الوجيز في "الشرط الجزائي"
وبيان مصيره في حالة زوال العقد بتقرير بطلانه أو فسخه
مع تطبيقات قضائية لمحكمة النقض المصرية ومحكمة التمييز الكويتية
مُقدمة
الحمد لله وسلاماً على عباده الذين أصطفى.
يقول الله تعالى في القرآن الكريم: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ }.([1])
والمقصود بالعقود في الآية – كما جاء في تفسير الجلالين – العهود المؤكدة التي بينكم وبين الله والناس.
وورد في التفسير الميسر لتلك الآية: "يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, أتِمُّوا عهود الله الموثقة, من الإيمان بشرائع الدين, والانقياد لها, وأَدُّوا العهود لبعضكم على بعض من الأمانات, والبيوع وغيرها, مما لم يخالف كتاب الله, وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ...".
ولما كان "الشرط" في العقد، هو جزء من العقد، الذي أُمِرَ المؤمنون بالوفاء به، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد قال في الحديث الشريف: "المسلمون على شروطهم، إلا شرط حرم حلالاً أو أحل حراماً".([2])
وورد عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه قوله: "مقاطع الحقوق عند الشروط".
وفي الشريعة السمحاء، الأصل في الشروط "الصحة"، وأنه لا يحرُم منها ويبطل، إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله نصاً أو قياساً.
هذا، وقد أُثِرَ عن فضيلة الشيخ/ محمد أبو زهرة (شيخ الأزهر الأسبق) قوله: "أن الصفقات التجارية قد أتسع أفقها وتشعبت أنواعها، وتنوع بحسب العرف التجاري ما يشترطه العاقدون، حتى وجدت عقود لم تكن، وتفنن الناس في الشروط تفنناً باعد بين العقود وأصولها المذكورة في كتب الفقه، ولو حكمنا ببطلان تلك العقود وفساد هاتيك الشروط لصار الناس في حرج وضيق، ولشلت الحركة في الأسواق، ولتقطعت العلاقات التجارية بين الناس، بل لتقطعت الأسباب، فلا تنمو ثروات آحاد الناس، ولا تنمو ثروة الجماعات".([3])
وفي القول بتصحيح الشرط الجزائي سد لأبواب الفوضى والتلاعب بحقوق عباد الله، وسبب من أسباب الحفز على الوفاء بالعهود والعقود؛ تحقيقاً لقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود". لذا فقد قررت هيئة كبار العلماء في تاريخ 26/9/2005 بخصوص الشرط الجزائي ما يلي: "إن الشرط الجزائي الذي يجري اشتراطه في العقود شرط صحيح مُعتبر، يجب الأخذ به، ما لم يكن هناك عذر في الإخلال بالالتزام الموجب له يُعتبر شرعاً، فيكون العذر مُسقطاً لوجوبه حتى يزول. وإذا كان الشرط الجزائي كثيراً عرفاً، بحيث يُراد به التهديد المالي، ويكون بعيداً عن مقتضى القواعد الشرعية - فيجب الرجوع في ذلك إلى العدل والإنصاف، على حسب ما فات من منفعة، أو لحق من مضرة. ويرجع في تقدير ذلك عند الاختلاف إلى الحاكم الشرعي عن طريق أهل الخبرة والنظر؛ عملاً بقوله تعالى: "وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل"، وقوله سبحانه: "ولا يجرمنكم شنئان قومٍ على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى"، وبقوله –صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار".([4])
بغية العقد – تنفيذه – عينياً أو عن طريق التعويض – الاتفاق على تقدير ذلك التعويض – الشرط الجزائي – تكييفه وطبيعته – وأثره – مصيره في حالة زوال العقد وليس انقضائه.
الحديث عن العقد وشروطه
وعلى العموم زوال العقد، والتفرقة بين الزوال والانقضاء
الحديث عن بطلان العقد (العقد الباطل والعقد القابل للإبطال)
وعن فسخ العقد والتفاسخ والإنفساخ والحياة العملية يصدر بهم حكم قضائي
تقييد سلطة القاضي وحكمه بالفسخ كاشف وليس منشئ
وفي حالة زوال العقد المتضمن لشرط جزائي فما مصير هذا الشرط
في الصفحات التالية محاولة للتأصيل القانوني للإجابة على هذا التساؤل..
فهذا البحث الصغير والمتواضع يتركز أساساً في محاولة الوصول إلى إجابة شافية وافية (مع التأصيل القانوني لها) على التساؤل التالي:
- هل يجوز إعمال وتطبيق الشرط الجزائي في حالتي تقرير بطلان أو فسخ العقد المُتضمن لهذا الشرط؟؟
مبحث أول
المبادئ العامة للشرط الجزائي
فرع أول
تعريف بالشرط الجزائي
النصوص قانونية:
نظم المُشرع المصري أحكام "الشرط الجزائي" في ثلاثة مواد من 223 إلى 225 من القانون المدني.
فنص في المادة 223 من القانون المدني المصري على أنه:
"يجوز للمُتعاقدين أن يُحددا مُقدماً قيمة التعويض بالنص عليه في العقد، أو في اتفاق لاحق، ويُراعى في هذه الحالة أحكام المواد من 215 إلى 220".([5])
كما نص في المادة 224 من القانون المدني على أنه: "
لا يكون التعويض الاتفاقي مُستحقاً إذا أثبت المدين أن الدائن لم يلحقه أي ضرر.
ويجوز للقاضي أن يُخفض هذا التعويض إذا أثبت المدين أن التقدير كان مُبالغاً فيه إلى درجة كبيرة، أو أن الالتزام الأصلي قد نًفِذَ في جزء منه.
ويقع باطلاً كل اتفاق يُخالف أحكام الفقرتين السابقتين".
وأخيراً، نص في المادة 225 من القانون المدني على أنه:
"إذا جاوز الضرر قيمة التعويض الاتفاقي فلا يجوز للدائن أن يُطالب بأكثر من هذه القيمة إلا إذا أثبت أن المدين قد أرتكب غشاً أو خطأً جسيماً".([6])
تعريف الشرط الجزائي ( La Clause Pénale ):
عرف الفقيه الفرنسي "تولييه" الشرط الجزائي بقوله: "الشرط الجزائي هو ذاك الذي يفرض على شخص ضرورة أداء مبلغ أو شيء كعقوبة لعدم قيامه بتنفيذ التزام أو لتأخره في تنفيذه".([7])
كما عرف الدكتور/ عبد المُنعم البدراوي الشرط الجزائي بأنه: "اتفاق سابق على تقدير التعويض الذي يستحقه الدائن في حالة عدم التنفيذ أو التأخر فيه.([8])
وقد عرفت المادة الأولى من اتفاقية "بيوتلكس" المُتعلقة بأحكام الشرط الجزائي والمُوقعة في لاهاى في 26/11/1973، عرفت الشرط الجزائي بأنه: "كل شرط يلتزم بموجبه المدين بدفع مبلغ من المال، أو القيام بأي عمل قانوني آخر، بصفة جزاء أو تعويض، إذا لم يوف بالتزامه".
أمثلة الشرط الجزائي:
ويقول الفقيه الفرنسي "ديموج" في هذا الصدد أن: "الشرط الجزائي يصح أن يكون مبلغاً من النقود، كما يصح أن يكون شيئاً أو عملاً أو امتناعاً (عن عمل) أو تقصير ميعاد في استعمال الحق أو تشديداً في شروط استعماله أو اشتراط ترخيص أو تغيير مكان تنفيذ الالتزام".
والأمثلة على الشرط الجزائي كثيرة متنوعة:
فشروط المقاولة قد تتضمن شرطاً جزائياً يلزم المقاول بدفع مبلغ معين عن كل يوم أو عن كل أسبوع أو عن كل مدة أخرى من الزمن يتأخر فيها المقاول عن تسليم العمل المعهود إليه إنجازه.
ولائحة المصنع قد تتضمن شروطاً جزائية تقضي بخصم مبالغ معينة من أجرة العامل جزاء له على إخلاله بالتزاماته المختلفة.
وتعريفة مصلحة السكك الحديدية أو مصلحة البريد قد تتضمن تحديد مبلغ معين هو الذي تدفعه المصلحة للمتعاقد معها في حالة فقد "طرد" أو فقد رسالة.
واشتراط حلول جميع أقساط الدين إذا تأخر المدين في دفع قسط منها، فهذا شرط جزائي، ولكن من نوع مختلف، إذ هو هنا ليس مقداراً معيناً من النقود قدر به التعويض، بل هو تعجيل أقساط مؤجلة.
وأيضاً إذا اتفق المؤجر والمستأجر على أن يسلم المستأجر عند انتهاء إجارته الأطيان الزراعية المؤجرة إليه خالية من الزراعة، وشرط في العقد تعويض المؤجر عن الإخلال بهذا الاتفاق بأن الزراعة التي عسى أن تكون قائمة عند انتهاء الإيجار تكون ملكاً للمؤجر، كان الاتفاق الأصلي صحيحاً وكان الشرط الجزائي صحيحاً معه.([9])
أغراض الشرط الجزائي:
الأصل في الشرط الجزائي هو أن يكون تقديراً مقدماً للتعويض، ولكن قد يستعمله المتعاقدان لأغراض أخرى، ومن ذلك أن يتفقا على مبلغ كبير يزيد كثيراً على الضرر الذي يتوقعانه، فيكون الشرط الجزائي بمثابة تهديد مالي، وقد يتفقان على مبلغ صغير يقل كثيراً عن الضرر المتوقع، فيكون الشرط الجزائي بمثابة إعفاء أو تخفيف من المسئولية. وإذا ستر الشرط الجزائي غرضاً غير مشروع، كما أخفى إعفاء غير مشروع من المسئولية، كان الشرط بـاطـلاً.([10])
تمييز الشرط الجزائي عما يُشتبه من أوضاع:
1- الشرط الجزائي، والالتزام الشرطي:
تسمية "الشرط" تستخدم في المُصطلح القانوني بمعاني عديدة، فقد يُقصد به الدلالة على جزء من مضمون ما اتفق عليه المتعاقدان، أي جزء من التصرف القانوني أو بند من بنود العقـد([11]). وقد يُقصد به "وصف" للالتزام.([12])،([13])
و"الشرط الجزائي" هو اتفاق يُحدد بموجبه المتعاقدان مُسبقاً مقدار التعويض عند عدم التنفيذ، فهو بند من بنود العقد.
أما "الالتزام الشرطي" فهو التزام يرتبط في وجوده أو زواله بأمر مُستقبل غير مُحقق الوقوع، أي هو التزام مشروط، والشرط فيه (كوصف للالتزام) قد يكون "شرطاً واقفاً"([14]) يترتب على تحققه وجود الالتزام، وقد يكون "شرطاً فاسخاً"([15]) يترتب على تحققه زوال الالتزام.
والتفرقة بين الشرط كوصف والشرط كجزء من مضمون التصرف (أو الاتفاق) تفرقة أساسية، ولذا يجب أن تكون واضحة كل الوضوح، فالشرط كوصف يُعلق على تحققه وجود الالتزام أو زواله، هو واقعة خارجة عن غايات المُتعاملين، أي كما يقول الفقه، عنصر عرضي في الاتفاق، ولا يحمل تعليق نشوء الالتزام عليها (في الشرط الواقف مثلاً) أي قصد إلى الحصول على مُقابل مُعين. وبذا لا يدخل الاتفاق عليها في مضمون العقد، بخلاف الحال بالنسبة لما يسمى بنود العقد، فهي أعباء يتم الاتفاق على تحمل طرف العقد بها كمُقابل لالتزام على الطرف الآخر.([16])
بينما يقول السنهوري أن: "الشرط الجزائي – كتعويض – هو التزام تابع للالتزام الأصلي، وهو التزام مُعلق على شرط لأنه لا يُستحق إلا إذا أصبح تنفيذ الالتزام الأصلي مُستحيلاً بخطأ المدين([17]). وأن تكييف الالتزام بأنه التزام شرطي أو بأنه شرط جزائي يُنظر فيه إلى نية المُتعاقدين.([18])
2- الشرط الجزائي والتهديد المالي ( Les Astreintes ):
تتلخص وسيلة التهديد المالي (التي نظمتها المادتان 213 و 214 من القانون المدني المصري) في أن القاضي يلزم المدين بتنفيذ التزامه عيناً في خلال مدة معينة، فإذا تأخر في التنفيذ كان مُلزماً بدفع غرامة تهديدية عن هذا التأخر، مبلغاً مُعيناً عن كل يوم أو كل أسبوع أو كل شهر أو أية وحدة زمنية أخرى أو عن كل مرة يأتي عملاً يخل بالتزامه، وذلك إلى أن يقوم بالتنفيذ العيني أو إلى أن يمتنع نهائياً عن الإخلال بالالتزام. ثم يرجع إلى القاضي فيما تراكم على المدين من غرامات تهديدية، ويجوز للقاضي أن يخفض هذه الغرامات أو أن يمحوها بتاتاً.([19])
ومما تقدم نستطيع أن نميز بين التهديد المالي والشرط الجزائي من الوجوه الآتية:
فالتهديد المالي يحكم به القاضي، أما الشرط الجزائي فيتفق عليه الدائن والمدين.
والتهديد المالي "تحكمي" لا يقاس بمقياس الضرر، وإنما يُقصد به التغلب على عِناد المدين، فينظر إلى موارده المالية وقدرته على مُقاومة الضغط، أما الشرط الجزائي فالأصل فيه أن يقاس بمقياس الضرر.
والتهديد المالي "حكم وقتي تهديدي"، فهو لا يقبل التنفيذ إلا إذا حول من غرامة تهديدية إلى تعويض نهائي. أما الشرط الجزائي فليس بوقتي ولا تهديدي، وإنما هو اتفاق قابل للتنفيذ بحالته. وإذا جاز تخفيض الشرط الجزائي للمُبالغة في التقدير، فالأصل فيه عدم التخفيض، أما التهديد المالي فالأصل فيه التخفيض، لأنه يكون عادة أزيد بكثير من الضرر الحقيقي، فيغلب تخفيضه عند تحويله إلى تعويض نهائي.
وليس التهديد المالي إلا وسيلة غير مباشرة للتنفيذ العيني، أما الشرط الجزائي فعلى العكس من ذلك يتصل بالتعويض لا بالتنفيذ العيني.
والتهديد المالي يقدر عن كل وحدة زمنية أو عن كل مرة يخل فيها المدين بالتزامه. أما الشرط الجزائي فلا يُقدر على هذا النحو إلا إذا كان تعويضاً عن تأخر المدين في تنفيذ التزامه، فإذا كان تعويضاً عن عدم التنفيذ فإنه يُقدر عادة مبلغاً مقطوعاً (Forfaitaire).
ومن المُقرر في قضاء محكمة النقض المصرية أن: " مُؤدى النص المادة 213/2 من القانون المدني أن الغرامة التهديدية وسيلة للضغط على المدين لحمله على تنفيذ التزامه تنفيذاً عينياً كلما كان ذلك ممكناً، ومن ثم فهي ليست تعويضاً يقضى به للدائن ولكنها مبلغ من المال يقدر عن كل وحدة زمنية يتأخر فيها عن تنفيذ هذا الالتزام أو عن كل مرة يخل به، فهي ليست مبلغاً يقدر دفعة واحدة، حتى يتحقق معنى التهديد، ولا تقرر إلا بحكم القاضي بناء على طلب الدائن، ويتفرع على ذلك أن الحكم بها يُعتبر وقتياً لأن القاضي يجوز له أن يزيد في مقدارها إمعاناً في تهديد المدين لحمله على التنفيذ أو العدول عنها إذا رأى أنه لا جدوى منها ومن ثم تختلف عن الشرط الجزائي الذي يجوز بمقتضاه للدائن والمدين أن يتفقا مقدماً على التعويض المُستحق لأولهما في حالة ما إذا لم يقم الثاني بالوفاء بالتزامه، هو سبب استحقاق التعويض لا الشرط الجزائي الذي يترتب على وجوده في العقد اعتبار الضرر واقعاً في تقدير المتعاقدين ومن ثم لا يكلف الدائن بإثباته كما يفترض معه أن تقدير التعويض على أساسه يتناسب مع الضرر الذي أصابه ولا يكون على القاضي إلا القضاء به إلا إذا أثبت المدين أن الدائن لم يلحقه ضرر أو أن التقدير كان مبالغاً فيه إلى درجة كبيرة إذا يكون له في تلك الحالة ألا يقضي بالتعويض أو يخفضه إلى الحد المناسب".([20])
3- الشرط الجزائي والعربون ( Les Arrhes ):
إذا كانت دلالة العربون هي جواز العدول عن العقد([21])، فإنه يجوز لكل من المتعاقدين أن يرجع في العقد بعد إبرامه نظير دفع مبلغ العربون، فيُشتبه العربون بالشرط الجزائي من هذه الناحية، وقد يُحمل العربون على أنه شرط جزائي لتقدير التعويض في حالة العدول عن العقد.
ولكن الفرق كبير بين العربون والشرط الجزائي، ويظهر هذا الفرق في النواحي التالية:
العربون هو المُقابل لحق العدول عن العقد، فمن أراد من المُتعاقدين أن يعدل عن العقد كان ذلك في مُقابل دفع العربون، أما الشرط الجزائي فتقدير لتعويض عن ضرر قد وقع ويترتب على ذلك أن الالتزام بدفع العربون قائم حتى ولو لم يترتب على العدول عن العقد أي ضرر، أما الشرط الجزائي فلا يُستحق إلا إذا وقع ضرر للدائن.
والعربون لا يجوز تخفيضه، سواء كان الضرر الذي أصاب المُتعاقد الآخر من جراء العدول عن العقد مُناسباً للعربون أو غير مُناسب، بل يجب دفع مبلغ العربون كما هو حتى ولو لم يلحق الطرف الآخر أي ضرر من العدول عن العقد. أما الشرط الجزائي فيجوز تخفيضه حتى يتناسب مع الضرر.
ويمكن تكييف العربون بأنه البدل في التزام بدلي. ففي البيع مع العربون مثلاً، يلتزم المشتري التزاماً أصلياً بدفع الثمن في مُقابل أخذ المبيع، وله إذا شاء أن يعدل عن هذا المحل الأصلي – دفع الثمن في مُقابل أخذ المبيع – إلى محل بدلي هو دفع مبلغ العربون في غير مُقابل([22]). أما الشرط الجزائي فتكييفه القانوني هو أنه تعويض اتفاقي، لا هو بالتزام تخييري ولا هو بالتزام بدلي. ومن ثم لا يكون المدين حراً – بخلاف المشتري في المثل المُتقدم – في العدول عن تنفيذ التزامه الأصلي إذا كان هذا التنفيذ مُمكناً إلى تنفيذ الشرط الجزائي، بل يتعين عليه أن يقوم بتنفيذ التزامه الأصلي إذا طُلِبَ منه ذلك. وينبغي دائماً الرجوع إلى نية المُتعاقدين لمعرفة ما إذا كانا قد أرادا بالعربون تحديد قيمة جزافية لا يجوز الانتقاص منها، أو تقدير تعويض اتفاقي يجوز إنقاصه، لا سيما إذا كان الجزاء المشروط فادحاً.([23])
4- الشرط الجزائي وغرامات التأخير في العقود الإدارية:
المُقرر في قضاء محكمة النقض المصرية أن: "الغرامات التي ينص عليها في العقود الإدارية – على ما جرى به قضاء محكمة النقض – تختلف في طبيعتها عن الشرط الجزائي في العقود المدنية، لأنها جزاء قصد به ضمان وفاء المتعاقد مع الإدارة بالتزامه بحسن سير المرفق بانتظام واطراد، وفي سبيل تحقيق هذه الغاية يحق للإدارة أن توقع الغرامة المنصوص عليها في العقد بمجرد وقوع المخالفة التي تقررت الغرامة جزاء لها، كما أن للإدارة أن تستنزل قيمة هذه الغرامة مما يكون مستحقاً في ذمتها للمتعاقد دون أن يتوقف ذلك على ثبوت وقوع ضرر للإدارة من جراء إخلال المتعاقد معها بالتزامه، ولا يجوز للطرف الآخر أن ينازع في استحقاقها للغرامة بحجة انتفاء الضرر أو المبالغة في تقدير الغرامة إلا إذا أثبت أن الضرر راجع إلى قوة قاهرة أو إلى فعل الإدارة المتعاقد معها".([24])
وعلى ذلك، فالغرامات المنصوص عليها في العقود الإدارية تختلف عن الشرط الجزائي في أن القانون جعل من وقوع المخالفة التي تقررت الغرامة جزاء لها، قرينة قانونية لا تقبل إثبات العكس على حدوث ضرر للجهة الإدارية، وأن هذا الضرر المفترض لا يقل عن قيمة الغرامة المقررة، وبالتالي لا يجوز للمتعاقد مع الإدارة أن ينازع في هذه القرينة القانونية، فلا هو يستطيع أن يزعم عدم استحقاق الغرامة بحجة انتفاء الضرر، ولا هو يستطيع المجادلة بأن الضرر الواقع أقل من قيمة الغرامة وأن تلك الغرامة قد تمت المبالغة في تقدير قيمتها. وإن كان لهذا المتعاقد أن ينفي ركن الخطأ في جانبه بإثبات أن وقوع المخالفة التي تقررت الغرامة جزاء لها راجع إلى قوة قاهرة أو سبب أجنبي أو خطأ الإدارة ذاتها. كما أن للإدارة في حالة ما إذا كان الضرر الذي أصابها أكبر من قيمة الغرامة المقررة، ولم تستطع الحصول على مستحقاتها بالطرق الإدارية، أن تلجأ للقضاء للمطالبة باستكمال قيمة التعويض المستحق لها عما أصابها من أضرار بسبب المخالفة التي ارتكبها المتعاقد معها.
فضلاً عن أن للجهة الإدارية في حالة وقوع المخالفة التي تقررت الغرامة جزاء لها، أن توقع الغرامة بمجرد وقوع المخالفة وبدون حاجة إلى تنبيه أو إنذار أو اتخاذ أي إجراء آخر؛ فالإدارة توقع الجزاء بنفسها مباشرة دون اللجوء إلى القضاء.([25])
وقد قضت المحكمة الإدارية العليا (في مصر) بأنه: "ومن حيث أنه بالنسبة لغرامة التأخير فإنه طبقاً لما أستقر عليه قضاء هذه المحكمة فإن غرامات التأخير في العقود الإدارية تختلف عن الشرط الجزائي في العقود المدنية، وذلك أن الشرط الجزائي في العقود المدنية هو تعويض متفق عليه مقدماً يستحق في حالة إخلال أحد المتعاقدين بالتزامه فيشترط فيه ما يشترط لاستحقاق التعويض بوجه عام من وجوب حصول ضرر للمتعاقد الآخر وإعذار للطرف المقصر وصدور حكم به وللقضاء أن يحققه إن ثبت أنه لا يتناسب والضرر الذي لحق بالمتعاقد، بينما الحكمة في الغرامات التي ينص عليها في العقود الإدارية هي ضمان تنفيذ هذه العقود في المواعيد المتفق عليها حرصاً على حسن سير المرافق العامة بانتظام واضطراد، وقد نصت لائحة المناقصات والمزايدات على حق الإدارة في توقيعها بمجرد حصول التأخير ولو لم يترتب عليه ضرر ودون حاجة إلى تنبيه أو إنذار أو اتخاذ أية إجراءات قضائية أخرى، ومن ثم فالجهة الإدارية توقعها بنفسها دون حاجة إلى حكم بها إذا أخل المتعاقد بالتزامه قبلها ولا يقبل منه إثبات عدم حصول ضرر لها من تأخيره في تنفيذ التزامه فاقتضاء الغرامة منوط بتقديرها باعتبارها القوامة على حسن سير المرافق العامة".([26])
([3]) أنظر: "الشرط الجزائي في الفقه الإسلامي" – رسالة دكتوراه مُقدمة من الباحث/ عبد المُحسن سعد الرويشد لكلية الحقوق جامعة القاهرة في عام 1983 – صـ 607 وما بعدها.
([5]) ويُطابق النص في القوانين المدنية العربية الأخرى: في القانون المدني السوري المادة 224، وفي القانون المدني العراقي المادة 170/1، وفي القانون المدني الليبي المادة 226. وفي قانون الموجبات والعقود اللبناني تنص المادة 266/1 على أن: "للمتعاقدين أن يعينوا مُقدماً في العقد أو في صك لاحق، قيمة بدل العطل والضرر في حالة تخلف المديون عن تنفيذ الموجب كله أو بعضه"، فصياغة النص اختلفت في القانون اللبناني ولكن الحكم واحد. وفي القانون المدني الكويتي (رقم 67 لسنة 1980) تنص المادة 302 على أنه: "إذا لم يكن محل الالتزام مبلغاً من النقود، يجوز للمتعاقدين أن يُقدرا مُقدماً التعويض، في العقد أو في اتفاق لاحق" واستبعاد النص للالتزامات التي يكون محلها مبلغاً من النقود يتفق مع الشرع الحنيف حتى لا يتخذ من "التعويض الاتفاقي" ستاراً لمعاملات ربوية محرمة شرعاً. وقد أكد المشرع الكويتي ذلك، بنصه في المادة 305 من القانون المدني الكويتي على أن: "يقع باطلاً كل اتفاق على تقاضي فوائد مقابل الانتفاع بمبلغ من النقود أو مقابل التأخير في الوفاء بالالتزام به. ويعتبر في حكم الفائدة كل منفعة أو عمولة أياً كان نوعها اشترطها الدائن إذا ما ثبت أن ذلك لا يقابله خدمة حقيقة متناسبة يكون الدائن قد أداها فعلاً". وليت المشرع المصري، وسائر المشرعين العرب والمسلمين، أن يحتذوا بالمشرع الكويتي في شأن انصياعه لأمر التشريع الإسلامي الذي يحرم الربا في شتى صوره وأشكاله.
([6]) ويقابل نص المادتين 224 و 225 من القانون المدني المصري في القوانين العربية الأخرى ما يلي: في القانون المدني السوري نص المادتين 225 و 226 وهما مُطابقتان للنص المصري، وفي القانون المدني العراقي المادة 170 الفقرتين الثانية والثالثة وهي مُطابقة للنص المصري فيما عدا كلمة "فادحاً" بدلاً من عبارة "مُبالغاً فيه إلى درجة كبيرة". وفي القانون المدني الليبي المادتين 227 و 228 وهما مُطابقتان للنص المصري. وفي تقنين الموجبات والعقود اللبناني المادتين 266 (فقرة 2 و 3) و 267. فتنص المادة 266 فقرة 2 و3 لبناني على = أن: "ولقد وضع البند الجزائي لتعويض الدائن من الأضرار التي تلحق به من عدم تنفيذ الموجب. فلا يحق له أن يطالب بالأصل والغرامة معاً، إلا إذا كان البند الجزائي قد وضع لمجرد التأخير أو على سبيل إكراه المديون على الإيفاء. ويحق للقاضي أن يخفض غرامة الإكراه إذا وجدها فاحشة. وللقاضي أن ينقص البدل المعين في البند الجزائي إذا كان قد نفذ قسم من الموجب الأصلي". كما تنص المادة 267 لبناني على أن: "البند الجزائي صحيح معمول به وإن كان موازياً في الواقع لبند ناف للتبعية. وإنما تستثنى حالة الخداع الذي يرتكبه المديون". وفي القانون المدني الكويتي نص المادتين 303 و 304 وهما مُطابقتان "تقريباً" للنص المصري.
([8]) أنظر: للدكتور عبد المُنعم البدراوي – "النظرية العامة للالتزامات" – الأحكام – طبعة 1971 – صـ 80.
([9]) أنظر: "الوسيط في شرح القانون المدني" – للدكتور/ عبد الرزاق أحمد السنهوري – الجزء الأول: "نظرية الالتزام بوجه عام" – المُجلد الثاني: "الإثبات – آثار الالتزام" – طبعة لجنة الشريعة الإسلامية بنقابة المُحامين 2006 القاهرة – بند 477 – صـ 767 وهوامشها.
([10]) وسيط السنهوري – المرجع السابق – جـ 1 – مجلد 2 – بند 477 – صـ 767 وما بعدها وهامش 3 صـ 767 وما بعدها.
([13]) كما تُستعمل لفظة "الشرط" للدلالة على ما يستلزمه القانون في واقعة ليرتب عليها أثر قانوني مُعين، فالرسمية "شرط" لصحة التصرف القانوني بالهبة أو بالرهن الرسمي، والتسجيل في بيع العقار "شرط" لنقل الملكية بين المُتعاقدين (وفقاً لنص القانون) وبالنسبة إلى الغير، وحدوث الضرر "شرط" لنشوء التزام بالتعويض على عاتق مُرتكب الخطأ، والحاجة "شرط" لاستحقاق النفقة، والشرط في كل هذه الصور ليس وصفاً للالتزام، بل هو عنصر يلزم توافره لاكتمال الواقعة التي يترتب عليها أثر من الآثار القانونية، ولذا فإتمام التسجيل ليس شرطاً واقفاً لنشوء حق المُشتري في ملكية العقار، وكذا الرسمية في الرهن أو في الهبة، أو حدوث ضرر في الالتزام بالتعويض أو الحاجة في الالتزام بالنفقة. ويُلاحظ أن الشرط بهذا المعنى يُعبر عنه باللغة الفرنسية بنفس الكلمة الدالة على الشرط بمعنى الوصف (Condition). وفي اصطلاح الفقه الإسلامي، يُسمى الشرط بمعنى الوصف: "شرط التعليق"، أما الشرط كبند من بنود العقد، فيُسمى "شرط التقييد".
أنظر: "النظرية العامة للالتزام" – للدكتور/ جميل الشرقاوي – الكتاب الثاني "أحكام الالتزام" – طبعة 1981 القاهرة – بند 51 – هامش 1 صـ 163.
([16]) أنظر: "النظرية العامة للالتزام" – للدكتور/ جميل الشرقاوي – الكتاب الثاني "أحكام الالتزام" – طبعة 1981 القاهرة – بند 51 – صـ 161 وما بعدها وهوامشها.
([18]) وسيط السنهوري – المرجع السابق – جـ 1 – مجلد 2 – بند 488 – هامش 1 صـ 777.
ومن المُقرر في قضاء محكمة النقض المصرية أن: "المقرر في قضاء هذه المحكمة أن العبرة في تكييف العقد والتعرف على حقيقة مرماه وتحديد حقوق الطرفين فيه إنما هي بما حواه من نصوص وبما عناه المُتعاقدان، دون اعتداد بما أطلقوه عليه من أوصاف متى تبين أن هذه الأوصاف تخالف الحقيقة. وأن لمحكمة الموضوع استخلاص - نية المُتعاقدين - وما انعقد عليه اتفاقهما مُستهدية في ذلك بحقيقة الواقع والنية المُشتركة وطبيعة التعامل والعرف الجاري في المعاملات وظروف التعاقد وبالطريقة التي يتم بها تنفيذ العقد، شريطة أن يكون هذا الاستخلاص سائغاً ولا مُخالفة فيه للثابت في الأوراق".
نقض مدني في الطعن رقم 336 لسنة 53 قضائية – جلسة 23/5/1991 مجموعة المكتب الفني – السنة 42 – الجزء الأول – صـ 1180 – فقرة 1 و 2.
([20]) نقض مدني في الطعن رقم 411 لسنة 59 قضائية – جلسة 29/12/1993 مجموعة المكتب الفني – السنة 44 – صـ ... – فقرة 1.
([21]) تنص المادة 103 من القانون المدني المصري على أن: "دفع العربون وقت إبرام العقد يُفيد أن لكل من المُتعاقدين الحق في العدول عنه، إلا إذا قضى الاتفاق بغير ذلك. فإذا عدل من دفع العربون، فقده. وإذ عدل من قبضه، رد ضعفه. هذا ولو لم يترتب على العدول أي ضرر".
([22]) فالعربون الذي يدفع في مُقابل العدول عن العقد يمكن تكييفه بأنه البدل في التزام بدلي، ويكون المدين ملتزماً أصلاً بالالتزام الوارد في العقد ودائناً بالحق الذي يقابل هذا الالتزام، ولكن تبرأ ذمته من الالتزام الأصلي ويسقط الحق المُقابل له إذا هو أدى العربون، ومؤدى ذلك أن العدول في حالة دفع العربون لا يكون عن العقد في جملته، بل عدول عن الالتزام الأصلي والحق المُقابل له، والعربون بدل مُستحق بالعقد، إنما هو تنفيذ للعقد في أحد شطريه وهو البدل، لا عدول عن العقد في جملته. أنظر: وسيط السنهوري – المرجع السابق – جـ 1 – مجلد 1 – بند 142 – هامش 3 صـ 220.
([24]) نقض مدني في الطعن رقم 471 لسنة 30 قضائية – جلسة 26/10/1965 مجموعة المكتب الفني – السنة 16 – صـ 922.
([25]) أنظر: المادة 23 من القانون رقم 89 لسنة 1998 بشأن المُناقصات والمزايدات المصري، وكذلك المادة 83 من اللائحة التنفيذية لقانون المناقصات والمزايدات الصادرة بقرار وزير المالية رقم 1367 لسنة 1998.