، من ظروف الحال، إمكان انفراد الشخص بإبرامه دون أن يلحقه الضرر.
وتواجه المادة (109) الحالة التي يتعذر فيها على الشخص، بسبب حالته الجسمية أو المرضية، أن يًبرم تصرفًا معينًا، ولو بمعاونة مساعد قضائي، عُين له من قبل أو يراد تعيينه له، في حين أن مصلحته تقتضي إبرامه، دونما انتظار، وإلا تعرضت للخطر، ويقضي المشروع بأنه يجوز للمحكمة، في تلك الحالة، أن تأذن للمساعد القضائي بأن يقوم بنفسه، وبغير تدخل من العاجز، بإبرام التصرف، وللمحكمة عند صدور إذنها للمساعد في إبرام التصرف منفردًا، أن تقرر القيود التي تراها كفيلة بتحقيق مصلحة العاجز.
وفي الحالة المنصوص عليها في المادة (109) يكون للمساعد القضائي صفة النائب، بخلاف الأصل المتمثل في أنه مجرد مترجم للعاجز وعنه.

الولاية على مال الصغير:
إذا كان للصغير مال احتاج إلى من يقوم بحفظه وإدارته والتصرف فيه. وتُناط هذه المهمة بالولي أو الوصي على حسب الأحوال.
والولي في اصطلاح الفقه الإسلامي، يُطلق على الأب والجد الصحيح وهو أبو الأب، أما الوصي فهو من يختاره الأب وصيًا على مال أولاده الصغار، ويقال له: الوصي المختار، أو من تعينه المحكمة وصيًا.
وقد أوضحت المادة (110) من المشروع الأشخاص الذين تكون لهم هذه الولاية أو الوصاية على مال الصغير، ودرجة كل منهم فيها، فنصت على أن الولاية تكون لأبي الصغير، فإن لم يوجد له أب، أو وُجد ولم يكن أهلاً للولاية، كانت الولاية لمن اختاره الأب وصيًا، فإن لم يكن الأب قد اختار لابنه وصيًا، كانت الولاية للجد الصحيح، فإن لم يوجد الجد الصحيح، أو وجد ولم يكن أهلاً للولاية، كانت الولاية لمن تختاره المحكمة وصيًا.
وثبوت الولاية للأب، وتقديمه على غيره فيها حكم متفق عليه في الفقه الإسلامي، لأن الأب أقرب الناس إلى أولاده، وأشفقهم وأرعاهم لمصالحهم، يهمه من أمرهم أكثر ما يهمه من أمر نفسه، أما ثبوتها لوصيه المختار، وتقديمه على الجد، فقد أخذه المشروع من مذهب الحنفية والمالكية لأن الأب إذا اختار وصيًا مع وجود الجد كان اختياره دليلاً على أنه يرى الوصي أصلح من الجد في رعاية مال أولاده، والتصرف فيه، ورأي الأب في شؤون أولاده محترم بعد وفاته، كما هو محترم في حال حياته، فيقدم الوصي الذي اختاره، عملاً برأيه، وتحقيقًا لرغبته، كما يقدم الأب نفسه على الجد لو كان موجودًا، وأما ثبوت الولاية للجد، وتقديمه على الوصي الذي تعينه المحكمة، فقد أخذه المشروع من مذهب الحنفية والشافعية، إذ الجد وافر الشفقة على أولاد أولاده، فتثبت له الولاية، إلا أن شفقته لما كانت دون شفقة الأب أُخرت ولايته عن ولاية الأب، وولاية من اختاره لابنه وصيًا.
وقد حرص المشروع على النص على أن ولاية كل من الأب والجد ولاية إلزامية، فلا يكون لواحد منهما أن يتنحى عنها إلا إذا وجد سبب يبرر هذا التنحي، كأن يكون الأب أو الجد كبير السن أو مريضًا لا يستطيع القيام بما تتطلبه الولاية من واجبات والتزامات. فعندئذٍ يجوز له التنحي عن الولاية. وهذا التنحي لا يكون إلا بناءً على إذن المحكمة المختصة، وذلك رعاية لمصلحة الصغير وحفظًا لماله.
وهذا الحكم يتفق تمامًا مع ما هو مقرر في الفقه الإسلامي، ففي هذا الفقه: أن ولاية الأب والجد ولاية أصلية ذاتية، أثبتها الشارع لهما بسبب الأبوة، فكانت الولاية حقًا لهما، كما أنها واجبة عليهما.
وتعرض المادة (111) لبيان الشروط التي يلزم توافرها في الولي والوصي. فتنص على أنه يشترط في كل من الولي والوصي أن يكون عدلاً، أي أمينًا حسن السيرة، وأن يكون كفئًا، أي قادرًا على إدارة المال الذي في ولايته، والتصرف فيه، وأن يكون بالغًا رشيدًا غير محجور عليه بسبب من أسباب الحجر، لأن من فقد وصفًا من هذه الأوصاف لم يكن أهلاً للولاية على مال نفسه، ومن لا يكون أهلاً للولاية على مال نفسه لا يكون أهلاً للولاية على مال غيره بالطريق الأولى، وكذلك يشترط في الولي والوصي ألا يكون قد أشهر إفلاسه، ولم يُرد إليه اعتباره، لأنه من أشهر إفلاسه، ولم يرد إليه اعتباره يُخشى منه على المال الذي يكون تحت ولايته، فلا يمكن من الولاية عليه.
ولم تقتصر المادة على تلك الشروط بل أضافت إليها كل شرط يتطلبه القانون أو تشترطه الشريعة الإسلامية في الولي أو الوصي. والذي دعا المشروع إلى الاعتداد بالشروط التي تتطلبها الشريعة الإسلامية، ما وجده من أن هذه الشريعة أضافت إلى الشروط الواجب توافرها في الولي والوصي شرطًا فيه رعاية زائدة لمال القاصر مسلمًا كان أو غير مسلم، فاشترطت في الولي والوصي أن يكون متحدًا في الدين مع من يكون في ولايته، وبناءً على هذا الشرط منعت المسلم أن يكون وليًا أو وصيًا على غير المسلم، كما منعت غير المسلم أن يكون وليًا على المسلم، ولا يَخفَى ما في هذا الاشتراط من ضمان شفقة الولي أو الوصي على من له الولاية أو الوصاية عليه، وحسن عنايته به، لأن الاتفاق في الدين باعث على العناية وشدة الرعاية بالموافق فيه. كما أن الاختلاف في الدين باعث في الغالب على ترك العناية بمصالح المخالف فيه.
هذا والغرض من وضع هذه الشروط العمل على حماية مال الصغير، وضمان حسن إدارته والتصرف فيه، وهو أمر تحث عليه الشريعة الإسلامية وتوجبه.
وتضمنت المادة (112) حكمًا خاصًا خرجت به عن الحكم العام الذي جاء في المادة (110) حيث أنها جعلت، في فقرتها الأولى، الوصاية على مال الصغير لإدارة شؤون القصر إذا كان من الكويتيين، ولم يكن له أب ولا وصي مختار للأب ولا جد صحيح، وذلك ما لم تعين المحكمة له وصيًا غيرها.
ونصت المادة (112) في فقرتها الثانية، على إعطاء المحكمة سلطة تعيين الوصي الذي تراه بدلاً من إدارة شؤون القصر في أي وقت تشاء، متى رأت أن ذلك في مصلحة القاصر.
والمشروع، بالأحكام التي يوردها في المادة (112) بفقرتيها، يتوافق مع ما يقضي به القانون رقم (4) لسنة 1974 في شأن إدارة شؤون القصر.
وتنظم المادة (113) في فقراتها الثلاث، الشكل الذي تلزم مراعاته للاعتداد باختيار الأب وصيًا لصغيره، وحق الأب في الرجوع عن اختيار هذا الوصي، وتثبيت المحكمة له، فتنص في الفقرة الأولى، على أنه يلزم لاعتبار الشخص وصيًا مختارًا أن يكون اختياره مثبتًا في ورقة رسمية، أو في ورقة عرفية مصدق فيها على توقيع الأب، أو في ورقة مكتوبة كلها بخط الأب وموقعة بإمضائه.
وهذه الفقرة مستوحاة من المادة (28) من القانون المصري رقم (119) لسنة 1952 الخاص بأحكام الولاية على المال.
والهدف من اشتراط ذلك في تعيين الوصي المختار هو حسم المنازعات الخاصة بالإثبات، وحماية القصر ممن يدعون الوصاية عليهم زورًا وبهتانًا، وهو أمر يتفق مع مبادئ الشريعة الإسلامية التي تدعو إلى المحافظة على مصالح الناس، وتسد الباب في وجه الكاذبين والمزورين.
وقد أعطى المشروع، في الفقرة الثانية، للأب الحق في الرجوع عن اختيار الوصي، ولم يشترط في اعتبار هذا الرجوع ما اشترطه في اختيار الوصي، وهو بهذا يمتاز عن القانون المصري رقم (119) لسنة 1952الذى تطلب لاعتبار الرجوع عن اختيار الوصي ما تطلبه لاعتباره وصيًا لأنه بهذا المسلك يسر طريق العدول عن اختيار الوصي، وفي هذا التيسير مصلحة للصغير، فقد يختار الأب شخصًا للوصاية على أولاده، معتقدًا أنه صالح لإدارة أموالهم والتصرف فيها وأمين على هذه الأموال، ثم يتبين بعد ذلك أنه على عكس ما كان يعتقد.
وقد استلزم المشروع، في الفقرة الثالثة، عرض اختيار الوصي على المحكمة لتثبيته، وتبعًا لذلك يكون للمحكمة رفض الوصي المختار إذا وجدت أنه لا يتوافر فيه الشروط اللازمة في الوصي بوجه عام.
وتناولت الفقرة الأولى من المادة (114) سلطة المحكمة في تقييد سلطة الولي والوصي المختار وسلب ولاية كل منهما، فنصت على أن للمحكمة الحق في تقييد ولاية الأب أو الجد أو الوصي المختار، وفي سلب هذه الولاية متى وجدت في إطلاق ولايتهم أو استمرارها خطرًا على مال الصغير، وطلب منها ذلك إدارة شؤون القصر أو أي شخص ذي شأن، وكان هناك من الأسباب ما يُخشى معها الضرر على أموال الصغير، وللمحكمة سلطة تقدير الأسباب التي تقتضي سلب الولاية أو الحد منها.
وتناولت الفقرة الثانية سلطة المحكمة في عزل الوصي المعين، فأعطتها الحق في عزل هذا الوصي وتعيين وصي آخر بدلاً منه، إذا استدعى ذلك صالح الصغير.
والحكمة في إعطاء المحكمة هذا الحق أن الولاية منوطة بمصلحة الصغير ومن مهمات المحكمة رعاية هذه المصلحة، فإذا رأت أن مصلحة الصغير تقتضي زوال الولاية أو تقييدها كان عليها أن تحكم بزوالها أو تقييدها متى طلب منها ذلك من له الصفة في التقدم به، وهو إدارة شؤون القصر أو أي ذي شأن آخر.
وتعرض المادة (115) في فقرتيها لما يلزم اتخاذه في حالة غياب الولي أو الوصي المختار وفي حالة حبس أحدهما.
فقررت الفقرة الأولى أن للمحكمة أن توقف الولاية عن الأب أو الجد أو الوصي المختار، إذا اعتبر غائبًا، وفقًا لما تقضي به الفقرة الثانية من المادة (141) أو إذا سجن تنفيذًا لحكم بالحبس لمدة تزيد على سنة.
وبينت الفقرة الثانية من تكون له الولاية على مال الصغير في فترة الوقف، فنصت على أنها تثبت لمن تكون له ولاية المال وفقًا للأصل العام المقرر في المادة (110) من المشروع.
وتتناول المادة (116) في فقرتيها، ما يدخل تحت نطاق الولاية أو الوصاية من مال الصغير، فتنص في الفقرة الأولى على شمول الولاية أو الوصاية لكل أموال الصغير، إلا إذا رأى الأب تخصيص الوصي الذي اختاره بنوع من المال أو بنوع من التصرفات أو رأت المحكمة تحديد ولاية الوصي ببعض أنواع المال أو بنوع من التصرفات، فإن الولي أو الوصي في هذه الحالة يتخصص بما خصصه الولي أو القاضي، وذلك لأن ولاية الوصي مستمدة من الأب أو القاضي، فتكون على حسب ما فوضه كل منهما إليه وأذن فيه، وهذا الحكم مستمد من مذهب أبي يوسف ومذهب المالكية والشافعية والحنابلة.
وتنص المادة (116) في فقرتها الثانية، على حكم خاص ببعض أموال الصغير، وهو المال الذي يؤول إليه عن طريق الميراث أو التبرع، فتبين أن هذا المال يكون خارجًا عن نطاق ولاية الأب أو الجد أو وصاية شخص معين، إذا أوصى المورث أو اشترط المتبرع عند التبرع عدم خضوعه لولاية الأب أو الجد أو شخص معين، وفي هذه الحالة تثبت الولاية في خصوصه لمن يختاره المورث أو المتبرع وصيًا مع مراعاة الشكل الذي تقضي به المادة (113) من المشروع فإن لم يختر المورث أو المتبرع للصغير وصيًا في خصوص هذا المال في الشكل المرسوم، عينت المحكمة له وصيًا خاصًا تكون سلطته مقصورة عليه. وهذا الحكم مأخوذ من الفقه المالكي، ففي حاشية الصاوي على الشرح الصغير (2/ 474) من تبرع لمحجور عليه فله أن يجعل لما تبرع به من شاء ناظرًا، ولو كان للمحجور عليه أب أو وصي. وفي الشرح الصغير (أن للأم إذا ورث الابن عنها شيئًا أن توصي لمن تشاء على هذا المال).
وتعرض المادة (117) في فقرتيها لبيان الحكم في حالة وجود مال للحمل المستكن، فتنص في الفقرة الأولى، على أن الأمانة على مال الحمل المستكن تكون لمن تثبت له الولاية على مال الصغير، وقد آثر المشروع أن يُسمى من يعين على مال الجنين أمينًا بدلاً من تسميته وصيًا، كما في بعض القوانين العربية وذلك لأن من يعين على مال الحمل ليس وصيًا بالمعنى القانوني لهذه الكلمة، بل هو لا يعدو أن يكون أمينًا وحفيظًا على ماله حتى لا يضيع عليه، أو تضيع عليه غلتها.
وتبين الفقرة الثانية أن من يختار أو يعين أمينًا على مال الحمل يبقى وصيًا على ماله بعد ولادته إلا إذا عينت المحكمة له وصيًا غيره. والأحكام التي تضمنتها هذه المادة مستمدة من الفقه المالكي.
. وتضمنت المادة (118) بفقرتيها مهمة الأمين على مال الحمل، فجعلت مهمته حفظ مال الجنين وإدارته والقيام بالتصرفات التي يتطلبها حفظ هذا المال وإدارته، وقبول التصرفات النافعة للحمل نفعًا محضًا كالهبة الخالصة.
وتعرض المادة (119) للحالة التي يمكن فيها تعدد الأوصياء، فتبين أن للأب أن يوصي على مال أولاده الصغار إلى أكثر من واحد، كما يجوز للمحكمة أن تعين أكثر من وصي واحد إذا ما رأت أن مصلحة الصغير تقتضي ذلك.
وتعرض المادة (120) في فقرتها الأولى، للحكم في حالة تعدد الأوصياء المختارين أو المعينين، فتنص على أنه إذا تعدد الأوصياء وحدد الأب أو المحكمة لكل واحد اختصاصه، فإنه يجوز لكل وصي أن ينفرد بالتصرف في حدود ما خصص له، كأن يعهد إلى أحد الأوصياء القيام بشؤون الأراضي الزراعية، وإلى آخر بشؤون متجر أو مصنع، وإلى ثالث بشؤون المباني. أما إذا لم يحدد الأب أو المحكمة لكل وصي اختصاصه فلا يجوز لأحدهم أن ينفرد بالتصرف في المال، بل لا بد من اشتراكهم جميعًا فيه، وذلك لأن اختيار أو تعيين أكثر من وصي يدل على أن الغرض من هذا التعدد اجتماع رأيهم واشتراكهم في كل تصرف في المال حتى يكون التصرف الذي يُجرى أصلح وأنفع للصغير من التصرف الذي ينفرد به وصي واحد.
وتضمنت الفقرة الثانية استثناءً من الحكم العام الذي قررته الفقرة الأولى، فأجازت لكل واحد من الأوصياء الانفراد بالتصرف إذا كان لازمًا لحفظ المال، أو كان من التصرفات العاجلة، التي لا تحتمل التأخير، أو التي يكون فيها نفع ظاهر للصغير.
وتعرضت المادة (121) للحكم عند اختلاف الأوصياء المتعددين في شأن التصرفات التي يلزم اجتماع رأيهم فيها، فنصت على تفويض المحكمة البت في موضوع النزاع بما تراه محققًا لصالح الصغير، إذا طلب منها ذلك إدارة شؤون القصر، أو أي ذي شأن آخر.
والأحكام التي تضمنتها المواد (119 و120 و121) تتفق مع المذهب المالكي والشافعي والحنبلي ومذهب أبي يوسف محمد بن الحنفية.
وتعرض المادة (122) للحالة التي تتطلب فيها مصلحة الصغير تعيين وصي خاص له، في صدد شأن معين من شؤونه، ليتولى الولاية عليه في هذا الشأن، بدلاً ممن تكون له الولاية العامة على كافة أمواله، قاضية بجواز ذلك للمحكمة، فكلما اقتضت مصلحة الصغير أن يكون له وصي خاص، ساغ للمحكمة أن تقيمه، بناءً على طلب إدارة شؤون القصر أو أي ذي شأن.
وتخص المادة (122) بالذكر، على سبيل المثال لا الحصر، بعضًا من الحالات التي تقتضي فيها مصلحة الصغير تعيين وصي خاص، فذكرت الحالة التي تتعارض فيها مصلحة الصغير مع مصلحة وليه الشرعي أو مصلحة زوجه أو مصلحة أي شخص آخر مشمول بولايته أو التي تتعارض فيها مصلحة الصغير مع مصلحة الوصي أو مصلحة زوجه أو مصلحة أحد أصولهما أو فروعهما أو مصلحة شخص يتولى الوصي الولاية على ماله.
وتعرض المادة (123) لتعيين المشرف، وهو الشخص الذي يعين لمراقبة أعمال الوصي وتصرفاته المتعلقة بالوصاية، دون أن يشترك معه في إجرائها.
فتنص الفقرة الأولى على أن الوصاية على مال الصغير إذا كانت لغير إدارة شؤون القصر فإنه يجوز أن يُعين مشرف يتولى الرقابة على تصرفات الوصي، سواء كان وصيًا مختارًا من قِبل الأب أم كان وصيًا معينًا من المحكمة، وذلك لضمان قيام الوصي بعمله على الوجه الأكمل. وهذا الحكم مستمد من المذهب المالكي والحنفي.
وتعهد الفقرة الثانية إلى المحكمة أمر تعيين المشرف، إذا لم يكن الأب قد اختار مشرفًا، كما تجيز الفقرة الثالثة للمحكمة أن تعهد بالإشراف إلى إدارة شؤون القصر إذا كان الصغير من الكويتيين.
وتحدد المادة (124) مهمة المشرف، فتبين أن مهمته أن يراقب الوصي في إدارته مال الصغير وتصرفاته فيه، وأن يبلغ المحكمة كل أمر تقتضي المصلحة رفعه إليها، وليس للمشرف حق الاشتراك في الإدارة ولا الانفراد بالتصرف فيما عدا الأمور التي خولها القانون له.
وتلزم المادة (125) الوصي بإجابة المشرف إلى كل ما يطلبه من إيضاح عن إدارته وتصرفاته في مال الصغير، وأن يمكنه من فحص الأوراق والمستندات الخاصة بهذا المال، وذلك لكي يستطيع المشرف القيام بمهمته التي عُين من أجلها.
وتنص المادة (126) في فقرتها الأولى، على أن مهمة المشرف، إذا خلا مكان الوصي، هي أن يرعي مال الصغير، ويحفظه إلى أن تعين المحكمة وصيًا جديدًا، وتبين، في فقرتها الثانية، أن المشرف له في الفترة التي لا يوجد فيها وصي للصغير أن يقوم بالأعمال التي يكون في تأجيلها ضرر ظاهر للصغير، كبيع المحصول الذي يتبادر إليه التلف والفساد، وكالطعن في الأحكام قبل انقضاء المواعيد القانونية للطعن فيها، وكاتخاذ الإجراءات العاجلة الضرورية لصيانة مال الصغير.
سلطة الولي الشرعي:
وتعرض المادة (127) في فقرتيها، لبيان سلطة الولي في التصرفات التي يباشرها نيابةً عن الصغير، فتبين الفقرة الأولى أن الولي، سواء أكان أبًا أم جدًا، له أن يباشر التصرفات النافعة نفعًا محضًا للصغير كقبول الهبة الخالصة غير المقترنة بشرط، أي العارية عن التزامات تحمل بها، أما الهبة بشرط، أي تلك المحملة بالتزامات معينة، فإنه لا يجوز للولي بمقتضى الفقرة الثانية قبولها إلا بإذن المحكمة، وذلك لأن اقتران التبرع بالتزام قد يؤدى إلى ضياع منفعته، وجعله عبئًا على الصغير، فكان من المفيد أن يجعل قبوله من الولي متوقفًا على إذن المحكمة، حتى يمكنها التأكد من وجود المصلحة للصغير في قبول هذا التبرع أو رفضه، وهذا احتياط آثر المشروع أن يضفيه على الصغير، دون أن تأباه الشريعة الإسلامية.
وتتضمن المادة (128) بيان ما يملكه الولي من أعمال في مال الصغير، فأوضحت الفقرة الأولى أن الولي، سواء كان أبًا أم جدًا، له أن يجري أي تصرف يكون فيه حفظ لمال الصغير وتنميته واستثماره وإدارته.
ونصت الفقرة الثانية على منع الولي من تأجير مال الصغير، عقارًا كان أم منقولاً، لمدة تستمر إلى ما بعد بلوغ الصغير سن الرشد بأكثر من سنة بغير إذن المحكمة. فإن لم تتجاوز مدة الإجارة هذا المدى جاز للولي إجراؤها بدون إذن المحكمة.
وتعرض المادة (129) لبيان الحكم في التصرفات التي يجريها الولي في مال الصغير والتي يكون لها مقابل كالبيع والشراء والإيجار والاستئجار فتبين أن الولي له أن يجري هذه التصرفات على أن يراعي فيها القيود التي تتضمنها المواد التالية لهذه المادة.
وتورد المادة (130) قيدًا على تصرف الولي في عقار الصغير أو محله التجاري ببيع أو إيجار، إذا كان البيع لنفس الولي أو كان لزوجه، أو لأحد أقارب الولي أو أقارب زوجه إلى الدرجة الثالثة وهذا القيد هو استئذان المحكمة قبل إجراء هذا التصرف.
والحكمة من تقرير هذا القيد ترجع إلى أن البيع أو الإيجار أو نحوهما إذا كان للولي أو لزوجه أو لأحد أقاربهما إلى الدرجة الثالثة فإنه يخشى أن تكون فيه محاباة، فكان من مصلحة الصغير أن يؤخذ إذن المحكمة قبل الإقدام على التصرف، وذلك لتتمكن المحكمة من التحقق من عدالة المقابل وانتفاء المحاباة.
وهذا الحكم تقره الشريعة الإسلامية، فالشريعة لا تجيز التصرفات التي يكون احتمال التهمة فيها قائمًا، ولهذا منعت شهادة الوالد لولده وشهادة الرجل لزوجه، وبالعكس. وقد نص صاحب كتاب (جامع أحكام الصغار) على أن الأب أو الوصي إذا باع عقار اليتيم فرأى القاضي أن نقض البيع أصلح للصغير كان له نقضه، مما يفيد أن للقاضي مراقبة التصرف في عقار الصغير، وأن له نقض التصرف فيه، إذا وجد أن نقضه في مصلحة الصغير، حتى ولو كان التصرف فيه صادرًا من الأب، وكان المتصرف له شخصًا أجنبيًا.
والحكمة في قصر هذا المنع على العقر والمحل التجاري – كما جاء في المشروع - ترجع إلى ما للعقار والمحل التجاري من أهمية خاصة، فالعقار أساس الثروة، والمحل التجاري قد يكون مورد الرزق الوحيد للقاصر، وفي التصرف فيه بالبيع ما يودي بذلك المورد.
وتتضمن المادة (131) قيدًا على تصرف الولي في مال الصغير، عقارًا كان أو منقولاً، إذا زادت قيمته على مائتي ألف دينار، فاشترطت لجواز التصرف فيه أخذ الإذن من المحكمة قبل إجرائه، فإن كانت قيمة المال لا تتجاوز هذا القدر فللولي أن يتصرف فيه بدون إذن المحكمة، والمقصود من وضع هذا القيد هو توفير أكبر قسط من الضمان لرعاية مصلحة المشمولين بالولاية، وهو أمر لا تأباه الشريعة الإسلامية التي تحيط القاصر بكل ضروب الحياطة وتنهى عن قربان ماله إلا بالتي هي أحسن.
وتبين المادة (132) حكمًا خاصًا بالمال الذي يؤول إلى الصغير بطريق الميراث أو التبرع، والذي يشترط المورث أو المتبرع عدم تصرف الولي فيه، وهذا الحكم هو أن الولي ليس له أن يتصرف في هذا المال بأي نوع من التصرفات، ولا يستثنى من ذلك إلا التصرفات العاجلة التي يقتضيها حفظ المال كبيع الأشياء التي يُخشى فسادها لو بقيت، ويشترط لإجراء هذه التصرفات الحصول على إذن المحكمة، للتحقق من ضرورة التصرف الذي يجريه الولي أو عدم ضرورته.
وتضمنت المادة (133) بفقرتها الأولى حكمًا عامًا في شأن التبرعات من مال الصغير، فقضت بمنع الولي من التبرع بشيء من ماله ولكن الفقرة الثانية استثنت من ذلك التبرع لغرض عائلي أو إنساني، كإنشاء مستشفى أو ملجأ، أو تقديم المساعدة لقريب مريض أو معوز، واشترطت لصحة هذا التبرع أن يكون في مال الصغير سعة تسمح بالتبرع وأن يكون المال المتبرع به لا يؤثر على ثروته، واستئذان المحكمة قبل التبرع.
فإذا تبرع الولي بغير إذن المحكمة كان تبرعه غير نافذ في حق الصغير، وللمحكمة سلطة تقدير ظروف التبرع والدافع إليه، وتقدير مال الصغير، إذا كان يتحمل التبرع أم لا.
والحكم الذي قررته الفقرة الأولى من هذه المادة يتفق مع ما نُص عليه في الفقه الإسلامي من منع الولي من التبرع بشيء من مال القاصر لأنه من التصرفات الضارة للصغير ضررًا محضًا، والولي لا يملك إجراء تصرف منها.
أما الحكم الاستثنائي الذي تضمنته الفقرة الثانية فإنه لا يتفق مع مذهب الحنفية، ولكنه يتفق مع ما جاء في المذهب المالكي من أنه يجوز للولي أن يهب من مال الصغير القليل المتعارف، كما أنه يوافق مذهب الفقهاء الذين أوجبوا الزكاة في مال القاصر، لأن التبرع لواجب إنساني أو عائلي يمكن أن يُعتبر من مصارف الزكاة، لأن من مصارفها سبيل الله، وسبيل الله عام يشمل كل ما يكون فيه خير وطاعة لله.
وتعرضت المواد (134 و135 و136) لبيان بعض التصرفات التي لا يجوز للولي إجراؤها، فتبين المادة (134) أن الولي ليس له إقراض مال الصغير للغير، وليس له أيضًا اقتراض مال الصغير لنفسه، وذلك لأن الإقراض قد يؤدي إلى ضياع مال الصغير، لو كان المقترض مفلسًا، أو مماطلاً في أداء ما عليه من ديون. واقتراض الولي لمال الصغير يؤدي إلى تعطيل المال عن الاستثمار والتنمية، والولي مأمور شرعًا باستثمار مال الصغير وتنميته بكل ما يمكنه، عملاً بقول النبي صلي الله عليه وسلم (اتجروا في مال اليتامى حتى لا تأكلها الزكاة).
وحكم المادة (134) يتفق مع المنصوص عليه في المذهب الحنفية.
وتنص المادة (135) على منع الولي من رهن مال الصغير إلا إذا كان الرهن في دين على الصغير نفسه، أما إن كان الدين على الولي أو على شخص آخر، فلا يجوز له أن يرهن مال الصغير في هذا الدين، ولا تملك المحكمة الإذن له بذلك، فهو منع مطلق، ذلك لأن الرهن يفضي إلى استيفاء الدين من المال المرهون، إذا لم يدفع الدين في الموعد المحدد للوفاة ولا يجوز للولي أن يؤدي الدين الذي عليه أو على شخص آخر من مال الصغير، لأن فيه ضررًا محضًا للصغير، والولي لا يملك التصرف الذي يكون فيه ضرر محض للصغير، ومن ناحية أخرى، فإن في إباحة رهن مال الصغير في الدين الذي يكون على الولي ما ييسر له الالتجاء إليه كلما وقع في ضيق مالي، فكان من المصلحة أن يجنب مال الصغير هذا الخطر، وهذا الحكم يتفق مع رأى أبي يوسف وزفر من الحنفية.
وتقضي المادة (136) بأن جميع القيود الواردة على سلطة الولي لا تسري على المال الذي آل إلى الصغير من الولي نفسه على سبيل التبرع، ولو كان من طريق غير مباشر.
وقد راعى المشروع في تقرير هذا الحكم أن المال هو في الأصل مال الولي، فلا جُرم أن تثبت له سلطة التصرف فيه بغير قيود، بعد أن آل منه إلى الصغير بغير مقابل. ثم إن في تقرير هذا الحكم تشجيعًا للولي على التبرع بماله للصغير، الأمر الذي يعود عليه بالنفع.
سلطة الوصي:
الوصي هو كل شخص مُنح الولاية على مال الصغير غير أبيه وجده لأبيه، وسلطة الوصي أضيق نطاقًا من سلطة الولي الشرعي، سواء كان مختارًا من قبل الأب، أم كان معينًا من قبل المحكمة المختصة، أم كان إدارة شؤون القصر.
وتقضي الفقرة الأولى من المادة (137) بأن سلطة الوصي – ولو كان مختارًا من الأب – على مال الصغير إنما تكون في الحدود التي يرسمها القانون لسلطة إدارة شؤون القصر باعتبار أن لها الوصاية أو القوامة على معدومي الأهلية أو ناقصيها. وعلى هذا لا يكون لمن يختار وصيًا بدلاً من إدارة شؤون القصر أو لمن تعينه المحكمة وصيًا مكانها من السلطات إلا ما كان في الحدود التي رسمها القانون لها.
وألزمت الفقرة الثانية الوصي، إذا كان شخصًا آخر غير إدارة شؤون القصر أن يأخذ الإذن من المحكمة لإجراء أي تصرف لا يكون لمدير تلك الإدارة أن يتولاه وحده.
وتحدد الفقرة الثالثة من المادة (137) النطاق العام لسلطة الوصي، قاضية بأن سلطته لا تتجاوز سلطة الولي الشرعي، على الوجه الذي يحدده القانون.
فسلطة الوصي، في ظل الشريعة الإسلامية، أضيق نطاقًا من سلطة الولي الشرعي، لحكمة ظاهرة لا تخفى، فإذا كان ذلك فإنه لا ينبغي أن يكون للوصي، في ظل القانون، ولو كان هو إدارة شؤون القصر، من السلطات أكثر من تلك التي يخولها القانون للولي الشرعي، وعلى ذلك فإن سلطة الوصي، أيًا من كان تتحدد بالقيود التي يفرضها القانون على سلطة الولي الشرعي.
الولاية على مال المحجور عليه:
وتعرض المادة (138) لبيان الجهة التي يكون لها الولاية على مال المحجور عليه، فتبين الفقرة الأولى أن المحكمة المختصة هي التي يكون لها سلطة تعيين الولي على مال المحجور عليه لجنون أو عته أو سفه أو غفلة، ويسمى (قيمًا)، وأن هذا التعيين إنما يكون بناءً على طلب من إدارة شؤون القصر، أو أي ذي شأن آخر.
وتقضي الفقرة الثانية بأن المحجور عليه إذا كان من الكويتيين، ولم تعين المحكمة قيمًا على ماله، فإن القوامة عليه تكون لإدارة شؤون القصر، فالقوامة على ناقص الأهلية أو فاقدها ممن تجاوزوا السن المحددة لبلوغ الرشد من الكويتيين تثبت لإدارة شؤون القصر لمجرد أن الحكمة لم تعين على ماله قيمًا، من غير حاجة إلى صدور قرار من المحكمة المختصة بذلك، كما هو الحال في الوصاية على مال الصغير.
ويُلاحظ هنا أن تعيين القيم على مال ناقص الأهلية أو فاقدها إنما هو للمحكمة من أول الأمر، وهذا على خلاف الأمر في الولي على مال الصغير حيث أن الولاية على ماله تثبت من أول الأمر للأب أو الجد الصحيح، إذا لم يكن الأب قد اختار وصيًا، من غير أن تحتاج هذه الولاية إلى صدور قرار من المحكمة بتقريرها، والسبب في ذلك يرجع إلى أن الحجر على الإنسان قبل كمال أهليته يكون لمصلحته أولاً لا لمصلحة غيره، فتثبت الولاية على ماله لمن يكون أحرص من غيره على هذا المال، ولما كان الأب والجد لأب هما أحرص الناس على مال أولادهم، وكانت شفقتهما على أولادهم فوق شفقة غيرهم، أثبت الشارع لهما الولاية على مال أولادهم الصغار ومن في حكمهم بسبب قرابتهم القريبة، وهي قرابة الأبوة، فكانت ولايتها ولاية ذاتية أصلية تثبت ابتداءً، لا بطريق النيابة عن قاضٍ استمدا منه هذه الولاية.
أما إذا كُملت أهلية الإنسان ثم قامت به صفات أو طرأ عليه عارض كالجنون أو العته أو السفه اقتضت الحجر عليه في التصرفات المالية فإن هذا الحجر قد يكون لمصلحة المحجور عليه، وقد يكون لمصلحة غيره محافظة على مال المحجور من التبذير والضياع، وعلى هذا فإن النظر في ماله يكون للمحكمة، ولمن تقيمه قيمًا عليه نيابةً عنها، ولا يكون النظر لغير المحكمة ابتداءً حتى ولو كان ذلك الغير أبًا للمحجور عليه أو جدًا لأبيه إلا إذا عينته المحكمة قيمًا على المحجور عليه، فإذا عينت المحكمة أحدهما قيمًا كانت قوامته مستمدة من المحكمة، وليست حقًا شرعيًا ثابتًا لهما ابتداءً بسبب الأبوة، فيكون شأنه في هذه القوامة شأن غيره من القوام الذين يُختارون لهذه المهمة.
وتأتي المادة (139) لتبين أن سلطة المحكمة في تعيين القيم ليست مطلقة تختار بمقتضاها من تشاء، وإنما سلطتها في ذلك مقيدة، فعلى المحكمة أن تبدأ في تنصيب القيم على المحجور عليه بأبنائه، فتختار منهم من يصلح للقوامة، فإن تعدد الأبناء الصالحون للقوامة، عينت المحكمة الأصلح منهم لهذه القوامة، وهو من يكون أكثر من غيره، رعايةً للمحجور عليه، وعناية بشؤونه، وإن تساووا في الأصلحية كان الأمر مفوضًا للمحكمة تختار منهم من تشاء للقيام بشؤون المحجور عليه، فإن لم يوجد من أبنائه من يصلح للقوامة عينت المحكمة الأب قيمًا، فإن لم يوجد الأب، أو وجد ولم يكن أهلاً للقوامة عهدت بالقوامة إلى الجد الصحيح، فإن لم يوجد الجد الصحيح، أو وُجد ولم يكن أهلاً للقوامة اختارت المحكمة من تراه صالحًا للقوامة.
وتعرض المادة (140) لبيان أحكام القيم، فتنص على أن أحكام القيم هي أحكام الوصي فشأنه في ذلك شأن الوصي، وعلى هذا يُشترط في الشخص الذي يعين قيمًا أن تتوافر فيه الشروط اللازمة في الوصي، ويكون للقيم نفس السلطة التي تثبت للوصي، وعليه من الواجبات ما يكون على الوصي، ويجوز للمحكمة أن تعين مشرفًا يراقب القيم في إدارة شؤون المحجور عليه، في نفس الحدود التي يجوز لها تعيين مشرف على الوصي، ويكون للمشرف على القيم نفس سلطة المشرف على الوصي.
الولاية على مال المفقود والغائب:
وتتضمن المادة (141) تنظيم الولاية على مال المفقود والغائب، والمراد بالمفقود كل شخص كامل الأهلية انقطعت أخباره، ولا يُدرى مكانه ولا تُعرف حياته من مماته، أما الغائب فالمراد به كل شخص كامل الأهلية، وليس له محل إقامة ولا موطن معلوم كمن يهيم على وجهه أو يفر من إجراءات اتُخذت ضده، أو كان له محل إقامة أو موطن معلوم في الخارج وتعذر عليه، بسبب غيابه، أن يتولى شؤونه أو يُشرف على من أنابه في إدارتها.
وقد بينت الفقرة الأولى الحكم في حال الفقد، فأعطت المحكمة الحق في أن تعين قيمًا على مال المفقود، إذا ثبت فقده، وطلب ذلك إدارة شؤون القصر أو أي شخص آخر يكون ذا شأن.
كما بينت الفقرة الثانية الحكم في حال الغيبة، فأجازت للمحكمة أن تعين قيمًا لمن كانت حياته معلومة، ولكنه غاب مدة تزيد على سنة، وتعذر عليه أن يتولى رعاية أمواله بنفسه أو أن يشرف على من أنابه في إدارتها.
وتقرر المادة (142) الحكم فيما إذا ترك الغائب أو المفقود وكيلاً لإدارة أمواله، ومؤداه أن المحكمة تُعين هذا الوكيل قيمًا على أموال الغائب أو المفقود، إذا توافرت فيه الشروط التي يتطلبها القانون في الوصي، وهي حالة تماثل تثبيت المحكمة للوصي المختار من قبل الأب، فإن لم يكن الغائب أو المفقود قد نصب عنه وكيلاً لإدارة أمواله، أو كان قد نصبه ولم تتوافر فيه الشروط التي يتطلبها القانون في الوصي، عهدت المحكمة بالقوامة على مال الغائب أو المفقود إلى من تختاره لهذه المهمة، مع مراعاة ما يقضي به القانون في شأن القيم على المحجور عليه، وعلى الأخص في صدد ثبوت القوامة على الكويتيين لإدارة شؤون القصر.
وتحدد المادة (143) سلطات القيم على مال الغائب أو المفقود وأحكامه، فتبين أن القيم يكون له نفس السلطة التي تثبت للوصي على مال القاصر، وأن أحكامه هي ذات الأحكام المقررة في شأن الوصاية على القاصر.
والأحكام التي تضمنتها هذه المواد مستوحاة من الفقه الإسلامي بمذاهبه المختلفة.
أحكام عامة في الولاية على المال:
تقرر المادة (144) في فقرتها الأولى، للولي على مال الصغير أو المحجور عليه أو المفقود أو الغائب الحق في أن يأخذ أجرًا عن ولايته تقدره له المحكمة، على أن يكون هذا الأجر مناسبًا لما يؤديه من أعمال، من غير أن يبهظ المُولى عليه، ولا يسقط حق الولي في الأجر إلا إذا قضى القانون بغير ذلك، أو كان الولي قد قبل أن تكون ولايته بدون مقابل.
وتقرر المادة (144) في فقرتها الثانية، أن الحق في طلب الأجر عن الولاية مقصور على الشخص الذي يتولاها، فلو كان على الولي ديون فلا يكون للدائنين الحق في أن يطالبوا بهذا الأجر باسمه ونيابةً عنه بمقتضى الدعوى غير المباشرة، كما أن حق الولي في الأجر لا ينتقل بعد موته إلى ورثته، إلا إذا كان قد تقدم للقضاء يطلب أجرًا عن ولايته، ومات قبل أن يُقضى له به.
وإعطاء الولي أجرًا عن ولايته يتفق في الجملة مع المقرر في الفقه الإسلامي، وقد أشار إليه القرآن الكريم في قول الله عز وجل (ومن كان غنيًا فليستعفف ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف).
وتقرر المادة (145) الحكم في حالة زوال الولاية أو الوصاية أو القوامة عمن يتولاها، فتنص على إلزام كل من زالت ولايته بأي سبب من أسباب زوالها بتسليم الأموال التي كانت في ولايته لذي الصفة في تسلمها، ولا يجوز لمن زالت ولايته أن يتأخر في تسليم المال الذي كان في ولايته، إلا بمقدار المدة التي يقتضيها التسليم، ويجب على من زالت ولايته تقديم حساب مفصل عن أعماله التي باشرها أثناء ولايته في خلال مدة لا تزيد على ثلاثة أشهر من تاريخ انتهاء ولايته.
وتحدد المادة (146) مسؤولية كل من الولي والوصي والقيم عن أعمالهم التي يباشرونها بمقتضى ولايتهم على أموال القاصر.
وقد فرقت في هذه المسؤولية بين الأب والأم والجد وبين غيرهم، فقصرت مسؤولية الأب والأم والجد على حالة الخطأ الجسيم، حتى ولو تقاضى واحد منهم أجرًا عن ولايته، أما الخطأ اليسير فلا مسؤولية لهم عنه، أما غير الأب والجد والأم فإن مسؤوليته لا تقتصر على الخطأ الجسيم، بل تشمله وتشمل الخطأ اليسير معًا، سواء تقاضى أجرًا عن ولايته أم لم يتقاضَ أجرًا عنها، شأنه في ذلك شأن الوكيل بأجر، فإذا أخل الوصي أو القيم غير الأب والجد والأم بواجب من الواجبات المفروضة عليه بمقتضى القانون كان مسؤولاً عما لحق القاصر من ضرر بسبب ذلك مسؤولية الوكيل بأجر، حتى وإن لم يتقاضَ أجرًا عن وصايته أو قوامته.
والسبب في هذه التفرقة يرجع إلى أن الأب والجد والأم تربطهم بالقاصر القرابة القريبة، وهذه القرابة باعثة على بذل العناية والرعاية الزائدة بشؤون المُولى عليه، فلا يكون ثمة ما يدعو إلى حث صاحب هذه القرابة على بذل مزيد من الحرص على مصلحة المُولى عليه بجعله مسؤولاً حتى عن تقصيره اليسير، ومن ناحية أخرى، فإن ما بين هؤلاء الأقارب وبين القاصر من روابط القرابة القريبة ينبغي أن يكون شفيعًا لهم في الخطأ اليسير، إبقاءً على الربط العائلي من أن يؤثر فيه الرجوع عليهم بناءً على الخطأ اليسير، وهو خطأ يكثر وقوعه وقلما يمكن الاحتراز منه حتى في مال الولي نفسه. أما الوصي أو القيم الذي لا يكون أبًا ولا جدًا ولا أمًا، فإنه لا يوجد بينه وبين القاصر مثل هذه القرابة القريبة حتى تدعوه إلى بذل العناية التامة في أعماله الخاصة بالقاصر، فكان من الحكمة أن يكون ملزمًا في مباشرة شؤون القاصر ببذل عناية الشخص العادي دائمًا سواء تقاضى على عمله أجرًا أو لم يتقاضَ عنه أجرًا، فلا يغتفر له الخطأ اليسير، كما يغتفر للأب والجد والأم.
وقد سوى المشروع في هذه المسؤولية بين الأب والجد والأم، ولم يفرق بينه وبينهما فيها، كما فعل القانون المصري. ووجهته في ذلك أن قرابة الأبوة متحققة في كل من الجد والأم كما هي متحققة في الأب، أما تحققها في الأم فواضح، لأن قرابتها لابنها بمنزلة قرابة الأب، وأما تحققها في الجد، فلأن الجد يقال: إنه أب لولد ابنه، وقد سماه القرآن بذلك في قوله تعالي في شأن يوسف عليه السلام “ يتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق “، فإنه سبحانه – جعل كلاً من إبراهيم وإسحاق أبًا ليوسف مع أن كلاً منهما جد له، وما دام الجد والأم يشتركان في قرابة الأبوة مع الأب، فإنهما يشتركان معه في الحكم الذي يُبنى عليها، في خصوص المسؤولية عن الولاية على مال الصغير.
عيوب الرضاء:
تحقيقًا لسلامة الرضاء، تتطلب القوانين الوضعية المختلفة، كما يتطلب الفقه الإسلامي بدوره، إلى جانب صدوره عن أهلية من صاحبه، خلوه من العيوب التي تشوبه، والتي تجعل مجيئه من صاحبة عن غير كامل بينة، أو عن غير كامل اختياره، دون أن تضحي مع ذلك بأمن التعامل واستقراره، كلما استوجبت المصلحة حمايته.
والعيوب التقليدية التي تشوب الرضاء، هي الغلط والتدليس والإكراه، ووُجد إلى جانبها الغبن الذي اعترف له، في حالات خاصة تحددها النصوص، بتأثير على العقد، اعتبارًا بأنه يخل إخلالاً كبيرًا بمبدأ المساواة بين طرفيه. كما أنه من عهد ليس ببعيد، وبتأثير من القوانين ذات النزعة الجرمانية، أخذ عيب رابع من عيوب الرضاء هو الاستغلال يشق طريقه إلى تقنينات الكثير من البلاد ومنها دولة الكويت.
الغلط:
تعرضت المادة (147) لشروط أعمال الغلط وأثره، وهي تتطلب لإعمال الغلط أن يكون هو الذي دفع المتعاقد إلى التعاقد، بحيث أنه لولا وقوعه فيه لما ارتضى العقد، فالمعيار هنا شخصي يتعلق بالمتعاقد ذاته وأثر الغلط عليه، فإذا تبين أن المتعاقد، حال ارتضائه العقد، وقع في غلط وإن هذا الغلط هو الذي دفعه إلى الرضاء به، بحيث أنه ما كان ليرتضيه بغيره، تهيأ الغلط لأن ينتج أثره في دمغ العقد بالقابلية لإبطاله، دون اعتداد بعد ذلك للأمر الذي ينصب الغلط عليه. أما إذا ظهر أن وقوع المتعاقد في الغلط ليس هو الذي دفعه إلى التعاقد فلا يكون لغلطه تأثير على صحة العقد، ولو كان قد انصب على مادة الشيء محل التعاقد ذاتها، التي هي من بعد الركيزة الأولى للغلط المؤثر في ظل النظرية القديمة. فالعبرة ليست بموضوع الغلط، وإنما بأثره على صاحبه بالنسبة إلى ارتضائه العقد، والمشروع في ذلك يحذو حذو القانون المصري وقوانين البلاد العربية الأخرى التي استوحته، ومن بينها قانون التجارة الكويتي.
على أن المادة (147) كأصل عام، لا تكتفي لإعمال أثر الغلط في العقد، بأن يكون هو الدافع إلى التعاقد، فالمشروع لا ينظر إلى الغلط من زاوية المتعاقد الغالط وحده، وإنما ينظر إليه أيضًا من زاوية المتعاقد الآخر، الذي من شأن دمغ العقد بالقابلية للإبطال نتيجة الغلط أن يتهدده بالخطر، اعتبارًا بأنه يخل بأمن تعاقده واستقراره ويجعله قابلاً للزوال وفق مشيئة غريمه، وهي من بعد نظرة لم تفت الفكر القانوني المعاصر فقهًا وقضاءً وتشريعًا، ولذلك فإن المشروع يتطلب لإعمال أثر الغلط أن يكون المتعاقد الآخر قد وقع بدوره في نفس الغلط، أو علم بوقوع غريمه فيه، أو كان من السهل عليه أن يتبين عنه ذلك.
فوقوع المتعاقدين كليهما في نفس الغلط ينهض بذاته دليلاً على أن أيًا منهما معذور في غلطه، فيغفر له الوقوع فيه، ويكون لصاحب المصلحة منهما أن يتمسك بإبطال العقد، على أن المشروع حرص هنا على أن يستثني الحالة التي يقع فيها أحد المتعاقدين في الغلط، فيؤثر في الآخر تأثيرًا يتعذر عليه تداركه، ويجره إلى الوقوع معه فيه، كما إذا تملكه اعتقاد معين، فنقله إلى غريمه، فصدقه عنه. ففي مثل هذه الحالة لا يكون الغلط مغتفرًا إلا لمن نشأ اعتقاده بتأثير من الآخر، أما ذاك الذي جر غريمه إلى الغلط فلا يعتبر غلطه مغتفرًا له إذ هو وحده في الأصل الذي وقع في الغلط، وهذا التحفظ من المشروع يدرأ عن فكرة الغلط المشترك عيبًا كبيرًا وُصِمَتْ به وهو عيب برز على وجه الخصوص، في حالة ارتضاء المتعاقد العقد نتيجة باعث شخصي له، قائم على اعتقاد كاذب، عندما يُخطر به المتعاقد الآخر فيصدقه عنه. فالأخذ هنا بفكرة الغلط المشترك على إطلاقها من شأنه أن يمنح الغالط الأصلي حق طلب إبطال العقد، في حين أنه هو الذي جر غريمه معه في الغلط، وجعله يشاركه فيه.
أما في الحالتين الأخيرتين – حالة علم المتعاقد الآخر بوقوع غريمه في الغلط، وحالة إمكانه العلم بالغلط فتقرير وقوع العقد قابلاً للإبطال له ما يبرره على نحو أظهر وأوضح، فالمتعاقد الآخر هنا يعتبر مخطئًا، حيث أنه لم يؤدِ ما يفرضه عليه الحرص والشرف ونزاهة التعامل من واجب يتمثل في تبصير صاحبه.
على أن المشروع، إذ يتطلب، لإعمال الغلط، أن يكون متصلاً بالمتعاقد الآخر، فهو لا يفعل ذلك إلا في المعاوضات دون التبرعات وقد حدا به إلى ذلك حرصه على أن يجيء التبرع من صاحبه عن إرادة خالصة من كل ما يشوبها، فحسب المتبرع لإبطال تبرعه، أن يكون رضاؤه به قد جاء نتيجة وقوعه في الغلط دون اعتبار بعد ذلك لموقف المتبرع له من غلطه، وهذا هو ما يقرره المشروع في الفقرة الثانية من المادة (148)، وهو حكم استحدثه المشروع، تمشيًا مع طبية التبرع.
وتواجه المادة (148) أثر الغلط في القانون وتقضي بأن حكمه كحكم الغلط في الواقع بالنسبة إلى تعييب الرضاء، وبالتالي إلى وقوع العقد قابلاً للإبطال، فكل منهما يؤدي إلى صدور الرضاء من صاحبه على غير بينة من حقيقة ما يرتضيه.
وإذا كان الفكر القانوني قد تردد حينًا من الزمن في هذا الخصوص فإن تردده هذا يرجع إلى الاعتقاد بأن من شأن إعمال الغلط في القانون أن يؤدي إلى الإخلال بقاعدة عدم جواز العذر بجهل القانون، وهو اعتقاد بعيد عن أن يكون صحيحًا. وقد فطن الفكر القانوني في مجموعة اليوم لهذه الحقيقة، الأمر الذي أدى بالفقه والقضاء إلى إعطاء الغلط في القانون نفس حكم الغلط في الواقع بالنسبة إلى تعييب الرضاء ووقوع العقد بالتالي قابلاً للإبطال، وذلك حتى في البلاد التي لم يقنن فيها هذا الحكم بنص خاص، كما هو الشأن في فرنسا، وفي مصر تحت ظل قانونها المدني القديم، وفي الكويت في ظل قانون التجارة الحالي.
ويتمثل الغلط وهمًا كاذبًا يقع فيه المتعاقد من تلقاء نفسه، دون أن يجره إليه المتعاقد الآخر، أو في الأقل، دون أن يجره إليه بما كان يتوجب عليه التحرز منه، وفقًا لمألوف التعامل، فغلطه إذن يُعزى إليه قبل كل شيء، فإن أراد أن يتمسك به، بغية الوصول إلى إبطال العقد وجب ألا يكون ذلك منه على نحو يتجافى مع ما يوجبه عليه حسن النية وشرف التعامل، وإلا كان متعنتًا ومتعسفًا فيما يطلب من حماية القانون، ولزم رفض دعواه وهو حكم جاء به المشروع في المادة (149) واستوحاه من القانون المصري (المادة 124) مع إجراء تعديلات وإضافات جوهرية إليه.
ومن أبرز الحالات التي يظهر فيها التعنت من الغالط أن يصر على إبطال العقد والخلاص كلية من أي تعامل مع غريمه، إذا أظهر هذا الأخير استعداده أن يجري التعامل معه على نحو يتمشى مع حقيقة ما اعتقده الغالط عند إبرام العقد، أي على نحو يرتفع عنه فيه أثر الغلط، وذلك حتى لو كان من شأنه أن يحمل الغالط بالقليل مما لا يبهظه من تضحية.
ويعرض المشروع في المادة (150) للغلط المادي، المتمثل في أخطاء الحساب أو زلات القلم، ويقضي بأنه لا يؤثر في صحة العقد، ذلك لأن الخطأ المادي بمجرده وذاته لا يتمثل عيبًا في الرضاء، فهو لا يعدو أن يكون مظهرًا غير صحيح لرضاء هو في ذاته سليم، ومن ثم فهو لا يؤثر بداهةً في صحة العقد وإنما يلزمه تصحيحه.
على أن الخطأ المادي الذي لا يكون له تأثير على العقد هو ذاك الذي يجيء كمظهر لرضاء قد تم بالفعل من المتعاقدين. أما إذا وقع أحد المتعاقدين في غلط مادي في حسابات أجراها، أو زل منه القلم في التعبير عن إرادته، وجاء رضاء الطرف الآخر متأثرًا بغلطه المادي هذا، فقد يكون من شأن ذلك أن يؤثر في حكم العلاقة بينهما على وجه ما يقضي به القانون، وهذا ما أراد المشروع أن يتحفظ في شأنه بقوله إن الذي لا يؤثر في صحة العقد هو مجرد الخطأ في الحساب أو مجرد زلات القلم.
التدليس:
التدليس باعتباره عيبًا يشوب الرضاء، ليس له دوره المهم في الفكر القانوني المعاصر فحسب، بل إنه له أهميته أيضًا في الفقه الإسلامي، بل لعل أهميته في هذا الفقه الحنيف تفوق ما يتسم به منها في القانون المعاصر.
وقد حرص المشروع على أن يتمشى مع الفقه الإسلامي في التوسع في الاعتداد بالكذب أو الكتمان، باعتباره تدليسًا من شأنه أن يُبطل العقد، وجعله بمثابة الحيل التدليسية، كلما جاء بمخالفة واجب خاص متميز في الصدق والمصارحة يفرضه القانون أو الاتفاق أو طبيعة المعاملة أو الثقة التي يكون من حق أحد الطرفين أن يضعها في الآخر على نحو ما تمليه ظروف التعاقد.
ويعرض المشروع في المادة (151) للهيكل العام لنظام التدليس، فيقرر في الفقرة الأولى، أن قوام التدليس هو الحيلة التي توجه للمتعاقد بقصد تغريره وجعله يعتقد أمرًا يخالف الواقع والحقيقة وذلك بغية دفعه إلى ارتضاء التعاقد. فلا بد لقيام التدليس، من التجاء المدلس إلى حيلة من الحيل، وأن يكون ذلك منه بقصد أن يضلل المتعاقد ويخدعه، ليجعله يرتضى العقد. فالتدليس يقوم على قصد مزدوج من المدلس: قصد في الخديعة والتضليل، وقصد في دفع المضلل المخدوع إلى التعاقد.
وقد حرص المشروع على أن يتجنب اشتراط أن تبلغ الحيل قدرًا من الجسامة بحيث تدفع المتعاقد التي التعاقد، كما فعل القانون المصري والقوانين العربية الأخرى التي استوحته، ومن بينها قانون التجارة الكويتي، فالعبرة ليست بمدى ما تتسم به الحيلة من جسامة، وإنما بأثرها على المتعاقد بالنسبة إلى تضليله وجره بذلك إلى التعاقد، فالمعيار هنا هو معيار شخصي قوامه المتعاقد ذاته من حيث ما إذا كانت الحيلة أفلحت في تضليله أم لم تفلح، وليس معيارًا ماديًا يقوم على قدر ما تتسم به الحيلة في ذاتها من جسامة.
على أن الأمر لا يصل، بطبيعة الحال، إلى مستوى الحيلة، إلا إذا انطوى على قدر معقول من الخداع والغش. فإن لم يكن كذلك، فإنه لا يعتبر حيلة أصلاً، ولا يصلح بالتالي تدليسًا من شأنه أن يصلح أساسًا لإبطال العقد، حتى لو ثبت أن المتعاقد قد انخدع به بالفعل، فمن ينخدع بالبسيط من الأمور هو في العادة من المفرطين في السذاجة، ولا يدخل في دور نظام التدليس بأن يحمي أمثال هؤلاء، وإنما قد يمكن له أن يجدوا الحماية في نظام الحجر للغفلة، كما قد يمكن لهم أن يجدوا تلك الحماية في نظام الاستغلال.
ويلزم لإعمال التدليس أن يكون هو الذي دفع المتعاقد إلى ارتضاء العقد، بحيث أنه ما كان ليرتضيه من غيره، شأن التدليس في ذلك شأن الغلط وغيره من كافة عيوب الرضاء الأخرى.
على أن كون التدليس هو الدافع إلى التعاقد، وإن كان يتضمن ما يدل على تعييب الرضاء، إلا أنه لا يكفي بمجرده وذاته لجعل العقد قابلاً للإبطال، وإنما يلزم إلى جانبه أن يكون التدليس متصلاً بالمتعاقد الآخر على النحو الذي تحدده المادتان (153 و154) من المشروع.
وقد حرص المشروع على أن يبين أثر التدليس الذي تتوافر فيه شروط إعماله، على نحو جلي واضح، دفعًا لما ثار من شك حوله في بعض النواحي، ويتركز هذا الأثر في دمغ العقد بالقابلية للإبطال لمصلحة من دُلس عليه، إذا أثبت أنه ما كان ليرتضي العقد، على نحو ما ارتضاه عليه، بغير التدليس، فالحق في طلب إبطال العقد لا يقتصر على الحالة التي يثبت فيها المتعاقد أن التدليس هو الذي جره إلى قبول التعاقد في ذاته، وإنما يثبت أيضًا حتى لو اقتصر دور التدليس على جعله يقبل في التعاقد شروطًا أشد وقرًا مما كان ليقبله لو لم يغرر به، وهو ما جرى الفقه على تسميته بالتدليس العارض، تمييزًا له عن التدليس الأول، الذي أُطلق عليه التدليس الأصلي، ذلك لأن العقد كل لا يتجزأ فتعيب الرضاء في شأن أمر جوهري من أموره، يتمثل تعييبًا في ارتضائه كله.
وإذا كان من شأن التدليس، عندما تتوافر له شروط إعماله، أن ينهض سببًا لإبطال العقد، فإن هذا الأثر يثبت له، إلى جانب ما قد يترتب عليه من مسؤولية المدلس، باعتبار أنه يتمثل خطأ موجبًا لمسؤوليته التقصيرية عن تعويض الضرر المترتب عنه. وبذلك يرى المدلَس عليه نفسه وقد انفتح أمامه طريقان له أن يختار من بينهما ما يراه لمصلحته أوفق: فإما أن يطلب إبطال العقد. وإما أن يبقى عليه، ويكتفي بدعوى المسؤولية التقصيرية وما تؤدي به إلى تعويض ما ناله من ضرر.
وإذا كان الأصل في الحيلة، التي هي أساس التدليس، أن تقوم على أفعال مادية (وهو ما يسمى في الفقه الإسلامي بالتغرير الفعلي) فإن المشروع قد حرص في المادة (152) على أن يجعل في مقامها الكذب والكتمان، كلما جاءا إخلالاً بواجب خاص في الصدق والمصارحة يفرضه القانون أو الاتفاق أو طبيعة المعاملة أو الثقة الخاصة التي يكون من شأن ظروف الحال أن يجعل للمدلس عليه الحق في أن يضعها فيمن غشه وغرر به (وهذا هو ما يسمى في الفقه الإسلامي بالتغرير القولي)، وقد استوحى المشروع في هذا التوسع الهام في نظام التدليس الفقه الإسلامي، فضلاً عما وصلت إليه أحكام القضاء في البلاد المختلفة.
وغني عن البيان أن الكذب في ذاته، ومجردًا عن أي اعتبار آخر، لا ينهض دعامة كافية للتدليس المبطل العقد، برغم ما فيه من قُبح، وبرغم أن ديننا وأخلاقياتنا تأباه وتمقته وتحرمه، فقد تفشي الكذب اليوم، حتى وصل بنا إلى حد إلقاء الواجب علينا في أن نتحرز نحن منه. فإن لم نفعل كنا مقصرين في حق أنفسنا، وما كان لنا أن نلجأ إلى القانون ليحمينا، إنما الكذب الذي يتدنى إلى مرتبة التدليس هو ذاك الذي يأتي بمخالفة واجب خاص يملي على الشخص الإحجام عنه، غير مجرد الواجب الديني أو الأخلاقي، وهذا الواجب قد يأتي من القانون، أو من الاتفاق كما هو الحال فيما يطلق عليه في الفقه الإسلامي (بيوع الأمانة) أو من طبيعة المعاملة ذاتها التي تقتضي الالتزام الصارم بالصدق والمصارحة، كما هو الحال على الأخص في شأن البيانات التي يقدمها المؤمن له في عقد التأمين، أو حتى من الثقة التي يكون من شأن ظروف الحال وما ينبغي أن يقوم عليه التعاقد من اعتبارات حسن النية، أن تجعل للمتعاقد المدلس عليه حقًا في أن يضعها فيمن خدعه وغرر به.
وتملي المادة (153) شرطًا أساسيًا لإعمال التدليس، يتمثل في وجوب أن يكون التدليس الموجه إلى المتعاقد، والذي دفعه بالفعل إلى التعاقد متصلاً بالمتعاقد الآخر، وهو يُعتبر كذلك بداهة إذا كان المتعاقد الآخر هو الذي لجأ بذات نفسه إلى الحيلة، أو لجأ إليها نائبه. وهو الأمر الذي وقف عنده القانون المصري وغيره من القوانين العربية التي استوحته ومن بينها قانون التجارة الكويتي، وقد توسع المشروع في هذا المجال، فاعتبر التدليس أيضًا متصلاً بالمتعاقد الآخر، إذا كان قد صدر من أحد أتباعه، والمقصود بالتابع هنا أي شخص تكون له صلة بالمتعاقد من شأنها أن تجعله يعمل لخدمته ولحسابه، ولم لم يكن تابعًا بالمعنى الدقيق لهذا الاصطلاح، كالولد أو الزوج الذي يلجأ إلى الاحتيال على شخص لكي يدفعه إلى التعاقد مع أبيه أو زوجه. واعتبر المشروع أيضًا التدليس متصلاً بالمتعاقد، إذا كان قد صدر ممن كلفه، الوساطة في إبرام الصفقة، فما دام هو قد لجأ إليه، طالبًا وساطته، فمن العدل والمصلحة أن يتحمل نتيجة ما يلجأ إليه من الخديعة والغش. واعتبر المشروع التدليس متصلاً بالمتعاقد الآخر، في النهاية، إذا كان قد صدر ممن يبرم التعاقد لمصلحته، وهو حكم عادل تقتضي الملاءمة تقنينه، بعد أن ذاع وانتشر نظام الاشتراط لمصلحة الغير، وهو من بعد حكم استوحاه المشروع من أحكام القضاء.
فإذا وقع التدليس من الغير، فلا يعتبر متصلاً بالمتعاقد الآخر، وبالتالي مخولاً طلب الإبطال، إلا إذا كان هذا قد علم، عند إبرام العقد، بصدوره أو كان في استطاعته حينئذ أن يعلم به.
والغاية التي يتوخاها المشروع من تطلُب أن يكون التدليس بالمتعاقد الآخر، هي العمل على تقرير الأمن والاستقرار للتعامل، عن طريق عدم تعريض هذا المتعاقد للإبطال، إلا إذا أمكن أن يُعزى إليه ما يبرر تحمله نتيجة.
وارتأى المشروع بالمادة (154) أن يستثني عقود التبرع من شرط اتصال التدليس بالمتعاقد الآخر مكتفيًا، لإمكان إبطالها، أن يجيء رضاء المتعاقد بها نتيجة التدليس، ودون اعتبار بعد ذلك لمن وُجهت منه الحيلة، ولما إذا كان المتعاقد الآخر قد علم بها أم لم يعلم وقد حدا به إلى تقرير هذا الحكم رغبته في أن يجيء التبرع، في جميع الحالات، عن إرادة بعيدة عن الغش والاحتيال والخديعة.
ويعرض المشروع، في المادة (155) لحالة التدليس المتبادل وهي تلك التي يلجأ فيها كل من طرفي العقد إلى التدليس على الآخر، في صدد شأن من شؤون التعاقد، ويجره بذلك إلى ارتضائه، مقررًا حرمان أي منهما من حق طلب إبطال العقد، فكل منهما قد دنسته حيلته وغشه، فليس له أن يتأذى من غش غريمه، إذا كان قد صدر منه نحوه ما يماثله.
وقد استوحى المشروع هذا الحكم من أعمال لجنة تنقيح القانون المدني الفرنسي المادة (16) من مشروع النصوص المتعلقة بالمصادر الإرادية للالتزامات (أعمال اللجنة لسنة 1948/ 1949 ص 706).

الإكراه:
أولى الفكر القانوني منذ القدم أهمية قصوى للإكراه إلى جانب كونه عيبًا يشوب الرضاء ويفسده، فهو يقوم على العنف أو التهديد به.
وقد وجد نظام الإكراه، في الفقه الإسلامي، مكانًا رحبًا بارزًا، واهتم به رجاله اهتمامًا كبيرًا، بل لعل اهتمام فقهاء المسلمين بالإكراه يفوق إلى حد كبير الاهتمام الذي أُولي إياه في ظل الشرائع الأخرى، بل إنه يفوق اهتمامهم هم أنفسهم بغيره مما يدخل، في النظرة المعاصرة، في زمرة عيوب الرضاء.
وترجع الأهمية الكبرى لنظام الإكراه، في ظل الفقه الإسلامي، إلى أن اعتناق الدين الإسلامي نفسه بُني على الاختيار عند الفرد، فلا جبر فيه ولا قسر ولا إرغام، إذ أنه (لا إكراه في الدين) وكان طبيعيًا أن تنعكس هذه القيمة السامية على المعاملات، ليتحتم أن تقوم على الرضاء الحر، بعيدة عن الضغط والإجبار، وتوخًيا للوصول إلى هذه الغاية النبيلة، جاء القرآن الكريم يحارب الإكراه في العقود بقوله، عز شأنه " يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم " وجاء الرسول الأمين يقول " إن الله رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ".
وإذا كان الفقه الإسلامي بكل مذاهبه قد عمد إلى محاربة الإكراه في العقود، إلا أن أثره يتفاوت باختلاف تلك المذاهب، فعند الشافعية، الإكراه يبطل التصرف، حيث قالوا إن عقد المكره يكون باطلاً، كعقد الصبي غير المميز والمجنون، وتقول الجعفرية بحكم مماثل (كاشف الغطاء ج 3 ص 153) وعند الحنفية وقع الاختلاف في حكم الإكراه: فعقد المكره يقع موقوفًا على إجازته عند زفر ولكنه يقع فاسدًا عند أبي حنيفة وصاحبيه أبي يوسف ومحمد، وهو الرأي الراجح في المذهب، أما عند المالكية فالإكراه لا يمس انعقاد العقد (كما تقول الشافعية والجعفرية)، ولا يمس صحته بالفساد (كما يقول الرأي السائد عند الحنفية)، ولكن أثره يقتصر على أن يجعل منه عقدًا غير لازم، بمعنى أن يثبت للمكره خيار الفسخ، وهو رأي يتفق مع ما يقول به الفكر القانوني المعاصر الذي تبناه المشروع.
وقد حرص المشروع، في تنظيمه للإكراه، أن يقف عند حدوده التقليدية الموروثة، اعتبارًا بأنه يقوم على وسائل تهديدية توجه إلى المتعاقد، بغرض حمله على ارتضاء العقد، درءًا للأذى عنه أو عن غيره ممن يؤثر فيه إيذاؤهم، وهي من بعد الحدود التي تكون الإطار الذي عرف الإكراه في أصله عليه، سواء في الفقه الإسلامي أم في الفكر القانوني المعاصر.
وترسم المادة (156) الإطار العام لنظام الإكراه، من حيث قيامه وأثره، فهي تقرر أن أساس قيام الإكراه يتركز في أن المتعاقد يرتضي التصرف تحت سلطان الرهبة أو الخوف، فهو إذا كان يرتضي التصرف حقيقة، إلا أن رضاءه به لم يأت حرًا وعن كامل اختيار، وإنما جاء عن ضغط عليه وقسر وإجبار، ورغبة منه في دفع الأذى الذي يتهدد غيره.
وينبغي لقيام الإكراه أن تكون الرهبة قد بُعثت في نفس المتعاقد بفعل فاعل، سواء أكان هو المتعاقد الآخر أو شخصًا آخر ممن يمكن أن يعزى عملهم إليه، على نحو ما تقرره المادة (157)، فإن تولدت الرهبة بغير تدخل من أحد، كما إذا تولدت بفعل الظروف المحيطة بالشخص، أو تولدت بتأثير مجرد الإجلال الذي يستشعره نحو شخص آخر، فإن الإكراه لا يتواجد، وإنما قد ينفتح المجال لأعمال عيب آخر من عيوب الرضاء هو الاستغلال.
ويلزم أن تكون الرهبة قائمة حقيقة في نفس المتعاقد عند ارتضائه العقد، وهي تعتبر كذلك، إذا وُجهت إليه وسائل ضغط وإكراه جعلته يستشعر الخوف من أذى جسيم يتهدده، أو يتصور أنه يتهدده، هو أو أحد من الغير، في النفس أو الجسم أو العرض أو الشرف أو المال أو أية قيمة أخرى من القيم العزيزة على النفس. فالعبرة هنا هي بحصول الرهبة بالفعل، ولا أهمية بعد ذلك للأداة التي أفلحت في توليدها في النفس، فلا أهمية لما إذا كان الخطر الذي يتهدد الشخص حقيقيًا أو وهميًا، ما دام المكره قد استشعره بالفعل في ذات نفسه.
ولا تحديد للأشخاص الذين يعتبر تهديدنا بإلحاق الأذى بهم إكراهًا لنا بالنسبة إلى القرابة أو غيرها، ولم يشأ المشروع هنا أن يلجأ إلى مثل هذا التحديد. مخالفًا في ذلك ما فعلته بعض القوانين، كالقانون الفرنسي، (المادة 1113) لما فيه من تحكم غير مقبول، فالمسألة مردها إلى أثر التهديد على نفس المتعاقد، من حيث توليد الرهبة أو عدم توليدها في نفسه. وقد يشعر الفرد منا بالحب والإعزاز نحو شخص لا يمت بصلة قربى فيولد تهديده بإيذائه فادح الخوف، في حين أنه قد لا يهمه أمر أقرب الناس إليه، فلا يستشعر الخوف من أن يصيبه كبير الأذى.
والمعيار الذي يراعى في تحديد ما إذا كانت الرهبة قد قامت في نفس المتعاقد أم لم تقم، هو معيار شخصي أساسه المتعاقد المكره نفسه، فطالما أنه قد ثبت أنه قد خاف بالفعل وأن الرهبة التي تولدت هي التي دفعته إلى التعاقد، فإن الإكراه يتوافر، بغض النظر عما إذا كان من شأن وسائل الإكراه التي وجهت إليه أن تبعث الرهبة في نفس غيره أم لا تبعثها، والناس يتفاوتون فيما من شأنه أن يبعث في نفسهم الرهبة، بل إن من شأن الظروف المحيطة بهم أن تلعب في ذلك دورها، ولذلك وجب الاعتداد في تحديد قيام الرهبة في نفس المتعاقد ومدى أثرها عليه بظروفه الخاصة، كحالته من الذكورة أو الأنوثة، وسنه، وعلمه أو جهله، وصحته أو مرضه، وكذلك بكل ظرف آخر من شأنه أن يؤثر بدوره فيما يترتب من خوف في نفسه ولو كان هذا الظرف غير متعلق بذات شخصه، كما إذا وقع التهديد عليه في مكان منعزل بعيد عن الناس.
ويلزم لقيام الإكراه أن تكون الرهبة قد ولدت في نفس المتعاقد بغير وجه حق، فلا قيام للإكراه إذا بعث المتعاقد الرهبة في نفس غريمه بوسيلة يسمح بها القانون، ومن غير تجاوز للغرض الذي أباحها من أجله، وفي ذلك يتجاوب المشروع من الفقه الإسلامي الذي يبشر بأن الإكراه بحق، أو ما يطلق عليه تحت ظله (الجبر الشرعي) يقع غير مؤثر على العقد.
وإذا توافرت للإكراه شروط إعماله، أنتج أثره. ويتركز هذا الأثر في وقوع العقد قابلاً للإبطال لمصلحة من جاء رضاؤه متعيبًا، وهو حكم إن خالف السائد عند الشافعية والجعفرية، حيث يقع عقد المكره باطلاً عندهم، وإن خالف ما يقول به فقهاء الحنفية من وقوع عقد المكره موقوفًا أو فاسدًا على خلاف بينهم، فهو يتفق مع مذهب المالكية، حيث يقولون بوقوع عقد المكره منعقدًا غير باطل، وصحيحًا غير فاسد، ونافذًا غير موقوف، ولكنه يكون غير لازم، حيث تثبت للمكره خيار الفسخ.
ويثبت حق طلب الإبطال للمكره، سواء دفعه الإكراه إلى قبول التعاقد ذاته، أم اقتصر على حمله قبول شروط أقسى وأشد وقرًا مما كان يقبل بها من غيره، شأن الإكراه في ذلك شأن التدليس.
على أنه إذا اقتصر دور الإكراه على حمل المتعاقد على قبول شروطه تبهظه، فإنه يترخص له، كما هو الحال في التدليس، ألا يتمسك بإبطال العقد، ويرجع على المتعاقد الآخر على أساس المسؤولية التقصيرية، إذا توافرت شروطها، بُغية أن يدفع عن نفسه ما يبهظ من شروط العقد، اعتبارًا بأنه بذلك يصل إلى تعويض عيني للضرر الذي لحقه من جراء الإكراه.
ويتطلب المشروع في المادة (157) أن يكون الإكراه، الذي تعيب به رضاء المتعاقد، قد جاء من المتعاقد الآخر، أو من نائبه، أو بفعل من يُبرم العقد لمصلحته، شأن الإكراه في ذلك شأن التدليس.
وكما هو الحال في شأن التدليس، فإن المشروع يقصد بالتابع هنا كل من يعمل لحساب المتعاقد، حتى لو لم يكن تابعًا له بالمعنى الصارم لهذا الاصطلاح، وحتى لو لم يكن ملتزمًا قانونًا بأن يعمل لصالحه، بل أجرى ذلك تطوعًا منه، فإذا وقع الإكراه من شخص من الغير، ما كان له تأثير على العقد، ما لم يكن المتعاقد الآخر، عند إبرام العقد، عالمًا بحصول الإكراه، أو كان من المفروض عليه حتمًا أن يعلم به، والمكره بعد ذلك وشأنه مع من سلط عليه سيف التهديد.
والمشروع، إذ يجعل الإكراه الواقع من الغير غير مؤثر على العقد، لا يغفل عن أنه يؤدي، هو أيضًا، إلى تعييب الرضاء. ولكنه راعى مصلحة المتعاقد الآخر، وهي مصلحة يراها جديرة بالرعاية إذ الفرض أن هذا المتعاقد كان بعيدًا عن الإكراه لم يتصل به بسبب.
والمشروع، بتطلبه أن يكون الإكراه متصلاً بالمتعاقد الآخر، وإن خالف الفكرة التقليدية التي تعمل الإكراه طالما كان هو الدافع إلى التعاقد، دون اعتبار بعد ذلك لمن يصدر عنه، فهو يتمشى مع الفكرة التي أخذت تسود في القانون المعاصر، والتي تُدخل في اعتبارها وجوب توفير الأمن والاستقرار للمعاملات، كلما كان الطرف الآخر في العقد بمنأى عما شاب رضاء غريمه من عيب، ثم إنه يسوي بذلك في الحكم بين الإكراه والتدليس.
وقد استوحى المشروع حكم المادة (157) من القانون المصري وغيره من قوانين البلاد العربية الأخرى التي اتبعته، ومن بينها قانون التجارة الكويتي، وذلك بعد إجراء تعديلات في الصياغة اقتضتها الملاءمة.
يستثني المشروع في المادة (158) التبرعات من شرط اتصال الإكراه بالمتعاقد الآخر، كما فعل ذلك من قبل بالنسبة للغلط والتدليس. وقد قرر هذا الحكم، حرصًا منه على أن يجيء التبرع دومًا عن إرادة حرة مختارة، كما حرص من قبل على أن تجيء عن بينة من الأمر، لم يفسدها غلط، ولم يضللها تدليس.
الاستغلال:
تعرض المادة (159) لكيان نظام الاستغلال وللأثر المرتب عليه.
وهي تقيم الاستغلال على أمرين، يتمثل أولهما وسيلة يستهدف بها الوصول إلى الثاني.
فالمادة (159) تتطلب، بادئ ذي بدء، استغلال ناحية من نواحي الضعف في المتعاقد، ونواحي الضعف عديدة يذكر المشروع أهمها وأكثرها شيوعًا في حياة الناس، وهو إذ يذكرها، لا يغفل عن أن بعضها يتداخل مع بعضها الآخر، بل حتى يمكن له أن يغني، ولكنه أراد لنظام الاستغلال أن ينطلق، ليغطي جميع أوجه الضعف في الشخص، حينما يعمد الغير إلى استغلالها فيه، وصولاً إلى الكسب المفرط المتجافي مع شرف التعامل، وبالتالي الكسب الحرام.
ومن نواحي الضعف التي يخصها المشروع بالذكر، الحاجة الملجئة، أو حالة الضرورة، ويقصد بها الحالة التي يرى الشخص فيها نفسه، لظروف معينة تحيط به، مضطرًا إلى إبرام التصرف، تحت ضغط حاجة ملحة، تتمثل عادة في دفع خطر محدق بالنفس أو بالمال، وهي حالة لا تعدم الشيوع في حياة الناس، وقد عالجها القضاء في البلاد التي لم تأخذ بنظام الاستغلال على أساس الإكراه، وأولى بها أن ترتد في حكمها لنظام الاستغلال.
ويذكر المشروع أيضًا من نواحي الضعف التي يلجأ إلى استغلالها الطيش البين، ويقصد به عدم الخبرة البالغ بأمر التعاقد والاستهانة الشديدة بعواقبه، كما يذكر الضعف الظاهر الذي قد يتمثل في قلة إدراك الشخص أو غبائه أو في الإفراط في طيبة قلبه، أو أي ضعف آخر يراه القاضي كافيًا لقيام الاستغلال.
ويذكر المشروع كذلك من نواحي الضعف الإنساني التي يلجأ إلى استغلالها الهوى الجامح، وهو ذاك الذي يتمثل في الشعور العارم الملح العنيف نحو شخص أو نحو شيء، فهو لا يقوم على مجرد العطف أو المودة أو الحب المتزن.
ويذكر المشروع كذلك في النهاية السطوة الأدبية، ويقصد بها النفوذ الأدبي الذي يكون لشخص على آخر، ويبلغ تأثيره عليه من الكبر حدًا بحيث يجعله ينقاد إليه، إما عن عقيدة في صواب رأيه، وإما خشية إغضابه، كما هو الشأن على وجه الخصوص، في السطوة الأدبية التي قد تكون للأب على ابنه، أو للرئيس على مرؤوسه، أو للمعلم على تلميذه، أو لرجل الدين على الدين.
والأمر الثاني الذي تقيم المادة (159) الاستغلال عليه، هو التفاوت الباهظ الجسيم في الأخذ والعطاء، بحيث يتمثل العقد تنكرًا ظاهرًا لشرف التعامل ومقتضيات حسن النية. فنظام الاستغلال لا يتغيا قيام العقود على المساواة بين طرفيها في أخذ كل منهما وعطائه، بل هو لا يحارب مجرد عدم التناسب بين ذاك الأخذ وهذا العطاء، وإنما هو يحارب عدم التناسب الباهظ الصارخ بينهما. وقد عمدت كل التقنينات التي أخذت بنظام الاستغلال إلى إبراز هذا الجانب منه، وإن كان ذلك بعبارات مغايرة.
وقد حرص المشروع على أن يذكر أن عدم التناسب الذي يقوم الاستغلال عليه هو ذاك الذي يكون بين ما يلتزم ضحية الاستغلال بأدائه وبين ما يجره عليه العقد من نفع مادي أو أدبي. وقد قصد بذلك ألا يقتصر إعمال نظام الاستغلال على عقود المعاوضات، وليحدث أثره في عقود التبرع.
ويتركز أثر الاستغلال في أنه يترخص للقاضي، بناءً على طلب ضحية الاستغلال، ووفقًا للعدالة ومراعاة لظروف الحال، أن يقضي، إما بإنقاص التزاماته أو بالزيادة في التزامات الطرف الآخر، أو بإبطال العقد.
والمشروع، إذ يُدخل ضمن الرخص الممنوحة للقاضي الزيادة في التزامات الطرف الآخر، يخالف بذلك أغلب التقنينات التي يقتصر أثر الاستغلال فيها، إما على بطلان العقد (القانون الألماني - المادة 138)، أو على جعل العقد قابلاً للإبطال (مدونة الالتزامات السويسرية – المادة 21) أو على ثبوت الرخصة للقاضي في إبطال العقد أو إنقاص التزامات الطرف المستغل، وقد قال بهذا الحكم الأخير مشروع القانون الفرنسي الإيطالي (المادة 22)، ومنه انتقل إلى القانون المصري، ومن بعده إلى قوانين البلاد العربية الأخرى التي استوحته ومن بينها قانون التجارة الكويتي. والمشروع، إذ يرخص لقاضي إجراء الزيادة في التزامات الطرف الآخر، إلى جانب إبطال العقد وإنقاص التزامات الطرف المستغل، يتمشى مع الفكرة السائدة في نظام الغبن، سواء في الفقه الإسلامي أو في القانون المعاصر، والتي تقوم على الزيادة في التزام الطرف الغابن بما يرفع الغبن الفاحش عن الطرف المغبون، فضلاً عن أنه يتجاوب مع الأثر المترتب على إعمال نظرية الظروف الطارئة.
والزيادة في التزام الطرف الآخر قد يحكم بها القاضي، إما بناءً على طلب ضحية الاستغلال، أو بناءً على ذات طلبه هو، كدفع يعمد به إلى اتقاء إبطال العقد.
والمشروع في إعطائه للقاضي سلطة الزيادة في التزامات الطرف الآخر، قد استوحى القانون البولوني (المادة 42).
وغني عن البيان أن الاستغلال، شأنه في ذلك شأن غيره من كافة عيوب الرضاء، لا ينتج أثره، إلا إذا كان هو الدافع إلى التعاقد، بحيث أنه لولاه لما أُبرم العقد، أو لما أبرم على نحو ما أبرم عليه، وسواء بعد ذلك أن يكون الاستغلال قد وقع من المتعاقد الآخر، أم من شخص غيره يعمل لصالحه.
وأتت المادة (160) لتؤكد إمكان إعمال نظام الاستغلال في عقود البيع، دفعًا لأية شبهة، فلا يوجد أي مسوغ لقصر دائرة الاستغلال على المعاوضات، وإذا كانت ثمة شبهة قامت في الماضي حول هذا الأمر، فإن مردها إلى الاعتقاد بأن نظام الاستغلال لا يعدو أن يكون مجرد تطوير لنظام الغبن، وإلى أن هذا الأخير لا يسري في صدد التبرعات، فأيًا ما كان وجه الحق في البنوة المدعاة بين الاستغلال والغبن، فقد اكتملت لنظام الاستغلال ذاتيته، وأصبحت له دائرة أعماله الخاصة به، فضلاً عن شروطه وأثره. ولا يوجد ثمة ما يمنع من سريانه على التبرعات، بل إن التبرعات تتمثل الحقل الخصيب لإعماله، لا سيما بالنسبة إلى ما قام منه على الهوى الجامح.
على أن أثر الاستغلال في عقود التبرع يختلف بالضرورة بعض الشيء عن أثره في المعاوضات، فهو يقتصر على الترخيص للقاضي، بناءً على طلب المتبرع، ووفقًا لظروف الحال، ومراعاةً لمقتضيات العدالة والاعتبارات الإنسانية أن يبطل العقد أو أن ينقص القدر المتبرع به، وقد حرص المشروع أن يذكر الاعتبارات الإنسانية من بين الأمور التي يهتدي بها القاضي في حكمه، تقديرًا منه أن بعضًا من التبرعات التي تجيء وليدة الاستغلال، تستهدف غاية إنسانية جديرة بالرعاية كما إذا استغلت الزوجة الهوى الجامح الذي يستشعره زوجها نحوها، فتجعله يهب أولادهما الصغار من أمواله ما يلزم لتربيتهم، ففي مثل هذه الحالة، يستطيع القاضي أن يتمشى في حكمه مع ما تقتضيه المصلحة الإنسانية في تربية الصغار، في حدود اتساق هذه المصلحة مع مصلحة باقي الورثة والتوفيق بينهما.
وتعرض المادة (161) للمدة التي ينبغي أن ترفع خلالها دعوى الاستغلال، وإلا سقطت، وتحدد الفقرة الأولى هذه المدة بسنة واحدة، تبدأ من تاريخ إبرام العقد. وهذه المدة، وإن كانت قصيرة، إلا أنه تشفع لقصرها الرغبة في استقرار المعاملات. وهي على أية حال، المدة التي قدرتها أغلب القوانين ومن بينها قانون التجارة الكويتي (المادة 126/ 2). وإذا كان المشروع قد قرر، الأصل العام لبدء سريان مدة السنة، محددًا إياه بوقت إبرام العقد، على نحو ما تقول به المدونات القانونية في أغلب الدول التي أخذت بنظام الاستغلال إلا أنه استحدث في الفقرة الثانية حكمًا مغايرًا بالنسبة إلى دعاوى الاستغلال الذي يقوم على الهوى الجامح أو السطوة الأدبية، جاعلاً بدء سريان مدة السنة، بالنسبة إليها، من تاريخ انقطاع أثر الهوى أو السطوة على أن تسقط الدعوى، على أية حال، بمضي 15 سنة من تاريخ إبرام العقد.
وقد دعا المشروع إلى تقرير الحكم الذي استحدثه ما رآه من أنه، في العمل، يتعذر على من يبرم التصرف، تحت تأثير الهوى الجامح أو تحت تأثير السطوة الأدبية، أن يطعن فيه، طالما بقي أسيرًا لهذه أو لذاك، ومن ثم لزم أن تبدأ فترة السنة من وقت تحرره منها، وإلا ضاق مجال إعمال الاستغلال بصددهما إلى حد يتقارب مع العدم، سيما وأن مدة السنة تتمثل فترة بالغة القصر. والمشروع بهذا الحكم المستحدث يتفادى عيبًا ظاهرًا في التشريع الكويتي الحالي، وهو عيب لم يفت الفقه أن يستظهره.
الغبن:
عني المشروع بالغبن وعالجه في إطار نظرية عامة، من شأن أحكامها أن تسري على كافة العقود، ما لم يخص القانون بعض منها بحكم مغاير.
ويبدأ المشروع في المادة (162) بوضع الأصل العام، ومؤداه أن الغبن بمجرده وذاته، ومن غير أن يأتي نتيجة عيب من عيوب الرضاء، المتمثلة في الغلط والتدليس والإكراه والاستغلال لا يكون له تأثير على العقد، على أنه يورد على هذا الأصل العام تحفظين، يتعلق أولهما بالأحوال الخاصة التي ينص فيها القانون، في صدد عقد من العقود أو تصرف قانوني بوجه عام، على إعطاء الغبن أثرًا معينًا يحدده، ويتعلق التحفظ الثاني بالعقود أيًا ما كانت، إذا ترتب عنها غبن لأشخاص محددين بنوعياتهم، تبينهم المدة (163).
والمشروع إذ يقرر الأصل العام القاضي بأن الغبن بمجرده وذاته لا يكون له تأثير على العقد يتجاوب تمامًا مع الفقه الإسلامي ومع الفكر القانوني المعاصر على حد سواء.
ويأتي المشروع في المادة (163) بتحفظ هام على الأصل العام الذي أورده في المادة (162) ومؤدى هذا التحفظ إعطاء أثر للغبن الذي يتضمنه العقد للدولة أو لغيرها من الأشخاص الاعتبارية العامة، ولجهة الوقف، ولعديمي الأهلية وناقصيها، شريطة أن يكون هذا الغبن فاحشًا، ويتركز هذا الأثر في الترخيص للمغبون في أن يطلب من القاضي تعديل مقابل أدائه، وهو التزام الطرف الآخر، أو تعديل التزامه هو بما يرفع عنه لا كل الغبن، وإنما فقط الفحش فيه.
وتحدد المادة (164) في فقرتها الثانية الغبن الفاحش بما يزيد، عند إبرام العقد على الخمس، والمشروع يريد بذلك قدرًا موحدًا لا يتغير بتغير محل الالتزام، أو بتغير المعقود عليه كما يقول الفقه الإسلامي، والمشروع، إذ يتخالف في هذا الصدد مع ما جاء به الفقه الإسلامي من التنويع في قدر الغبن الفاحش حسب طبيعة المعقود عليه، ذلك التنويع الذي كان له صداه في مجلة الأحكام العدلية، حيث جاءت المدة (164) منها تحدد الغبن الفاحش بنصف العشر في العروض، والعشر في الحيوانات، والخمس في العقارات، فهو يريد التبسيط من وجه، ويتوخى من وجه ثانٍ، التمشي مع مقتضيات العصر المتمثلة في اتساع وتنوع طبيعة المعقود عليه إلى حدود باتت لا تتناهى.
وتجيء المادة (163) في فقرتها الثالثة، لتقضي بأنه لا يحول دون الطعن بالغبن، أن يكون العقد قد أجري عن المغبون ممن ينوب عنه وفقًا للقانون أو أذنت به المحكمة، ذلك لأن النائب قد لا يبذل من العناية بمصلحة من يمثله القدر اللازم الذي تقتضيه مصلحته.
والمشروع إذ يقرر حماية الدولة وغيرها من الأشخاص الاعتبارية العامة وجهة الوقف وعديمي الأهلية وناقصيها، يتجاوب مع الفقه الإسلامي الذي حرص كل الحرص على مال اليتيم ومال بيت المال ومال الوقف، ومع ذلك فلم يشأ المشروع أن يصل في مدى الحماية إلى حد تقرير عدم صحة العقد كما تقضي المجلة (المادة 356) أو إلى بطلانه كما يقضي القانون العراقي (المادة 124/ 2) مكتفيًا برفع ما فحش من الغبن.
ويجيء المشروع في المادة (164) ويرخص لمن يتعاقد مع المغبون، الذي يطعن بالغبن، أن يتوقى زيادة عبء التزامه بما يرفع الغبن الفاحش، وذلك بمنحه الحق في طلب فسخ العقد، وقد راعى المشروع في منح هذه الرخصة للمتعاقد مع المغبون، أنه من المحتمل أن يكون قد ارتضى العقد لمجيئه على نحو ما تم عليه، بحيث أنه ما كان ليرتضيه بالزيادة التي يراد له أن يتحملها في مدى التزامه، ثم إنه قد يكون في تحميله بهذه الزيادة ما يبهظه، فإذا كان ذلك، فلا أقل من أن يترك له الخيار بين أن يتقبل الزيادة في مدى التزامه بما يرفع عن المغبون فحش الغبن، وبين أن يتحلل من العقد.
على أن المشروع يمنع رخصة توقي الزيادة في الالتزام عمن يكون قد تعاقد مع الدولة أو مع غيرها من الأشخاص الاعتبارية العامة، تقديرًا منه للمصلحة العامة التي قد تتأذى من فسخ العقد، والتي ينبغي على المصلحة الخاصة أن تنزوي أمامها.
ويورد المشروع، في المادة (165) استثناءً على جواز الطعن على أساس الغبن للدولة ولغيرها من الأشخاص الاعتبارية العامة، ولعديمي الأهلية وناقصيها ولجهة الوقف، فهو يمنع هذا الطعن، إذا تم العقد بطريق المزايدة أو المناقصة على نحو ما يقضي به القانون، ووفقًا للإجراءات التي يرسمها، وعلة هذا الاستثناء تتمثل في الرغبة في توفير الحصانة للعقود التي تُبرم عن طريق المزادات أو المناقصات القانونية، وما يترتب على ذلك من التشجيع على الدخول فيها، ثم إن في حصول التعاقد بالمزاد أو بالمناقصة على نحو ما يقضي به القانون ووفقًا للإجراءات التي يحددها الضمان الكافي لمن يريد القانون حمايتهم.
ويعرض المشروع في المادة (166)، للمدة التي ينبغي أن ترفع خلالها دعوى الغبن إعمالاً لحكم المادة (163) ويحدد هذه المدة بسنة واحدة وهي نفس المدة التي حددها لدعوى الاستغلال. وتبدأ مدة السنة من وقت إبرام العقد، بالنسبة إلى الدولة أو غيرها من الأشخاص الاعتبارية العامة ولجهة الوقف، ومن وقت اكتمال الأهلية أو الموت بالنسبة لعديمي الأهلية وناقصيها، على ألا تتجاوز المدة في أية حال 15 سنة من وقت إبرام العقد، فإن رُفعت دعوى الغبن، بعد المدة القانونية تعين على القاضي الحكم بسقوطها
2 - المحل:
المحل اعتبارًا بأنه الشيء الذي يلتزم المدين بعمله أو بالامتناع عن عمله، يتمثل - في حقيقة الواقع - ركنًا في الالتزام إذ أن محل العقد هو ذات الالتزامات التي يولدها.
ومع ذلك فقد درج الفكر القانوني، ليس فقهيًا فحسب، بل تشريعًا أيضًا، على أن ينظر إلى الفعل الذي يلتزم المدين بعمله أو بالامتناع عن عمله، باعتباره محلاً، لا للالتزام وحده، وإنما أيضًا للعقد الذي ينشئه.
وهذه هي النظرة التي يرى المشروع أن يسايرها، وهو إذ يفعل، لا يعمد فقط إلى عدم القطيعة مع تقليد استقر من قديم، ولكن أيضًا لأنه يرى أن لتلك النظرة ما يبررها، فالعقد ينشئ الالتزام، فإن كان العمل الذي يلتزم المدين بفعله أو بالامتناع عن فعله، يتمثل محلاً مباشرًا للالتزام، فهو ينهض، في نفس الوقت محلاً للعقد الذي يولد هذا الالتزام، وإن كان ذلك بطريق غير مباشر. ومن هنا ساغ أن ينظر إلى محل الالتزام باعتباره ركنًا في العقد، وأيًا ما كان الأمر، فإن الغاية من العقد هي إنشاء الالتزام. فإذا تعذر عليه أن ينشئ الالتزام لأمر يخص محله، فإنه يكون غير ذي موضوع فيبطل بدوره.
ويعرض المشروع، في المادة (167) لأحد الشروط اللازم توافرها في محل الالتزام، وهو إمكان أدائه، وهذا شرط تمليه طبيعة الأمور ذاتها، إذ أنه لا يُتصور أن يلزم الشخص بعمل المستحيل. ومن هنا كان الأصل العام القاضي بأنه لا التزام بمستحيل، فإن التزم المدين بما هو مستحيل بطل التزامه، وبطل العقد الذي أُريد له أن ينشئه.
على أن الاستحالة التي تمنع من قيام العقد هي الاستحالة الموضوعية، أي استحالة محل الالتزام ذاته، أو استحالته من حيث هو، وليست الاستحالة الذاتية المتعلقة بالمدين نفسه. فإن كان محل الالتزام ممكنًا في ذاته قام العقد، حتى لو كان المدين نفسه يستحيل عليه أن يؤديه، على أن تنشغل مسؤوليته حينئذٍ عن عدم الوفاء بالالتزام، وفقًا للقواعد القانونية العامة.
والاستحالة الموضوعية التي تؤدي إلى بطلان العقد هي تلك التي تكون قائمة عند إبرامه. فإن كان محل الالتزام ممكنًا عند إبرام العقد، ولكنه أصبح مستحيلاً في تاريخ لاحق، ما أثر ذلك في ذات انعقاد العقد، ولكن يكون له آثار قانونية أخرى، تختلف باختلاف الأحوال.
والمشروع يستوحي نص المادة (167) من نص المادة (130) من قانون التجارة الكويتي، الذي هو مستمد بدوره من المادة (132) مدني مصري، وذلك بعد أن أدخل المشروع تعديلاً طفيفًا في الصياغة توخيًا للإيضاح.
ويعرض المشروع في المادة (168)، للتعامل في الأشياء المستقبلة قاضيًا بجوازه، كأصل عام.
فإذا كان يتوجب لإمكان محل الالتزام، وبالتالي لقيام العقد، أن يكون الشيء الذي يتعلق به موجودًا عند إبرام العقد، فإن ذلك لا يتحتم إلا إذا نظر إلى الشيء على اعتبار أنه قائم فعلاً عندئذٍ، أما إذا نظر إلى الشيء على اعتبار أنه غير موجود الآن، ولكنه سوف يوجد بعد حين، فإن المحل يعتبر ممكنًا، طالما أن وجود الشيء مستقبلاً غير مستحيل استحالة موضوعية مطلقة فالشيء الذي يتعلق به الالتزام، إما أن يكون موجودًا بالفعل عند إبرام العقد، وإما أن يكون قابلاً للوجود في تاريخ تالٍ.
والمشروع إذ يجيز بحسب الأصل، التعامل في الأشياء المستقبلة، إنما يتجاوب مع ما تقتضيه المصلحة. وهو من بعد الحكم الذي تسايره كل التقنينات الحديثة في الدول المختلفة، ومن بينها دولة الكويت (المادة 131/ 1 والمادة 383 من قانون التجارة).
وإذا كان الفقه الإسلامي يرسي الأصل العام في عدم جواز التعامل في الأشياء المستقبلة، إلا أنه يورد على هذا الأصل استثناءات عديدة بحيث أنه يمكن أن يقال أنه بات لا يحرم هذا النوع من التعامل، إلا إذا اقترن بالشديد من الغرر. وهذا ما أراد المشروع أن يتمشى معه، حيث أورد على التعامل في الأشياء المستقبلة تحفظًا، قوامه منعه، حينما يكون وجود الشيء رهينًا بمحض الصدفة، اعتبارًا منه بأن التعامل يكون عندئذٍ أقرب إلى المقامرة.
ويورد المشروع في المادة (169) استثناءً هامًا على مبدأ جواز التعامل في الأموال المستقبلة، فهو يحظر بحسب الأصل التعامل في التركات التي لما تفتح، لكون أصحابها لا زالوا على قيد الحياة. والمشروع إذ يحظر التعامل في التركات المستقبلة، يساير التقنينات الحديثة، سواء في بلادنا العربية أم في الدول الراقية الأخرى. وقانون التجارة الكويتي بدوره يأخذ بالحظر (المادة 131/ 2).
والمشروع يحظر بحسب الأصل، التعامل في التركات المستقبلة، أو الحقوق الاحتمالية الداخلة فيها، بغض النظر عن طبيعة التعامل أو نوعيته، ودون اعتبار لشخص المتصرف أو المتصرف إليه، وقد حرص على أن يصرح ببطلان التصرف في التركات المستقبلة، ولو تم من المورث المحتمل نفسه، أو تم من غيره ووافق عليه هو وارتضاه، وهذا هو الحكم السائد في التشريع المعاصر، ولم يشذ عنه إلا قليل من التقنينات، كمدونة الالتزامات السويسرية (المادة 636) وهو من بعد حكم تحتمه المصلحة. فالتعامل في التركات المستقبلة لا يتضمن فقط المضاربة على حياة المورث المحتمل، إذ أنه يقوم في العادة على استغلال المرابين حاجة الورثة الاحتماليين ونزقهم، فيسلبونهم حقوقهم المحتملة نظير مقابل بخس زهيد. وفضلاً عن ذلك فتصرف الشخص نفسه فيما عساه أن يخلفه عند موته من أموال يتعارض مع قواعد الميراث، زيادة على اتسامه بالغرر الشديد.
على أن المشروع، إذا كان يحظر التعامل في التركات المستقبلة، فقد حرص على أن يستثنِي من هذا الحظر الحالات التي يسمح بها القانون بهذا النوع من التعامل، وهو بهذا التحفظ يريد على وجه الخصوص، أن يشير إلى الوصية حيث أنها تقع جائزة في حدود ما يقضي به القانون.
وتورد المادة (170) قاعدة أساسية هامة مؤداها جواز التعاقد في شأن مال الغير أو فعله، فلا يوجد ثمة ما يمنع من أن يتعاقد الشخص بشأن شيء يملكه غيره، كما إذا باعه أو أجره أو رهنه، كما أنه لا يوجد ثمة ما يمنع من أن يتعاقد شخص مع آخر في شأن فعل يراد لثالث أن يؤديه، وقد درج الفكر القانوني على أن يطلق على هذا النوع الأخير من التعامل: التعهد عن الغير.
وإذا كان التعهد عن الغير، قد لقي من الفكر القانوني القبول في سهولة ويسر، فقد لقي، على النقيض من ذلك التصرف في مال الغير جدلاً بالغ العنف، واختلف بصدده الحكم من النقيض إلى النقيض، اختلف بين البطلان والصحة، مرورًا بالقابلية للإبطال بل إن عنف الخلاف لم يقف عند الحكم على التصرف في مال الغير بوجه عام، بل إنه امتد أيضًا إلى نوعية التصرف ذاتها، بحيث لم يسلم الأمر من أن يُعطى بيع ملك الغير حكمًا يتغاير مع إيجاره أو مع رهنه.
وقد حرص المشروع على أن يحسم الخلاف العتيد الذي ثار حول التصرف في ملك الغير، قاضيًا بجوازه ما لم ينص القانون، في حالة خاصة، على بطلانه. وهو – إذ يفعل – يتمشى مع القواعد القانونية العامة، التي لا يوجد أدنى مبرر للتضحية بها، فالالتزام الذي يتعلق بمال الغير، لا يكون محله مستحيلاً استحالة موضوعية فالاستحالة - إن قامت لا تعدو أن تكون استحالة ذاتية، متعلقة بالمدين نفسه.
ولا تخفى أهمية الحكم الذي تتضمنه المادة (170) فإلى جانب كونه يحسم الخلاف العتيد حول حكم التصرف في مال الغير، فإنه يوحد الحكم في صدد التصرفات المختلفة الطبيعية، بعد أن تغاير الحكم في شأنها في الفكر القانوني المعاصر، فكل تصرف يرد على مال الغير يقع صحيحًا، بغض النظر عن طبيعته، بيعًا كان أم إيجارًا أم غيرهما، وذلك، بطبيعة الحال، ما لم يقضِ القانون، بصدد عقد معين، ببطلان التصرف.
على أنه إذا وقع التعاقد في شأن مال الغير أو فعله صحيحًا، فإنه لا يترتب عنه أي التزام على هذا الغير، ما لم يقره، وهذا أمر بين الظهور، يقتضيه إعمال القاعدة الأساسية التي تقضي بأن العقود لا تنفع الغير ولا تضرهم، ومع ذلك فقد حرص المشروع أن يصرح به، دفعًا لأية مظنة. وإذا لم يستطع المدين، الذي التزم بصدد مال الغير أو فعله، أن يوفي بالتزامه، تحمل هو بالمسؤولية، وفقًا لما يقضي به القانون.
وقد استوحى المشروع حكم المادة (170) من المادة 38/ 2 من مشروع تنقيح القانون الفرنسي (مجموعة أعمال لجنة التنقيح لعام 1948/ 1949).
وتعرض المادة (171) لتعيين محل الالتزام، وتُرسي الفقرة الأولى القاعدة العامة في هذا الصدد، حيث تقضي بوجوب أن يكون محل الالتزام معينًا تعيينًا دقيقًا نافيًا للجهالة الفاحشة، وإلا وقع العقد باطلاً.
وكيفية تعيين محل الالتزام تختلف بالضرورة باختلاف طبيعته وباختلاف الظروف التي تحيط بالتعاقد - والمسألة مردها في النهاية لتقدير قاضي الموضوع، فهي مسألة واقع، على أنه لا يتحتم، بطبيعة الحال أن يحصل تحديد محل الالتزام بطريق مباشر. فيكفي أن يتضمن العقد أساسًا لتحديده، ما دام هذا الأساس سليمًا.
وإذا تعلق الالتزام بشيء، فإن تحديد محله يقتضي بالضرورة تحديد هذا الشيء تحديدًا كافيًا. وتختلف طريقة التحديد هنا باختلاف ما إذا ورد التعاقد في شأن شيء محدد بذاته أو محدد بنوعه، فإن كانت الحالة الأولى، لزم أن يتعين الشيء نفسه، تعيينًا يبرز ذاتيته ويحول بالتالي دون الخلط بينه وبين غيره. وإن كانت الحالة الثانية، توجب أن يتحدد الشيء بنوعه ومقداره ودرجة جودته. على أن المشروع آثر هنا أن لا يجعل لعدم تحديد درجة الجودة نفس الجزاء المترتب على عدم تحديد النوع أو المقدار، وهو بطلان العقد، فجاءت الفقرة الثانية تقضي في عجزها، بأنه إذا لم تُذكر في العقد درجة الجودة، ولم يتيسر للقاضي أن يستخلصها من ظروف الحال، فإن العقد لا يبطل، ويلتزم المدين بأن يقدم شيئًا من صنف متوسط، وقد حدا بالمشروع إلى تقرير هذا الحكم رغبته في عدم إهدار العقد بسبب أمر يمكن حسمه على نحو يوفق بين مصلحة الطرفين، سيما وأنه يغلب أن يتفق مع قصدهما المشترك.
وحكم المادة (171) متفق مع غالبية التقنينات الحديثة، فضلاً عن مسايرته للفقه الإسلامي، وهو مستوحى من نص المادة (127) من قانون التجارة الكويتي ومن نص المادة (133) مصري، مع تعديلات جوهرية في الصياغة، توخيًا للدقة والانضباط.
وتعرض المادة (172) لمشروعية المحل، قاضية بوجوب أن يكون غير مخالف للقانون ولا للنظام العام ولا لحسن الآداب في الدولة. والحكم الذي تتضمنه ظاهر. وهو مستمد من المادة (129) من قانون التجارة الكويتي، الذي هو مستمد بدوره من المادة (135) مصري.
وتعرض المادتان (173 و174) لنوع معين من الالتزامات، هو أكثرها شيوعًا في العمل إلى حد بالغ ساحق، وهو الالتزام بدفع مبلغ من النقود.
وتقضي المادة (173) في صدده، بوجوب أن يتحدد التزام المدين بذات القدر المحدد في العقد، دون أن يكون لتغيير قيمة النقود، ارتفاعًا أو انخفاضًا، أي أثر، وقد حرص المشروع على أن يصرح ببطلان أي اتفاق على خلاف هذا الحكم، حرصًا منه على دفع أية مظنة في أمر يمس الثقة في النقد، التي هي من صميم النظام العام في الدولة.
وتجيء المادة (174) في فقرتها الأولى وتقرر مبدأ حصول الوفاء بالالتزام بدفع مبلغ من النقود بالعملة الكويتية، ثم تأتي الفقرة الثانية من هذه المادة فتجيز الاتفاق على أن يكون الوفاء بالعملة الأجنبية، وهكذا فإن جاء العقد خلوًا من تحديد العملة التي يقع بها الوفاء بالالتزام كان من اللازم أداؤه بالعملة الكويتية أما إذا تضمن العقد شرطًا صريحًا بوفاء الالتزام بعملة أجنبية معينة، لزم الوفاء بها، وذلك في المعاملات الداخلية والخارجية على حد سواء.
وقد جوز المشروع الاتفاق على الوفاء بالعملة الأجنبية، حتى لو حصل ذلك في المعاملات الداخلية، استشعارًا منه بما يتمتع به النقد الكويتي من بالغ القوة، بحيث لا يقلل من مكانته أو يضعف الثقة فيه أن يتفق على أن يكون الوفاء بغيره.
وتتناول المادة (175) في فقرتها الأولى، الشروط التي يمكن للعقد أن يتضمنها، وترسي في ذلك أصلاً عامًا مؤداه إمكان أن يشتمل العقد على أي شرط يرتضيه المتعاقدان، طالما أنه غير ممنوع قانونًا، وغير مخالف للنظام العام وحسن الآداب، وسواء بعد ذلك أن يكون الشرط من مقتضيات العقد أو من ملائماته أو أن يكون فيه نفع لأحد العاقدين أو لشخص من الغير.
وقد حرص المشروع على أن يقرر هذا الحكم، على غرار ما فعله قانون التجارة الكويتي (المادة 132) ومن قبله القانون المدني العراقي (المادة 131) ومن بعده القانون المدني الأردني (المادة 164)، برغم أنه قد يبدو أقرب إلى البداهة في الفكر القانوني المعاصر، وقد حدا بالمشروع إلى ذلك رغبته من وجه في حسم أمر احتدم حوله الخلاف في الفقه الإسلامي، ولدفع أية مظنة في شأنه، من وجه آخر.
وتعرض المادة (175) في فقرتها الثانية، للجزاء المترتب على عدم مشروعية الشرط، إما لأنه ممنوع قانونًا، أو لأنه مخالف للنظام العام أو لحسن الآداب، ويتمثل هذا الجزاء، كأصل عام، في وقوع الشرط لغوًا، حيث أنه يبطل، دون أن ينعكس بطلانه على العقد ذاته، فلا يمس صحته. فالشرط هنا، يقع فاسدًا غير مفسد.
وإذا كان الشرط غير المشروع يلغى، دون أن يترتب عليه بطلان العقد، إلا أن من شأنه أن يؤدي إلى هذا البطلان، إذا أثبت المتعاقد أنه ارتضى العقد على أساسه، وأنه ما كان ليرتضيه بغيره، ففي مثل هذه الحالة، يقع الشرط فاسدًا مفسدًا في آن معًا. وهذا الحكم لا يعدو أن يكون تطبيقًا تشريعيًا لنظرية السبب، باعتباره ركنًا لازمًا لقيام العق
3 - السبب:
آثر المشروع أن يتمسك بالسبب كركن لازم العقد، إلى جانب الرضاء والمحل، ناهجًا في ذلك نهج التشريعات اللاتينية النزعة، وحاذيًا حذو قانون التجارة الكويتي وغيره من قوانين أغلب البلاد العربية الأخرى، وهو إذ يفعل لا يقصر السبب على الغرض المباشر الأول، وإنما يدخل فيه الباعث المستحث الدافع، شريطة أن يكون ملحوظًا في التعاقد، بأن يعلم العاقد الآخر به، أو يكون من المفروض عليه أن يعلم به.
والمشروع إذ يجعل من السبب في وجوده ومشروعيته أمرًا لازمًا لا يقوم العقد بغيره، يستهدف تحقيق العدالة في العقود من وجه، وإضفاء المشروعية والفضيلة على العقود من وجه آخر، وهو بذلك يساير الأغلبية الكبرى من قوانين البلاد المتحضرة عامة، والبلاد العربية منها خاصة. ثم إنه يتجاوب تمامًا مع هدف الشريعة الإسلامية الغراء في إضفاء مبدأ العدالة في العقود من وجه، ومنع العقود من وجه آخر، من أن تتخذ وسيلة لمخالفة صالح المجتمع وتنكب طريق الفضيلة والخلق الجميل.
وترسي المادة (176) في فقرتها الأولى، أصلاً من أصول العقد، وهو وجوب أن يستند التزام المتعاقد إلى سبب، وأن يكون هذا السبب مشروعًا، وإلا فإن العقد يفتقد ركنًا من الأركان التي ينبغي له أن يقوم عليها، فيبطل.
وقد حرص المشروع، في صياغة الفقرة الأولى من المادة (176) على أن ينص على بطلان العقد، إذا التزم المتعاقد دون سبب، أو لسبب غير مشروع، مستوحيًا في ذلك صياغة المادة (132) من القانون العراقي. وهو قد أراد بذلك أن يتجنب صياغة أغلب قوانين البلاد المختلفة التي يلحق بعضها السبب بالالتزام، وبعضها الآخر بالعقد، وبعضها الثالث بالاثنين معًا. فكون السبب ركنًا في العقد، أو في الالتزام، أو فيهما معًا، أو حتى في غيرهما (في الإدارة)، أمر فقهي ومن ثم كان خليقًا به أن يُترك للاجتهاد دون ما تقييد من الشارع.
وتأتي الفقرة الثانية من المادة (176) لتنص على أنه يعتد، في تحديد مضمون السبب، بالباعث المستحث الدافع إلى التعاقد، إذا كان المتعاقد الآخر يعلمه أو كان من المفروض عليه أن يعلمه، فالسبب لا يقتصر على الغرض المباشر الأول الذي يسعى المتعاقد إلى تحقيقه من وراء ارتضائه التحمل بالالتزام وإنما يشمل أيضًا الباعث المستحث الدافع إذا كان ملحوظًا في العقد، بأن كان المتعاقد الآخر يعلمه أو كان مفروضًا فيه أن يعلمه، والقصد من اشتراط علم المتعاقد الآخر بالباعث الدافع، هو ما يقتضيه استقرار المعاملات من عدم تعريضه لأثر البطلان إذا كان بعيدًا بالكلية عنه، وهو من بعد أمر شخصي يتعلق بصاحبه.
وإذا كان قد وجد، في الفكر القانوني، اتجاه إلى استلزام مساهمة المتعاقدين كليهما في العمل على تحقيق الباعث الدافع للاعتداد به، فإن هذا الفكر لم يسد، واكتفى من المتعاقد الآخر، بمجرد العلم أو إمكان حصوله. وهو الحكم الذي ارتأى المشروع أن يتبناه. ومن وجه آخر، تواجد في الفكر القانوني نظر ساد في الفقه يرى قصر استلزام العلم بالباعث الدافع على عقود المعاوضات، دون عقود التبرع، وهو نظر لم يسد في القضاء، وقد ارتأى المشروع بدوره ألا يسايره، وعلى أية حال، فليس للجدل حول هذا الأمر كبير أهمية من الناحية العملية، إذا أنه يندر، في واقع حياتنا، أن يكون المتبرع له بعيدًا عن الباعث الذي يدفع المتبرع إلى أن يتبرع له، والوصف الذي يتسم به، خيرًا كان أم شرًا، جميلاً كان أم نكرًا.
وتعرض المادة (177) والمادة (178) لإثبات السبب، من حيث وجوده ومشروعيته على حد سواء.
فالمادة (177) تقرر قرينة قانونية بسيطة مؤداها أن التزام المتعاقد يقوم على سبب، وأن هذا السبب مشروع، ولم لم يذكر هذا السبب في العقد.
وتتناول المادة (178) الحالة التي يذكر فيها السبب في العقد، وتقيم، في فقرتها الأولى، قرينة على أنه السبب الحقيقي، وهي بدورها قرينة بسيطة، يجوز دحضها بإثبات الصورية.
وتعرض المادة (178) في فقرتها الثانية، للحالة التي تثبت فيها صورية السبب، لتلقي على من يدعي أن لالتزام المتعاقد سببًا آخر مشروعًا عبء إقامة الدليل على صحة ما يدعيه.

ثانيًا: بطلان العقد:
البطلان جزاء اختلال تكوين العقد، وهو نظام قانوني مؤداه اعتبار أن العقد أو التصرف القانوني بوجه عام لم يقم أصلاً، فمن شأن البطلان أن يعدم العقد، وهو يعدمه بأثر رجعي يستند إلى تاريخ إبرامه، والبطلان في ذاته ومن حيث هو، واحد لا يتشكل ولا يتنوع، لأنه عدم، والعدم - وإن أمكن لأسبابه أن تتعدد بل وتتخالف وتتغاير - إلا أنه من حيث ذات ماهيته واحد.
ولكن البطلان يختلف من حيث الوقت الذي يلحق فيه العقد، فهناك نوع منه يلحق العقد منذ إبرامه، فهو يجعل العقد يولد ميتًا، أو بالأحرى هو يحول أصلاً دون ميلاده، وهناك نوع آخر من البطلان لا يلحق العقد إلا بعد إبرامه بفترة من الزمن، قد تطول بعض الشيء وقد تقصر، وهو أن لحقه، فلا يكون ذلك على سبيل اللزوم والحتم، وإنما لإعمال رخصة يعطيها القانون لمن يريد حمايته من المتعاقدين إن أراد هذا أن يباشرها.
وقد جرى الفكر القانوني التقليدي، منذ عهد الرومان إلى الآن، على أن يخلع على النوع الأول من البطلان اصطلاح (البطلان المطلق)، في حين أنه يخلع على النوع الثاني اصطلاح (البطلان النسبي)، وتلك التسمية معيبة، بالنسبة إلى نوعي البطلان على حد سواء، فعبارة (البطلان المطلق) تثير في الذهن إن هناك تفاوتًا في درجات البطلان، في حين أن البطلان في ذاته، عدم وليس للعدم درجات يتراوح بينها، ثم إن العقد الذي يخلع عليه وصف (البطلان النسبي) ليس بباطل ما لم يبطل، فهو عقد قائم ومنتج آثاره، ويظل كذلك إلى أن يقضي بإبطاله.
من هنا كانت التسمية التقليدية لنوعي البطلان بعيدة عن التوفيق ولعل الفضل يرجع إلى القانون المصري، حيث كان سباقًا إلى نبذها، مضفيًا على ما يطلق عليه العقد الباطل بطلانًا مطلقًا اسم (العقد الباطل) من غير نعت ولا تخصيص وعلى ما يوصف بالعقد الباطل بطلانًا نسبيًا، اسم (العقد القابل للإبطال)، وقد أخذتها عن القانون المصري كافة القوانين العربية الأخرى التي استوحته، ومن بينها قانون التجارة الكويتي، ولا يسعى المشروع إلا أن يأخذ بها بدوره.
1 - العقد القابل للإبطال:
وتُرسي المادة (179) الأساس الذي يقوم عليه نظام العقد القابل للإبطال، قاضية بأن ذاك الأساس يتمثل في أن العقد القابل للإبطال ينعقد وينتج آثاره، ويظل كذلك ما لم يقض بإبطاله. فإذا قضي بإبطاله صار عدمًا، واعتُبر كذلك من وقت إبرامه، فالعقد القابل للإبطال هو عقد توافرت له كل أركانه فلا يوجد بالتالي ثمة ما يحول دون انعقاده وإنتاج آثاره، كل ما في الأمر أن خللاً أصاب منه أحد أركانه، هو ركن الرضاء، وهذا الخلل ليس من الجسامة بحيث يؤدى بذاته وبمجرده إلى انهيار العقد. ولكن من شأنه أن يخول للمتعاقد، الذي يريد القانون حمايته منه، الرخصة في إهدار العقد.
وحكم المادة (179) أمر مسلم، وقد آثر المشروع مع ذلك أن ينص عليه، لأنه يتمثل لب نظام العقد القابل للإبطال وأساسه.
وتعرض المادة (180) لإبطال العقد القابل للإبطال، وهو مصير من بين اثنين، لا بد لهذا العقد أن يلقى أحدهما، فهو إما أن يُعمل فيه سيف الإبطال، فيبطل، وإما أن يزول عنه عيبه الذي كان الإبطال يتهدده بسببه، فتتدعم صحته، ويدخل في زمرة العقود تامة السلامة.
والمادة (180) إذ تعرض للإبطال، كمصير قد يلقاه العقد القابل له، تمنع في فقرتها الأولى، المحكمة من أن تقضي به بغير أن يطلبه منها المتعاقد الذي قرره القانون لصالحة وحماية له.
وتجيء المادة (180) في فقرتها الثانية، قاضية بأنه إذا قام سبب الإبطال، وتمسك به من تقرر لصالحه، تعين على المحكمة القضاء به، ما لم يسمح لها القانون بغيره، كما هو الشأن في الاستغلال (المادة 159 من المشروع)، فإبطال العقد لا يدخل، كأصل عام، في رحاب سلطة القاضي التقديرية.
ويعرض المشروع في المادة (181) لإجازة العقد القابل للإبطال قاضيًا بأنها تطهره من العيب الذي انتابه، وقصد بها تطهيره منه، طالما أنها صدرت ممن له الحق في إجرائها، وهو المتعاقد الذي يقرر القانون وقوع العقد قابلاً للإبطال لمصلحته، وشريطة أن تكون صحيحة في ذاتها، باعتبارها تصرفًا قانونيًا وأن تجيء من صاحبها على بينة من العيب الذي يراد بها تطهير العقد منه.
والإجازة لا تعدو أن تكون نزولاً عن حق التمسك ببطلان العقد ممن يملكه. وهي تصرف قانوني يمكن له أن يصد من جانب واحد، هو المتعاقد الذي يقرر القانون الإبطال لصالحه فهي تقع صحيحة دون لزوم صدور الموافقة عليها من المتعاقد الآخر.
والإجازة قد تكون صريحة، كما أنها يمكن لها أن تكون ضمنية بأن يُستدل عليها من ظروف الحال، شريطة أن يكون هذا الاستدلال قاطعًا في إفادته قصد المتعاقد تطهير العقد من العيب الذي شابه، والنزول بالتالي عن حق طلب الإبطال بسببه. فالنزول عن الحق لا يُفترض، ولا يتوسع في الأخذ بما يدل عليه.
وقد حرص المشروع على أن ينص على أن الإجازة تطهر العقد من العيب الذي انصبت عليه، إذ قد يكون العقد مشوبًا بأكثر من عيب، وقابلاً للإبطال بسببها جميعًا، فتصدر الإجازة بالنسبة لعيب منها، فلا يتطهر إلا منه وحده، ويبقى قابلاً للإبطال بسبب غيره، مما لم ترد الإجازة في شأنه بدوره.
وغني عن البيان أن إجازة العقد القابل للإبطال، وإن كان من شأنها أن تدعم صحته بإزالة الحق في طلب إبطاله، إلا أنها لا ترفع أصل العيب الذي انتاب العقد عدم مشروعيته، إن كان متصفًا بها، كما هو الشأن بالنسبة إلى الإكراه والتدليس، ولا تحول بالتالي دون إمكان الرجوع على أساس المسؤولية التقصيرية، إذا توافرت مقوماتها، وذلك ما لم يتضح غيره من قصد المتعاقد الذي صدرت منه الإجازة.
ولم يشأ المشروع أن يساير التقنينات في الدول المختلفة، ومن بينها التقنين المصري وغيره من تقنينات الدول العربية الأخرى التي استوحته – وقانون التجارة الكويتي من زمرتها – في النص على أن أثر الإجازة يستند إلى التاريخ الذي يتم فيه العقد، دون إخلال بحقوق الغير، إذ أن هذا الحكم، وإن أمكن أن يكون له ما يبرره في صدد إجازة العقد الموقوف وفق ما يقضي به الفقه الإسلامي، وفي صدد العقد غير النافذ في حق شخص معين، والذي يحصل منه إقراره، تحت ظل القانون المعاصر، إلا أنه يقع خاليًا من أي مضمون بالنسبة إلى إجازة العقد القابل للإبطال، فهذا العقد ينعقد، ويقوم صحيحًا منتجًا آثاره، من تاريخ إبرامه، كل ما هنالك أن الإبطال يتهدده، فإذا جاءت الإجازة، رفعت عنه خطر الإبطال. وهي لا ترفعه بالضرورة إلا للمستقبل. أما بالنسبة إلى الماضي، فلا حاجة للعقد إليها، إذ أنه كان صحيحًا منتجًا آثاره قبلها، ومن ثم فهي لا تضيف إليه جديدًا في هذه الفترة.
والعقد القابل للإبطال عقد مجهل المصير، فقد يستمر قائمًا منتجًا آثاره، وقد ينقضي ويزول بأثر رجعي يستند إلى تاريخ إبرامه، ومن ثم فهو عقد حائر قلق، ومن شأن ذلك عدم الاستقرار والاضطراب في صدده، وفي صدد العقود الأخرى التي تترتب عليه، فيضار بذلك المتعاقد الذي يثبت الإبطال إضرارًا به، كما يضار غيره من الأشخاص الذين يتلقون الحق عنه، أو يريدون أن يتلقوه منه.
من أجل ذلك أراد المشروع، بالحكم الذي أورده في المادة (182) أن يتيح لكل ذي مصلحة، سواء أكان هو المتعاقد الآخر أم غيره، وسيلة تمكنه من التعرف على قصد المتعاقد الذي يترخص له في إبطال العقد أو إجازته حتى يدبر أمره على ضوئه. وتتمثل هذه الوسيلة في القيام بإعذار من له حق طلب الإبطال بوجوب إبداء رغبته بالتمسك بهذا الحق أو تركه، وذلك خلال لمدة لا تقل عن ثلاثة أشهر، ومن غير أن يكون لهذا الإعذار أي أثر بالنسبة إلى المدة المقررة لسقوط الحق في الإبطال على نحو ما تقرره المادة (183) من المشروع فإذا لم يبدِ صاحب الحق في طلب الإبطال رغبته في التمسك بحقه هذا، خلال ميعاد الإعذار، اعتُبر سكوته عن الرد بمثابة إجازة العقد.
على أنه لا يعتد بالإعذار الموجه إلى من له حق طلب الإبطال بسبب الغلط أو التدليس إلا بعد تكشفهما، مع ملاحظة أن الإعذار نفسه قد يكون السبيل إلى هذا التكشف، فتبدأ فترة إبداء الرغبة في إبطال العقد أو إجازته، حتى في هذه الحالة، من وقت توجيه الإعذار، ولا يعتد بالإعذار، في حالة الإكراه، إلا إذا كان قد وجه بعد انقطاعه. كما أنه لا يعتد بالإعذار الذي يوجه إلى ناقص الأهلية نفسه، ما لم يكن قد زال عنه النقص في أهليته.
وحكم المادة (182) قد يتمثل تجديدًا، بالنسبة إلى التقنينات الرسمية في الدول المختلفة، وهو حكم تقتضيه المصلحة، وقد استوحاه المشروع من أعمال لجنة تنقيح القانون المدني الفرنسي (المادة 8 من المشروع الابتدائي للنصوص الخاصة ببطلان التصرفات القانونية، أعمال لجنة تنقيح القانون المدني الفرنسي لعام 1946/ 1947).
هذا والعقد القابل للإبطال، كما يزول بالإجازة عيبه الذي يقع مهددًا بالإبطال بسببه، يزول عنه هذا العيب أيضًا بالتقدم أو بمرور الزمان. فالحق في طلب إبطال العقد لا يثبت لصاحبه إلا إلى أجل محدد، حتى إذا ما انقضى هذا الأجل دون مباشرة ذاك الحق، سقط حق الإبطال وزال، وتدعمت بالتالي صحة العقد وتأيدت.
والحكمة من تقرير سقوط حق طلب الإبطال بمرور الزمان هو الرغبة في عدم ترك العقد القابل للإبطال مجهل المصير إلى وقت بالغ الطول، استقرارًا للمعاملات، ثم إن عدم تمسك المتعاقد بحقه في الإبطال، بعد أن يتبينه خلال الفترة التي يحددها القانون، يمكن أن تُعتبر منه قبولاً للعقد، وبالتالي إجازة إياه.
وقد تغايرت القوانين، في البلاد المختلفة، في شأن المدة التي تُحدد لسقوط الحق في طلب إبطال العقد، فهذه المدة تتراوح في ظل التقنينات المختلفة، بين سنة وعشر.
وقد ارتأى المشروع أن يبقي على ما ذهب إليه قانون التجارة الكويتي الحالي، فحدد مثله، في الفقرة الأولى، مدة سقوط حق الإبطال بثلاث سنوات، تبدأ من وقت زوال سبب الإبطال.
وقد حرص المشروع على أن يتحفظ، في شأن تحديد مدة سقوط الحق في الإبطال بمرور الزمان، مقررًا إعمال هذا الحكم، ما لم يقضِ القانون بخلافه، فقد يحدد القانون مدة أخرى، كما هو الشأن بالنسبة إلى الإبطال على أساس الاستغلال (المادة 161 من المشروع).
وإذ تقرر المادة (183) في فقرتها الأولى، سقوط الحق في طلب إبطال العقد، إذا لم يتمسك به صاحبه، خلال ثلاث سنوات فإن من شأن ذلك أن يمتنع، بفوات تلك المدة، التمسك بالإبطال عن طريق الدعوى وعن طريق الدفع كليهما.
وتحدد الفقرة الثانية من المادة (183) بدء سريان مدة سقوط الحق في طلب الإبطال، في حالة نقص الأهلية من يوم اكتمالها، وفي حالة الغلط أو التدليس من يوم انكشافه، وفي حالة الإكراه من يوم زواله، وهو نفس الحكم الذي تقرره التقنينات في الدول المختلفة، ومن بينها قانون التجارة الكويتي الحالي.
وتأتي الفقرة الثالثة من المادة (183) فتضع حدًا أقصى للتمسك بإبطال العقد في جميع الحالات، محددة إياه بخمس عشرة سنة من تاريخ إبطال العقد، وهكذا يجوز التمسك بإبطال العقد خلال ثلاث سنوات، يبدأ سريانها على نحو ما تقرره الفقرتان الأولى والثانية، أو خلال خمس عشرة سنة من وقت تمام العقد، أي المدتين تنقضي أولاً.
2 - العقد الباطل:
أما العقد الباطل فإنه عدم، ومن ثم فهو لا ينتج بذاته أثرًا ما وهو الحكم الذي تقرره المادة (184) وكذلك يجوز لكل ذي مصلحة، سواء أكان أحد المتعاقدين أو من الغير، أن يتمسك بالبطلان. فمن يتمسك بالبطلان لا يفعل أكثر من أن يطلب أن يعمل في مواجهته بالأمر الواقع، وهو ذاك المتمثل في عدم قيام العقد أصلاً.
ولا يقف الأمر عند حد ثبوت الحق في التمسك بالبطلان لكل ذي مصلحة بل إنه يتوجب أيضًا على المحكمة أن تقضي به من تلقاء نفسها، ولو لم يُطلب منها القضاء به، ففضلاً عن أن البطلان يعني العدم، فإن إعمال عقد باطل، لم تتوافر له أركانه، بإنفاذ آثاره، يتنافى مع النظام العام.
وترسي المادة (185) القاعدة المستقرة بأن العقد باطل لا يتصحح بالإجازة فالعقد الباطل عدم، ولذلك لا تلحقه الإجازة، فلا يمكن للإجازة أن تجعل من العدم شيئًا صحيحًا، فمؤدى الإجازة النزول عن حق التمسك بالبطلان، والبطلان الذي يلحق العقد الباطل يمس النظام العام، فلا يسوغ النزول عن حق التمسك به.
وإذا كانت الإجازة تمتنع عن العقد الباطل، فلا يوجد بطبيعة الحال، ثمة ما يمنع من إعادة إبرامه، بعد تلافي سبب البطلان. على أن هذا يقتضي من جديد توافق إرادتي طرفي العقد كليهما، فلا تكفي إرادة أحدهما، بخلاف الحال لو أن الإجازة كانت ممكنة.
وحكم المادة (185) أمر مسلم في كل القوانين العصرية، كما أنه أمر مسلم في الفقه الإسلامي، وقد تضمنه قانون التجارة الكويتي في المادة (137) كما تضمنه القانون المصري (المادة 141) وغيره من قوانين بلادنا العربية الأخرى التي أخذت عنه.
وتقرر المادة (186) قاعدة مستقرة أخرى هي أن العقد الباطل لا يتصحح بمرور الزمان فالعقد الباطل عدم، والعدم لا يصير شيئًا بفوات الزمن، ولكن إذا كان البطلان الذي يلحق العقد لا يزول عنه بمضي الزمن، فإن دعوى البطلان ذاتها تسقط بخمس عشرة سنة من تاريخ العقد.
ولكن سقوط دعوى البطلان لا يعني أن العقد أصبح صحيحًا، فهو لا زال باطلاً، كل ما في الأمر أن دعوى البطلان تقع غير مقبولة، فلا تسمع إذا ما رفعت بعد 15 سنة من تاريخ إبرام العقد، وهكذا نصبح هنا أمام عقد باطل، دون أن يكون من الممكن تقرير بطلانه عن طريق الدعوى.
وإذا كان من شأن سقوط دعوى البطلان بمضي الزمان أن يمتنع بطلان العقد عن طريقها، فإنه يمكن التمسك بهذا البطلان عن طريق الدفع، مهما طال الزمن.
وإذا كانت بعض التقنينات، كالتقنين الإيطالي (المادة 1302) ومشروع القانون الفرنسي الإيطالي (المادة 227) والمشروع الأولي لتنقيح القانون المدني الفرنسي (المادة 27 من مشروع النصوص المتعلقة ببطلان التصرفات القانونية – أعمال لجنة التنقيح لعام 1946/ 1947) قد حرصت على أن تنص على أن سقوط دعوى البطلان بمرور الزمان لا يمنع من التمسك بالبطلان على سبيل الدفع ممن يطالب بتنفيذ العقد، فإن المشروع لم يرَ ضرورة أن يسير على نفس النهج، اعتبارًا منه بأن الحكم يصل في وضوحه وجلائه إلى حد أنه يمكن الوصول إليه بغير ما عناء، استخلاصًا من طبيعة البطلان ذاتها، المتمثلة في اعتبار العقد عدمًا، والمشروع في ذلك يساير قانون التجارة الكويتي والقانون المصري وغيرهما من أغلب قوانين البلاد المختلفة التي قنعت بالنص على سقوط دعوى البطلان بالتقادم، دون أن يمنع ذلك الفكر القانوني من أن يصل في سهولة ويسر إلى أن سقوط هذه الدعوى لا يمنع من التمسك بالبطلان على سبيل الدفع.
وحكم المادة (186) أمر مسلم في الفكر القانوني المعاصر، تشريعًا وفقهًا وقضاءً، كما أنه لا يتعارض مع الفقه الإسلامي.
3 - أثر البطلان:
وإذ كان مؤدى البطلان أو الإبطال هو إعدام العقد إعدامًا يستند إلى وقت إبرامه فإنه يترتب على ذلك اعتبار تنفيذه كأن لم يكن، إن كان قد تنفذ، وهذا ما يقتضي إعادة المتعاقدين إلى الحالة التي كانا عليها عند العقد، إن كان ذلك متيسرًا، فإن استحال على أحد المتعاقدين أن يعيد الآخر إلى الحالة التي كان عليها عند العقد، بأن تعذر عليه أن يرد له ما أخذه أو أفاد به نتيجة تنفيذ العقد، جاز للقاضي أن يلزمه بأن يقدم له أداءً معادلاً.
والمشروع، إذ يقرر، في الفقرة الأولى من المادة (187) أثر البطلان أو الإبطال، المتمثل في وجوب إعادة المتعاقدين إلى الحالة التي كانا عليها عند العقد، قد حرص على أن يتحفظ في شأن الحالات الخاصة التي يقرر فيها القانون حكمًا يتغاير على نحو أو على آخر، كما هي الحال بالنسبة إلى تطبيق نظرية تحول العقد المنصوص عليها في المادة (192) من المشروع، وبالنسبة إلى ما هو مقرر من أن بطلان عقد الشركة لا يمنع من إعمال حكمه في تصفيتها، اعتبارًا بأنها تتمثل شركة واقع. وأراد أن يتحفظ على وجه الخصوص، في شأن الأثر المترتب على البطلان أو الإبطال، بالنسبة إلى عديمي الأهلية أو ناقصيها المنصوص عليها في المادة (188) من المشروع، وفي شأن ما يقتضيه مبدأ حماية الغير حسني النية على نحو ما يقرره المشروع في المادة (189).
فتورد المادة (188) استثناءً هامًا على قاعدة أنه يترتب على بطلان العقد أو إبطاله وجوب رد المتعاقدين إلى الحالة التي كانا عليها عند إبرامه، وذلك في الحالة التي يرجع فيها البطلان أو الإبطال إلى عدم الأهلية أو نقصها.
فتلك المادة تقضي بأن عديم الأهلية أو ناقصها لا يُلزم إلا بما عاد عليه، بسبب تنفيذ العقد الباطل أو المبطل، من نفع معتبر قانونًا، أي نفع أفاد به وأثرى، على نحو بعيد عما يجره إليه النزق أو الطيش أو عدم توافر الإدراك أو اكتماله من تبذير أو حماقة.
والمادة (188) بالحكم الذي تقرره، تستند إلى مبرر عملي واضح، فهي تستهدف حماية عديم الأهلية أو ناقصها مما يجره إليه ما يعتوره من اضطراب أو ضعف أو نقص في إدراكه أو في الملكات الضابطة لتدبيره أمره.
وإن كان من شأن إعمال حكم هذه المادة أن يلحق المتعاقد مع عديم الأهلية أو ناقصها الضرر، فإن تحميله الغرم الواقع عليه يجد له ما يسوغه في الرغبة في جعل الناس يتحرزون في تعاملهم مع غيرهم بغية التأكد من توافر الأهلية عندهم، ثم إن عدم الأهلية أو نقصها أمر يغلب أن يكون ظاهرًا في صاحبه، بحيث يستحق من يتعاقد معه أن يتحمل مغبة فعله.
ولقد كان من شأن من ما يستند إليه مبدأ حماية عديمي الأهلية وناقصيها، عند بطلان أو إبطال عقودهم، من مبرر قوي، إن وجد مكانه في قوانين البلاد المختلفة، عربية كانت أم أجنبية، ثم إن الفقه الإسلامي يأخذ به ويناصره، ولم يتخلَ قانون التجارة الكويتي بدوره عن السير على الدرب، فقد قنن المبدأ في المادة 138/ 2 في مجال البطلان، ثم عاد فقننه مرة ثانية في المادة (186) في مجال الكسب دون سبب.
وقد حرص المشروع على أن تجيء صياغة المادة (188)، على نحو يجعل حكمها شاملاً عديمي الأهلية وناقصيها، متلافيًا بذلك عيبًا في صياغة المادة 138/ 2 تجارة كويتي، التي جاءت على غرار المادة 142/ 2 مصري، مقصورة على ذكر ناقص الأهلية دون عديمها، وهو من بعد عيب عمد المشروع الكويتي نفسه إلى تفاديه في المادة (186) من قانون التجارة، حيث عمم صياغتها ليجعل حكمها ساريًا على من لم تتوافر فيه أهلية التعاقد، وهو نفس الأمر الذي فعله المشرع المصري من قبل، في المادة (186) مدني مصري.
ويعرض المشروع، في المادة (189) لمبدأ هام أخذ يرسخ وجوده ويثبت أقدامه في دنيا القانون، ألا وهو مبدأ حماية الغير حسني النية مما عساه أن يرتبه لهم إبطال عقود من يتلقون الحق عنهم من فادح الضرر.
فقد عمد، في المادة (189) إلى أن يساير الفقه الإسلامي والفكر القانوني المعاصر في مبدأ حماية الخلف الخاص مما يترتب له من ضرر، نتيجة إبطال سند سلفه، لاجئًا إلى ضبط هذا المبدأ ورسم حدوده على النحو الذي يجعله متمشيًا مع ما تقتضيه المصلحة المتمثلة في توفير الائتمان والاعتداد بالثقة المشروعة، عندما يكون من حق الناس أن يعولوا عليهما في معاملاتهم.
ووفقًا للفقرة الأولى، لا تتقرر الحماية إلا لمن يكون قد تلقى حقه عن شخص يكون، هو نفسه، قد تلقاه بمقتضى قد قائم ولكنه قابل للإبطال وقبل أن يقضى بإبطاله، فالحماية هنا لا تكون لمن تعامل مع أحد طرفي العقد الباطل، ذلك لأن العقد الباطل عدم، بحيث أن عاقده لا يتلقى منه شيئًا ألبته، حتى يمكنه أن يعطيه لم يتعامل معه بشأنه، ليتيسر بعد ذلك تقريره استمرار بقائه لهذا الأخير، أما العقد القابل للإبطال فأمره مختلف تمامًا، فهو ينتج أثره طالما بقي قائمًا، لم يُقضَ بعد بإبطاله.
ويلزم لثبوت الحماية للخلف الخاص، أن تكون خلافته قد تمت بمقتضى تصرف تعاوضي، فلا يفيد من الحماية المتبرع له. وقد ارتأى المشروع أن يقصر الحماية في هذا النطاق. إذ أن حماية الخلف الخاص تقع بالضرورة على حساب من تلقى سلفه الحق عنه، بمقتضى العقد الذي قضى بإبطاله، أي سلف السلف، ثم إن تلك الحماية تتقرر على خلاف منطق الإبطال وأثره الرجعي. ولذلك فمن العدل والمصلحة أن تقصر على المتعاوض دون المتبرع له، فدرء المغارم مقدم على جلب المغانم.
وثمة أمر آخر تتطلبه الفقرة الأولى، وهو أن يكون الخلف الخاص حسن النية، وعلة هذا الحكم واضحة، إذ أن الحماية التي تقررها المادة (189) لا ينبغي أن تكون إلا لحسني النية من الأشخاص، وهي من بعد حماية استثنائية خاصة تجيء على خلاف منطق الإبطال ومتقضياته.
وتعرض الفقرة الثانية من المادة (189) لتحديد حسن النية في المتطلب في الخلف الخاص، ليتقي أثر إبطال سند سلفه، وهي تبنيه على جهل الخلف سبب إبطال سند السلف، طالما كان جهله هذا غير ناشئ عن خطأ منه، بأن كان في مقدوره أن يصل إلى العلم بسبب الإبطال، لو أنه بذل من الحرص ما تستوجبه ظروف الحال من الشخص العادي.
والمشروع إذ يقرر تلك الحماية للخلف الخاص لمن تلقى حقه بمقتضى عقد قابل للإبطال، لم يشأ أن يساير القانون المصري فيقصرها في مجال العقار، فقد بسطها أيضًا على من يتعاملون في المنقولات، فلا توجد حكمة في التفريق.
وتعرض المادة (190) للحالة التي يقتصر فيها البطلان أو الإبطال على شق من العقد دون باقيه، وتجيء الفقرة الأولى مقررة القاعدة العامة في هذا الصدد، قاضية بأن البطلان أو الإبطال يقتصر على الشق الذي لحقه العيب، دون باقي العقد، وهذا الحكم يتمثل إعمالاً لما يطلق عليه نظرية انتقاص العقد، وهي نظرية جرمانية الأصل، بدأ القانون الألماني بالنص عليها (المادة 139)، وشقت النظرية طريقها إلى القانون المصري (المادة 113) ومن القانون المصري انتقلت إلى كل القوانين العربية الأخرى التي استوحته ومن بينها قانون التجارة الكويتي (المادة 139).
وانتقاص العقد بقصر البطلان أو الإبطال على ما تعيب منه، دون ما لم يتعيب، أمر تقتضيه المصلحة، فما دام العقد قد اقتُطع منه ما تعيب، فالخير، بحسب الأصل، أن يستمر قائمًا في باقيه.
على أن بقاء العقد قائمًا، بعد أن يقتطع منه الشق الباطل أو المبطل ليس إلا أصلاً عامًا، وهو أصل غير مطلق في تطبيقه. فالفقرة الثانية تورد عليه استثناءً هامًا في الحالة التي يُثبت فيها أحد المتعاقدين أنه ما كان ليرتضي العقد بغير الشق الذي انتزع منه نتيجة البطلان أو الإبطال، مقررة أن العقد في تلك الحالة، يبطل كله. وما هذا إلا مجرد إعمال لفكرة (السبب)، باعتباره ركنًا لازمًا لا يقوم العقد بغيره.
وتعرض المادة (191) للحالة التي يقع فيها العقد باطلاً، أو قابلاً للإبطال ثم يبطل، حالة أنه من الممكن أن يستخلص من وقائع إبرامه الأركان اللازمة لعقد آخر غيره، قاضية بقيام هذا العقد الآخر، ويطلق على هذا الحكم، في الفكر القانوني، نظرية تحول العقد، اعتبارًا بأن العقد الباطل أو المبطل يتحول إلى عقد آخر صحيح.
ونظرية تحول العقد نظرية ألمانية النشأة، فقد قال بها القانون الألماني (المادة 140) ومن القانون الألماني شقت طريقها إلى قوانين أخرى كثيرة، منها القانون المدني المصري الحالي (المادة 144). ومن القانون المصري انتقلت إلى القوانين العربية الأخرى التي استوحته، ومن بينها قانون التجارة الكويتي (المادة 140).
والمشروع إذ يقضي، في المادة (191) بتحول العقد، يستهدف إنقاذ ما يمكن إنقاذه مما أراده المتعاقدان تنظيمًا لشأنهما، فإن بطل العقد الذي قصداه في الحقيقة، فلا أقل من أن يقوم مكانه العقد الذي كانا ينصرفان بإرادتهما إليه، لو علما بالبطلان، شريطة أن يكون من المقدور أن يستخلص من أنقاض العقد الباطل أركان العقد الصحيح الذي يصير التحول إليه.
وقد عرضت الفقرة الثانية من المادة (191) للرضاء اللازم لقيام العقد الذي يصير التحول إليه قاضية، على نحو ما تفعل قوانين البلاد الأخرى، باعتبار هذا الرضا متوافرًا، إذا تبين للقاضي أن طرفي العقد الباطل كانا يريدان العقد الجديد، لو أنهما علما بالبطلان.
فالإرادة الحقيقية للطرفين لم تنصرف، في واقع الأمر، إلا إلى العقد الباطل، ولكن القاضي يستخلص من ظروف الحال أن المتعاقدين كانا يرتضيان العقد الجديد، لو أنهما علما بالبطلان، وإذا كان القاضي لا يستطيع هنا أن يقطع بأن المتعاقدين كانا يرتضيان العقد الجديد، فإنه يكتفي منه أن يرى احتمال هذا التراضي، فإن لم يقم العقد الجديد على أساس الإرادة الحقيقية لطرفيه فإنه يقوم على أساس إرادتهما الاحتمالية، أي تلك التي يرى القاضي أن الظروف تدل على أنه كان من المحتمل أن تكون.
ولا شك أن من شأن إعمال نظرية التحول على نحو ما يأخذ به الفكر القانوني المعاصر، وقننه المشروع، إعطاء القاضي دورًا إيجابيًا هامًا في إنشاء العقد الذي يصير التحول إليه، ولكن في الشروط المتطلبة لإعمال هذه النظرية ما يجعل القاضي بعيدًا عن التحكم.
وتعرض المادة (192) للحالة التي يبطل فيها العقد، نتيجة خطأ يعزى لأحد عاقديه، حالة كون المتعاقد الآخر بعيدًا عن كل خطأ، وتقرر لهذا الأخير الحق في تعويضه عما يرتبه له البطلان من ضرر، كما تقرر هذا الحق في التعويض للغير، الذي يتضرر من إبطال العقد حال كونه بدوره بعيدًا عن الخطأ.
ووفقًا للفقرة الثانية من المادة (192) يعتبر الشخص الذي أصابه الضرر نتيجة بطلان العقد، سواء أكان هو المتعاقد الآخر أو أحدًا من الغير، متصلاً بالخطأ الذي يعزى إلى من جاء البطلان من ناحيته، ولا يكون له بالتالي الحق في التعويض، إذا كان قد أسهم فيما أدى إلى وقوع البطلان، أو كان يعلم بسببه أو كان ينبغي عليه أن يعلم به وفقًا لظروف الحال وما تقتضيه من فطنة الشخص العادي وحرصه.
وحكم المادة (192) يتمشى مع القواعد العامة في المسؤولية التقصيرية، وهو من بعد، إعمال لنظرية الخطأ عند تكوين العقد، بعد أن تصحح منها أساسها، برده إلى المسؤولية عن العمل الغير المشروع.
وقد سبق للمشروع أن قنن تطبيقًا تشريعيًا للحكم الذي يورده في المادة (192) وذلك في خصوص القاصر الذي يلجأ إلى طرق احتيالية يُخفي بها حاله قصره (المادة 97 من المشروع)
الفرع الثاني – آثار العقد:
المواد (193 - 208):
أولاً: تفسير العقد وتحديد مضمونه:
1 - تفسير العقد:

يعرض المشروع في المادتين (193 و194) لتفسير العقد، فيتناول في أولاهما تفسير العقد في ذاته، وفي ثانيتهما كيفية تفسير الشك، عندما لا تفلح وسائل تفسير العقد في تبديده.
فعبارة العقد، من حيث أنها تتضمن الإرادة المشتركة لطرفيه، وبالتالي المعنى المقصود من العقد، تتخذ إحدى صورتين أساسيتين: فهي إما أن تجيء واضحة في الدلالة على ما قصدته منها الإرادة المشتركة، وإما أن تجيء متسمة في ذلك بغموض أو لبس.
فإذا كانت عبارة العقد واضحة في دلالتها على ما قصدته الإرادة المشتركة، فإنها لا تكون في حاجة إلى تفسير، ووجب على القاضي أن يأخذ بمعناها الظاهر دون أن ينحرف عنه، فلا مساغ للاجتهاد في مورد النص، كما تقول القاعدة الفقهية. وهذا الحكم قننته المادة (193) بفقرتها الأولى.
بيد أنه لا يكفي، لكي تتمثل العبارة واضحة، وبالتالي في غير حاجة إلى تفسير، أن تكون واضحة في ذاتها وإنما يلزم أن تكون كذلك بالنسبة إلى دلالتها على ما قصدته الإرادة المشتركة، فقد تكون العبارة في ذاتها واضحة، ومع ذلك يكتنفها الغموض أو اللبس بالنسبة إلى حقيقة مدلولها، كما إذا تعارضت مع عبارة أخرى، فالعقد كل ينظر إليه في مجموعه، ولا ينظر إلى جزئياته مستقلاً بعضها عن البعض الآخر.
أما إذا كانت عبارة العقد غامضة في دلالتها على المعنى المقصود منها، بأن تعذر الوصول من خلالها على قصد المتعاقدين، أو جاءت متسمة بلبس، بأن كان من الممكن تأويلها على أكثر من معنى، تعين الالتجاء إلى التفسير، بغية استجلاء الغموض، وإزالة اللبس، والوصول بذلك إلى حقيقة المقصود.
وقد عمد قانون التجارة الكويتي (المواد من 154 إلى 159) إلى إيراد نصوص عديدة تتضمن قواعد هي، في أغلبها بينة الظهور، بحيث أن الحاجة لا تدعو إلى تقنينها كلها، وهو في هذا الصدد قد حذا حذو القانون العراقي (المواد من 155 إلى 165)، وإن لم يبلغ مبلغه في الإطناب، الذي بلغه من بعد القانون الأردني (المواد من 213 إلى 239).
وقد قنع المشروع، في الفقرة الثانية من المادة (193) ببيان الغاية من تفسير العقد، عندما يكون له محل، وهذه الغاية تتمثل في البحث عن النية المشتركة للمتعاقدين، وذكر عدة أمور عامة يتبعها القاضي، أو يستهدي بها، في الوصول إلى تلك الغاية.
وقد حرص المشروع على أن يوجه القاضي إلى البحث عن القصد الحقيقي للمتعاقدين من مجموع وقائع العقد وظروف إبرامه، اعتبارًا منه بأن شروط العقد أو وقائعه قد يفسر بعضها بعضًا، كما حرص المشروع على أن يوجه القاضي إلى عدم الوقوف بالضرورة عند المعنى الحرفي لعبارات العقد أو ألفاظه، إذ أن العبرة في العقود، كما هي في غيرها، للمقاصد والمعاني، لا للألفاظ والمباني، ويوجه المشروع كذلك القاضي إلى أن يستهدي، في تفسير العقد، بطبيعة التعامل والعادات الجارية وما ينبغي أن يتوافر بين المتعاقدين من أمانة وثقة، فهذه الأمور كلها لها أهميتها في مجال تقصي الإرادة المشتركة للمتعاقدين.
والمشروع إذ يورد الأمور التي تساعد القاضي في جلاء ما يعتري عبارات العقد من غموض أو لبس، لا يغفل عن أن التفسير يتمثل، في نهاية المطاف، مسألة فن وذوق وكياسة وخبرة.
وتعرض المادة (194) للحالة التي يعمد فيها القاضي إلى تفسير شرط من شروط العقد، من غير أن يصل إلى حقيقة ما قصدته منه الإرادة المشتركة للمتعاقدين، على نحو يطمئن هو إليه.
فتفسير العقد يصل بالقاضي إلى أحد أمرين، فهو إما أن يؤدي إلى جلاء غموض عبارته، واستخلاص ما قصدته النية المشتركة للمتعاقدين، على شكل يقيني قاطع يطمئن هو إليه، وإما ألا يؤدي به إلى ذلك، فيبقى عند شك في حقيقة مدلول عبارة العقد.
ولا صعوبة في الحالة الأولى حيث يعمل القاضي المعنى الذي استخلصه من عبارة العقد، سواء أكان من شأنه نفع هذا المتعاقد أم ذاك، أما في الحالة الثانية، وهي حالة وجود شك في مدلول عبارة العقد، فتثور بعض الصعوبة. وقد جرت القاعدة، في هذا الصدد، وربما بتأثير من مدونة نابليون، على أن الشك يفسر في مصلحة المدين، ووجدت هذه القاعدة مكانها في تقنينات بلاد كثيرة، كما هو الشأن في القانون التونسي (المادة 99) والقانون المغربي (المادة 472) والقانون اللبناني (المادة 369) والقانون النمساوي (المادة 915)، وجاء القانون المصري متضمنًا نفس القاعدة (المادة 151/ 1)، وسايره في ذلك القوانين العربية التي استوحته، ومن بينها قانون التجارة الكويتي (المادة 160).
والقول بأن تفسير الشك يكون في مصلحة المدين، بالمعنى الفني لهذا الاصطلاح، وإن كان سليمًا في الحالات الغالبة في العمل، وهي تلك التي يكون من شأن إعمال الشرط الغامض تحميل المدين بالالتزام أو تشديد عبئه عليه، إلا أنه يتمثل غير صحيح على إطلاقه، ولم يلتزمه الفقه ولا القضاء في شموله وعمومه.
فهناك حالات من المسلم فيها أن الشك يفسر ضد من يتحمل عبء الالتزام أي المدين، وهذه، على وجه الخصوص، هي حالات الإعفاء من المسؤولية على نحو ما يقضي به القانون، سواءً أكانت هذه المسؤولية ناجمة عن عمل غير مشروع، أو عن إخلال بالتزام ناشئ من العقد، فلو أن المضرور - وهو الدائن بالتعويض - اتفق مع محدث الضرر – وهو المدين بالتعويض – على إعفاء هذا الأخير من المسؤولية وثار شك في مدلول الشرط القاضي بهذا الإعفاء، في وجود أو في مداه. فإنه من المسلم فقهًا وقضاءً أن الشك يفسر في المعنى الذي يُضيق من الإعفاء أي أنه يفسر لمصلحة المضرور، وهو الدائن بالتعويض، وليس لمصلحة محدث الضرر، وهو المدين بالتعويض، وكذلك الشأن تمامًا في حالة الإعفاء من المسؤولية عن العجز في الشيء المبيع أو الشيء المؤجر، حيث يفسر الشك لمصلحة المشتري أو المستأجر، برغم أنه الدائن في الالتزام بالتسليم، وهذا ما دعا بعض القوانين، كالقانون الإسباني (المادة 1289) والقانون البرتغالي (المادة 685) إلى النص على أن الشك يفسر، في عقود المعاوضات، على النحو الذي يتمشى أكثر مع التبادل في المصالح. وهو ما دعا البعض من الفقهاء إلى القول بتفسير اصطلاح (المدين) في القول (بأن الشك يفسر لمصلحة المدين) على أنه يعني من يكون في إعمال الشرط إضرار به، أو هو المدين في الشرط، وليس بالضرورة المدين في الالتزام، ولعل ذلك هو ما قصدته المادة (1162) فرنسي بقولها إنه، عند الشك، يفسر الاتفاق ضد من وضع الشرط.
وقد حرص المشروع أن يضمن المادة (194) القاعدة السليمة في تفسير الشك الذي يتمخض الشرط الغامض عنه، ولا تفلح وسائل التفسير في تبديده، وهو في ذلك يقضي، في الفقرة الأولى، بأنه إذا تعذر تبديد الغموض، فإن الشك يفسر لمصلحة المتعاقد الذي يتفق مع الوضع العادي للأمور أو مع القواعد القانونية العامة التي يراد بالشرط إملاء حكم يخالفها.
وتجيء الفقرة الثانية تقرر تطبيقًا تشريعيًا للحكم الذي تورده الفقرة الأولى، قاضية بأن الشك يفسر لمصلحة المدين، إذا كان من شأن إعمال الشرط الغامض أن يحمله بالالتزام أو يجعل عبأه عليه أكثر ثقلاً.
وتأتي الفقرة الثالثة تتحفظ في شأن تفسير عقود الإذعان، الذي سبق للمادة (82) أن أوردت الحكم في شأنه، ومؤداه أن الشك يفسر دومًا في مصلحة الطرف المذعن، دائنًا كان أم مدينًا.
2 - مضمون العقد:
وإذا كان من الظاهر والميسور القول بأن العقد يتضمن الأحكام التي تجيء بها شروطه، وتلك التي يقضي بها القانون ويكون من شأنها أن تسري عليه، فإن ثمة سؤالاً طرح نفسه على الفكر القانوني، فقهًا وقضاءً، حول ما إذا كان العقد يقف عند هذه الأحكام وتلك، مقتصرًا عليها وحدها، أم أنه من الممكن أن يدخل فيه غيرها.
وتواجدت، في هذا الخصوص، نزعة تعمد إلى الحد والقصر، استنادًا إلى الرغبة في تسويد مبدأ سلطان الإرادة بالوقوف عنده وعدم الخروج عليه، ولكن هذه النزعة لم يُكتب لها النصر، وما كان ليكتب لها، على الأخص بعد أن أخذت تتغلغل في ثنايا العصر الذي نعيشه فكرة العدالة الاجتماعية، وسرعان ما استقر الفكر القانوني على شيء معقول من التوسعة في مضمون العقد، من غير إسراف أو شطط، ومؤدى هذه التوسعة أن يدخل في مضمون العقد، إلى جانب الأحكام التي يجيء بها عاقداه وتلك التي يقضي بها القانون في شأنه، ما يعتبر من توابع العقد ومستلزماته.
ووجدت هذه التوسعة مكانها المرموق بين دفات المدونات القانونية المعاصرة، أجنبية كانت أم عربية، ولم يتخلف قانون التجارة الكويتي الحالي عن الركب، فجاء بدوره يتضمنها، في المادة 149/ 2، نقلاً عن القانون المصري (المادة 148/ 2).
ولم يسعَ المشروع إلا أن يأتي بالمادة (195) ليساير هذا الاتجاه المحمود في التوسعة في مضمون العقد على النحو الذي يجعله متضمنًا، إلى جانب الأحكام الواردة فيه أو السارية عليه، ما يعتبر من مستلزماته، وفقًا لما تجري عليه العادة وما تمليه العدالة، ومع مراعاة طبيعة التعامل. وما يقتضيه من شرف ونزاهة، وهو إذ يفعل ذلك، يقدر ما أدته هذه التوسعة، عبر السنين، من جليل النفع، وما الالتزام بضمان السلامة، الذي أدخل بادئ ذي بدء في نطاق عقد العمل، ثم بعد ذلك في نطاق عقد النقل، والتزام العامل بعدم إفشاء سر العمل، والتزامه بالامتناع عن منافسة رب العمل في تجارته، إلا مجرد أمثلة لما أضفته تلك التوسعة على عالم القانون من يافع الثمار.
ثانيًا: القوة الملزمة للعقد:
وتقرر المادة (196) أساسًا من أهم الأسس التي يقوم عليها القانون وهو أن العقد شريعة المتعاقدين، فالعقد بالنسبة إلى عاقديه يعتبر بمثابة القانون، أو هو قانون خاص بهما، وإن كان منشؤه الاتفاق بينهما، وقد توج الله سبحانه وتعالى أثر العقد ومدى إلزامه طرفيه بقوله عز شأنه: " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود "، وجاء الرسول الكريم يقول: " المسلمون عند شروطهم ".
ويترتب على كون العقد بمثابة القانون بالنسبة إلى طرفيه، أنه لا يجوز لأيهما أن يستقل بنقضه أو تعديل أحكامه أو الإعفاء من آثاره إلا في حدود ما يسمح به الاتفاق أو يقضي به القانون.
ويتنفذ العقد على نحو ما تضمنته أحكامه، على أن تتمشى طريقة التنفيذ مع ما يقتضيه حسن النية وشرف التعامل يظلان العقد، ليس فقط بالنسبة إلى تحديد مضمونه، بل أيضًا بالنسبة إلى تحديد الطريقة التي يتم بها تنفيذه وهو ما يقرره المشروع بالمادة (197).
والمادة (198) تقنين تشريعي لنظرية الظروف الطارئة ومؤدى حكم هذه المادة أنه إذا حدث، بعد انعقاد العقد، وقبل تمام تنفيذ الالتزام الناشئ عنه، أن وقعت نازلة استثنائية عامة، لم تكن في الحسبان ولم يكن في الوسع توقعها عند التعاقد، وكان من شأن هذه النازلة أن أصبح تنفيذ الالتزام – وإن ظل ممكنًا – شديد الإرهاق بالمدين، بحيث يهدده بخسارة فادحة، فإنه يجوز للقاضي، بناءً على طلب المدين، وبعد الموازنة بين مصلحة الطرفين، أن يرد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول، وللقاضي، في هذا المجال، أن يُنقص في مدى التزام المدين، أو أن يزيد في الالتزام المقابل، على النحو الذي تقتضيه العدالة ويمليه التوفيق بين مصلحة الطرفين كليهما، والحكم الذي تقرره المادة (198) اعتبارًا بأنه يضفي حماية فعالة على العاقد الذي بات بسبب ظرف طارئ لم يكن في الوسع توقعه، مهددًا بخسارة فادحة، يمس النظام العام، ومن ثم يقع باطلاً كل اتفاق على ما يخالفه.
وإذا كان من شأن إعمال حكم المادة (198) أن تثبت للقاضي، في صدد العقد، السلطة في تعديل آثاره، متجاوزًا في ذلك حدود سلطته الأصيلة إزاءه، فإنه يجد مع ذلك مبرره القوى في أنه يتمثل رفقًا بمدين تعسر به الحظ، إذ شاءت ظروف طارئة غير متوقعة أن تهدده بخسارة فادحة بعيدة عن كل حسبان، وهو بهذه المثابة يتضمن تخفيفًا من شدة القانون وصرامة أحكامه، ويطبع تنفيذ العقد بطابع العدالة والرحمة والإنسانية.
وقد استوحى المشروع حكم المادة (198) من نص المادة 147/ 2 مصري والنصوص العربية الأخرى التي استمدت منه، ومن بينها نص المادة 146/ 2 من قانون التجارة الكويتي، وذلك بعد إجراء تعديلات طفيفة في الصياغة توخيًا للدقة والانضباط.
ويعرض المشروع، في المادتين (199 و200) للحالة التي يلجأ فيها المتعاقدان إلى الصورية، بأن يظهرا أمام غيرهما بمظهر أنهما يعقدان عقدًا معينًا، حالة كون هذا العقد في حقيقته زائفًا كليًا أو جزئيًا، إما لأن الطرفين لم يبرما في الحقيقة أي عقد على الإطلاق، وإما لأنهما أبرما عقدًا آخر غير ذاك الذي أظهراه، وإما لأنهما في النهاية أبرما بالفعل عقدًا يتفق في طبيعته مع العقد الذي صوراه، ولكنه يتغير معه على نحو أو على آخر.
والصورية ليست بذاتها سببًا للبطلان. وإذا كانت هي كذلك، فإن مؤداه أن يثور تساؤل أساسي هام، يتمثل فيما إذا كان من الواجب الاعتداد بالحقيقة أم بالمظهر، بالعقد المستتر أم بالعقد الصوري الساتر.
والأصل العام هو وجوب الاعتداد بالحقيقة. فهي التي حدثت بالفعل، دون المظهر الذي أُريد لها أن تتخفي فيه، ويتمشى المشروع مع هذا الأصل العام في العلاقة بين طرفي العقد والخلف العام لكل منهما، مقررًا في المادة (199) أن العبرة فيما بينهما هي بالحقيقية، التي من شأنها أن يسري بينهم العقد الحقيقي المستور، دون العقد الصوري الساتر، شريطة أن يكون هذا العقد المستور قد توفرت له مقومات قيامه، بطبيعة الحال.
وكان من مؤدى المنطق البحت للقانون ألا يقتصر إعمال الحقيقة على المتعاقدين وعلى الخلف العام لكل منهما بل ليمتد أيضًا ليشمل الغير، ولكن المشروع لاحظ مع ذلك أن ثمة أشخاص في تعاملهم مع طرفي العقد الصوري قد ينخدعون، ويعتقدون أنه حقيقي لا زيف فيه، ومن هنا توجب أن تُضفى الحماية على هؤلاء، لا مراعاة لمصلحتهم هم فحسب، بل مراعاة للصالح العام كذلك، متمثلاً في استقرار المعاملات التي قامت على الثقة المشروعة ومن هذا المنطلق يقرر المشروع في المادة (200) لدائني كل من المتعاقدين وللخلف الخاص لأي منهما، الحق في أن يتمسكوا بالعقد الحقيقي أو العقد الصوري، أيهما يرونه لهم أصلح، ولهم إذا شاءوا إعمال العقد الحقيقي في مواجهتهم، أن يثبتوا الصورية بكافة طرق الإثبات، اعتبارًا بأن الصورية واقعة هم عنها غرباء، على أنهم لا يكون لهم التمسك بالعقد الصوري، إلا إذا كانوا حسني النية، بأن كانوا يجهلون الصورية، عند قيام أسباب نشأة حقوقهم، فلو أنهم كانوا يلمون حينئذٍ بزيف عقد من تعاملوا معه، ما ساغ لهم أن يدعوا بأنهم انخدعوا به ورتبوا أمورهم عليه، وقد حرص المشروع على أن يقتصر، في منحه رخصة التمسك بالعقد الحقيقي أو العقد الصوري، على الدائنين والخلف الخاص لكل من طرفي العقد الصوري، فليس لغير هؤلاء أن يفيدوا من تلك الرخصة، وإنما يعمل في حقهم بالعقد الحقيقي.
وإذا كان لدائني كل من طرفي العقد الصوري ولخلفه الخاص أن يتمسكوا بالعقد الصوري أو بالعقد الحقيقي، فإنه من المتصور أن تتعارض المصالح بين هؤلاء، فيتمسك بعضهم بهذا العقد، في حين يتمسك الآخرون بذاك، وتجيء الفقرة الثانية من المادة (200) لتقرر الحكم في هذا التعارض، مقررة أفضلية لمن يتمسك بالعقد الصوري على من يتمسك بالعقد الحقيقي. وهو حكم، إن خالف المنطق البحت لقانون العقود، إلا أنه يتفق مع مبدأ حماية الغير حسني النية استقرارًا للمعاملات التي تقوم على الثقة المشروعة.
والمادة (200) إذ ترخص لدائني كل من طرفي العقد الصوري ولخلفه الخاص أن يتمسكوا بالعقد الحقيقي المستتر أو العقد الصوري الظاهر، أيهما يرونه لهم أوفق، وإذ تقرر الأفضلية لمن يتمسك من بين هؤلاء بالعقد الصوري على من يتمسك منهم بالعقد الحقيقي، تتجاوب مع قاعدة تمتد جذورها عميقة في دنيا الماضي، وأخذت ترسخ وجودها وتدعم كيانها في قانون اليوم، وهي قاعدة المظهر الخادع يحمي المخدوع، أو كما يقال، في عبارة أكثر شيوعًا وإن كانت أقل دقة، الخطأ الشائع يولد الحق.
وقد استمد المشروع تلك الأحكام من المادتين (147 و148) من قانون التجارة الحالي مع بعديل صياغتها توخيًا للدقة والانضباط.

ثالثًا: نسبية آثار العقد:
وتعرض المادة (201) للأصل المقرر بأن آثار العقد نسبية ومن البداهة أن آثار العقد تنصرف إلى طرفيه، ولكنها لا تقف عندهما. فهي بعد الموت تنتقل إلى الخلف العام بيد أن انتقال آثار العقد إلى الخلف العام يكون في الحدود التي لا يُخل فيها بأحكام الميراث، على نحو ما يقضي به الشرع الإسلامي الحنيف، ومن بين ما قصده المشروع من هذا التحفظ، عدم المساس بقاعدة لا تركة إلا بعد سداد الديون.
وإذا كان من شأن آثار العقد أن تنتقل بعد موت المتعاقد إلى خلفه العام، في الحدود التي لا يكون فيها مساس بأحكام الميراث، فإن هذه القاعدة ليست مطلقة، إذ أن هذه الآثار قد تكون مقصورة على المتعاقدين أو على أحدهما على حسب الأحوال، إذا اقتضى ذلك العقد أو طبيعة التعامل أو نص في القانون.
وقد استوحى المشروع نص المادة (201) من القانون المصري (المادة 145) – وهو نص شق طريقه بحرفيته إلى كل من القانون السوري والليبي والعراقي الأردني وكذلك قانون التجارة الكويتي (المادة 141) – وذلك مع إجراء تعديل في الصياغة اقتضته الملاءمة.
وتعرض المادة (202) لأثر العقد الذي يعقده السلف على الخلف الخاص والأصل أن الخلف الخاص لا يـتأثر بالعقود التي يبرمها السلف ما لم يرتضِ هو ذلك، أو يقضي به القانون.
ولكن هذا الأصل يترك مكانه لاستثناء جوهري هام بالنسبة إلى العقود التي يكون السلف قد أبرمها قبل الاستخلاف، متعلقة بذات المال الذي حصل الاستخلاف فيه، إذا كان من شأن هذه العقود أن تولد حقوقًا أو التزامات متصلة بذلك المال نفسه، لا متصلة أساسًا بشخص السلف، بحيث تنشأ الحقوق لمنفعة المال مباشرةً، على نحو يمكن معه القول بأنها من توابعه، وبحيث تنشأ الالتزامات مضيقة لمجال المال أو مقيدة للانتفاع به، على نحو يمكن القول معه أنها تعتبر من محدداته. فالحقوق والالتزامات التي من هذا النوع تنتقل من السلف إلى الخلف الخاص مع المال المرتبطة به والذي يحصل فيه الاستخلاف.
ولقد وصل القضاء في فرنسا في سهولة ويسر إلى هذا الحكم من غير أن يستمده من نص تشريعي يقرره مباشرة. كما وصل إليه أيضًا، في ظروف مماثلة، القضاء في مصر، تحت ظل قانونها المدني القديم، ولقد جاء القانون المصري الحالي وقنن هذا الحكم (المادة 146) دون أن يستند في تقنينه إلى سابقة تشريعية، مستظلاً بالسوابق القضائية وحدها، ومن القانون المصري شق الحكم طريقة إلى كافة القوانين العربية الأخرى التي استوحته، فنقلته عنه بذات عبارته، ومن تلك القوانين، قانون التجارة الكويتي (المادة 142)، واعتنقه المشروع وتفادى ما به من عيب في الصياغة.
وغني عن البيان أن الحكم الذي جاء به المشروع في المادة (202) لا يتعلق إلا بالحقوق الشخصية التي تثقل المال الذي يحصل فيه الاستخلاف، فوجه الحكم في شأن هذه الحقوق الأخيرة ظاهر لا يحتاج إلى بيان، فالحق العيني الذي يرد على مال معين، حق الرهن مثلاً يثقل هذا المال في أية يد يكون، بحكم طبيعة الحق العيني ذاتها، وما يمنحه لصاحبه من حق التتبع.
تبقى الحقوق الشخصية أو الالتزامات التي تتعلق بالمال الذي يحصل الاستخلاف فيه، وهي التي تحتاج إلى بيان وجه الحكم فيها، اعتبارًا بأنها لا تثقل المال ذاته على نحو ما يكون في الحق العيني.
وفي خصوص تلك الحقوق والالتزامات، تقرر المادة (202) أنه إذا أنشأ العقد الذي سبق للسلف أن أبرمه شيئًا منها، قبل حصول الاستخلاف في المال المتعلق هي به، فإنها تنتقل إلى الخلف الخاص في نفس الوقت الذي ينتقل فيه المال ذاته، ويشملها الاستخلاف بدورها، على أنه يلزم هنا، بالنسبة إلى الحقوق، أن تكون متصلة بالمال على نحو يجعلها من توابعه الخادمة له والمفيدة في استخلاص المنفعة منه، الأمر الذي يتطلب أن تكون مقررة أساسًا باعتبار المال ذاته
intuiti rei لا على أساس الاعتبار الشخصي للمتعاقد، ويلزم بالنسبة إلى الالتزامات أن تكون متصلة بالمال على نحو يجعلها مضيقة لمجاله أو محددة للانتفاع به، وهي الالتزامات التي جرى البعض على أن ينعتها بالالتزامات العينية.
وقد حرص المشروع على أن يتحاشى الوصف الذي أضفاه القانون المصري وما تبعه من قوانين البلاد العربية الأخرى على الحقوق والالتزامات التي ينشئها عقد السلف والتي يحصل فيها الاستخلاف بأنها (من مستلزمات الشيء) نظرًا لغموض مدلول هذه العبارة من وجه، ولعدم دقتها من وجه آخر كما حرص المشروع على أن يقتصر، في تطلب علم الخلف الخاص أو في استطاعته هذا العلم، على حالة الاستخلاف في الالتزامات وحدها، دون حالة الاستخلاف في الحقوق، إذ أنه بالنسبة إلى الحقوق المتعلقة بالمال، يكون علم الخلف بها غير ذي موضوع، ثم إنها تنتقل مع المال الذي يحصل فيه الاستخلاف لمجرد أنها من توابعه، إعمالاً لقاعدة أن التابع يتبع الأصل.
وتقرر المادة (203) قاعدة أساسية من القواعد التي تحكم العقود، ومؤداها أن آثار العقود تقتصر على عاقديها وخلفائهما، على نحو ما تقضي به المادة (201) والمادة (202) وإن كان من شأنها أن تنعكس على الدائنين من حيث زيادة الضمان العام المقرر لهم على أموال مدينهما أو نقصه، على حسب الأحوال، وإذا كانت العقود تقف بالنسبة إلى الآثار التي تنتجها، عند المتعاقدين والخلفاء الدائنين، فهي بمجردها وذاتها، لا يكون لها أثر في مواجهة الغير، فهي لا تنفع هؤلاء الغير، كما أنها لا تضرهم.
بيد أن قاعدة أن العقود لا تنفع الغير ولا تضرهم بعيدة عن أن تكون مطلقة، فنطاقها ينحسر بالضرورة عن كل حالة ينص فيها القانون على تأثر الغير بالعقد، إن ضرًا أو نفعًا، وإذا كانت الأحوال التي ينص فيها القانون على مضرة الأشخاص بعقود غيرهم جد نادرة بحيث تقارب العدم، فأحوال نفعهم من عقود غيرهم أخذت، في وقتنا الحاضر، تتزايد وتتكاثر، متمثلة في نظام أخذ يعم ويشيع وهو نظام الاشتراط لمصلحة الغير.
1 - التعهد عن الغير:
وتعرض المادة (204) للتعهد عن الغير والقواعد التي تحكمه، ذلك أنه يحدث في بعض الأحيان أن يتعهد شخص لآخر بأن يجعل أحدًا من الغير يتحمل نحوه بالتزام معين، ومثل هذا التعهد يقع صحيحًا، ويترتب عليه أن يلتزم المتعهد بما تعهد به.
ولكن الغير المتعهد عنه لا يتحمل بأي التزام من جراء ذلك التعهد ذاته، لأنه أجنبي عنه، والعقود لا تنفع ولا تضر غير عاقديها وخلفائهما.
وهكذا يبقى للغير المتعهد عنه كامل الحرية في أن يرتضي أن يحمل نفسه بالالتزام المتعهد به أو لا يرتضيه، فإن رفض أن يحمل نفسه به، فما كان عليه جناح، ولكن المتعهد يعتبر حينئذٍ أنه أخل بالعهد الذي قطعه على نفسه، ومن ثم يلتزم بتعويض المتعهد له عما يناله من ضرر بسبب إخلاله، ما لم يعرض أن يقوم بنفسه بتنفيذ الالتزام الذي تعهد بأن يجعل الغير يرتضيه، وكان ذلك في مقدوره من غير ضرر ينال المتعهد له، أما إذا ارتضى الغير المتعهد عنه التحمل بالالتزام، كان ذلك وفاءً بالعهد الذي قطعه المتعهد على نفسه، ومن ثم تبرأ ذمة هذا الأخير، في حين أن المتعهد عنه يرى نفسه وقد تحمل بالالتزام الذي ارتضى أن يربط نفسه به، وهو يتحمل نتيجة رضائه هذا، ومن ثم فهو يتحمل به من وقت صدور هذا الرضاء، ما لم يثبت أنه قصد أن يستند أثر رضائه التحمل بالالتزام إلى تاريخ صدور التعهد.
وإذا كان المتعهد عنه لا يتحمل بالالتزام المتعهد به إلا برضاه، فإن نظام التعهد عن الغير لا يتضمن أية مخالفة لقاعدة أن العقود لا تضر بالغير.
ويوافق هذا الحكم ما تنص عليه المادة (207) من قانون التجارة الكويتي مع ما تقتضيه الملاءمة من تعديل في الصياغة.
2 - الاشتراط لمصحة الغير:
عني المشروع بنظام الاشتراط لمصلحة الغير، ووضع له من الأحكام ما يحقق المصلحة منه، وهو في وضعه هذه الأحكام، لم يخرج عن تلك التي باتت مستقرة في الفكر القانوني المعاصر، والتي سبق لقانون التجارة الكويتي أن قننها، أخذًا عن القانون المصري وقوانين البلاد العربية الأخرى التي استوحته، وإن كان المشروع قد أجرى تعديلات هامة في الصياغة، توخيًا للدقة وتمشيًا مع فن صناعة التشريع.
وتأتي المادة (205) في فقرتها الأولى، لتقر نظام الاشتراط لمصلحة الغير، حيث تجيز للشخص، حينما يتعاقد عن نفسه، أن يتفق مع من يتعاقد معه على أن يتحمل بالتزامات معينة، يتعهد بأدائها لشخص من الغير، هو المنتفع أو المستفيد، شريطة أن يكون للمشترط في ذلك مصلحة ولو أدبية، وهو أمر يكاد يكون متحققًا دائمًا، فالمشترط يتعاقد أصيلاً عن نفسه، فهو ليس بنائب عن المستفيد، الذي يعتبر من الغير بالنسبة لعقد الاشتراط.
وتأتي الفقرة الثانية، لتجيز أن يكون المستفيد من عقد الاشتراط شخصًا مستقبلاً، كما أنها تجيز أن يكون المستفيد شخصًا غير معين بذاته عند الاشتراط، إذا كان من الممكن تعيينه عندما يتوجب على المتعهد أن يؤدي له المنفعة المشترطة لصالحه.
وتعرض المادة (206) لأثر الاشتراط لمصلحة الغير، وهي تقرر أنه يترتب عليه أن يثبت للغير المشترط لصالحه، أي المنتفع أو المستفيد، حق خاص به، في ذمة المتعهد، قوامه المنفعة المشترطة له، وهو حق يثبت له مباشرة من عقد الاشتراط، دون مرور بذمة المشترط، وبهذه المثابة يكون للمستفيد أن يستأدي حقه المشترط لصالحه من المتعهد باسمه هو، وبدعوى مباشرة، مع مراعاة حكم المادة (207) وهذا هو لب نظام الاشتراط لمصلحة الغير وجوهره ومعقل القوة فيه.
وإذا كان للمستفيد أن يطالب المتعهد مباشرة بالحق المشترط لصالحه، فإن ذلك لا يمنع المشترط نفسه من أن يكون له، في نفس الوقت، الحق في أن يطالب المتعهد بأن يؤدي الالتزام المشترط للمستفيد، وذلك ما لم يتفق على غيره، فالمشترط هو الطرف الثاني في العقد مع المتعهد، ومن ثم يكون له أن يطالبه بالوفاء بالتزاماته إلى يرتبها العقد عليه، وإن كانت فائدتها تعود على غيره، ثم إن الفرض أن للمشترط مصلحة في قيام المتعهد بالوفاء بالتزامه للمستفيد، فهذه المصلحة نفسها هي التي دفعته إلى أن يشترط هذا الالتزام عليه.
وإذا كان المستفيد من الغير بالنسبة إلى عقد الاشتراط إلا أنه يتلقى منه حقًا شخصيًا ومباشرًا في مواجهة المتعهد، ومن ثم تقرر المادة (207) للمتعهد الحق في أن يتمسك، في مواجهة المستفيد، بكافة الدفوع الناشئة له من عقد الاشتراط، والتي كان يسوغ له أن يحتج بها في مواجهة المشترط نفسه، لو أن المنفعة كانت مقررة لصالحه، وعلى هذا النحو، لا يضار المتعهد من كون المنفعة مشترطة للمستفيد.
والاشتراط لمصلحة الغير يتضمن تقديم منفعة للمستفيد. وإذا كان المتعهد هو الذي يقدمها له، نتيجة أدائه الالتزام الذي رتبه العقد عليه، إلا أن المشترط هو الذي اشترطها له، وهو الذي يتحمل مقابلها، إن كان لها مقابل، ومن ثم يخول المشروع في المادة (208) للمشترط، بعد أن ينعقد الاشتراط أن ينقضه، بمعنى أن يحرم المستفيد من الفائدة التي كان من شأنه أن يرتبها له. وهذه الرخصة تثبت للمشترط شخصيًا، فهي مقصورة عليه لخاصة نفسه. ومن ثم فهي لا تنتقل من بعده لورثته. كما أنه لا يجوز لدائنيه أن يباشروها عنه باسمه ولحسابه، حتى لو كان معسرًا. فالأمر متروك لمحض أريحيته هو، وفقًا لما يراه.
على أن نقض الاشتراط، في الحدود السابقة، يتقيد بإعلان المستفيد رغبته في الإفادة من الاشتراط، إما للمشترط وإما للمتعهد. فبمجرد أن يعلن المستفيد رغبته في الإفادة من الاشتراط للمشترط أو للمتعهد، يثبت له الحق المتولد عنه نهائيًا، ويستحيل بعد ذلك على المشترط أن يحرمه منه بنقض المشارطة.
وإذا باشر المشترط الرخصة المخولة له في نقض المشارطة، حرم المشترط لصالحة من المنفعة التي كانت مشترطة له، ولكن ذمة المتعهد لا تبرأ، ويبقى متحملاً بالالتزامات التي ولدها العقد عليه، وذلك بطبيعة الحال ما لم يتفق على خلافه.
وللمشترط، بعد نقضه المشارطة، أن يُحل منتفعًا آخر محل المنتفع الأصلي أو أن يستأثر بالمنفعة الخاصة لنفسه.

يليه الجزء الثاني ....