الاثنين، 23 مايو 2016

تفسير القرآن – الجامع لأحكام القرآن – للقرطبي – تفسير سورة البقرة – "الرُبع": الثالث




قوله تعالى:
{أَتَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبِرّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}
فيه تسع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبِرّ} هذا استفهام معناه التوبيخ, والمراد في قول أهل التأويل علماءُ اليهود. قال ابن عباس: كان يهود المدينة يقول الرجل منهم لصهره ولذي قرابته ولمن بينه وبينه رضاع من المسلمين: اثبت على الذي أنت عليه وما يأمرك به هذا الرجل ـ يريدون محمداً صلى الله عليه وسلم ـ فإن أمره حق فكانوا يأمرون الناس بذلك ولا يفعلونه. وعن ابن عباس أيضاً: كان الأحبار يأمرون مقلديهم وأتباعهم باتباع التوراة, وكانوا يخالفونها في جحدهم صفة محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ابن جُريج: كان الأحبار يحضّون على طاعة الله وكانوا هم يواقعون المعاصي. وقالت فرقة: كانوا يحضّون على الصدقة ويبخلون. والمعنى متقارب. وقال بعض أهل الإشارات: المعنى أتطالبون الناس بحقائق المعاني وأنتم تخالفون عن ظواهر رسومها!.
الثانية: في شدّة عذاب مَن هذه صفته روى حماد بن سلمة عن عليّ بن زيد عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليلة أسري بي مررت على ناس تُقرض شفاههم بمقاريضَ من نار, فقلت يا جبريل من هؤلاء؟ قال هؤلاء الخطباء من أهل الدنيا يأمرون الناس بالبر وينسوْن أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون». وروى أبو أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم يجرّون قُصْبهم في نار جهنم فيقال لهم من أنتم؟ فيقولون نحن الذين كنا نأمر الناس بالخير وننسى أنفسنا».
قلت: وهذا الحديث وإن كان فيه لين لأن في سنده الخصيب بن جَحْدر كان الإمام أحمد يستضعفه, وكذلك ابن مَعين. يرويه عن أبي غالب عن أبي أمامة صُديّ بن عجلان الباهلي, وأبو غالب هو ـ فيما حكى يحيى بن مَعين ـ حَزَوّر القرشي مولى خالد بن عبد اللّه بن أسيد. وقيل: مولى باهلة. وقيل: مولى عبد الرحمن الحضرمي. كان يختلف إلى الشام في تجارته. قال يحيى بن مَعين: هو صالح الحديث, فقد رواه مسلم في صحيحه بمعناه عن أسامة بن زيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يؤتَى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار (بالرحى) فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان ما لك ألم (تكن) تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فيقول بلى قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه».
القُصْب (بضم القاف): المِعَى, وجمعه أقصاب. والأقتاب: الأمعاء, واحدها قِتب. ومعنى «فتندلق»: فتخرج بسرعة. وروينا «فتنفلق».
قلت: فقد دلّ الحديث الصحيح وألفاظ الآية على أن عقوبة من كان عالماً بالمعروف وبالمنكر وبوجوب القيام بوظيفة كل واحد منهما أشدّ ممن لم يعلمه وإنما ذلك لأنه كالمستهين بحرمات الله تعالى, ومستخفّ بأحكامه, وهو ممن لا ينتفع بعلمه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه». أخرجه ابن ماجه في سُننه.
الثالثة: اعلم وفّقك الله تعالى أن التوبيخ في الآية بسبب ترك فعل البر لا بسبب الأمر بالبر, ولهذا ذمّ الله تعالى في كتابه قوماً كانوا يأمرون بأعمال البر ولا يعملون بها وبخهم به توبيخاً يُتْلَى على طول الدهر إلى يوم القيامة فقال: {أَتَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبِرّ} الآية. وقال منصور الفقيه فأحسن:
إن قوماً يأمرونا بالذي لا يفعلونا
لمجانين وإن هم لم يكونوا يصرعونا
وقال أبو العتاهية:
وصفتَ التّقَى حتى كأنك ذو تُقًى وريحُ الخطايا من ثيابك تسطع
وقال أبو الأسْود الدّؤَليّ:
لا تَنْهَ عن خُلقٍ وتأتيَ مثلَه عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيمُ
وابدأ بنفسك فانهها عن غيّها فإن انتهتْ عنه فأنت حكيمُ
فهناك يُقبَل إن وَعظتَ ويُقتَدى بالقول منك وينفع التعليمُ
وقال أبو عمرو بن مطر: حضرت مجلس أبي عثمان الحِيري الزاهد فخرج وقعد على موضعه الذي كان يقعد عليه للتذكير, فسكت حتى طال سكوته فناداه رجل كان يعرف بأبي العباس: ترى أن تقل في سكوتك شيئاً؟ فأنشأ يقول:
وغير تَقِيّ يأمر الناس بالتّقَى طبيبٌ يداوي وَالطبيبُ مريضُ
قال: فارتفعت الأصوات بالبكاء والضجيج.
الرابعة: قال إبراهيم النّخَعِيّ: إني لأكره القَصص لثلاث آيات, قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبِرّ} الآية, وقولِه: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} (الصف: 2), وقولِه: {وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىَ مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} (هود: 88) وقال سَلْم بن عمرو:
ما أقبحَ التّزهيدَ من واعظٍ يُزَهّد الناسَ ولا يَزْهَدُ
لو كان في تزهيده صادقاً أضحى وأمسى بيتُه المسجدُ
إنْ رفض الدنيا فما بالُه يَستمنح الناس ويسترفدُ
والرزق مقسومٌ على من تَرى ينالُه الأبيضُ والأسودُ
وقال الحسن لمطرّف بن عبد اللّه: عِظ أصحابك فقال إني أخاف أن أقول ما لا أفعل قال: يرحمك الله! وأيّنا يفعل ما يقول! ويودّ الشيطان أنه قد ظَفِر بهذا, فلم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر. وقال مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن سمعت سعيد بن جُبير يقول: لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء, ما أمر أحد بمعروف ولا نَهَى عن منكر. قال مالك: وصدق, من ذا الذي ليس فيه شيء!.
الخامسة: قوله تعالى: {بِالْبِرّ} البِرّ هنا الطاعة والعمل الصالح. والبِرّ: الصدق. والبِرّ: ولد الثعلب. والبِرّ: سَوق الغنم ومنه قولهم: «لا يعرف هِرّا من بِر» أي لا يعرف دعاء الغنم من سَوقها. فهو مشترك وقال الشاعر:
لا هُمّ رَبّ إن بكرا دونكا يَبَرّك الناسُ ويفجرونكا
أراد بقوله «يبرّك الناس»: أي يطيعونك. ويقال: إن البِرّ الفؤادُ في قوله:
أكون مكان البِرّ منه ودونه وأجعل ما لي دونه واُوامِرُه
والبُرّ (بضم الباء) معروف, و (بفتحها) الإجلال والتعظيم ومنه ولد بَرّ وبارّ أي يُعظّم والديه ويكرمهما.
السادسة: قوله تعالى: {وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} أي تتركون. والنسيان (بكسر النون) يكون بمعنى التّرك وهو المراد هنا, وفي قوله تعالى: {نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ} (التوبة: 67), وقوله: {فَلَمّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ} (الأنعام: 44), وقوله: {وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} (البقرة: 237). ويكون خلاف الذّكر والحفظ ومنه الحديث: «نَسِيَ آدمُ فنسِيَتْ ذرّيتُه». وسيأتي. يقال: رجل نَسْيان (بفتح النون): كثير النّسيان للشيء. وقد نَسِيت الشيء نِسْياناً, ولا تقل نَسَياناً (بالتحريك) لأن النّسَيان إنما هو تَثنية نَسَا العِرْق. وأنفس: جمع نَفْس, جمع قِلّة. والنّفْس: الروح يقال: خرجت نَفْسُه, قال أبو خِراش:
نجا سالم والنّفْس ونه بِشدْقِهِ ولم يَنْج إلا جَفْن سَيفٍ ومِئزرا
أي بجفن سيف ومئزر. ومن الدليل على أن النفس الروح قوله تعالى: {اللّهُ يَتَوَفّى الأنفُسَ حِينَ مِوْتِـهَا} (الزمر: 42) يريد الأرواح في قول جماعة من أهل التأويل على ما يأتي. وذلك بيّن في قول بلال للنبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث ابن شهاب: «أخذ بنفسي يا رسول الله الذي أخذ بنفسك» وقوله عليه السلام في حديث زيد بن أسلم: «إن الله قبض أرواحنا ولو شاء لردّها إلينا في حين غير هذا». رواهما مالك وهو أوْلى ما يقال به. والنّفْس أيضاً الدم يقال: سالت نفسه قال الشاعر:
تسيل على حدّ الظّبات نفوسُنا وليست على غير الظّبات تسيل
وقال إبراهيم النّخَعِيّ: ما ليس له نَفْس سائلة فإنه لا ينجس الماء إذا مات فيه. والنفس أيضاً الجسد قال الشاعر:
نُبّئتُ أن بني سُحَيم أدخلوا أبياتَهم تامُورَ نَفْسِ المُنذرِ
والتامور أيضاً: الدم.
السابعة: قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} توبيخ عظيم لمن فَهِم. {تَتْلُونَ}: تقرأون. «الكتاب»: التوراة. وكذا مَن فعل فعلهم كان مثلَهم. وأصل التلاوة الاتباع, ولذلك استعمل في القراءة لأنه يتبع بعض الكلام ببعض في حروفه حتى يأتي على نَسَقه يقال: تلوته إذا تبعته تُلُوّا, وتلوتُ القرآن تِلاوة. وتلوتُ الرجلَ تُلُوّا إذا خذلته. والتّلِيّة والتّلاوة (بضم التاء): البقية يقال: تَلِيَتْ لي من حقي تُلاوة وتَلِية أي بقيت. وأتليت: أبقيت. وتتلّيت حقي إذا تتبعته حتى تستوفيه. قال أبو زيد: تَلّى الرجلُ إذا كان بآخر رَمق.
الثامنة: قوله تعالى: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أي أفلا تمنعون أنفسكم من مواقعة هذه الحال المردية لكم. والعقل: المنع ومنه عِقال البعير لأنه يمنع عن الحركة. ومنه العقل للدّية لأنه يمنع وليّ المقتول عن قتل الجاني. ومنه اعتقال البطن واللّسان. ومنه يقال للمحصن: مَعْقِل. والعقل. نقيض الجهل. والعقل: ثوب أحمر تتخذه نساء العرب تُغشّى به الهوادج قال عَلقمة:
عَقْلاً ورَقْماً تكاد الطير تخطفه كأنه من دم الأجواف مَدمومُ
المدموم (بالدال المهملة): الأحمر, وهو المراد هنا. والمدموم: الممتلئ شحماً من البعير وغيره. ويقال: هما ضربان من البرود. قال ابن فارس: والعقل من شِيات الثياب ما كان نقشه طولاً وما كان نقشه مستديراً فهو الرّقْم. وقال الزجاج: العاقل مَن عمل بما أوجب الله عليه, فمن لم يعمل فهو جاهل.
التاسعة: اتفق أهل الحق على أن العقل كائن موجود ليس بقديم ولا معدوم لأنه لو كان معدوماً لما اختصّ بالاتصاف به بعض الذوات دون بعض وإذا ثبت وجوده فيستحيل القول بقدمه إذ الدليل قد قام على أن لا قديم إلا الله تعالى, على ما يأتي بيانه في هذه السورة وغيرها, إن شاء الله تعالى.
وقد صارت الفلاسفة إلى أن العقل قديم ثم منهم صار إلى جوهر لطيف في البدن ينبثّ شعاعه بمنزلة السراج في البيت, يفصل به بين حقائق المعلومات. ومنهم من قال: إنه جوهر بسيط أي غير مركب. ثم اختلفوا في محله فقالت طائفة منهم: محله الدماغ لأن الدماغ محل الحِسّ. وقالت طائفة أخرى: محله القلب, لأن القلب معدن الحياة ومادة الحواس. وهذا القول في العقل بأنه جوهر فاسد, من حيث إن الجواهر متماثلة فلو كان جوهر عقلاً لكان كل جوهر عقلاً. وقيل: إن العقل هو المدرك للأشياء على ما هي عليه من حقائق المعاني. وهذا القول وإن كان أقرب مما قبله فيبعد عن الصواب من جهة أن الإدراك من صفات الحيّ, والعقل عَرَض يستحيل ذلك منه كما يستحيل أن يكون ملتذاً ومشتهياً. وقال الشيخ أبو الحسن الأشعري والأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني وغيرهما من المحققين: العقل هو العلم, بدليل أنه لا يقال: عَقَلت وما علمت, أو علمت وما عقلت. وقال القاضي أبو بكر: العقل علوم ضرورية بوجوب الواجبات وجواز الجائزات واستحالة المستحيلات وهو اختيار أبي المعالي في الإرشاد واختار في البرهان أنه صفة يتأتّى بها درك العلوم. واعترض على مذهب القاضي واستدل على فساد مذهبه. وحكي في البرهان عن المحاسبي أنه قال: العقل غريزة. وحكى الأستاذ أبو بكر عن الشافعي وأبي عبد اللّه بن مجاهد أنهما قالا: العقل آلة التمييز. وحكي عن أبي العباس القَلاَنسيّ أنه قال: العقل قوّة التمييز. وحكي عن المحاسبي أنه قال: العقل أنوار وبصائر. ثم رتّب هذه الأقوال وحملها على محامل فقال: والأوْلى ألا يصح هذا النقل عن الشافعيّ ولا عن ابن مجاهد, فإن الاَلة إنما تستعمل في الاَلة المثبتة واستعمالها في الأعراض مجاز. وكذلك قول من قال: إنه قوّة, فإنه لا يعقل من القوّة إلا القدرة والقلانسيّ أطلق ما أطلقه تَوسّعاً في العبارات, وكذلك المحاسبي. والعقل ليس بصورة ولا نور, ولكن تستفاد به الأنوار والبصائر. وسيأتي في هذه السورة بيان فائدته في آية التوحيد إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى:
{وَاسْتَعِينُواْ بِالصّبْرِ وَالصّلاَةِ وَإِنّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاّ عَلَى الْخَاشِعِينَ}
فيه ثمان مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصّبْرِ وَالصّلاَةِ} الصبر: الحبس في اللغة. وقُتِل فلان صَبراً أي اُمْسِك وحُبِس حتى اُتلف. وصَبَرْتُ نفسي على الشيء: حبستها. والمصبورة التي نُهى عنها. في الحديث هي المحبوسة على الموت, وهي المُجَثّمة. وقال عنترة:
فصَبَرْتُ عارفةً لذلك حُرّةً تَرْسُو إذا نَفْسُ الجبان تَطلّعُ
الثانية: أمر تعالى بالصبر على الطاعة وعن المخالفة في كتابه فقال: «وَاصْبِرُوا». يقال: فلان صابر عن المعاصي وإذا صبر عن المعاصي فقد صبر على الطاعة هذا أصح ما قيل. قال النحاس: ولا يقال لمن صبر على المعصية: صابر إنما يقال: صابر على كذا. فإذا قلت: صابر مطلقاً فهو على ما ذكرنا قال الله تعالى: {إِنّمَا يُوَفّى الصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (الزمر: 10).
الثالثة: قوله تعالى: {وَالصّلاَةِ} خصّ الصلاة بالذكر من بين سائر العبادات تنويهاً بذكره. و: كان عليه السلام إذا حَزَبَه أمْرٌ فَزَع إلى الصلاة ومنه ما روي أن عبد اللّه بن عباس نُعِيَ له أخوه قُثَم ـ وقيل بنت له ـ وهو في سفر فاسترجع وقال: عَوْرة سترها الله, ومؤنة كفاها الله, وأجرٌ ساقه الله. ثم تنحّى عن الطريق وصلّى, ثم انصرف إلى راحلته وهو يقرأ: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصّبْرِ وَالصّلاَةِ}. فالصلاة على هذا التأويل هي الشرعية. وقال قوم: هي الدعاء على عُرْفها في اللغة فتكون الآية على هذا التأويل مشبهة لقوله تعالى: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ} (الأنفال: 45) لأن الثبات هو الصبر, والذكر هو الدعاء. وقول ثالث, قال مجاهد: الصبر في هذه الآية الصوم ومنه قيل لرمضان: شهر الصبر, فجاء الصوم والصلاة على هذا القول في الآية متناسباً في أن الصيام يمنع من الشهوات ويزهّد في الدنيا, والصلاة تنهَى عن الفحشاء والمنكر, وتُخشع ويُقرأ فيها القرآن الذي يذكّر الاَخرة. والله أعلم.
الرابعة: الصبر على الأذى والطاعات من باب جهاد النفس وقمعها عن شهواتها ومنعها من تطاولها, وهو من أخلاق الأنبياء والصالحين. قال يحيى بن اليَمان: الصبر ألا تتمنّى حالة سوى ما رزقك الله, والرضا بما قضى الله من أمر دنياك وآخرتك. وقال الشعبيّ: قال عليّ رضي الله عنه: الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد. قال الطبري: وصدق عليّ رضي الله عنه وذلك أن الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح فمن لم يصبر على العمل بجوارحه لم يستحق الإيمان بالإطلاق. فالصبر على العمل بالشرائع نظير الرأس من الجسد للإنسان الذي لا تمام له إلا به.
الخامسة: وصف الله تعالى جزاء الأعمال وجعل لها نهاية وحدّا فقال: {مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (الأنعام: 160). وجعل جزاء الصدقة في سبيل الله فوق هذا فقال: {مّثَلُ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبّةٍ} (البقرة: 261) الآية. وجعل أجر الصابرين بغير حساب, ومدح أهله فقال: {إِنّمَا يُوَفّى الصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (الزمر: 10). وقال: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الاُمُورِ } (الشورىَ: 43). وقد قيل: إن المراد بالصابرين في قوله: {إِنّمَا يُوَفّى الصّابِرُونَ} أي الصائمون لقوله تعالى في صحيح السّنّة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «الصيام لي وأنا أجْزِي به» فلم يذكر ثواباً مقدّراً كما لم يذكره في الصبر. والله أعلم.
السادسة: مِن فَضْل الصّبر وصفَ الله تعالى نفسه به كما في حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس أحد أو ليس شيء أصبرَ على أذًى سمعه من الله تعالى إنهم ليَدْعُون له ولداً وإنه ليعافيهم ويرزقهم». أخرجه البخاري. قال علماؤنا: وصفُ الله تعالى بالصبر إنما هو بمعنى الحلم, ومعنى وصفه تعالى بالحلم هو تأخير العقوبة عن المستحقين لها, ووصفه تعالى بالصبر لم يَرِد في التنزيل وإنما ورد في حديث أبي موسى, وتأوّله أهل السّنة على تأويل الحلم قاله ابن فُورَك وغيره. وجاء في أسمائه «الصبور» للمبالغة في الحلم عمن عصاه.
السابعة: قوله تعالى: {وَإِنّهَا لَكَبِيرَةٌ} اختلف المتأوّلون في عود الضمير من قوله: «وإنها» فقيل: على الصلاة وحدها خاصة لأنها تكبر على النفوس ما لا يكبر الصوم. والصبر هنا: الصوم. فالصلاة فيها سجن النفوس, والصوم فيه منع الشهوة فليس مَن مُنع شهوة واحدة أو شهوتين كما مُنع جميع الشهوات. فالصائم إنما منع شهوة النساء والطعام والشراب, ثم ينبسط في سائر الشهوات من الكلام والمشي والنظر إلى غير ذلك من ملاقاة الخلق, فيتسلّى بتلك الأشياء عما مُنع. والمصلّي يمتنع من جميع ذلك, فجوارحه كلها مقيّدة بالصلاة عن جميع الشهوات. وإذا كان ذلك كانت الصلاة أصعبَ على النفس ومكابدتها أشدّ, فلذلك قال: {وَإِنّهَا لَكَبِيرَةٌ}. وقيل: عليهما, ولكنه كَنَى عن الأغلب وهو الصلاة كقوله: {وَالّذِينَ يَكْنِزُونَ الذّهَبَ وَالْفِضّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ} (التوبة: 34), وقوله: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضّوَاْ إِلَيْهَا} (الجمعة: 11) . فردّ الكناية إلى الفضة لأنها الأغلب والأعم, وإلى التجارة لأنها الأفضل والأهم. وقيل: إن الصبر لمّا كان داخلاً في الصلاة أعاد عليها كما قال: {وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقّ أَن يُرْضُوهُ} (التوبة: 62). ولم يقل: يرضوهما لأن رضا الرسول داخل في رضا الله جل وعز ومنه قول الشاعر:
إنّ شَرْخَ الشّبابِ والشّعَرَ الأســودَ ما لم يُعاصَ كان جنونا
ولم يقل يعاصيا, ردّ إلى الشباب لأن الشّعَر داخل فيه. وقيل: ردّ الكناية إلى كل واحد منهما لكن حذف اختصاراً قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمّهُ آيَةً} (المؤمنون: 50) ولم يقل آيتين ومنه قول الشاعر:
فمن يك أمْسَى بالمدينة رَحْلُه  فإني وَقيّارٌ بها لغرِيبُ
وقال آخر:
لكلّ هَمّ مِن الهموم سَعَهْ  والصّبْحُ والمُسْيُ لا فلاح مَعَهْ
أراد: لغريبان, لا فلاح معهما. وقيل: على العبادة التي يتضمّنها بالمعنى ذكر الصبر والصلاة. وقيل: على المصدر, وهي الاستعانة التي يقتضيها قوله: {وَاسْتَعِينُواْ}. وقيل: على إجابة محمد عليه السلام لأن الصبر والصلاة مما كان يدعو إليه. وقيل: على الكعبة لأن الأمر بالصلاة إنما هو إليها. {وكبيرةٌ} معناه ثقيلة شاقة, خبر «إنّ». ويجوز في غير القرآن: وإنه لكبيرة. {إِلاّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} فإنها خفيفة عليهم. قال أرباب المعاني: إلا على من اُيّد في الأزل بخصائص الاجتباء والهدى.
الثامنة: قوله تعالى: {عَلَى الْخَاشِعِينَ} الخاشعون جمع خاشع وهو المتواضع. والخشوع: هيئة في النفس يظهر منها في الجوارح سكون وتواضع. وقال قتادة: الخشوع في القلب, وهو الخوف وغض البصر في الصلاة. قال الزجاج: الخاشع الذي يُرَى أثر الذل والخشوع عليه كخشوع الدار بعد الإقواء. هذا هو الأصل. قال النابغة:
رَمَادٌ ككُحْل العين لاْياً اُبَيّنه ونؤيٌ كجِذْم الحوض أثْلَمُ خاشِعُ
ومكان خاشع: لا يُهتَدى له. وخَشَعت الأصوات أي سكنت. وخَشَعت خَراشِيّ صدرِه إذا ألقى بُصاقاً لزِجاً. وخَشَع ببصره إذا غَضّه. والخُشْعة: قطعة من الأرض رِخوة وفي الحديث: «كانت خُشْعة على الماء ثم دُحيت بعد». وبلدة خاشعة: مغبرّة لا منزل بها. قال سفيان الثورِيّ: سألت الأعمش عن الخشوع فقال: يا ثوريّ, أنت تريد أن تكون إماماً للناس ولا تعرف الخشوع! سألت إبراهيم النخعِيّ عن الخشوع فقال: اُعَيْمِش! تريد أن تكون إماماً للناس ولا تعرف الخشوع! ليس الخشوع بأكل الخشن ولبس الخشن وتطأطؤ الرأس! لكن الخشوع أن ترى الشريف والدنيء في الحق سواء, وتخشع لله في كل فرض افترض عليك. ونظر عمر بن الخطاب إلى شاب قد نكس رأسه فقال: يا هذا! ارفع رأسك, فإن الخشوع لا يزيد على ما في القلب. وقال عليّ بن أبي طالب: الخشوع في القلب, وأن تلين كفّيك للمرء المسلم, وألاّ تلتفت في صلاتك. وسيأتي هذا المعنى مجوّداً عند قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ } (المؤمنون: 1 ـ 2). فمن أظهر للناس خشوعاً فوق ما في قلبه فإنما أظهر نفاقاً على نفاق. قال سهل بن عبد اللّه: لا يكون خاشعاً حتى تخشع كل شعرة على جسده لقول الله تبارك وتعالى: {تَقْشَعِرّ مِنْهُ جُلُودُ الّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبّهُمْ} (الزمر: 23).
قلت: هذا هو الخشوع المحمود لأن الخوف إذا سكن القلب أوجب خشوع الظاهر فلا يملك صاحبه دفعه, فتراه مطرقاً متأدّباً متذلّلاً. وقد كان السلف يجتهدون في ستر ما يظهر من ذلك وأما المذموم فتكلّفه والتباكي ومطأطأة الرأس كما يفعله الجهال ليُرَوْا بعين البر والإجلال, وذلك خدع من الشيطان, وتسويل من نفس الإنسان. روى الحسن أن رجلاً تنفّس عند عمر بن الخطاب كأنه يتحازن فلكزه عمر, أو قال لكمه. وكان عمر رضي الله عنه إذا تكلّم أسمع, وإذا مشى أسرع, وإذا ضرب أوجع, وكان ناسكاً صدقاً, وخاشعاً حقّا. وروى ابن أبي نَجِيح عن مجاهد قال: الخاشعون هم المؤمنون حقّا.

قوله تعالى:
{الّذِينَ يَظُنّونَ أَنّهُم مّلاَقُو رَبّهِمْ وَأَنّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}
قوله تعالى: {الّذِينَ يَظُنّونَ} «الذين» في موضع خفض على النعت للخاشعين, ويجوز الرفع على القطع. والظن هنا في قول الجمهور بمعنى اليقين ومنه قوله تعالى: {إِنّي ظَنَنتُ أَنّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ} (الحاقة: 20) وقوله: {فَظَنّوَاْ أَنّهُمْ مّوَاقِعُوهَا} (الكهف: 53). قال دُريد بن الصّمّة:
فقلت لهم ظُنّوا بألفَيْ مدجّج  سَراتُهُم في الفارسيّ المُسَرّدِ
 وقال أبو دُؤاد:
رُبّ هَمّ فرّجته بغريم  وغيوب كشفتها بظنون
وقد قيل: إن الظن في الآية يصح أن يكون على بابه, ويضمر في الكلام بذنوبهم فكأنهم يتوقّعون لقاءه مذنبين ذكر المهدوِيّ والماوَرْدِي. قال ابن عطية: وهذا تعسّف. وزعم الفَرّاء أن الظنّ قد يقع بمعنى الكذب ولا يعرف ذلك البصريون. وأصل الظن وقاعدته الشك مع ميل إلى أحد معتقديه, وقد يوقع موقع اليقين كما في هذه الآية وغيرها, لكنه لا يوقع فيما قد خرج إلى الحِسّ لا تقول العرب في رجل مرئيّ حاضر: أظن هذا إنساناً. وإنما تجد الاستعمال فيما لم يخرج إلى الحِسّ بعد كهذه الآية والشعر, وكقوله تعالى: {فَظَنّوَاْ أَنّهُمْ مّوَاقِعُوهَا} (الكهف: 53). وقد يجيء اليقين بمعنى الظن, وقد تقدّم بيانه أوّل السورة. وتقول: سُؤت به ظنّا, وأسأت به الظن. يدخلون الألف إذ جاءوا بالألف واللام. ومعنى {مّلاَقُو رَبّهِمْ} جزاء رَبّهم. وقيل: جاء على المفاعلة وهو من واحد مثل عافاه الله. {وَأَنّهُمْ} بفتح الهمزة عطف على الأوّل, ويجوز «وإنهم» بكسرها على القطع. {إِلَيْهِ} أي إلى ربهم, وقيل إلى جزائه. {رَاجِعُونَ} إقرار بالبعث والجزاء والعَرْض على الملك الأعلى.

قوله تعالى:
{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِي الّتِيَ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنّي فَضّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}
قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِي الّتِيَ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} تقدّم. {وَأَنّي فَضّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} يريد على عالَمي زمانهم, وأهل كل زمان عالَم. وقيل: على كل العالمين بما جعل فيهم من الأنبياء. وهذا خاصّة لهم وليست لغيرهم.

قوله تعالى:
{وَاتّقُواْ يَوْماً لاّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ}
قوله تعالى: {وَاتّقُواْ يَوْماً لاّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نّفْسٍ شَيْئاً} أمْرٌ معناه الوعيد وقد مضى الكلام في التقوى. {يَوْماً} يريد عذابه وهَوْله, وهو يوم القيامة. وانتصب على المفعول بـ {وَاتّقُواْ}. ويجوز في غير القرآن يوم لا تجزى, على الإضافة. وفي الكلام حذف بين النحويين فيه اختلاف. قال البصريون: التقدير يوماً لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئاً, ثم حذف فيه كما قال:
ويوماً شهدناه سُليماً وعامراً
أي شهدنا فيه. وقال الكسائي: هذا خطأ لا يجوز حذف «فيه» ولكن التقدير: واتقوا يوماً لا تجزيه نفس, ثم حذف الهاء. وإنما يجوز حذف الهاء لأن الظروف عنده لا يجوز حذفها. قال: لا يجوز أن تقول: هذا رجلاً قصدت, ولا رأيت رجلاً أرغب وأنت تريد قصدت إليه وأرغب فيه. قال: ولو جاز ذلك لجاز: الذي تكلمت زيد بمعنى تكلمت فيه زيد. وقال الفَرّاء: يجوز أن تحذف الهاء وفيه. وحكى المهدويّ أن الوجهين جائزان عند سيبويه والأخفش والزجاج.
ومعنى {لاّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نّفْسٍ شَيْئاً}: أي لا تؤاخذ نفس بذنب أخرى ولا تدفع عنها شيئاً تقول: جَزَى عنّي هذا الأمر يَجْزِي كما تقول: قَضَى عني. واجتزأت بالشيء اجتزاء إذا اكتفيت به قال الشاعر:
فإنّ الغدر في الأقوام عارٌ  وأن الحرّ يَجزأ بالكُراع
        أي يكتفي بها. وفي حديث عمر: «إذا أجريت الماء على الماء جَزَى عنك». يريد إذا صببت الماء على البول في الأرض فجرى عليه طهر المكان, ولا حاجة بك إلى غسل ذلك الموضع وتنشيف الماء بخرقة أو غيرها كما يفعل كثير من الناس. وفي صحيح الحديث عن أبي بُردة بن نِيار في الاُضْحِيّة: «لن تَجزِيَ عن أحد بعدك» أي لن تغني. فمعنى لا تجزي: لا تقضي ولا تغني ولا تكفي إن لم يكن عليها شيء فإن كان فإنها تجزي وتقضي وتغني, بغير اختيارها من حسناتها ما عليها من الحقوق كما في حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كانت عنده مَظلِمة لأخيه من عِرْضه أو شيءٌ فليتحلّله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح اُخِذ منه بقدر مظلِمته وإن لم يكن له حسنات اُخِذ من سيئات صاحبه فحُمِل عليه». خرّجه البخاري. ومثله حديثه الاَخر: في المُفْلِس, وقد ذكرناه في التذكرة خرّجه مسلم. وقرئ «تُجزِئ» بضم التاء والهمز. ويقال: جَزَى وأجزى بمعنًى واحد. وقد فرّق بينهما قوم فقالوا: جَزَى بمعنى قضى وكافأ. وأجزى بمعنى أغنى وكفى. أجزأني الشيء يجزئني أي كفاني قال الشاعر:
وأجزأتَ أمر العالمين ولم يكن  ليجزئ إلا كاملٌ وابنُ كامل
الثالثة: قوله تعالى: {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} الشفاعة مأخوذة من الشّفع وهما الاثنان تقول: كان وَتْراً فشفَعتُه شَفْعاً والشّفْعة منه لأن تضم ملك شريكك إلى ملكك. والشفيع: صاحب الشّفْعة وصاحب الشفاعة. وناقة شافع: إذا اجتمع لها حَمْل وولد يتبعها تقول منه: شَفعتِ الناق شَفْعاً. وناقة شَفُوع وهي التي تجمع بين مَحْلَبين في حَلْبة واحدة. واستشفعته إلى فلان: سألته أن يشفع لي إليه. وتشفّعت إليه في فلان فَشفّعني فيه فالشفاعة إذاً ضم غيرك إلى جاهك ووسيلتك فهي على التحقيق إظهار لمنزلة الشفيع عند المشفّع, وإيصال منفعته للمشفوع.
الرابعة: مذهب أهل الحق أن الشفاعة حق وأنكرها المعتزلة وخلدوا المؤمنين من المذنبين الذين دخلوا النار في العذاب. والأخبار متظاهرة بأن من كان من العصاة المذنبين الموحّدين من أمم النبيين هم الذين تنالهم شفاعة الشافعين من الملائكة والنبيّين والشهداء والصالحين. وقد تمسّك القاضي عليهم في الردّ بشيئين: أحدهما: الأخبار الكثيرة التي تواترت في المعنى. والثاني: الإجماع من السلف على تلقّي هذه الأخبار بالقبول ولم يَبْدُ من أحد منهم في عصر من الأعصار نكير فظهور روايتها وإطباقهم على صحتها وقبولهم لها دليل قاطع على صحة عقيدة أهل الحق وفساد دين المعتزلة.
فإن قالوا: قد وردت نصوص من الكتاب بما يوجب ردّ هذه الأخبار مثل قوله: {مَا لِلظّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ} (غافر: 18). قالوا: وأصحاب الكبائر ظالمون. وقال: {مَن يَعْمَلْ سُوَءًا يُجْزَ} (النساء: 123), {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} (البقرة: 48). قلنا: ليست هذه الآيات عامة في كل ظالم, والعموم لا صيغة له فلا تعمّ هذه الآيات كل مَن يعمل سوءاً وكل نفس, وإنما المراد بها الكافرون دون المؤمنين بدليل الأخبار الواردة في ذلك. وأيضاً فإن الله تعالى أثبت شفاعةً لأقوام ونفاها عن أقوام فقال في صفة الكافرين: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشّافِعِينَ} (المدثر: 48) وقال: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَىَ} (الأنبياء: 28) وقال: {وَلاَ تَنفَعُ الشّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} (سبأ: 23). فعلمنا بهذه الجملة أن الشفاعة إنما تنفع المؤمنين دون الكافرين. وقد أجمع المفسرون على أن المراد بقوله تعالى: {وَاتّقُواْ يَوْماً لاّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} (البقرة: 48) النفسُ الكافرة لا كل نفس. ونحن وإن قلنا بعموم العذاب لكل ظالم عاص فلا نقول: إنهم مخلّدون فيها بدليل الأخبار التي رويناها, وبدليل قوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} (النساء: 48), وقوله: {إِنّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رّوْحِ اللّهِ إِلاّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} (يوسف: 12)
فإن قالوا: فقد قال تعالى: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَىَ} (الأنبياء: 28) والفاسق غير مُرْتَضًى قلنا: لم يقل لمن لا يرضى, وإنما قال: {لِمَنِ ارْتَضَىَ} ومن ارتضاه الله للشفاعة هم الموحّدون بدليل قوله: {لاّ يَمْلِكُونَ الشّفَاعَةَ إِلاّ مَنِ اتّخَذَ عِندَ الرّحْمَـَنِ عَهْداً} (مريم: 87). وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما عهد الله مع خلقه؟ قال: «أن يؤمنوا ولا يشركوا به شيئاً». وقال المفسرون: إلا من قال لا إلَه إلا الله.
فإن قالوا: المرتَضَى هو التائب الذي اتخذ عند الله عهداً بالإنابة إليه, بدليل أن الملائكة استغفروا لهم وقال: {فَاغْفِرْ لِلّذِينَ تَابُواْ وَاتّبَعُواْ سَبِيلَكَ} (غافر: 7). وكذلك شفاعة الأنبياء عليهم السلام إنما هي لأهل التوبة دون أهل الكبائر. قلنا: عندكم يجب على الله تعالى قبول التوبة, فإذا قبل الله توبة المذنب فلا يحتاج إلى الشفاعة ولا إلى الاستغفار. وأجمع أهل التفسير على أن المراد بقوله: {فَاغْفِرْ لِلّذِينَ تَابُواْ} (غافر: 7) أي من الشرك {وَاتّبَعُواْ سَبِيلَكَ} (غافر: 7) أي سبيل المؤمنين. سألوا الله تعالى أن يغفر لهم ما دون الشرك من ذنوبهم كما قال تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} (النساء: 48 و 116).
فإن قالوا: جميع الأمة يرغبون في شفاعة النبيّ صلى الله عليه وسلم, فلو كانت لأهل الكبائر خاصّة بطل سؤالهم.
قلنا: إنما يطلب كل مسلم شفاعة الرسول ويرغب إلى اللّه في أن تناله لاعتقاده أنه غير سالم من الذنوب ولا قائم لله سبحانه بكل ما افترض عليه بل كل واحد معترف على نفسه بالنقص فهو لذلك يخاف العقاب ويرجو النجاة وقال صلى الله عليه وسلم: «لا ينجو أحد إلا برحمة الله تعالى ـ فقيل: ولا أنت يا رسول الله؟ ـ فقال: ولا أنا إلا أن يتغمّدني الله برحمته».
الخامسة: قوله تعالى: {وَلاَ يُقْبَلُ} قرأ ابن كَثير وأبو عمرو «تُقبل» بالتاء لأن الشفاعة مؤنثة. وقرأ الباقون بالياء على التذكير لأنها بمعنى الشفيع. وقال الأخفش: حَسُن التذكير, لأنك قد فرّقت كما تقدّم في قوله: {فَتَلَقّىَ آدَمُ مِن رّبّهِ كَلِمَاتٍ} (البقرة: 37).
السادسة: قوله تعالى: {وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} أي فِداء. والعدل (بفتح العين): الفِداء, و (بكسرها): المِثْل يقال: عِدْل وعَدِيل للذي يماثلك في الوزن والقدر. ويقال: عَدْلُ الشيء هو الذي يساويه قيمةً وقدراً وإن لم يكن من جنسه. والعِدل (بالكسر): هو الذي يساوي الشيء من جنسه وفي جِرْمه. وحكى الطبريّ: أن من العرب من يكسر العين من معنى الفِدية. فأما واحد الأعدال فبالكسر لا غير.
قوله تعالى: {وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ} أي يعانون. والنّصْر: العَوْن. والأنصار: الأعوان ومنه قوله: «مَنْ أنْصَارِي إلَى اللّهِ» أي من يضم نُصرته إلى نصرتي. وانتصر الرجل: انتقم. والنصر: الإتيان يقال: نصرتُ أرضَ بني فلان: أتيتها قال الشاعر:
إذا دخل الشهرُ الحرامُ فوَدّعِي  بلادَ تميم وانْصُرِي أرضَ عامِرِ
والنصر: المطر يقال: نُصِرَت الأرض: مُطِرت. والنصر العطاء قال:
إني وأسْطارٍ سُطِرن سطرَ  القائلٌ يا نصرُ نصراً نصرَا
وكان سبب هذه الآية فيما ذكروا أن بني إسرائيل قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه وأبناء أنبيائه وسيشفع لنا آباؤنا فأعلمهم الله تعالى عن يوم القيامة أنه لا تقبل فيه الشفاعات ولا يؤخذ فيه فِدْية. وإنما خص الشفاعة والفِدية والنصر بالذكر لأنها هي المعاني التي اعتادها بنو آدم في الدنيا فإن الواقع في الشدّة لا يتخلص إلا بأن يُشفع له أو يُنصر أو يُفتدى.

قوله تعالى:
{وَإِذْ نَجّيْنَاكُم مّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مّن رّبّكُمْ عَظِيمٌ}
فيه ثلاث عشرة مسألة:
الأولى: {وَإِذْ نَجّيْنَاكُم مّنْ آلِ فِرْعَوْنَ} «إذ» في موضع نصب عطف {اذْكُرُواْ نِعْمَتِي} وهذا وما بعده تذكير ببعض النعم التي كانت له عليهم أي اذكروا نعمتي بإنجائكم من عدوّكم وجعل الأنبياء فيكم. والخطاب للموجودين والمراد مَن سلف من الاَباء كما قال: {إِنّا لَمّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} (الحاقة: 11) أي حملنا آباءكم. وقيل: إنما قال «نجيناكم» لأن نجاة الاَباء كانت سبباً لنجاة هؤلاء الموجودين. ومعنى «نجيناكم» ألقيناكم على نَجْوَة من الأرض, وهي ما ارتفع منها. هذا هو الأصل سُمّيَ كل فائز ناجياً. فالنّاجي مَن خرج من ضيق إلى سَعة. وقرئ: «وإذ نَجّيْتُكم» على التوحيد.
الثانية: قوله تعالى: {مّنْ آلِ فِرْعَوْنَ} «آل فرعون» قومه وأتباعه وأهل دينه. وكذلك آل الرسول صلى الله عليه وسلم من هو على دينه وملّته في عصره وسائر الأعصار سواء كان نسيباً له أو لم يكن. ومن لم يكن على دينه وملّته فليس من آله ولا أهله, وإن كان نسيبَه وقريبَه. خلافاً للرافضة حيث قالت: إن آل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة والحسن والحسين فقط. دليلنا قوله تعالى: {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ} (البقرة: 50) {أَدْخِلُوَاْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدّ الْعَذَابِ} (غافر: 46) أي آل دينه إذ لم يكن له ابن ولا بنت ولا أب ولا عمّ ولا أخٌ ولا عَصَبة. ولأنه لا خلاف أن من ليس بمؤمن ولا مُوَحّد فإنه ليس من آل محمد وإن كان قريباً له ولأجل هذا يقال: إن أبا لهب وأبا جهل ليسا من أهله وإن كان بينهما وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم قرابة ولأجل هذا قال الله تعالى في ابن نوح: {إِنّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} (هود: 46). وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم جِهَاراً غيرَ سِرّ يقول: «(ألا) إنّ آلَ أبي ـ يعني فلاناً ـ ليسوا (لي) بأولياء إنما وَلِيّيَ اللّهُ وصالحُ المؤمنين». وقالت طائفة: آل محمد أزواجُه وذريّتُه خاصة لحديث أبي حُميد السّاعدي أنهم قالوا: يا رسول الله كيف نصلّي عليك؟ قال: «قولوا اللّهُمّ صلّ على محمد وعلى أزواجه وذُرّيته كما صلّيت على آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى أزواجه وذُرّيته كما باركتَ على آل إبراهيم إنك حميد مجيد». رواه مسلم. وقالت طائفة من أهل العلم: الأهل معلوم, والاَل: الأتباع. والأوّل أصح لما ذكرناه ولحديث عبد اللّه بن أبِي أوْفَى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: «اللّهُمّ صلّ عليهم» فأتاه أبي بصدقته فقال: «اللّهُمّ صلّ على آل أبِي أوْفَى».
الثالثة: اختلف النحاة هل يضاف الاَل إلى البلدان أو لا؟ فقال الكسائي: إنما يقال آل فلان وآل فلانة, ولا يقال في البلدان من آل حِمص ولا من آل المدينة. قال الأخفش: إنما يقال في الرئيس الأعظم, نحو آل محمد صلى الله عليه وسلم, وآل فرعون لأنه رئيسهم في الضلالة. قال: وقد سمعناه في البلدان, قالوا: أهل المدينة وآل المدينة.
الرابعة: واختلف النحاة أيضاً هل يضاف الاَل إلى المضمر أولا؟ فمنع من ذلك النحاس والزبيدي والكسائيّ فلا يقال إلا اللّهُمّ صلّ على محمد وآل محمد, ولا يقال وآله, والصواب أن يقال: أهله. وذهبت طائفة أخرى إلى أن ذلك يقال منهم ابن السيّد وهو الصواب لأن السماع الصحيح يَعْضُده, فإنه قد جاء في قول عبد المطلب:
لا هُمّ إن العبد يمــنع رَحْلَه فامنع حِلالكْ
وانصر على آل الصّليــب وعابديه اليومَ آلكْ
وقال نُدْبة:
أنا الفارس الحامي حقيقةَ والدي  وآلي كما تَحْمِي حقيقةَ آلِكاً
الحقيقة (بقافين): ما يَحُقّ على الإنسان أن يحميه أي تجب عليه حمايته.
الخامسة: واختلفوا أيضاً في أصل آل فقال النحاس: أصله أهل, ثم أبدل من الهاء ألفاً, فإن صغّرته رددته إلى أصله فقلت: اُهَيْل. وقال المهدَوِيّ: أصله أوْل. وقيل: أهْل قُلبت الهاء همزة ثم أبدلت الهمزة ألفاً. وجمعه آلون, وتصغيره اُوَيْل فيما حكى الكسائي. وحكى غيره أهيل, وقد ذكرناه عن النحاس. وقال أبو الحسن بن كَيْسان: إذا جمعت آلاً قلت آلون فإن جمعت آلاً الذي هو السراب قلت آوال مثل مال وأموال.
السادسة: قوله تعالى: {فِرْعَوْنَ} «فرعون» قيل: إنه اسم ذلك المَلِك بعينه. وقيل إنه اسم كل ملك من ملوك العمالقة مثل كسرى للفرس, وقَيْصر للروم, والنجاشي للحبشة. وإن اسم فرعون موسى: قابوس في قول أهل الكتاب. وقال وهب: اسمه الوليد بن مصعب بن الريّان, ويكنى أبا مُرّة وهو من بني عمليق بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام. قال السهيليّ: وكل من وَلي القبط ومصر فهو فرعون. وكان فارسيّا من أهل اصْطَخْر. قال المسعودي: لا يعرف لفرعون تفسير بالعربية. قال الجوهري: فرعون لقب الوليد بن مصعب ملك مصر وكل عاتٍ فرعون. والعتاة: الفراعنة وقد تفرعن, وهو ذو فرعنة أي دهاء ونكر. وفي الحديث: «أخذنا فرعون هذه الأمة». «وفرعون» في موضع خفض إلا أنه لا ينصرف لعُجْمته.
السابعة: قوله تعالى: {يَسُومُونَكُمْ} قيل: معناه يذيقونكم ويلزمونكم إياه. وقال أبو عبيدة: يُولُونكم يقال: سلمه خُطّة خَسْف إذا أوْلاه إياها ومنه قول عمرو بن كُلثوم:
إذا ما المَلْك سام الناسَ خَسْفاً  أبَينا أن نُقرّ الخسف فينا
وقيل: يديمون تعذيبكم. والسّوْم: الدوام ومنه سائمة الغنم لمداومتها الرّعْي. قال الأخفش: وهو في موضع رفع على الابتداء, وإن شئت كان في موضع نصب على الحال أي سائمين لكم.
الثامنة: قوله تعالى: {سُوَءَ الْعَذَابِ} مفعول ثان لـ «يسومونكم» ومعناه أشدّ العذاب. ويجوز أن يكون بمعنى سوم العذاب. وقد يجوز أن يكون نعتاً بمعنى سوماً سيئاً. فروي أن فرعون جعل بني إسرائيل خَدَماً وخَوَلاً وصنفهم في أعماله فصِنف يبنون, وصِنف يحرثون ويزرعون, وصِنف يتخدّمون ـ وكان قومه جندا ملوكا ـ ومن لم يكن منهم في عمل من هذه الأعمال ضُربت عليه الجِزْية فذلك سوء العذاب.
التاسعة: قوله تعالى: {يُذَبّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} «يذبّحون» بغير واو على البدل من قوله: «يسومونكم» كما قال ـ أنشده سيبويه ـ:
مَتَى تأتنا تُلْمِم بنا في ديارنا  تجد حطباً جَزْلاً وناراً تأجّجَا
قال الفَرّاء وغيره: «يذبحون» بغير واو على التفسير لقوله: {يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ} كما تقول: أتاني القوم زيد وعمرو فلا تحتاج إلى الواو في زيد ونظيره: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} (الفرقان: 68 ـ 69), وفي سورة إبراهيم: {يُذَبّحُونَ} (إبراهيم: 6) بالواو, لأن المعنى يعذّبونكم بالذّبح وبغير الذّبح. فقوله: {يُذَبّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} جنس آخر من العذاب, لا تفسير لما قبله. والله أعلم.
قلت: قد يحتمل أن يقال: إن الواو زائدة بدليل سورة «البقرة» والواو قد تزاد, كما قال:
لمّا أجزنا ساحة الحيّ وانتحى
 أي قد انتحى. وقال آخر:
إلى المَلِك القَرْم وابن الهمام  وليثِ الكتيبة في المُزْدحم
أراد إلى الملك القرم ابن الهمام ليث الكتيبة وهو كثير.
العاشرة: قوله تعالى: {يُذَبّحُونَ} قراءة الجماعة بالتشديد على التكثير. وقرأ ابن مُحَيْصِن «يَذْبَحون» بفتح الباء. والذّبح: الشّق. والذّبح: المذبوح. والذّبَاح: تشقق في أصول الأصابع. وذبحت الدّن: بزلته أي كشفته. وسعدٌ الذّابحُ: أحد السعود. والمذابح: المحاريب. والمذابح: جمع مذبح, وهو إذا جاء السيل فخَدّ في الأرض, فما كان كالشبر ونحوه سمي مذبحاً. فكان فرعون يَذْبح الأطفال ويُبقي البنات, وعبّر عنهم باسم النساء بالمآل. وقالت طائفة: «يذبّحون أبناءكم» يعني الرجال, وسُمّوا أبناء لما كانوا كذلك واستدل هذا القائل بقوله: «نِساءكم». والأوّل أصح لأنه الأظهر, والله أعلم.
الحادية عشرة: نسب الله تعالى الفعل إلى آل فرعون وهم إنما كانوا يفعلون بأمره وسلطانه لتولّيهم ذلك بأنفسهم وليعلم أن المباشر مأخوذ بفعله. قال الطبريّ: ويقتضي أن من أمره ظالم بقتل أحد فقتله المأمور فهو المأخوذ به.
قلت: وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: يُقتلان جميعاً, هذا بأمره والمأمور بمباشرته. هكذا قال النّخعِيّ وقاله الشافعيّ ومالك في تفصيل لهما. قال الشافعي: إذا أمر السلطان رجلا بقتل رجل والمأمور يعلم أنه أمر بقتله ظُلماً كان عليه وعلى الإمام القَوَد كقاتَلْين معاً, وإن أكرهه الإمام عليه وعلم أنه يقتله ظلما كان على الإمام القَوَد. وفي المأمور قولان: أحدهما: أن عليه القَوَد. والاَخر لا قَوَد عليه وعليه نصف الدّيَة حكاه ابن المنذر. وقال علماؤنا: لا يخلو المأمور أن يكون ممن تلزمه طاعة الاَمر ويخاف شره كالسلطان والسيد لعبده, فالقَوَد في ذلك لازم لهما أو يكون ممن لا يلزمه ذلك فيُقتَل المباشرُ وحده دون الاَمر وذلك كالأب يأمر ولده, أو المعلّم بعضَ صبيانه, أو الصانع بعضَ متعلّميه إذا كان مُحْتَلِماً فإن كان غير محتلم فالقتل على الاَمر, وعلى عاقلة الصبيّ نصف الدية. وقال ابن نافع: لا يقتل السيد إذا أمر عبده ـ وإن كان أعجمِياّ ـ بقتل إنسان. قال ابن حبيب: وبقول ابن القاسم أقول إن القتل عليهما. فأما أمر من لا خوف على المأمور في مخالفته فإنه لا يلحق بالإكراه بل يُقتل المأمور دون الاَمر, ويُضرب الاَمر ويُحبس. وقال أحمد في السيّد يأمر عبده أن يقتل رجلاً: يُقتل السيّد. وروي هذا القول عن عليّ بن أبي طالب وأبي هريرة رضي الله عنهما. وقال عليّ: ويُستودع العبد السجن. وقال أحمد: ويُحبس العبد ويُضرب ويؤدّب. وقال الثوريّ: يُعَزّر السيد. وقال الحكم وحمّاد: يُقتل العبد. وقال قتادة: يُقتلان جميعاً. وقال الشافعيّ: إن كان العبد فصيحاً يَعقِل قُتل العبد وعُوقب السيد وإن كان العبد أعجمِياّ فعلى السيّد القَود. وقال سليمان بن موسى: لا يُقتل الاَمر ولكن تُقطع يديه ثم يُعاقب ويُحبس ـ وهو القول الثاني ـ ويقتل المأمور للمباشرة. كذلك قال عطاء والحكم وحماد والشافعيّ وأحمد وإسحَق في الرجل يأمر الرجلَ بقتل الرجل وذكره ابن المنذر. وقال زُفَر: لا يُقتل واحد منهما ـ وهو القول الثالث ـ حكاه أبو المعالي في البرهان ورأى أن الاَمر والمباشر ليس كل واحد منهما مستقلاً في القَوَد فلذلك لا يُقتل واحد منهما عنده. والله أعلم.
الثانية عشرة: قرأ الجمهور «يذبّحون» بالتشديد على المبالغة. وقرأ ابن مُحَيْصِن «يَذْبَحون» بالتخفيف. والأولى أرجح إذ الذّبح متكرر. وكان فرعون على ما رُوِيَ قد رأى في منامه ناراً خرجت من بيت المَقْدِس فأحرقت بيوت مصر فاُوّلت له رؤياه: أن مولوداً من بني إسرائيل ينشأ فيكون خراب ملكه على يديه. وقيل غير هذا والمعنى متقارب.
الثالثة عشرة: قوله تعالى: {وَفِي ذَلِكُمْ} إشارة إلى جملة الأمر, إذ هو خبر فهو كمفرد حاضر أي وفي فعلهم ذلك بكم بلاء, أي امتحان واختبار. و {بَلاءٌ} نعمة ومنه قوله تعالى: {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً} الأنفال: 17. قال أبو الهيثم: البلاء يكون حَسَناً ويكون سيئاً, وأصله المِحنة والله عز وجل يبلو عبده بالصنع الجميل ليمتحن شكره, ويبلوه بالبلوَى التي يكرهها ليمتحن صبره فقيل للحَسَن بلاء, وللسّيئ بلاء حكاه الهَرَوِيّ. وقال قوم: الإشارة بـ «ـذلك» إلى التنجية فيكون البلاء على هذا في الخير, أي تنجيتكم نعمة من الله عليكم. وقال الجمهور: الإشارة إلى الذبح ونحوه, والبلاء هنا في الشر والمعنى: وفي الذبح مكروه وامتحان. وقال ابن كَيْسان: ويقال في الخير أبلاه الله وبلاه وأنشد:
جزَى اللّهُ بالإحسان ما فعلا بكم  وأبلاهما خيرَ البلاء الذي يَبلْوُ
فجمع بين اللغتين. والأكثر في الخير أبليته. وفي الشر بلوته, وفي الاختبار ابتليته وبلوته قاله النحاس.

قوله تعالى:
{وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ}
قوله تعالى: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ} «إذ» في موضع نصب. و «فَرَقْنَا» فلقنا فكان كل فِرْق كالطّوْد العظيم, أي الجبل العظيم. وأصل الفَرْق الفصل ومنه فَرْق الشّعر ومنه الفُرقان لأنه يفرق بين الحق والباطل أي يفصل ومنه: {فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً} (المرسلات: 4) يعني الملائكة تنزل بالفرق بين الحق والباطل ومنه: {يَوْمَ الْفُرْقَانِ} (الأنفال: 41) يعني يوم بَدْر, كان فيه فرق بين الحق والباطل, ومنه: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ} (الإسراء: 106) أي فصّلناه وأحكمناه. وقرأ الزّهْرِيّ: «فرّقنا» بتشديد الراء أي جعلناه فرقاً. ومعنى «بكم» أي لكم, فالباء بمعنى اللام. وقيل: الباء في مكانها أي فرقنا البحر بدخولكم إياه. أي صاروا بين الماءين, فصار الفرق بهم وهذا أوْلَى يبيّنه {فَانفَلَقَ} (الشعراء: 63).
قوله تعالى: {الْبَحْرَ} البحر معروف, سُمي بذلك لاتساعه. ويقال: فَرَسٌ بَحْرٌ إذا كان واسع الجَرْي أي كثيره. ومن ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في مَنْدُوبٍ فرس أبي طلحة: «وإنْ وجدناه لبحراً». والبحر: الماء الملح. ويقال: أبحر الماء: مَلُح قال نُصَيب:
وقد عاد ماءُ الأرض بَحْراً فزادني  إلى مَرَضِي أن أبْحَرَ المَشْربُ العذْبُ
والبحر: البلدة يقال: هذه بَحْرَتُنا أي بلدتنا. قاله الاُمويّ. والبَحَر: السّلال يصيب الإنسان. ويقولون: لقيته صَحْرَةً بَحْرَةً أي بارزاً مكشوفاً. وفي الخبر عن كعب الأحبار قال: إن لله ملَكاً يقال له: صندفاييل, البحار كلها في نقرة إبهامه. ذكره أبو نعيم عن ثور بن يزيد عن خالد بن مَعْدان عن كعب.
قوله تعالى: {فَأَنجَيْنَاكُمْ} أي أخرجناكم منه يقال: نجوت من كذا نجاء, ممدود, ونجاة, مقصور. والصدق منجاة. وأنجيت غيري ونجّيته وقرئ بهما «وإذ نجيناكم», «فأنجيناكم».
قوله تعالى: {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ} يقال: غَرق في الماء غَرَقاً فهو غَرِق وغارق أيضاً ومنه قول أبي النّجْم:
من بين مقتولٍ وطافٍ غارِقِ
وأغرقه غيره وغَرّقه فهو مغرّق وغريق. ولجام مغرّق بالفضة أي مُحَلّى. والتغريق: القتل قال الأعشى:
ألا ليت قَيْساً غَرّقته القوابل
وذلك أن القابلة كانت تغرّق المولود في ماء السّلَى عام القحط, ذكرا كان أو أنثى حتى يموت, ثم جعل كل قتل تغريقاً ومنه قول ذي الرّمة:
إذا غَرّقتْ أرباضُها ثِنْيَ بَكْرةٍ  بتَيْهَاءَ لم تُصبِح رَءُوماً سَلُوبُهَا
والأرباض: الحبال. والبَكْرة: الناقة الفتِيّة. وثِنْيُها: بطنها الثاني وإنما لم تعطف على ولدها لما لحقها من التعب.
القول في اختلاف العلماء في كيفيّة إنجاء بني إسرائيل: فذكر الطبري أن موسى عليه السلام اُوحِيَ إليه أن يسري من مصر ببني إسرائيل فأمرهم موسى أن يستعيروا الحليّ والمتاع من القبط, وأحلّ الله ذلك لبني إسرائيل فسرى بهم موسى من أول الليل فأعلم فرعون فقال: لا يتبعهم أحد حتى تصيح الدّيكَة, فلم يصِح تلك الليلة بمصر ديك وأمات الله تلك الليلة كثيراً من أبناء القبط فاشتغلوا في الدفن وخرجوا في الأتباع مشرقين كما قال تعالى: {فَأَتْبَعُوهُم مّشْرِقِينَ} (الشعراء: 60). وذهب موسى إلى ناحية البحر حتى بلغه. وكانت عِدّة بني إسرائيل نَيّفاً على ستمائة ألف. وكانت عِدّة فرعون ألف ألف ومائتي ألف. وقيل: إن فرعون اتّبعه في ألف ألف حصان سوى الإناث. وقيل: دخل إسرائيل ـ وهو يعقوب عليه السلام ـ مصر في ستة وسبعين نفساً من ولده وولد ولده فأنمى الله عددهم وبارك في ذرّيته حتى خرجوا إلى البحر يوم فرعون وهم ستمائة ألف من المقاتلة سوى الشيوخ والذرية والنساء. وذكر أبو بكر عبد اللّه بن محمد بن أبي شيبة قال حدّثنا شَبَابة بن سَوّار عن يونس بن أبي إسحَق عن أبي إسحَق عن عمرو بن ميمون عن عبد اللّه بن مسعود أن موسى عليه السلام حين أسرى ببني إسرائيل بلغ فرعون فأمر بشاة فذبحت, ثم قال: لا والله لا يفرغ من سلخها حتى تجتمع لي ستمائة ألف من القبط قال: فانطلق موسى حتى انتهى إلى البحر فقال له: افْرُق فقال له البحر: لقد استكبرت يا موسى! وهل فَرْقت لأحد من ولد آدم فأفرق لك! قال: ومع موسى رجل على حصان له قال: فقال له ذلك الرجل: أين اُمرتَ يا نبيّ الله؟ قال: ما اُمِرْتُ إلا بهذا الوجه قال: والله مَا كَذَبْتَ ولا كُذّبْتَ ثم اقتحم الثانية فسَبَح به حتى خرج فقال: أين اُمرت يا نبيّ الله؟ فقال: ما أمرتُ إلا بهذا الوجه قال: والله ما كَذَبْتَ ولا كُذّبْتَ قال فأوحى الله إليه: «أن اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ» فضربه موسى بعصاه {فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلّ فِرْقٍ كَالطّوْدِ الْعَظِيمِ} (الشعراء: 63). فكان فيه اثنا عشر فِرقاً, لاثني عشر سِبْطا, لكل سبط طريق يتراءون وذلك أن أطواد الماء صارفيها طيقاناً وشبابيك يرى منها بعضهم بعضاً فلما خرج أصحاب موسى وقام أصحاب فرعون التطم البحر عليهم فأغرقهم. ويذكر أن البحر هو بحر القُلْزم, وأن الرجل الذي كان مع موسى على الفرس هو فتاه يوشع بن نون. وأن الله تعالى أوحى إلى البحر أن انفرق لموسى إذا ضربك فبات البحر تلك الليلة يضطرب فحين أصبح ضرب البحر وكنّاه أبا خالد ذكره ابن أبي شيبة أيضاً. وقد أكثر المفسرون في قصص هذا المعنى وما ذكرناه كافٍ, وسيأتي في سورة «يونس, والشعراء» زيادة بيان إن شاء الله تعالى.
فصل: ذكر الله تعالى الإنجاء والإغراق, ولم يذكر اليوم الذي كان ذلك فيه: فروى مسلم عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود صياماً يوم عاشوراء فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما هذا اليوم الذي تصومونه» فقالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه وغَرّق فرعونَ وقومه, فصامه موسى شكراً فنحن نصومه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فنحن أحق وأولى بموسى منكم» فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه. وأخرجه البخاري أيضاً عن ابن عباس, وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «أنتم أحق بموسى منهم فصوموا».
مسألة: ظاهر هذا الأحاديث تدل على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما صام عاشوراء وأمر بصيامه اقتداء بموسى عليه السلام على ما أخبره به اليهود. وليس كذلك لما روته عائشة رضي الله عنها قالت: «كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه في الجاهلية فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه فلما فُرض رمضان ترك صيام يوم عاشوراء فمن شاء صامه ومن شاء تركه» أخرجه البخاريّ ومسلم.
فإن قيل: يحتمل أن تكون قريش إنما صامتة بإخبار اليهود لها لأنهم كانوا يسمعون منهم لأنهم كانوا عندهم أهل علم فصامه النبيّ عليه السلام كذلك في الجاهلية, أي بمكة فلما قدم المدينة ووجد اليهود يصومونه قال: «نحن أحقّ وأولى بموسى منكم» فصامه اتباعاً لموسى. «وأمر بصيامه» أي أوجبه وأكدّ أمره, حتى كانوا يصومونه الصغار. قلنا: هذه شبهة من قال: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم لعلّه كان متعبداً بشريعة موسى وليس كذلك, على ما يأتي بيانه في «الأنعام» عند قوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (الأنعام: 90).
مسألة: اختلِف في يوم عاشوراء هل هو التاسع من المحرّم أو العاشر؟ فذهب الشافعيّ إلى أنه التاسع لحديث الحكم بن الأعرج قال: انتهيت إلى ابن عباس رضي الله عنهما وهو متوَسّد رداءه في زمزم, فقلت له: أخبرني عن صوم عاشوراء فقال: إذا رأيت هلال المحرّم فاعدُد وأصْبِحْ يوم التاسع صائماً. قلت: هكذا كان محمد صلى الله عليه وسلم يصومه؟ قال نعم. خرّجه مسلم. وذهب سعيد بن المسيب والحسن البصري ومالك وجماعة من السلف إلى أنه العاشر. وذكر الترمذي حديث الحَكَم ولم يصفه بصحة ولا حسن. ثم أردفه: أنبأنا عبد الوارث عن يونس عن الحسن عن ابن عباس قال: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوم عاشوراء يوم العاشر» قال أبو عيسى: حديث ابن عباس حديث حسن صحيح. قال الترمذيّ: وروى عن ابن عباس أنه قال: صوموا التاسع والعاشر وخالفوا اليهود. وبهذا الحديث يقول الشافعيّ وأحمد بن حنبل وإسحَق. قال غيره: وقول ابن عباس للسائل: «فاعدُد وأصبح يوم التاسع صائماً» ليس فيه دليل على ترك صوم العاشر, بل وعد أن يصوم التاسع مضافاً إلى العاشر. قالوا: فصيام اليومين جَمْع بين الأحاديث. وقول ابن عباس للحَكَم لما قال له: هكذا كان محمد صلى الله عليه وسلم يصومه؟ قال: نعم. معناه أن لو عاش وإلا فما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم صام التاسع قطّ. يبيّنه ما خرّجه ابن ماجه في سُننه ومسلم في صحيحه عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لئن بَقِيت إلى قابلٍ لأصومّن اليوم التاسع».
فضيلة: روى أبو قتادة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «صيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفّر السّنة التي قبله» أخرجه مسلم والترمذيّ, وقال: لا نعلم في شيء من الروايات أنه قال: «صيام يوم عاشوراء كفّارة سنة» إلا في حديث أبي قتادة.
قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} جملة في موضع الحال, ومعناه بأبصاركم فيقال إن آل فرعون طفوا على الماء فنظروا إليهم يغرقون, وإلى أنفسهم ينجون ففي هذا أعظم المِنّة. وقد قيل: إنهم أخرجوا لهم حتى رأوهم. فهذه مِنّة بعد مِنّة. وقيل: المعنى «وأنتم تنظرون» أي ببصائركم الاعتبار لأنهم كانوا في شغل عن الوقوف والنظر بالأبصار. وقيل: المعنى وأنتم بحال من ينظر لو نظر كما تقول: هذا الأمر منك بمرأى ومسمع أي بحال تراه وتسمعه إن شئت. وهذا القول والأوّل أشبه بأحوال بني إسرائيل لتوالي عدم الاعتبار فيما صدر من بني إسرائيل بعد خروجهم من البحر وذلك أن الله تعالى لما أنجاهم وغرّق عدوّهم قالوا: يا موسى إن قلوبنا لا تطمئن, إن فرعون قد غَرِق! حتى أمر الله البحر فلفَظَه فنظروا إليه.
ذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن قيس بن عُبَاد: أن بني إسرائيل قالت: ما مات فرعون وما كان ليموت أبداً! قال: فلما أن سمع الله تكذيبهم نبيه عليه السلام, رمى به على ساحل البحر كأنه ثور أحمر يتراءاه بنو إسرائيل فلما أطمأنوا وبُعثوا من طريق البر إلى مدائن فرعون حتى نقلوا كنوزه وغرِقوا في النعمة, رأوا قوماً يَعكُفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلَهاً كما لهم آلهة حتى زجرهم موسى وقال: أغير الله أبغيكم إلَهاً وهو فضّلكم على العالمين أي عالمي زمانه. ثم أمرهم أن يسيروا إلى الأرض المقدّسة التي كانت مساكن آبائهم ويتطهروا من أرض فرعون. وكانت الأرض المقدّسة في أيدي الجبارين قد غُلبوا عليها فاحتاجوا إلى دفعهم عنها بالقتال فقالوا: أتريد أن تجعلنا لُحْمة للجبارين! فلو أنك تركتنا في يد فرعون كان خيراً لنا. قال: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأرْضَ المُقَدّسَةَ الّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ} (المائدة: 21) إلى قوله «قَاعِدُون» حتى دعا عليهم وسمّاهم فاسقين. فبقوا في التّيه أربعين سنة عقوبة ثم رحمهم فمنّ عليهم بالسّلْوَى وبالغمام ـ على ما يأتي بيانه ـ, ثم سار موسى إلى طُورِ سَيْناء ليجيئهم بالتوراة فاتخذوا العجل ـ على ما يأتي شأنه ـ, ثم قيل لهم: قد وصلتم إلى بيت المقدس فادخلوا الباب سُجّداً وقولوا حِطّة ـ على ما يأتي ـ, وكان موسى عليه السلام شديد الحياء سِتّيراً فقالوا: إنه آدر. فلما اغتسل وضع على الحجر ثوبه فعدا الحجر بثوبه إلى مجالس بني إسرائيل, وموسى على أثره عُريان وهو يقول: يا حجر ثوبي! فذلك قوله تعالى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالّذِينَ آذَوْاْ مُوسَىَ فَبرّأَهُ اللّهُ مِمّا قَالُواْ} (الأحزاب: 69) على ما يأتي بيانه ـ, ثم لما مات هارون قالوا له: أنت قتلت هارون وحسدته حتى نزلت الملائكة بسريره وهارون ميت عليه ـ وسيأتي في المائدة ـ, ثم سألوه أن يعلَموا آية في قبول قربانهم فجعلت نار تجيء من السماء فتقبل قربانهم ثم سألوه أنْ بيّن لنا كفارات ذنوبنا في الدنيا, فكان من أذنب ذنباً أصبح على بابه مكتوب: «عملت كذا, وكفارته قطع عضو من أعضائك» يسمّيه له ومن أصابه بول لم يطهر حتى يَقرِضه ويزيل جلدته من بدنه ثم بدّلوا التوراة وافتروا على الله وكتبوا بأيديهم واشتروْا به عَرَضاً ثم صار أمرهم إلى أن قتلوا أنبياءهم ورسلهم. فهذه معاملتهم مع ربّهم وسيرتهم في دينهم وسوء أخلاقهم. وسيأتي بيان كل فصل من هذه الفصول مستوفًى في موضعه إن شاء الله تعالى. وقال الطبري: وفي أخبار القرآن على لسان محمد عليه السلام بهذه المغيّبات التي لم تكن من علم العرب ولا وقعت إلا في حق بني إسرائيل دليل واضح عند بني إسرائيل قائم عليهم بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم.

قوله تعالى:
{وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَىَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمّ اتّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ}
فيه ست مسائل:
الأولى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَىَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} قرأ أبو عمرو «وَعَدْنَا» بغير ألفٍ, واختاره أبو عبيد ورجّحه وأنكر {وَاعَدْنَا} قال: لأن المواعدة إنما تكون من البشر, فأما الله جل وعز فإنما هو المنفرد بالوعد والوعيد. على هذا وجدنا القرآن كقوله عز وجل: {وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقّ} (إبراهيم: 14) وقوله: {وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ} (النور: 55), وقوله: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطّائِفَتِيْنِ أَنّهَا لَكُمْ} (الأنفال: 7). قال مكيّ: وأيضاً فإن ظاهر اللفظ فيه وَعْدٌ من الله تعالى لموسى, وليس فيه وعد من موسى فوجب حمله على الواحد, لظاهر النص أن الفعل مضاف إلى الله تعالى وحده وهي قراءة الحسن وأبي رجاء وأبي جعفر وشيبة وعيسى بن عمر وبه قرأ قتادة وابن أبي إسحَق. قال أبو حاتم: قراءة العامة عندنا «وعدنا» بغير ألف لأن المواعدة أكثر ما تكون بين المخلوقين والمتكافئين, كل واحد منهما يَعِد صاحبه. قال الجوهري: الميعاد: المواعدة والوقت والموضع. قال مكيّ: المواعدة أصلها من اثنين, وقد تأتي المفاعلة من واحد في كلام العرب قالوا: طارقت النّعل, وداويت العليل, وعاقبت اللص والفعل من واحد. فيكون لفظ المواعدة من الله خاصة لموسى كمعنى وعدنا فتكون القراءتان بمعنىً واحد. والاختيار {وَاعَدْنَا} بالألف لأنه بمعنى «وعدنا» في أحد معنييه, ولأنه لا بدّ لموسى من وعد أو قبول يقوم مقام الوعد فتصح المفاعلة. قال النحاس: وقراءة {وَاعَدْنَا} بالألف أجود وأحسن, وهي قراءة مجاهد والأعرج وابن كثير ونافع والأعمش وحمزة والكسائي وليس قوله عز وجل: {وَاعَدْنَا مُوسَىَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمّ اتّخَذْتُمُ} من هذا في شيء لأن {وَاعَدْنَا مُوسَىَ} إنما هو من باب الموافاة وليس هذا من الوعد والوعيد في شيء, وإنما هو من قولك: موعدك يوم الجمعة, وموعدك موضع كذا. والفصيح في هذا أن يقال: واعدته. قال أبو إسحَق الزجاج: {واعدنا} ها هنا بالألف جيّد لأن الطاعة في القبول بمنزلة المواعدة فمن الله جل وعز وَعْد, ومن موسى قبول واتباع يجري مجرى المواعدة. قال ابن عطية. ورجّح أبو عبيدة «وعدنا» وليس بصحيح لأن قبول موسى لوعد الله والتزامه وارتقابه يشبه المواعدة.
الثانية: قوله تعالى: {بِالْبِرّ} موسى اسم أعجمي لا ينصرف للعُجْمة والتعريف. والقبط على ـ ما يروى ـ يقولون للماء: مو, وللشجر: شا. فلما وُجِد موسى في التابوت عند ماء وشجر, سُمي موسى. قال السّدّي: لما خافت عليه أمّه جعلته في التابوت وألقته في اليَمّ ـ كما أوحى الله إليها ـ فألقته في اليَمّ بين أشجار عند بيت فرعون فخرج جواري آسية امرأة فرعون يغتسلن فوجدنه فسُمّيَ باسم المكان. وذكر النقاش وغيره: أن اسم التي التقطته صابوث. قال ابن إسحَق: وموسى هو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب إسرائيل الله بن إسحَق بن إبراهيم عليه السلام.
الثالثة: قوله تعالى: {أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} أربعين نصب على المفعول الثاني, وفي الكلام حذف قال الأخفش: التقدير وإذ واعدنا موسى تمام أربعين ليلة كما قال: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} (يوسف: 82) والأربعون كلها داخلة في الميعاد.
والأربعون في قول أكثر المفسرين: ذو القعدة وعشرة من ذي الحجة. وكان ذلك بعد أن جاوز البحر وسأله قومه أن يأتيهم بكتاب من عند الله فخرج إلى الطور في سبعين من خيار بني إسرائيل, وصعِدوا الجبل وواعدهم إلى تمام أربعين ليلة فعدّوا ـ فيما ذكر المفسرين ـ عشرين يوماً وعشرين ليلة, وقالوا قد أخلفنا موعده. فاتخذوا العجل وقال لهم السامريّ: هذا إلَهكم وإلَه موسى, فاطمأنوا إلى قوله. ونهاهم هارون وقال: {يَقَوْمِ إِنّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنّ رَبّكُمُ الرّحْمَـَنُ فَاتّبِعُونِي وَأَطِيعُوَاْ أَمْرِي قَالُواْ لَن نّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتّىَ يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَىَ} (طه: 90) فلم يتبع هارون ولم يطعه في ترك عبادة العجل إلا اثنا عشر ألفا فيما روي في الخبر. وتهافت في عبادته سائرهم وهم أكثر من ألفي ألف فلما رجع موسى ووجدهم على تلك الحال, ألقى الألواح فرفع من جملتها ستة أجزاء وبقي جزء واحد وهو الحلال والحرام وما يحتاجون وأحرق العجل وذراه في البحر فشربوا من مائه حُبّا للعجل فظهرت على شفاههم صفرة وورمت بطونهم فتابوا ولم تُقبل توبتهم دون أن يَقتلوا أنفسهم فذلك قوله تعالى: {فَتُوبُوَاْ إِلَىَ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوَاْ أَنفُسَكُمْ} (البقرة: 54). فقاموا بالخناجر والسيوف بعضهم إلى بعض من لَدُن طلوع الشمس إلى ارتفاع الضّحى فقتل بعضهم بعضاً, لا يسأل والد عن ولده ولا ولد عن والده, ولا أخ عن أخيه ولا أحد عن أحدٍ, كل من استقبله ضربه بالسيف وضربه الاَخر بمثله حتى عَجّ موسى إلى الله صارخاً: يا ربّاه, قد فنيت بنو إسرائيل! فرحمهم الله وجاد عليهم بفضله فقبل توبةَ من بقي وجعل مَن قُتل في الشهداء على ما يأتي.
الرابعة: إن قيل: لم خصّ الليالي بالذكر دون الأيام؟ قيل له: لأن الليلة أسبق من اليوم فهي قبله في الرتبة, ولذلك وقع بها التاريخ, فالليالي أوّل الشهور والأيام تَبَع لها.
الخامسة: قال النقاش: في هذه الآية إشارة إلى صلة الصوم لأنه تعالى لو ذكر الأيام لأمكن أن يعتقد أنه كان يفطر بالليل, فلما نصّ على الليالي اقتضت قوّة الكلام أنه عليه السلام واصل أربعين يوماً بلياليها. قال ابن عطية: سمعت أبي يقول: سمعت الشيخ الزاهد الإمام الواعظ أبا الفضل الجوهريّ رحمه الله يعظ الناس في الخلوة بالله والدُنو منه في الصلاة ونحوه, وأن ذلك يشغل عن كل طعام وشراب, ويقول: أين حال موسى في القرب من الله! ووِصال ثمانين من الدهر من قوله حين سار إلى الخضر لفتاه في بعض يوم: {آتِنَا غَدَاءَنَا} (الكهف: 62).
قلت: وبهذا استدل علماء الصوفية على الوصال, وأن أفضله أربعون يوماً. وسيأتي الكلام في الوصال في آي الصيام من هذه السورة إن شاء الله تعالى. ويأتي في «الأعراف» زيادة أحكام لهذه الآية عند قوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَىَ ثَلاَثِينَ لَيْلَةً} (الأعراف: 142), ويأتي لقصة العجل بيانٌ في كيفيته وخُواره هناك وفي «طه» إن شاء الله تعالى.
السادسة: قوله تعالى: {ثُمّ اتّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ} أي اتخذتموه إلَهاً من بعد موسى. وأصل ائتخذتم, من الأخذ, ووزنه افتعلتم, سهلت الهمزة الثانية لامتناع همزتين فجاء إيتخذتم, فاضطربت الياء في التصريف جاءت ألفاً في ياتخذ, وواواً في موتخذ, فبُدِلت بحرف جَلْد ثابت من جنس ما بعدها وهي التاء وأدغمت ثم اجتُلِبت ألف الوصل للنطق, وقد يستغنى عنها إذا كان معنى الكلام التقرير كقوله تعالى: {قُلْ أَتّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْداً} (البقرة: 80) فاستغنى عن ألف الوصل بألف التقرير قال الشاعر:
أسْتحدَثَ الرّكبُ عن أشياعهم خَبَراً أم راجع القلبَ من أطرابه طَرَبُ
ونحوه في القرآن: {أَطّلَعَ الْغَيْبَ} (مريم: 78). {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ} (الصافات: 153). {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ} (صَ: 75) ومذهب أبي عليّ الفارسيّ أن «اتخذتم», من تخذ لا من أخذ. {وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} جملة في موضع الحال. وقد تقدّم معنى الظلم. والحمد لله.

قوله تعالى:
{ثُمّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ}
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {ثُمّ عَفَوْنَا عَنكُمِ} العَفْوُ: عفوُ الله جل وعز عن خلقه وقد يكون بعد العقوبة وقبلها, بخلاف الغُفران فإنه لا يكون معه عقوبةٌ الْبَتّةَ. وكل من استحق عقوبة فتُرِكت له فقد عُفِيَ عنه. فالعفو: مَحْوُ الذنب أي محوْنا ذنوبكم وتجاوزنا عنكم. مأخوذ من قولك: عَفَتِ الريح الأثر أي أذهبته. وعفا الشيءُ: كثر. فهو من الأضداد ومنه قوله تعالى: {حَتّىَ عَفَوْاْ} (الأعراف: 95).
الثانية: قوله تعالى: {مّن بَعْدِ ذَلِكَ} أي من بعد عبادتكم العجل. وسُمّيَ العجل عجلاً لاستعجالهم عبادته. والله أعلم. والعجل: ولد البقرة. والعِجّول مثله, والجمع العجاجيل والأنثى عِجْلة. عن أبي الجرّاح.
الثالثة: قوله تعالى: {لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ} كي تشكروا عفو الله عنكم. وقد تقدّم معنى لعل. وأما الشكر فهو في اللغة الظهور من قوله: دابة شَكور إذا ظهر عليها من السّمَن فوق ما تُعْطَى من العَلَف. وحقيقته الثناء على الإنسان بمعروف يُولِيكه. كما تقدّم في الفاتحة. قال الجوهري: الشكر: الثناء على المحسن بما أوْلاكه من المعروف يقال: شكرته وشكرت له وباللام أفصح. والشكران: خلاف الكُفران. وتشكّرت له مثل شَكَرت له. وروى الترمذي وأبو داود عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا يشكر الله من لا يشكر الناس». قال الخطابي: هذا الكلام يتأوّل على معنيين: أحدهما ـ أن من كان من طبعه كفران نعمة الناس وترك الشكر لمعروفهم كان من عادته كفران نعمة الله عز وجل وترك الشكر له. والوجه الاَخر ـ أن الله سبحانه لا يقبل شكر العبد على إحسانه إليه إذ كان العبد لا يشكر إحسان الناس إليه ويكفر معروفهم لاتصال أحد الأمرين بالآخر.
الرابعة: في عبارات العلماء في معنى الشكر فقال سَهْل بن عبد اللّه: الشكر: الاجتهاد في بذل الطاعة مع الاجتناب للمعصية في السر والعلانية. وقالت فرقة أخرى: الشكر هو الاعتراف في تقصير الشكر للمنعم ولذلك قال تعالى: {اعْمَلُوَاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً} (سبأ: 13). فقال داود: كيف أشكرك يا رب, والشكر نعمة منك! قال: الاَن قد عرفتني وشكرتني إذ قد عرفت أن الشكر مني نعمة. قال: يا ربّ فأرني أخْفى نعمك عليّ. قال: يا داود تنفّس فتنفّس داود. فقال الله تعالى: مَن يُحصي هذه النعمة الليلَ والنهارَ. وقال موسى عليه السلام: كيف أشكرك وأصغر نعمة وضعتها بيدي من نعمك لا يجازي بها عملي كله! فأوحى الله إليه: يا موسى الاَن شكرتني. وقال الجُنَيْد: حقيقة الشكر العجز عن الشكر. وعنه قال: كنت بين يدي السّرِيّ السّقَطِيّ ألعب وأنا ابن سبع سنين وبين يديه جماعة يتكلمون في الشكر, فقال لي: يا غلام ما الشكر؟ فقلت: ألا يُعْصَى الله بنعمه. فقال لي: أخشى أن يكون حظك من الله لسانك. قال الجنيد: فلا أزال أبكي على هذه الكلمة التي قالها السِريّ لي. وقال الشبليّ: الشكر: التواضع والمحافظة على الحسنات, ومخالفة الشهوات وبذل الطاعات, ومراقبة جبّار الأرض والسموات. وقال ذو النّون المصريّ أبو الفَيْض: الشكر لمن فوقك بالطاعة, ولنظيرك بالمكافأة, ولمن دونك بالإحسان والإفضال.

قوله تعالى:
{وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ}
«إذ» اسم للوقت الماضي. و«إذا» اسم للوقت المستقبل. و«آتينا»: أعطينا. وقد تقدّم جميع هذا. والكتاب: التوراة بإجماع من المتأوّلين. واختلف في الفرقان فقال الفَرّاء وقُطْرُب: المعنى آتينا موسى التوراة, ومحمداً عليه السلام الفرقان. قال النحاس: هذا خطأ في الإعراب والمعنى أما الإعراب فإن المعطوف على الشيء مثله وعلى هذا القول يكون المعطوف على الشيء خلافه. وأما المعنى فقد قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىَ وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ} (الأنبياء: 48). قال أبو إسحَق الزجاج: يكون الفرقان هو الكتاب أعيد ذكره باسمين تأكيداً. وحكي عن الفرّاء ومنه قول الشاعر:
وقَدّمتِ الأدِيمَ لراهِشَيْهِ وألْفَى قولَها كذِباً ومَيْنَا
وقال آخر:
ألاَ حبّذا هِندٌ وأرضٌ بها هِندُ وهندٌ أتى من دونها النّاْيُ والبُعْدُ
فنسق البُعْد على النّأي, والمَيْنُ على الكذب لاختلاف اللفظين تأكيداً ومنه قول عنترة:
حُيّييتِ مِن طَلَل تقادَم عهدُه  أقْوَى وأقفرَ بعد أمّ الهيْثَمِ
قال النحاس: وهذا إنما يجيء في الشعر, وأحسن ما قيل في هذا قول مجاهد: فرقا بين الحق والباطل أي الذي علمه إياه. وقال ابن زيد: الفرقان انفراق البحر له حتى صار فَرِقاً فعبروا. وقيل: الفرقان الفرج من الكرب لأنهم كانوا مستعبدين مع القبط ومنه قوله تعالى: {إَن تَتّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لّكُمْ فُرْقَاناً} (الأنفال: 29) أي فرجا ومخرجاً. وقيل إنه الحجة والبيان. قاله ابن بحر. وقيل: الواو صلة, والمعنى آتينا موسى الكتاب الفرقان, والواو قد تزاد في النعوت كقولهم: فلان حسن وطويل وأنشد:
إلى المَلِك القَرْم وابن الهمام  وليثِ الكَتيبةِ في المُزْدَحمْ
أراد إلى الملك القرم ابن الهمام ليث الكتيبة. ودليل هذا التأويل قوله عزّ وجلّ: {ثُمّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَيْءٍ} (الأنعام: 154) أي بين الحرام والحلال والكفر والإيمان والوعد والوعيد, وغير ذلك. وقيل: الفرقان الفَرْق بينهم وبين قوم فرعون أنجى هؤلاء وأغرق أولئك. ونظيره: {يَوْمَ الْفُرْقَانِ} (الأنفال: 41). فقيل: يعني به يوم بَدْر نصر الله فيه محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابَه, وأهلك أبا جهل وأصحابه. {لَعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ} لكي تهتدوا من الضلالة. وقد تقدّم.

قوله تعالى:
{وَإِذْ قَالَ مُوسَىَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوَاْ إِلَىَ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوَاْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنّهُ هُوَ التّوّابُ الرّحِيمُ}.
قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَىَ لِقَوْمِهِ} القوم: الجماعة الرجال دون النساء قال الله تعالى: {لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ} (الحجرات: 10) ثم قال: {وَلاَ نِسَاءٌ مّن نّسَاءٍ} (الحجرات: 10). وقال زُهير:
وما أدرِي وسوف إخال أدرِي  أقومٌ آلُ حِصْنٍ أم نساءُ
وقال تعالى: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} (الأعراف: 80) أراد الرجال دون النساء. وقد يقع القوم على الرجال والنساء قال الله تعالى: {إِنّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىَ قَوْمِهِ} (نوح: 1) وكذا كل نبيّ مرسَل إلى النساء والرجال جميعاً.
قوله تعالى: {يَا قَوْمِ} منادَى مضاف. وحذفت الياء في «يا قَوْم» لأنه موضع حذف والكسرة تدل عليها وهي بمنزلة التنوين فحذفتها كما تحذف التنوين من المفرد. ويجوز في غير القرآن إثباتها ساكنة فتقول: يا قومي لأنها اسم وهي في موضع خفص. وإن شئت فتحتها وإن شئت ألحقت معها هاء فقلت: يا قومِيَهْ. وإن شئت أبدلت منها ألفاً لأنها أخفّ فقلت: يا قوماً, وإن شئت قلت: يا قوم بمعنى يأيها القوم. وإن جعلتهم نكرة نصبت ونوّنت. وواحد القوم امرؤ على غير اللفظ. وتقول: قوم وأقوام وأقاوم جمع الجمع. والمراد هنا بالقوم عَبَدة العجل, وكانت مخاطبته عليه السلام لهم بأمر من الله تعالى.
قوله تعالى: {إِنّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} استغنى بالجمع القليل عن الكثير والكثير نفوس. وقد يوضع الجمع الكثير موضع جمع القِلة, والقليل موضع الكثرة قال الله تعالى: {ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ} (البقرة:228). وقال: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ} (الزخرف: 71). ويقال لكل مَن فعل فعلا يعود عليه ضرره: إنما أسأتَ إلى نفسك. وأصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه. ثم قال تعالى: {بِاتّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} قال بعض أرباب المعاني: عجلُ كلّ إنسان نفسه فمن أسقطه وخالف مراده فقد برئ من ظلمه. والصحيح أنه هنا عجل على الحقيقة عبدوه كما نطق به التنزيل. والحمد لله.
قوله تعالى: {فَتُوبُوَاْ إِلَىَ بَارِئِكُمْ} لما قال لهم: فتوبوا إلى بارئكم قالوا: كيف؟ قال: {فَاقْتُلُوَاْ أَنفُسَكُمْ}. قال أرباب الخواطر: ذَلّلوها بالطاعات وكُفّوها عن الشهوات. والصحيح أنه قَتْلٌ على الحقيقة هنا. والقتل: إماتة الحركة. وقتلت الخمر: كسرت شدّتها بالماء. قال سفيان بن عُيَيْنة: التوبة نعمة من الله أنعم الله بها على هذه الأمة دون غيرها من الأمم وكانت توبة بني إسرائيل القتل. وأجمعوا على أنه لم يؤمر كل واحد من عبدة العِجل بأن يقتل نفسه بيده. قال الزّهْرِيّ: لما قيل لهم: {فَتُوبُوَاْ إِلَىَ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوَاْ أَنفُسَكُمْ} (البقرة: 54) قاموا صفّين وقتل بعضا حتى قيل لهم: كُفّوا. فكان ذلك شهادةً للمقتول وتوبةً للحيّ على ما تقدّم. وقال بعض المفسرين: أرسل الله عليهم ظلاماً ففعلوا ذلك. وقيل: وقف الذين عبدوا العجل صفّا, ودخل الذين لم يعبدوه عليهم بالسلاح فقتلوهم. وقيل: قام السبعون الذين كانوا مع موسى فقَتَلُوا ـ إذ لم يعبدوا العجل ـ مَن عبد العجل. ويروى أن يوشع بن نون خرج عليهم وهم مُحْتَبُون فقال: ملعون من حلّ حَبْوتَه أو مدّ طرفه إلى قاتله أو اتقاه بيد أو رِجل. فما حلّ أحد منهم حبوته حتى قتل منهم ـ يعني من قتل ـ وأقبل الرجل يقتل من يليه. ذكره النحاس وغيره. وإنما عوقب الذين لم يعبدوا العجل بقتل أنفسهم ـ على القول الأوّل ـ لأنهم لم يغيّروا المنكر حين عبدوه وإنما اعتزلوا, وكان الواجب عليهم أن يقاتلوا من عبده. وهذه سنة الله في عباده إذا فشا المنكر ولم يُغَيّر عوقب الجميع. روى جرِير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من قوم يُعمل فيهم بالمعاصي هم أعزّ منهم وأمنع لا يغيّرون إلا عَمّهم الله بعقاب». أخرجه ابن ماجه في سُننه. وسيأتي الكلام في هذا المعنى إن شاء الله تعالى. فلما اسْتَحَرّ فيهم القتل وبلغ سبعين ألفاً عفا الله عنهم. قاله ابن عباس وعليّ رضي الله عنهما. وإنما رفع الله عنهم القتل لأنهم أعطوا المجهود في قتل أنفسهم. فما أنعم الله على هذه الأمة نعمة بعد الإسلام هي أفضل من التوبة. وقرأ قتادة: فأقيلوا أنفسكم ـ من الإقالة ـ أي استقبلوها من العثرة بالقتل.
قوله تعالى: {بَارِئِكُمْ} البارىء: الخالق وبينهما فرق, وذلك أن البارىء هو المبدع المحدِث. والخالق هو المقدّر الناقل من حال إلى حال. والبَرِيّة: الخلق وهي فَعِيلة بمعنى مفعولة غير أنها لا تُهمز. وقرأ أبو عمرو «بارئكم» ـ بسكون الهمزة ـ ويشعركم وينصركم ويأمركم. واختلف النحاة في هذا فمنهم من يُسكن الضمة والكسرة في الوصل وذلك في الشعر. وقال أبو العباس المبرد: لا يجوز التسكين مع توالي الحركات في حرف الإعراب في كلام ولا شِعر. وقراءة أبي عمرو لحن. قال النحاس وغيره: وقد أجاز ذلك النحويون القدماء الأئمة وأنشدوا:
إذا اعْوَجَجْنَ قلتُ صاحبْ قَوّمِ  بالدّو أمثالَ السّفِين العُوّمِ
وقال امرؤ القيس:
فاليومَ أشربْ غيرَ مُسْتَحْقِ بٍإثْماً من الله ولا واغِلِ
وقال آخر:
التَ سُليمَى اشترْ لنا سَوِيقا
وقال الاَخر:
رُحتِ وفي رجليكِ ما فيهما وقد بدا هَنْكِ من المِئزرِ
فمن أنكر التسكين في حرف الإعراب فحجّته أن ذلك لا يجوز من حيث كان علما للإعراب. قال أبو عليّ: وأما حركة البناء فلم يختلف النحاة في جواز تسكينها مع توالي الحركات. وأصل برأ من تبرّى الشيء من الشيء وهو انفصاله منه. فالخلق قد فُصلوا من العدم إلى الوجود ومنه بَرَاْت من المرض بَرْءاً (بالفتح) كذا يقول أهل الحجاز. وغيرهم يقول: برِئت من المرض بُرْءاً (بالضم) وبرئت منك ومن الديون والعيوب براءة ومنه المبارأة للمرأة. وقد بارأ شريكه وامرأته.
قوله تعالى: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} في الكلام حذف, تقديره ففعلتم «فتاب عليكم» أي فتجاوز عنكم, أي على الباقين منكم. {إِنّهُ هُوَ التّوّابُ الرّحِيمُ} تقدّم معناه, والحمد لله.

قوله تعالى:
{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىَ لَن نّؤْمِنَ لَكَ حَتّىَ نَرَى اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمّ بَعَثْنَاكُم مّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ}
فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ} معطوف. {يَا مُوسَىَ} نداء مفرد. {لَن نّؤْمِنَ لَكَ} أي نصدّقك. {حَتّىَ نَرَى اللّهَ جَهْرَةً} قيل: هم السبعون الذين اختارهم موسى وذلك أنهم لما أسمعهم كلام الله تعالى قالوا له بعد ذلك: {لَن نّؤْمِنَ لَكَ}. والإيمان بالأنبياء واجب بعد ظهور معجزاتهم. فأرسل الله عليهم ناراً من السماء فأحرقهم ثم دعا موسى ربه فأحياهم كما قال تعالى: {ثُمّ بَعَثْنَاكُم مّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ}. وستأتي قصة السبعين في الأعراف إن شاء الله تعالى. قال ابن فُورَك: يحتمل أن تكون معاقبتهم لإخراجهم طلب الرؤية عن طريقه بقولهم لموسى: {أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً} (النساء: 153) وليس ذلك من مقدور موسى عليه السلام.
وقد اختُلِف في جواز رؤية الله تعالى فأكثر المبتدعة على إنكارها في الدنيا والاَخرة. وأهل السّنّة والسلف على جوازها فيهما ووقوعها في الاَخرة فعلى هذا لم يطلبوا من الرؤية محالاً وقد سألها موسى عليه السلام. وسيأتي الكلام في الرؤية في «الأنعام» و «الأعراف» إن شاء الله تعالى.
الثانية: قوله تعالى: {جَهْرَةً} مصدر في موضع الحال, ومعناه علانية. وقيل عِيانا قاله ابن عباس. وأصل الجهر الظهور ومنه الجهر بالقراءة إنما هو إظهارها. والمجاهرة بالمعاصي: المظاهرة بها. ورأيت الأمير جِهاراً وجهرة أي غير مستتر بشيء. وقرأ ابن عباس «جَهَرة» بفتح الهاء. وهما لغتان مثل زَهْرة وزَهَرة. وفي الجهر وجهان: أحدهما: أنه صفة لخطابهم لموسى أنهم جهروا به وأعلنوا فيكون في الكلام تقديم وتأخير والتقدير: وإذ قلتم جهرة يا موسى. الثاني: أنه صفة لما سألوه من رؤية الله تعالى أن يروه جهرة وعِيانا فيكون الكلام على نسقه لا تقديم فيه ولا تأخير. وأكّد بالجهر فرقاً بين رؤية العيان ورؤية المنام.
الثالثة: قوله تعالى: {فَأَخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ} قد تقدّم في أوّل السورة معنى الصاعقة. وقرأ عمر وعثمان وعليّ «الصّعْقة», وهي قراءة ابن مُحَيْصِن في جميع القرآن. {وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} جملة في موضع الحال. ويقال: كيف يموتون وهم ينظرون؟ فالجواب أن العرب تقول: دور آل فلان تراءى أي يقابل بعضها بعضاً. وقيل: المعنى «تنظرون» أي إلى حالكم وما نزل بكم من الموت وآثار الصعقة.
الرابعة: قوله تعالى: {ثُمّ بَعَثْنَاكُم مّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ} أي أحيينا. قال قتادة: ماتوا وذهبت أرواحهم ثُمّ ردوا لاستيفاء آجالهم. قال النحاس: وهذا احتجاج على من لم يؤمن بالبعث من قريش, واحتجاج على أهل الكتاب إذ خبروا بهذا, والمعنى {لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ} ما فعل بكم من البعث بعد الموت. وقيل: ماتوا مَوْتَ همودٍ يعتبر به الغير, ثم أرسلوا. وأصل البعث الإرسال. وقيل: بل أصله إثارة الشيء من محله يقال: بعثت الناقة: أثرتها, أي حركتها قال امرؤ القيس:
وفتيان صدْق قد بعثتُ بسُحْرة  فقاموا جميعاً بين عاثٍ ونَشْوان
وقال عنترة:
وصحابةٍ شُمّ الأنوف بعثتهم  ليلاً وقد مال الكرى بُطلاها
وقال بعضهم: {بَعَثْنَاكُم مّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ} علّمناكم من بعد جهلكم.
قلت: والأوّل أصح لأن الأصل الحقيقةُ, وكان موت عقوبة ومنه قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمّ أَحْيَاهُمْ إِنّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النّاسِ وَلَـَكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ } (البقرة: 243) على ما يأتي.
الخامسة: قال الماوَرْدِيّ: واختُلِف في بقاء تكليفَ من أعيد بعد موته ومعاينة الأحوال المضطرة إلى المعرفة على قولين: أحدهما: بقاء تكليفهم لئلا يخلو عاقل مِن تعبّد. الثاني: سقوط تكليفهم معتبراً بالاستدلال دون الاضطرار.
قلت: والأوّل أصح, فإن بني إسرائيل قد رأوا الجبل في الهواء ساقطاً عليهم والنار محيطة بهم وذلك مما اضطرهم إلى الإيمان, وبقاء التكليف ثابت عليهم ومثلهم قوم يونس. ومحال أن يكونوا غير مكلّفين. والله أعلم.

قوله تعالى:
{وَظَلّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنّ وَالسّلْوَىَ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـَكِن كَانُوَاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}
فيه ثمانية مسائل.
الأولى: قوله تعالى: {وَظَلّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} أي جعلناه عليكم كالظّلّة. والغمام جمع غمامة, كسحابة وسحاب قاله الأخفش سعيد. قال الفراء: ويجوز غمائم وهي السحاب لأنها تغمّ السماء أي تسترها وكل مغطّى فهو مغموم ومنه المغموم على عقله. وغُمّ الهلال إذا غطّاه الغَيْم. والغين مثل الغيم ومنه قوله عليه السلام: «إنه ليُغان على قلبي». قال صاحب العين: غِين عليه: غطّى عليه. والغَيْن: شجر ملتّف. وقال السّدّي: الغمام السحاب الأبيض. وفعل هذا بهم ليقيهم حرّ الشمس نهاراً, وينجلي في آخره ليستضيئوا بالقمر ليلاً. وذكر المفسرون أن هذا جرى في التّيه بين مصر والشام لما امتنعوا من دخول مدينة الجبّارين وقتالهم وقالوا لموسى: {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبّكَ فَقَاتِلا} (المائدة: 24). فعوقبوا في ذلك الفَحْصِ أربعين سنة يتيهون في خمسة فراسخ أو ستة. رُوي أنهم كانوا يمشون النهار كله وينزلون للمبيت فيصبحون حيث كانوا بكرة أمس. وإذ كانوا بأجمعهم في التّيه قالوا لموسى: مَن لنا بالطعام! فأنزل الله عليهم المنّ والسّلْوَى. قالوا: مَن لنا من حَرّ الشمس! فظلّل عليهم الغمام. قالوا: فبم نستصبح! فضرب لهم عمود نور في وسط محلّتهم. وذكر مكيّ: عمود من نار. قالوا: من لنا بالماء! فأمر موسى بضرب الحجر. قالوا: من لنا باللباس! فأعطوا ألاّ يبلى لهم ثوب ولا يَخْلَق ولا يدرَن وأن تنمو صغارها حسب نموّ الصبيان. والله أعلم.
الثانية: قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنّ وَالسّلْوَىَ} اختُلِف في المنّ ما هو وتعيينه على أقوال فقيل: التّرْنجبِين ـ بتشديد الراء وتسكين النون, ذكره النحاس, ويقال: الطّرْنجبِين بالطاء ـ وعلى هذا أكثر المفسرين. وقيل: صمغة حُلوة. وقيل عسل: وقيل شراب حلو. وقيل: خبز الرّقاق عن وهب بن مُنَبّه. وقيل: «المنّ» مصدر يعم جميع ما منّ الله به على عباده من غير تعب ولا زرع ومنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفَيل: «الكمأة من المنّ الذي أنزل الله على بني إسرائيل وماؤها شفاء للعين» في رواية «من المنّ الذي أنزل الله على موسى». رواه مسلم. قال علماؤنا: وهذا الحديث يدل على أن الكمأة مما أنزل الله على موسى». رواه مسلم. قال علماؤنا: وهذا الحديث يدل على أن الكمأة مما أنزل الله على بني إسرائيل أي مما خلقه الله لهم في التّيه. قال أبو عبيد: إنما شبهها بالمنّ لأنه لا مؤونة فيها ببذر ولا سقي ولا علاج فهي منه. أي مِن جنس مَنّ بني إسرائيل في أنه كان دون تكلّف. روي أنه كان ينزل عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس كالثلج فيأخذ الرجل ما يكفيه ليومه, فإن ادّخر منه شيئاً فسد عليه, إلا في يوم الجمعة فإنهم كانوا يدخرون ليوم السبت فلا يفسد عليهم لأن يوم السبت يوم عبادة, وما كان ينزل عليهم يوم السبت شيء.
الثالثة: لما نصّ عليه السلام على أن: «ماء الكمأة شفاء للعين» قال بعض أهل العلم بالطب: أما لتبريد العين من بعض ما يكون فيها من الحرارة فتستعمل بنفسها مفردة, وأما لغير ذلك فمركبة مع غيرها. وذهب أبو هريرة رضي الله عنه إلى استعمالها بحتاً في جميع مرض العين. وهذا كما استعمل أبو وَجْزَة العسلَ في جميع الأمراض كلّها حتى في الكحل, على ما يأتي بيانه في سورة «النحل» إن شاء الله تعالى. وقال أهل اللغة: الكمء واحد, وكمآن اثنان, وأكمؤ ثلاثة, فإذا زادوا قالوا: كمأة ـ بالتاء ـ على عكس شجرة وشجر. والمنّ اسم جنس لا واحد له من لفظه مثل الخير والشر قاله الأخفش.
الرابعة: قوله تعالى: {وَالسّلْوَىَ} اختُلِف في السّلْوَى, فقيل: هو السّمَانَى بعينه قاله الضحاك. قال ابن عطية: السّلْوَى طير بإجماع المفسرين وقد غَلِط الهُذَلي فقال:
وقاسمها بالله جَهْداً لأنْتُمُ  ألذّ من السّلوَى إذا ما نَشُورُهَا
ظنّ السلوى العسل.
قلت: ما ادّعاه من الإجماع لا يصح وقد قال المؤرّج أحد علماء اللغة والتفسير: إنه العسل واستدلّ ببيت الهذليّ, وذكر أنه كذلك بلغة كنانة سُمّيَ به لأنه يسلى به ومنه عين السّلوان وأنشد:
لو أشرب السّلوان ما سَلِيتُما بي غنىً عنكِ وإن غَنِيتُ
وقال الجوهري: والسلوى العسل وذكر بيت الهُذَليّ:
لذّ من السّلْوَى إذا ما نَشُورُهَا
ولم يذكر غلطا. والسّلوانة (بالضم): خرزة كانوا يقولون إذا صُبّ عليها ماء المطر فشربه العاشق سلا قال:
شربتُ على سُلوانةٍ ماءَ مُزْنةٍ  فلا وجديد العيشِ يا مَيّ ما أسْلُو
واسم ذلك الماء السّلوان. وقال بعضهم: السلوان دواء يُسقاه الحزين فيسلو والأطباء يسمونه المُفَرّح. يقال: سَلِيت وسلوتْ لغتان. وهو في سُلوة من العيش, أي في رغد عن أبي زيد.
الخامسة: واخْتُلِف في السّلْوَى هل هو جمع أو مفرد فقال الأخفش: جمع لا واحد له من لفظه مثل الخير والشر وهو يشبه أن يكون واحده سَلْوَى مثل جماعته كما قالوا: دِفْلَى للواحد والجماعة, وسُمَانَى وشُكاعَى في الواحد والجميع. وقال الخليل: واحده سَلواة وأنشد:
وإني لتعروني لذكرك هزةٌ  كما انتفض السّلواة من بلل القطر
وقال الكسائي: السّلْوَى واحدة, وجمعه سلاوي.
السادسة: «السّلْوَى» عطفٌ على «المنّ», ولم يظهر فيه الإعراب, لأنه مقصور. ووجب هذا في المقصور كله لأنه لا يخلو من أن يكون في آخره ألف. قال الخليل: والألف حرف هوائي لا مستقرّ له فأشبه الحركة فاستحالت حركته. وقال الفرّاء: لو حرّكت الألف صارت همزة.
السابعة: قوله تعالى: {كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} «كلوا» فيه حذف, تقديره وقلنا كلوا فحذف اختصاراً لدلالة الظاهر عليه. والطيبات هنا قد جمعت الحلال واللذيذ.
الثامنة: قوله تعالى: {وَمَا ظَلَمُونَا} يقدّر قبله فعصوا ولم يقابلوا النّعم بالشكر. {وَلَـَكِن كَانُوَاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} لمقابلتهم النعم بالمعاصي.

قوله تعالى:
{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجّداً وَقُولُواْ حِطّةٌ نّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ}
فيه تسع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـَذِهِ الْقَرْيَةَ} حُذفت الألف من «قلنا» لسكونها وسكون الدال بعدها, والألف التي يُبتدأ بها قبل الدال ألف وصل لأنه من يدخل.
الثانية: قوله تعالى: {هَـَذِهِ الْقَرْيَةَ} أي المدينة سُمّيت بذلك لأنها تقرّت أي اجتمعت ومنه قَرَيت الماء في الحوض أي جمعته واسم ذلك الماء قِرًى (بكسر القاف) مقصور. وكذلك ما قُرِيَ به الضيف قاله الجوهري. والمِقْراة للحوض. والقَرِيّ لمسيل الماء. والقَرَا للظهر ومنه قوله:
لاحِقُ بطنٍ بِقَراً سمينِ
والمقارِي: الجِفان الكبار قال:
عظام المقاري ضيفهم لا يُفْزّع
وواحد المقاري مِقراة وكله بمعنى الجمع غير مهموز. والقِرية (بكسر القاف) لغة اليمن. واختُلف في تعيينها فقال الجمهور: هي بيت المقدس. وقيل: أرِيحاء من بيت المقدس. قال عمر بن شَبّة: كانت قاعدة ومسكن ملوك. ابن كَيْسَان: الشام. الضحاك: الرّمْلة والاُرْدُنّ وفلسطين وتَدْمُر. وهذه نعمة أخرى, وهي أنه أباح لهم دخول البلدة وأزال عنهم التّيه.
الثالثة: قوله تعالى: {فَكُلُواْ} إباحة. و {رَغَداً} كثيراً واسعاً وهو نعت لمصدر محذوف أي أكلاً رَغَداً. ويجوز أن يكون في موضع الحال على ما تقدّم. وكانت أرضاً مباركة عظيمة الغَلّة, فلذلك قال: «رغدا».
الرابعة: قوله تعالى: {وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجّداً} الباب يُجمع أبواباً وقد قالوا: أبْوِبَة للازدواج قال الشاعر:
هتّاك أخْبيةٍ ولاّج أبوِبَة  يَخْلِط بالبِرّ منه الجِدّ واللّينا
ولو أفرده لم يجز. ومثله قوله عليه السلام: «مرحبا بالقوم ـ أو بالوفد ـ غير خَزَايا ولا نَدَامَى». وتبوّبت بوّابا اتخذته. وأبواب مبوّبة كما قالوا: أصناف مُصنّفة. وهذا شيء من بابَتِك أي يصلح لك. وقد تقدّم معنى السجود فلا معنى لإعادته. والحمد لله.
والباب الذي أمِروا بدخوله هو باب في بيت المقدس يعرف اليوم بـ «باب حِطّة» عن مجاهد وغيره. وقيل: باب القُبّة التي كان يصلي إليها موسى وبنو إسرائيل. و «سجداً» قال ابن عباس: منحنين ركوعا. وقيل: متواضعين خضوعاً لا على هيئة متعينة.
الخامسة: قوله تعالى: {وَقُولُواْ} عطف على ادخلوا. و{حِطّةٌ} بالرفع قراءة الجمهور على إضمار مبتدأ, أي مسألتنا حطة, أو يكون حكاية. قال الأخفش: وقرئت «حِطّةً» بالنصب, على معنى احطط عنا ذنوبنا حِطة. قال النحاس: جاء الحديث عن ابن عباس أنه قيل لهم: قولوا لا إلَه إلا الله, وفي حديث آخر عنه قيل لهم: قولوا مغفرة ـ تفسير للنصب أي قولوا شيئاً يحط ذنوبكم كما يقال: قل خيراً. والأئمة من القراء على الرفع. وهو أولى في اللغة لما حكي عن العرب في معنى بدّل, قال أحمد بن يحيى: يقال بدّلته أي غيرته ولم أزِل عينه. وأبدلته أزلت عينه وشخصه كما قال:
عَزْل الأمير للأمير المُبْدَل
وقال الله عز وجل: {قَالَ الّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـَذَآ أَوْ بَدّلْهُ}. (يونس: 15) وحديث ابن مسعود قالوا: «حِطّة» تفسير على الرفع. هذا كله قول النحاس. وقال الحسن وعكرمة: «حِطّةً» بمعنى حُطّ ذنوبنا اُمِروا أن يقولوا: لا إلَه إلا الله ليحطّ بها ذنوبهم. وقال ابن جبير: معناه الاستغفار. أبان بن تَغْلِب: التوبة قال الشاعر:
فاز بالحطة التي جعل اللّــه بها ذنب عبده مغفورا
وقال ابن فارس في المُجْمَل: «حِطّة» كلمة أمر بها بنو إسرائيل لو قالوها لحطّت أوزارهم. وقاله الجوهري أيضاً في الصحاح.
قلت: يحتمل أن يكونوا تعبّدوا بهذا اللفظ بعينه, وهو الظاهر من الحديث. روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قيل لبني إسرائيل ادخلوا الباب سُجّداً وقولوا حِطّةٌ يُغفر لكم خطاياكم (فبدّلوا) فدخلوا الباب يَزْحَفُون على أستاههم وقالوا حَبّةٌ في شَعرة». وأخرجه البخاري وقال: «فبدلوا وقالوا حِطّةَ حبّةٌ في شعرة» في غير الصحيحين: «حنطة في شَعَر». وقيل: هِطّا سُمْهاثا. وهي لفظة عبرانية, تفسيرها: حنطة حمراء حكاها ابن قتيبة, وحكاه الهروِي عن السدّي ومجاهد. وكان قصدهم خلاف ما أمرهم الله به فعصوا وتمرّدوا واستهزئوا فعاقبهم الله بالرجز وهو العذاب. وقال ابن زيد: كان طاعونا أهلك منهم سبعين ألفاً. ورُوِيَ أن الباب جُعل قصيراً ليدخلوه ركّعاً فدخلوه متورّكين على أستاههم. والله أعلم.
السادسة: استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن تبديل الأقوال المنصوص عليها في الشريعة لا يخلو أن يقع التعبّد بلفظها أو بمعناها فإن كان التعبّد وقع بلفظها فلا يجوز تبديلها لذمّ الله تعالى مَن بدّل ما أمره بقوله. وإن وقع بمعناها جاز تبديلها بما يؤدّي إلى ذلك المعنى ولا يجوز تبديلها بما يخرج عنه.
وقد اختلف العلماء في هذا المعنى فحُكِيَ عن مالك والشافعيّ وأبي حنيفة وأصحابهم أنه يجوز للعالم بمواقع الخطاب البصير بآحاد كلماته نقل الحديث بالمعنى لكن بشرط المطابقة للمعنى بكماله وهو قول الجمهور. ومنع ذلك جمعٌ كثير من العلماء منهم ابن سِيرين والقاسم بن محمد ورجاء بن حَيْوَة. وقال مجاهد: انْقُصْ من الحديث إن شئت ولا تزد فيه. وكان مالك بن أنس يشدّد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في التاء والياء ونحو هذا. وعلى هذا جماعة من أئمة الحديث لا يرون إبدال اللفظ ولا تغييره حتى إنهم يسمعون ملحوناً ويعلمون ذلك ولا يغيّرونه. وروى أبو مِجْلَز عن قيس بن عُبَاد قال: قال عمر بن الخطاب: مَن سمع حديثاً فحدّث به كما سمع فقد سلم. وروي نحوه عن عبد اللّه بن عمرو وزيد بن أرقم. وكذا الخلاف في التقديم والتأخير والزيادة والنقصان فإن منهم من يعتدّ بالمعنى ولا يعتدّ باللفظ, ومنهم من يشدّد في ذلك ولا يفارق اللفظ. وذلك هو الأحوط في الدّين والأتقى والأولى ولكن أكثر العلماء على خلافه. والقول بالجواز هو الصحيح إن شاء الله تعالى وذلك أن المعلوم من سيرة الصحابة رضي الله عنهم هو أنهم كانوا يروون الوقائع المتحدة بألفاظ مختلفة, وما ذاك إلا أنهم كانوا يصرفون عنايتهم للمعاني ولم يلتزموا التكرار على الأحاديث ولا كتبها. وروي عن واثلة بن الأسْقَع أنه قال: ليس كل ما أخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم نقلناه إليكم حسبكم المعنى. وقال قتادة عن زُرارة بن أوْفَى: لقيت عدّة من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم فاختلفوا عليّ في اللفظ واجتمعوا في المعنى. وكان النّخَعِيّ والحسن والشعبيّ رحمهم الله يأتون بالحديث على المعاني. وقال الحسن: إذا أصبت المعنى أجزأك. وقال سفيان الثورِيّ رحمه الله: إذا قلت لكم إني أحدثكم كما سمعت فلا تصدّقوني إنما هو المعنى وقال وَكِيع رحمه الله: إن لم يكن المعنى واسعاً فقد هلك الناس. واتفق العلماء على جواز نقل الشرع للعجم بلسانهم وترجمته لهم وذلك هو النقل بالمعنى. وقد فعل الله ذلك في كتابه فيما قص من أنباء ما قد سلف, فقصّ قِصصاً ذكر في مواضع بألفاظ مختلفة والمعنى واحد, ونقلها من ألسنتهم إلى اللسان العربيّ وهو مخالف لها في التقديم والتأخير, والحذف والإلغاء, والزيادة والنقصان. وإذا جاز إبدال العربية بالعجمية فَلأن يجوز بالعربية أوْلى. احتج بهذا المعنى الحسن والشافعيّ, وهو الصحيح في الباب.
فإن قيل: فقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «نَضّر الله امرأً سمع مقالتي فبلّغها كما سمعها» وذكر الحديث. وما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر رجلاً أن يقول عند مضجعه في دعاء علمه: «آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيّك الذي أرسلت» فقال الرجل: ورسولك الذي أرسلت فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ونبيّك الذي أرسلت». قالوا: أفلا ترى أنه لم يسوّغ لمن علمه الدعاء مخالفة اللفظ وقال: «فأدّاها كما سمعها». قيل لهم: أما قوله: «فأدّاها كما سمعها» فالمراد حكمها لا لفظها لأن اللفظ غير معتدّ, به. ويدلّك على أن المراد من الخطاب حكمه قوله: «فرُبّ حامِل فقه غير فقيه ورُبّ حامِل فقه إلى من هو أفقه منه». ثم إن هذا الحديث بعينه قد نقل بألفاظ مختلفة والمعنى واحد وإن أمكن أن يكون جميع الألفاظ قول النبيّ صلى الله عليه وسلم في أوقات مختلفة لكن الأغلب أنه حديث واحد نقل بألفاظ مختلفة وذلك أدلّ دليل على الجواز. وأما ردّه عليه السلام الرجلَ من قوله: «ورسولك ـ إلى قوله ـ ونبيك» لأن لفظ النبيّ صلى الله عليه وسلم أمدح ولكل نعت من هذين النعتين موضع. ألا ترى أن اسم الرسول يقع على الكافة, واسم النبيّ لا يستحقه إلا الأنبياء عليهم السلام! وإنما فُضّل المرسلون من الأنبياء لأنهم جمعوا النبوّة والرسالة. فلما قال: «ونبيك», جاء بالنعت الأمدح, ثم قيّده بالرسالة بقوله: «الذي أرسلت». وأيضاً فإن نقله من قوله «ورسولك ـ إلى قوله ـ ونبيك» لأن لفظ النبي صلى الله عليه وسلم أمدح ولكل نعت من هذين النعتين موضع ألا ترى أن اسم الرسول يقع على الكافة, واسم النبي لا يستحقه إلا الأنبياء عليهم السلام! وإنما فُضّل المرسلون من الأنبياء لأنهم جمعوا النبوة والرسالة. فلما قال: «ونبيك» جاء بالنعت الأمدح, ثم قيده بالرسالة بقوله: «الذي أرسلت». وأيضاً فإن نقله من قوله: «ورسولك ـ إلى قوله ـ ونبيك» ليجمع بين النبوّة والرسالة. ومستقبح في الكلام أن تقول: هذا رسول فلان الذي أرسله, وهذا قتيل زيد الذي قتله لأنك تجتزئ بقولك: رسول فلان, وقتيل فلان عن إعادة المرسل والقاتل إذ كنت لا تفيد به إلا المعنى الأوّل. وإنما يحسن أن تقول: هذا رسول عبد اللّه الذي أرسله إلى عمرو, وهذا قتيل زيد الذي قتله بالأمس أو في وقعة كذا. والله وليّ التوفيق.
فإن قيل: إذا جاز للرّاوي الأوّل تغيير ألفاظ الرسول عليه السلام جاز للثاني تغيير ألفاظ الأوّل, ويؤدّي ذلك إلى طمس الحديث بالكلية لدقة الفروق وخفائها. قيل له: الجواز مشروط بالمطابقة والمساواة كما ذكرنا فإن عُدمت لم يجز. قال ابن العربيّ: الخلاف في هذه المسألة إنما يُتصوّر بالنظر إلى عصر الصحابة والتابعين لتساويهم في معرفة اللغة الجِبِلّية الذّوقية وأما من بعدهم فلا نشك في أن ذلك لا يجوز إذ الطباع قد تغيّرت, والفهوم قد تباينت, والعوائد قد اختلفت وهذا هو الحق. والله أعلم.
قال بعض علمائنا: لقد تعاجم ابن العربيّ رحمه الله فإن الجواز إذا كان مشروطاً بالمطابقة فلا فرق بين زمن الصحابة والتابعين وزمن غيرهم ولهذا لم يفصّل أحد من الأصوليين ولا أهل الحديث هذا التفصيل. نعم, لو قال: المطابقة في زمنه أبعد كان أقرب, والله أعلم.
السابعة: قوله تعالى: {نّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} قراءة نافع بالياء مع ضمها. وابن عامر بالتاء مع ضمها, وهي قراءة مجاهد. وقرأها الباقون بالنون مع نصبها, وهي أبينها لأن قبلها {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ} فجرى {نّغْفِرْ} على الإخبار عن الله تعالى والتقدير وقلنا ادخلوا الباب سُجّداً نغفر, ولأن بعده {وَسَنَزِيدُ} بالنون. و {خَطَايَاكُمْ} اتباعاً للسواد وأنه على بابه. ووجه من قرأ بالتاء أنه أنث لتأنيث لفظ الخطايا لأنها جمع خطيئة على التكسير. ووجه القراءة بالياء أنه ذكر لما حال بين المؤنث وبين فعله على ما تقدّم في قوله: {فَتَلَقّىَ آدَمُ مِن رّبّهِ كَلِمَاتٍ}. وحَسُن الياء والتاء وإن كان قبله إخبار عن الله تعالى في قوله: {وَإِذْ قُلْنَا} لأنه قد عُلِم أن ذنوب الخاطئين لا يغفرها إلا الله تعالى فاستغنى عن النون وردّ الفعل إلى الخطايا المغفورة.
 الثامنة: واختلف في أصل خطايا جمع خطيئة بالهمزة فقال الخليل: الأصل في خطايا أن يقول: خطاييء. ثم قلب فقيل: خطائي بهمزة بعدها ياء, ثم تبدل من الياء ألفاً بدلاً لازماً فتقول: خطاءاً فلما اجتمعت ألفان بينهما همزة والهمزة من جنس الألف صرت كأنك جمعت بين ثلاث ألفات, فأبدلت من الهمزة ياء فقلت: خطايا. وأما سيبويه فمذهبه أن الأصل مثل الأوّل خطايىء, ثم وجب بهذه أن تهمز الياء كما همزتها في مدائن فتقول: خطائىء, ولا تجتمع همزتان في كلمة فأبدلت من الثانية ياء فقلت: خطائي, ثم عملت كما عملت في الأول. وقال الفرّاء: خطايا جمع خطية بلا همز كما تقول: هديّة وهدايا. قال الفراء: ولو جمعت خطيئة مهموزة لقلت: خطاءا. وقال الكسائي: لو جمعتها مهموزة أدغمت الهمزة في الهمزة كما قلت: دواب.
التاسعة: قوله تعالى: {وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} أي في إحسان من لم يعبد العجل. ويقال: يغفر خطايا من رفع المنّ والسّلْوَى للغد, وسنزيد في إحسان من لم يرفع للغد. ويقال: يغفر خطايا من هو عاص, وسيزيد في إحسان من هو محسن أي نزيدهم إحساناً على الإحسان المتقدّم عندهم. وهو اسم فاعل من أحسن. والمحسن: من صحح عقد توحيده, وأحسن سياسة نفسه, وأقبل على أداء فرائضه, وكفى المسلمين شرّه. وفي حديث جبريل عليه السلام: «ما الإحسان قال أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك قال صدقت» وذكر الحديث. خرّجه مسلم.

قوله تعالى:
{فَبَدّلَ الّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مّنَ السّمَاءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ}
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {فَبَدّلَ الّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً} «الذين» في موضع رفع أي فبدّل الظالمون منهم قولا غير الذي قيل لهم. وذلك أنه قيل لهم: قولوا حِطّة فقالوا حنطة, على ما تقدم فزادوا حرفاً في الكلام فلقوا من البلاء ما لقوا تعريفاً أن الزيادة في الدّين والابتداع في الشريعة عظيمة الخطر شديدة الضرر. هذا في تغيير كلمة هي عبارة عن التوبة أوجبت كل ذلك من العذاب فما ظنك بتغيير ما هو من صفات المعبود! هذا والقول أنقص من العمل, فكيف بالتبديل والتغيير في الفعل.
الثانية: قوله تعالى: {فَبَدّلَ} تقدم معنى بدّل وأبدل وقُرئ «عَسَى رَبّنَا أنْ يُبْدِلَنَا» على الوجهين. قال الجوهري: وأبدلت الشيء بغيره. وبدّله الله من الخوف أمْناً. وتبديل الشيء أيضاً تغييره وإن لم يأت ببدَل. واستبدل الشيء بغيره, وتبدّله به إذا أخذه مكانه. والمبادلة التبادل. والأبدال: قوم من الصالحين لا تخلو الدنيا منهم إذا مات واحد منهم أبدل الله مكانه بآخر. قال ابن دُرَيد: الواحد بديل. والبدِيل: البدل. وبدَلُ الشيء: غيره يقال: بَدَلٌ وبِدْلٌ, لغتان مثل: شَبَه وشِبْه, ومَثَل ومِثْل, ونَكَل ونِكْل. قال أبو عبيد: لم يُسمع في فَعَل وفِعْل غير هذه الأربعة الأحرف. والبَدَل: وَجَع يكون في اليدين والرجلين. وقد بَدِل (بالكسر) يَبْدَلُ بَدَلاً.
الثالثة: قوله تعالى: {فَأَنزَلْنَا عَلَى الّذِينَ ظَلَمُواْ} كرر لفظ «ظلموا» ولم يضمره تعظيماً للأمر. والتكرير يكون على ضربين أحدهما: استعماله بعد تمام الكلام كما في هذه الآية وقوله: {فَوَيْلٌ لّلّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ}, ثم قال بعدُ: {فَوَيْلٌ لّهُمْ مّمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} (البقرة: 79) ولم يقل: مما كتبوا. وكرر الويل تغليظاً لفعلهم ومنه قول الخنساء:
تَعَرّقني الدهرُ نَهْساً وحَزّا  وأوجعني الدهرُ قَرْعاً وغَمْزَا
أرادت أن الدهر أوجعها بكبريات نوائبه وصغرياتها. والضرب الثاني: مجيء تكرير الظاهر في موضع المضمر قبل أن يتم الكلام كقوله تعالى: {الْحَاقّةُ مَا الْحَآقّةُ} (الحاقة: 1 ـ 2) و{الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ}. (القارعة: 1 ـ 2) كان القياس لولا ما أريد به من التعظيم والتفخيم: الحاقة ما هي, والقارعة ما هي, ومثله: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} (الواقعة: 8 ـ 9). كرر {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} تفخيماً لما ينيلهم من جزيل الثواب وكرر لفظ «أصحاب المشأمة» لما ينالهم من أليم العذاب. ومن هذا الضرب قول الشاعر:
ليتَ الغرابَ غداةَ ينعَبُ دائباً  كان الغرابُ مقطّع الأوداج
وقد جمع عَدِيّ بن زيد المعنيين فقال:
لا أرى الموتَ يسبِقُ الموتَ شيءٌ نغّص الموتُ ذا الغِنَى والفقيرا
فكرر لفظ الموت ثلاثاً, وهو من الضرب الأوّل ومنه قول الاَخر:
لا حبّذا هندٌ وأرضٌ بها هندُ وهندٌ أتى مِن دونها النّاْيُ والبُعْدُ
فكرر ذكر محبوبته ثلاثاً تفخيماً لها.
الرابعة: قوله تعالى: {رِجْزاً} قراءة الجماعة «رِجْزاً» بكسر الراء, وابن مُحَيْصِن بضم الراء. والرجز: العذاب (بالزاي), و (بالسين): النّتْن والقَذَر ومنه قوله تعالى: {فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىَ رِجْسِهِمْ} (التوبة: 125) أي نَتْناً إلى نَتْنِهم قاله الكِسائي. وقال الفرّاء: الرّجْز هو الرّجْس. قال أبو عبيد: كما يقال السّدْغ والزّدْغ, وكذا رِجْس ورِجْز بمعنًى. قال الفرّاء: وذكر بعضهم أن الرّجز (بالضم): اسم صنم كانوا يعبدونه وقرئ بذلك في قوله تعالى: {وَالرّجْزَ فَاهْجُرْ} (المدثر: 5). والرّجَز (بفتح الراي والجيم): نوع من الشّعْر وأنكر الخليل أن يكون شِعراً. وهو مشتق من الرّجَز وهو داء يصيب الإبل في إعجازها, فإذا ثارت ارتعشت أفخاذها. {بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} أي بفسقهم. والفِسْق الخروج, وقد تقدّم. وقرأ ابن وَثّاب والنّخَعِيّ: {يَفْسُقُونَ} بكسر السين.

=============================

ويليه "الرُبع": الرابع بمشيئة الرحمن