قوله تعالى:
{وَإِذِ
اسْتَسْقَىَ مُوسَىَ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بّعَصَاكَ الْحَجَرَ
فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلّ أُنَاسٍ
مّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رّزْقِ اللّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي
الأرْضِ مُفْسِدِينَ}
فيه
ثماني مسائل:
الأولى:
قوله تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَىَ مُوسَىَ لِقَوْمِهِ} كُسرت الذال لالتقاء
الساكنين. والسين سين السؤال مثل: استعلم واستخبر واستنصر, ونحو ذلك أي طلب وسأل
السّقْيَ لقومه. والعرب تقول: سقيته وأسقيته, لغتان بمعنًى قال:
سقى قومي بني مَجْدٍ وأسْقَى نُمَيْراً والقبائلَ من هِلال
وقيل: سقيتُه من سقي الشّفَة, وأسقيته دَلَلْته
على الماء.
الثانية:
الاستسقاء إنما يكون عند عدم الماء وحبس القطر, وإذا كان كذلك فالحكم حينئذ إظهار
العبودية والفقر والمسكنة والذّلة مع التوبة النّصوح. وقد استسقى نبيّنا محمد صلى
الله عليه وسلم: «فخرج إلى المصلّى متواضعاً متذلّلاً متخشعاً مترسّلاً متضرّعاً»
وحسبك به! فكيف بنا ولا توبة معنا إلا العناد ومخالفة رب العباد فأنّى نُسْقَى!
لكن قد قال صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر: «ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا
مُنِعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يُمْطَرُوا» الحديث. وسيأتي بكماله إن
شاء الله.
الثالثة:
سُنّة الاستسقاء الخروج إلى المصلّى ـ على الصفة التي ذكرنا ـ والخطبة والصلاة وبهذا
قال جمهور العلماء. وذهب أبو حنيفة إلى أنه ليس من سُنّته صلاة ولا خروج, وإنما هو
دعاء لا غير. واحتج بحديث أنس: الصحيح, أخرجه البخاريّ ومسلم. ولا حجة له فيه فإن
ذلك كان دعاء عُجّلت إجابته فاكتفى به عما سواه, ولم يقصد بذلك بيان سُنّة ولما
البيان بيّن بفعله, حسب ما رواه عبد اللّه بن زيد المازنيّ قال: «خرج رسول الله
صلى الله عليه وسلم فاستسقى وحوّل رداءه ثم صلى ركعتين» رواه مسلم. وسيأتي من
أحكام الاستسقاء زيادة في سورة «هود» إن شاء الله.
الرابعة:
قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِب بّعَصَاكَ الْحَجَرَ} العصا: معروف, وهو اسم مقصور
مؤنّث وألفه منقلبة عن واو قال:
على عَصَوَيْهَا سابِرِيّ مُشَبْرَقُ
والجمع عُصِيّ وعِصِيّ, وهو
فعول, وإنما كُسرت العين لما بعدها من الكسرة وأعْصٍ أيضاً مثله مثل زَمَنٍ
وأزْمُنٍ. وفي المثل: «العَصَا من العُصَيّة» أي بعض الأمر من بعض. وقولهم: ـ
ألْقَى عصاه ـ أي أقام وترك الأسفار وهو مَثَل. قال:
فألقتْ عصاها واستقرّ بها النّوَى كما قَرّ عَيْناً بالإياب المسافِرُ
وفي التنزيل: {وَمَا تِلْكَ
بِيَمِينِكَ يَا مُوسَىَ قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكّأُ عَلَيْهَا} (طه: 17 ـ 18).
وهناك يأتي الكلام في منافعها إن شاء الله تعالى. قال الفرّاء: أوّل لحن سُمع
بالعراق هذه عصاتي. وقد يعبّر بالعصا عن الاجتماع والافتراق ومنه يقال في الخوارج:
قد شَقّوا عصا المسلمين أي اجتماعهم وائتلافهم. وانشقّت العصا أي وقع الخلاف قال
الشاعر:
إذا كانت الهَيْجاءُ وانشقّتِ العصا فحسْبُكَ والضّحاكَ سَيْفٌ مُهَنّدٌ
أي يكفيك ويكفي الضحاك.
وقولهم: لا ترفع عصاك عن أهلك يراد به الأدب. والله أعلم.
والحجر معروف, وقياس جمعه في
أدنى العدد أحجار, وفي الكثير حِجار وحجارة والحجارة نادر. وهو كقولنا: جَمَل
وجِمَالة, وذَكَر وذِكَارة كذا قال ابن فارس والجوهري.
قلت: وفي القرآنِ {فَهِيَ
كَالْحِجَارَةِ}. {وَإِنّ مِنَ الْحِجَارَةِ} (البقرة: 74). {قُلْ كُونُواْ
حِجَارَةً} (الإسراء: 50) {تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ} (الفيل: 4). {وَأَمْطَرْنَا
عَلَيْهِمْ حِجَارَةً} (الحجر: 74) فكيف يكون نادراً, إلا أن يريدا أنه نادر في
القياس كثير في الاستعمال فصيح. والله أعلم.
قوله تعالى: {فَانفَجَرَتْ}
في الكلام حذف تقديره فضرب فانفجرت. وقد كان تعالى قادراً على تفجير الماء وفلق
الحجر من غير ضرب لكن أراد أن يربط المسبّبات بالأسباب حكمةً منه للعباد في وصولهم
إلى المراد وليرتّب على ذلك ثوابهم وعقابهم في المعاد. والانفجار: الانشقاق ومنه
انشق الفجر. وانفجر الماء انفجاراً: انفتح. والفُجْرة: موضع تفجّر الماء.
والانبجاس أضيق من الانفجار لأنه يكن انبجاساً ثم يصير انفجاراً. وقيل: انبجس
وتبجّس وتفجّر وتفتّق, بمعنًى واحد حكاه الهَرَوِيّ وغيره.
الخامسة:
قوله تعالى: {اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً} «اثنتا» في موضع رفع بـ «ـانفجرت» وعلامة
الرفع فيها الألف. واُعربت دون نظائرها لأن التثنية معرَبة أبداً لصحة معناها.
«عَيْناً» نُصب على البيان. وقرأ مجاهد وطلحة وعيسى «عَشِرة» بكسر الشين وهي لغة
بني تميم, وهذا من لغتهم نادر لأن
سبيلهم التخفيف. ولغة أهل الحجاز «عشْرة» وسبيلهم التثقيل. قال جميعه النحاس.
والعَيْن من الأسماء المشتركة يقال: عَيْنُ الماء, وعَيْنُ الإنسان, وعينُ
الرّكْبة, وعين الشمس. والعَيْن: سحبة تُقبل من ناحية القِبلة. والعين: مطر يدوم
خمساً أو سِتّا لا يقلع.
وبلد قليل العَيْن: أي قليل الناس. وما بها عين, محرّكة الياء. والعين: الثقب في
المزادة. والعَيْنُ من الماء مُشَبّهة بالعين من الحيوان لخروج الماء منها كخروج
الدمع من عين الحيوان. وقيل: لما كان عين الحيوان أشرف ما فيه, شُبّهت به عين
الماء لأنها أشرف ما في الأرض.
السادسة:
لما استسقى موسى عليه السلام لقومه أمر أن يضرب عند استسقائه بعصاه حجراً قيل:
مربّعاً طُوِريّا (من الطور) على قدر رأس الشاة يلقى في كسر جُوالق ويُرحل به فإذا
نزلوا وُضع في وسط محلّتهم. وذُكر أنهم لم يكونوا يحملون الحجر لكنهم كانوا يجدونه
في كل مرحلة في منزلته من المرحلة الأولى وهذا أعظم في الآية والإعجاز. وقيل: إنه
الله تعالى أمره أن يضرب حجراً بعينه بيّنه لموسى عليه السلام ولذلك ذكر بلفظ
التعريف. قال سعيد بن جُبير: هو الحجر الذي وضع عليه موسى ثوبه لما اغتسل, وفرّ
بثوبه حتى بَرّأه الله مما رماه به قومه. قال ابن عطية: ولا خلاف أنه كان حجراً
منفصلاً مربّعاً, تطّرد من كل جهة ثلاث عيون إذا ضربه موسى, وإذا استغنوا عن الماء
ورحلوا جفّت العيون.
قلت: ما أوتى نبيّنا محمد صلى
الله عليه وسلم من نبع الماء وانفجاره من يده وبين أصابعه أعظم في المعجزة فإنّا
نشاهد الماء يتفجّر من الأحجار آناء الليل وآناء النهار ومعجزة نبيّنا عليه السلام
لم تكن لنبيّ قبل نبيّنا صلى الله عليه وسلم, يخرج الماء من بين لحم ودم!. روى
الأئمة الثّقات والفقهاء الأثبات (عن عبد اللّه قال: «كنا مع النبيّ صلى الله عليه
وسلم فلم نجد ماء فأتيَ بتَوْر فأدخل يده فيه فلقد رأيت الماء يتفجّر من بين
أصابعه ويقول: «حيّ على الطّهور». قال الأعمش: فحدّثني سالم بن أبي الجَعْد قال
قلت لجابر: كم كنتم يومئذ؟ قال: ألفا وخمسمائة) لفظ النسائي.
قوله تعالى: {قَدْ عَلِمَ
كُلّ أُنَاسٍ مّشْرَبَهُمْ} يعني أن لكل سِبْط منهم عيناً قد عرفها لا يشرب من
غيرها. والمَشْرَب: موضع الشرب. وقيل: المشروب. والأسباط في بني إسرائيل كالقبائل
في العرب, وهم ذُرّية الاثني عشر أولاد يعقوب عليه السلام وكان لكل سِبْط عَيْنٌ
من تلك العيون لا يتعدّاها. قال عطاء: كان للحَجَر أربعة أوجه, يخرج من كل وجه
ثلاث أعين, لكل سِبط عَين لا يخالطهم سواهم. وبلغنا أنه كان في كل سبط خمسون ألف
مقاتل سوى خيلهم ودوابهم. قال عطاء: كان يظهر على كل موضع من ضربة موسى مثل ثدي
المرأة على الحجر فيعرق أوّلاً ثم يسيل.
الثامنة:
قوله تعالى: {كُلُواْ وَاشْرَبُواْ} في الكلام حذف تقديره وقلنا لهم كلوا المنّ
والسلوى, واشربوا الماء المتفجّر من الحجر المنفصل. {وَلاَ تَعْثَوْاْ} أي لا
تفسدوا. والعث: شدّة الفساد نهاهم عن ذلك. يقال: عَثِي يَعْثَى عُثِيّا, وعثا
يَعْثُو عُثُوّا, وعاث يَعِيث عَيْثاً
وعُيُوثاً ومَعَاثاً والأوّل لغة القرآن. ويقال: عَثّ يَعُثّ في المضاعف: أفسد ومنه
العُثّة, وهي السّوسة التي تَلْحَس الصّوف. و {مُفْسِدِينَ} حال وتكرر المعنى
تأكيداً لاختلاف اللفظ. وفي هذه الكلمات إباحة النعم وتعدادها, والتقدّم في
المعاصي والنهي عنها.
قوله تعالى:
{وَإِذْ
قُلْتُمْ يَا مُوسَىَ لَن نّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبّكَ
يُخْرِجْ لَنَا مِمّا تُنْبِتُ الأرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثّآئِهَا وَفُومِهَا
وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الّذِي هُوَ أَدْنَىَ بِالّذِي
هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنّ لَكُمْ مّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ
عَلَيْهِمُ الذّلّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مّنَ اللّهِ ذَلِكَ
بِأَنّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النّبِيّينَ
بِغَيْرِ الْحَقّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وّكَانُواْ يَعْتَدُونَ}.
قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ
يَا مُوسَىَ لَن نّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ} كان هذا القول منهم في الّتيه
حين مَلّوا المنّ والسّلْوَى, وتذكّروا عيشهم الأوّل بمصر. قال الحسن: كانوا
نَتَانَى أهل كُرّاث وأبصال وأعداس, فنزعوا إلى عِكْرهم عِكرِ السّوء, واشتاقت
طباعهم إلى ما جرت عليه عادتهم فقالوا: لن نصبر على طعام واحد. وكَنوا عن المنّ
والسلوى بطعام واحد وهما اثنان لأنهم يأكلون أحدهما بالآخر فلذلك قالوا: طعام
واحد. وقيل: لتكرارهما في كل يوم غذاء كما تقول لمن يداوم على الصوم والصلاة والقراءة:
هو على أمر واحد لملازمته لذلك. وقيل: المعنى لن نصبر على الغنى فيكون جميعنا
أغنياء فلا يقدر بعضنا على الاستعانة ببعض لاستغناء كل واحد منّا بنفسه. وكذلك
كانوا فهم أوّل من اتخذ العبيد والخَدَم.
قوله تعالى: {عَلَىَ طَعَامٍ} الطعام يُطلق على
ما يُطعم ويُشرب قال الله تعالى: {وَمَن لّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنّهُ مِنّيَ}
(البقرة: 249) وقال: {لَيْسَ عَلَى الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ
جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوَاْ} (المائدة: 93) أي ما شربوه من
الخمر, على ما يأتي بيانه. وإن كان السلوى العسل ـ كما حكى
المؤرّج ـ فهو مشروب أيضاً. وربما خُصّ بالطعام البُرّ والتمرُ, كما في حديث أبي
سعيد الخُدْرِيّ قال: «كنا نُخرج صدقةَ الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه
وسلم صاعاً من طعام أو صاعاً من شعير» الحديث. والعرف جارٍ بأن القائل: ذهبت إلى
سوق الطعام, فليس يفهم منه إلا موضع بيعه دون غيره مما يؤكل أو يُشرب. والطّعْم
(بالفتح): هو ما يؤدّيه الذوق يقال: طعمهْ مرّ. والطّعْم أيضاً: ما يشتهى منه يقال:
ليس له طعم. وما فلان بذي طعم: إذا كان غثّا. والطّعم (بالضم): الطعام قال أبو
خِراش:
أرُدّ شُجاعَ البطن لو تعلمينه واُوثِرُ غيري من عِيَالِكِ بالطّعْمِ
وأغتبِق الماء القَرَاحَ فانتهي إذا الزادُ أمسى للمُزَلّج ذا طَعْمِ
أراد بالأوّل الطعام,
وبالثاني ما يُشتهى منه. وقد طَعِم يَطْعَمُ فهو طاعم إذا أكل وذاق ومنه قوله
تعالى: «وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإنّه مِنّي» أي من لم يذقه. وقال: «فَإذَا
طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا» أي أكلتم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمزم:
«إنها طَعامُ طُعْمٍ وشِفاءُ سُقْم». واستطعمني فلان الحديث إذا أراد أن تحدّثه.
وفي الحديث: «إذا استطعمكم الإمامُ فأطعموه». يقول: إذا استفتح فافتحوا عليه.
وفلان ما يَطْعَم النوم إلا قائماً. وقال الشاعر:
نَعاماً بوَجْرَةَ صُفر الخدود ما تَطْعَم
النومَ إلا صِياماً
قوله تعالى: {فَادْعُ لَنَا
رَبّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمّا تُنْبِتُ الأرْضُ} لغة بني عامر «فادعِ» بكسر العين
لالتقاء الساكنين يُجرون المعتل مجرى الصحيح ولا يراعون المحذوف. و «يُخْرِجْ»
مجزوم على معنى سَلْه وقل له: أخْرِجْ, يُخْرِج. وقيل: هو على معنى الدعاء على تقدير حذف اللام, وضعّفه الزجاج. و
«مِن», في قوله «مِمّا» زائدة في قول الأخفش, وغير زائدة في قول سيبويه لأن الكلام
موجب. قال النحاس: وإنما دعا الأخفش إلى هذا لأنه لم يجد مفعولاً لـ «ـيُخرِج»
فأراد أن يجعل «ما» مفعولاً. والأوْلى أن يكون المفعول محذوفاً دلّ عليه سائر الكلام التقدير: يخرج لنا
مما تنبت الأرض مأكولاً. فـ«من» الأولى على هذا للتبعيض, والثانية للتخصيص. و {مِن
بَقْلِهَا} بدل من «ما» بإعادة الحرف. {وَقِثّآئِهَا} عطف عليه, وكذا ما بعده فاعلمه.
والبَقْلُ معروف, وهو كل نبات ليس له ساق. والشجر: ما
له ساق. والقِثّاء أيضاً معروف, وقد تُضمّ قافه, وهي قراءة
يحيىَ بن وَثّاب وطلحة بن مُصَرّف, لغتان والكسر أكثر. وقيل في جمع قِثّاء:
قَثَائِيّ مثلُ عِلْبَاء وعَلاَبِيّ إلا أن قثاء من ذوات الواو تقول: أقثأتُ القوم
أي أطعمتهم ذلك.
وفَثَأت القِدْرَ سكّنت غليانها بالماء قال
الجَعْدِيّ:
تَفُور علينا قِدْرُهم فنُدِيمُهَا ونَفْثَؤُها
عنّا إذا حَمْيُهَا غلا
وفثأتُ الرجل إذا كسرتَه عنك
بقول أو غيره وسكّنت غضبه. وعدا حتى أفثأ أي أعْيَا وانبهر. وأفثأ الحَرّ أي سكن
وفتَر. ومن أمثالهم في اليسير من البِرّ قولهم: إنّ الرّثِيئة تفثأ في الغضب».
وأصله أن رجلاً كان غَضِب على قوم وكان مع غضبه جائعاً, فسَقَوْه رَثِيئة فسكن غضبه وكفّ عنهم. الرثيئة: اللبن
المحلوب على الحامض ليَخْثُر. رَثَاْت اللبن رَثْأً إذا حلبته على حامض فخُثر والاسم
الرّثيئة. وارتثأ اللبن خثر.
وروى ابن ماجه حدّثنا محمد بن
عبد اللّه بن نمير حدّثنا يونس بن بُكير حدّثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة
قالت: «كانت أمّي تعالجني للسّمْنة, تريد أن تُدخلني على رسول الله صلى الله عليه
وسلم, فما استقام لها ذلك حتى أكلت القِثّاء بالرّطَب فسَمِنتُ كأحسنِ سِمْنة».
وهذا إسناد صحيح.
قوله تعالى: {وَفُومِهَا}
اختلف في الفُوم, فقيل: هو الثّوم, لأنه المشاكل للبصل. رواه جُوَيْبِر عن الضحاك.
والثاء تبدل من الفاء, كما قالوا: مغافير ومغاثير. وجَدَثٌ وجَدَفٌ للقبر. وقرأ
ابن مسعود «ثومها» بالثاء المثلثة وروي ذلك عن ابن عباس. وقال اُمَيّة بن أبي
الصّلْت:
كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرةً فيها الفَرَادِيْسُ والفُومان والبَصلُ
الفراديس: واحدها فرديس. وكَرْمُ مَفْرَدس, أي
معرّش, وقال حسّان:
وأنتم أناسٌ لئامُ الأصول طعامُكُم
الفُومُ والحَوْقَلُ
يعني الثّوم والبصل وهو قول
الكسائي والنّضر بن شُمَيل. وقيل: الفُوم الحنطة روي عن ابن عباس أيضاً وأكثر
المفسرين واختاره النحاس, قال: وهو أوْلى, ومن قال به أعلى, وأسانيده صحاح وليس
جُوَيْبر بنظير لرُوايته وإن كان الكسائي والفراء قد اختارا القول الأوّل, لإبدال
العرب الفاء من الثاء والإبدال لا يقاس عليه وليس ذلك بكثير في كلام العرب. وأنشد
ابن عباس لمن سأله عن الفوم وأنه الحنطة, قول أحَيْحَة بن الجُلاَح:
قد كنتُ أغنَى الناسِ شخصاً واجداً ورَدَ المدينةَ عن زراعة فُومِ
وقال أبو إسحاق الزجاج: وكيف
يطلب القوم طعاماً لا بُرّ فيه, والبرّ أصل الغذاء!. وقال الجوهري أبو نصر: الفوم
الحنطة. وأنشد الأخفش:
قد كنت أحسبني كأغنى واجد نزل المدينة عن زراعة فُومِ
وقال ابن دُرَيد: الفُومة السّنْبلة وأنشد:
وقال رَبِيئهم لمّا أتانا بِكَفّهِ فومةٌ أو فُومتان
والهاء في «كَفّه» غير مشبعة.
وقال بعضهم: الفُوم: الحِمّص لغةٌ شاميّة. وبائعه فاميّ, مغيّر عن فُوميّ لأنهم قد
يغيّرون في النسب كما قالوا: سُهْلِيّ ودُهْرِيّ. ويقال: فَوّموا لنا أي اختبزوا.
قال الفرّاء: هي لغة قديمة. وقال عطاء وقتادة: الفُوم كل حب يُخْتَبز.
مسألة:
اختلف العلماء في أكل البصل والثوم وما له رائحة كريهة من سائر البقول. فذهب جمهور
العلماء إلى إباحة ذلك للأحاديث الثابتة في ذلك. وذهبت طائفة من أهل الظاهر ـ
القائلين بوجوب الصلاة في الجماعة فرضاً ـ إلى المنع, وقالوا: كل ما مَنَع من
إتيان الفرض والقيام به فحرام عمله والتشاغل به. واحتجّوا بأن رسول الله صلى الله
عليه وسلم سمّاها خبيثة والله عز وجل قد وصف نبيّه عليه السلام بأنه يحرّم
الخبائث. ومن الحجة للجمهور ما ثبت عن جابر: «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم اُتِيَ
ببَدْر فيه خَضِرات من بقول فوجد لها ريحاً قال: فأخْبِر بما فيها من البقول فقال:
«قرّبوها» ـ إلى بعض أصحابه كان معه ـ فلما رآه كره أكلها, قال: «كُلْ فإنّي
اُناجِيَ مَن لا تُناجِي». أخرجه مسلم وأبو داود. فهذا بَيّنٌ في الخصوص له
والإباحة لغيره. وفي صحيح مسلم أيضاً عن أبي أيوب: «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم
نزل على أبي أيوب, فصنع للنبيّ صلى الله عليه وسلم طعاماً فيه ثُوم, فلما رُدّ
إليه سأل عن موضع أصابع النبيّ صلى الله عليه وسلم, فقيل له: لم يأكل. ففزِع وصعِد
إليه فقال: أحرامٌ هو؟ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا ولكني أكْرَهُه». قال:
فإني أكره ما تكره أو ما كرهت, قالت: وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يُؤْتَى.
(يعني يأتيه الوحي)». فهذا نصّ على عدم التحريم. وكذلك ما رواه أبو سعيد
الخُدْرِيّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم حين أكلوا الثّوم زمنَ خَيْبَر وفتحها:
«أيها الناس إنه ليس لي تحريمُ ما أحلّ الله ولكنها شجرة أكره ريحها». فهذه
الأحاديث تُشعر بأن الحكم خاصّ به, إذ هو المخصوص بمناجاة المَلَك. لكن قد علمنا
هذا الحكم في حديث جابر بما يقتضي التسوية بينه وبين غيره في هذا الحكم حيث قال:
«من أكل من هذه البقلةِ الثوم ـ وقال مرة: من أكل البصل والثوم والكُرّاث ـ فلا
يَقْرَبَنّ مسجدنا فإن الملائكة تتأذّى مما يتأذّى منه بنو آدم». وقال عمر بن
الخطاب رضي الله عنه في حديث فيه طُول: «إنكم أيها الناس, تأكلون شجرتين لا أراهما
إلا خبيثتين, هذا البصل والثوم. ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد
ريحهما من الرجل في المسجد أمر به فاُخْرِج إلى البَقيع, فمن أكلهما
فَلْيُمِتْهُمَا طبخاً». خرّجه مسلم.
قوله تعالى: {وَعَدَسِهَا
وَبَصَلِهَا} العدس معروف. والعَدَسَةُ: بثْرَةٌ تخرج بالإنسان, وربما قتلت.
وعَدَسْ: زَجْرٌ للبغال قال:
عَدَسْ ما لِعبّادٍ عليكِ إمارةٌ نَجوْتِ وهذا تحملين طَلِيق
والعَدْس: شدّة الوطء,
والكَدْح أيضاً يقال: عَدَسه. وعَدَس في الأرض: ذهب فيها. وعَدَستْ إليه المنيّة
أي سارت قال الكُمَيْت:
اُكَلّفها هَوْلَ الظلامِ ولم أزَلْ أخا الليلِ مَعْدوساً إليّ وعادِسَا
أي يُسار إليّ بالليل.
وعَدَسْ: لغة في حَدَس قاله الجوهري. ويؤثَرُ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من
حديث عليّ أنه قال: «عليكم بالعدس فإنه مبارَك مقدّس وإنه يَرِقّ القلب ويكثر
الدّمعة فإنه بارك فيه سبعون نبيّا آخرهم عيسى ابن مريم» ذكره الثعلبي وغيره. وكان
عمر بن عبد العزيز يأكل خبزاً بزيت, ويوماً بلحم, ويوماً بعدس. قال الحَلِيميّ:
والعدس والزيت طعام الصالحين ولو لم يكن له فضيلة إلا أنه ضيافة إبراهيم عليه
السلام في مدينته لا تخلو منه لكان فيه كفاية. وهو مما يخفّف البدن فيخِفّ
للعبادة, ولا تثور منه الشهوات كما تثور من اللحم. والحِنْطة من جملة الحبوب وهي
الفُوم على الصحيح, والشعير قريب منها وكان طعام أهل المدينة, كما كان العدس من
طعام قرية إبراهيم عليه السلام فصار لكل واحد من الحبتين بأحد النبيين عليهما
السلام فضيلة. وقد روي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لم يَشْبع هو وأهله من
خُبْزِ بُرّ ثلاثة أيام متتابعة منذ قِدم المدينة إلى أن توفاه الله عزّ وجلّ».
قوله تعالى: {قَالَ
أَتَسْتَبْدِلُونَ الّذِي هُوَ أَدْنَىَ بِالّذِي هُوَ خَيْرٌ} الاستبدال: وضع
الشيء موضع الاَخر ومنه البدل, وقد تقدّم. و «أدْنَى» مأخوذ ـ عند الزجاج ـ من
الدّنُوّ أي القُرْب في القيمة من قولهم: ثَوْبٌ مقارِب أي قليل الثمن. وقال عليّ
بن سليمان: هو مهموز من الدنيء البيّن الدناءة بمعنى الأخس, إلا أنه خفّف همزته.
وقيل: هو مأخوذ من الدّون أي الأحط فأصله أدْوَن, أفْعَل, قُلِب فجاء أفْلَع وحُوّلت
الواو ألفاً لتطرّفها. وقرئ في الشّواذّ «أدنأ». ومعنى الآية: أتستبدلون البَقْل
والقِثّاء والفُومَ والعَدَس والبَصل الذي هو أدنى بالمنّ والسّلْوَى الذي هو خير.
واختُلِف في الوجوه التي توجب
فضل المنّ والسّلْوَى على الشيء الذي طلبوه وهي خمسة:
الأوّل:
أن البقول لما كانت لا خطر لها بالنسبة إلى المنّ والسلوى كانا أفضل، قاله الزجاج.
الثاني:
لمّا كان المنّ والسلوى طعاماً منّ الله به عليهم وأمرهم بأكله وكان في استدامة
أمر الله وشكر نعمته أجر وذُخْرٌ في الاَخرة, والذي طلبوه عارٍ من هذه الخصائل,
كان أدنى في هذا الوجه.
الثالث:
لمّا كان ما منّ الله به عليهم أطيب وألذّ من الذي سألوه, كان ما سألوه أدنى من
هذا الوجه لا محالة.
الرابع:
لمّا كان ما اُعْطُوا لا كُلْفةَ فيه ولا تعب, والذي طلبوه لا يجيء إلا بالحرث
والزراعة والتعب, كان أدنى.
الخامس:
لمّا كان ما ينزل عليهم لا مِرْيةَ في حِلّه وخُلوصه لنزوله من عند الله, والحبوب
والأرض يتخلّلها البيوع والغصوب وتدخلها الشّبه, كانت أدنى من هذا الوجه.
مسألة:
في هذه الآية دليلٌ على جواز أكل الطّيبات والمطاعم المستلذّات, وكان النبيّ صلى
الله عليه وسلم يحبّ الحَلْوى والعَسَل, ويشرب الماء البارد العَذْب وسيأتي هذا
المعنى في «المائدة» و «النحل» إن شاء الله مستوفىً.
قوله تعالى: {اهْبِطُواْ
مِصْراً} تقدّم معنى الهبوط وهذا أمر معناه التعجيز كقوله تعالى: {قُلْ كُونُواْ
حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً} (الإسراء: 50). لأنهم كانوا في التّيه وهذا عقوبة لهم.
وقيل: إنهم أعطوا ما طلبوه. و «مِصْراً» بالتنوين منكّراً قراءة الجمهور، وهو خطّ
المصحف. قال مجاهد وغيره: فمن صَرَفها أراد مِصْراً من الأمصار غير معيّن. وروى
عكرمة عن ابن عباس في قوله: «اهْبِطُوا مِصْراً» قال: مِصْراً من هذه الأمصار.
وقالت طائفة ممن صَرَفها أيضاً: أراد مِصْرَ فرعون بعينها. استدلّ الأوّلون بما
اقتضاه ظاهر القرآن من أمرهم دخول القرية, وبما تظاهرت به الرواية أنهم سكنوا
الشام بعد التّيه. واستدلّ الاَخرون بما في القرآن من أن الله أوْرث بني إسرائيل
ديار آل فرعون وآثارهم, وأجازوا صرفها. قال الأخفش والكسائي: لخفّتها وشبهها
بِهنْد ودَعْد وأنشد:
لم تَتَلَفّعْ بفضل مِئزرها دَعْدٌ ولم تُسْقَ دَعْدُ في العُلَبِ
فجمع بين اللغتين. وسيبويه والخليل
والفرّاء لا يجيزون هذا لأنك لو سَمّيت امرأة بزيد لم تصرف. وقال غير الأخفش: أراد
المكان فَصرف. وقرأ الحسن وأبَان بن تَغْلِب وطلحة: «مِصْرَ» بترك الصرف. وكذلك هي
في مصحف أبي بن كعب وقراءة ابن مسعود. وقالوا: هي مصر فرعون. قال أشهب قال لي
مالك: هي عندي قريتك مسكن فرعون ذكره ابن عطية. والمِصر أصله في اللغة الحدّ.
ومِصر الدّار: حدودها. قال ابن فارس ويقال: إن أهل هَجَر يكتبون في شروطهم «اشترى
فلان الدار بِمُصُورها» أي حدودها قال عَدِيّ:
جاعلُ الشمسِ مصراً لا خفاءَ به بين النهار وبين الليل قد فَصلاَ
قوله تعالى: {فَإِنّ لَكُمْ
مّا سَأَلْتُمْ} «ما» نصب بإن. وقرأ ابن وثّاب والنّخَعِي «سألتم» بكسر السين يقال:
سألت وسلت بغير همز. وهو من ذوات الواو, بدليل قولهم: يتساولان. ومعنى {وَضُرِبَتْ
عَلَيْهِمُ الذّلّةُ} أي اُلزِموهما وقُضِيَ عليهم بهما مأخوذ من ضرب القباب, قال
الفرزدق في جَرِير:
ضربتْ عليك العنكبوتُ بنَسْجها وقَضَى عليك به الكتابُ الْمُنْزَلُ
وضرب الحاكم على اليد أي حمل
وألزم. والذّلّة: الذّلّ والصّغار. والمسكنة: الفقر. فلا يوجد يهوديّ وإن كان
غَنِياً خالياً من زِي الفقر وخضوعه ومهانته. وقيل: الذلة فرض الجِزْية عن الحسن
وقتادة. والمسكنة الخضوع, وهي مأخوذة من السكون أي قلّل الفقر حركته قاله الزجاج.
وقال أبو عبيدة: الذّلة الصّغار. والمسكنة مصدر المسكين. وروى الضّحاك بن مُزاحم
عن ابن عباس: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} قال: هم أصحاب
القَبَالات.
قوله تعالى: {وَبَآءُوا} أي
انقلبوا ورجعوا أي لزمهم ذلك. ومنه قوله عليه السلام في دعائه ومناجاته: «أبُوءُ
بنعمتك عليّ» أي اُقِرّ بها واُلزمها نفسي. وأصله في اللغة الرجوع يقال باء بكذا,
أي رجع به. وباء إلى المَبَاءة ـ وهي المنزل ـ أي رجع. والبواء: الرجوع بالقَوَد.
وهم في هذا الأمر بَوَاء أي سواء, يرجعون فيه إلى معنىً واحد. وقال الشاعر:
ألاَ تَنْتَهِي عنّا ملوكٌ وتَتّقي محارِمَنا لا يَبْؤُؤُ الدّمُ بالدّمِ
أي لا يرجع الدّم بالدم في القَوَد. وقال:
آبُوا بالنّهابِ وبالسّبايَا واُبْنَا بالملوكِ مُصَفّدِينَا
أي رجعوا ورجعنا. وقد تقدّم معنى الغضب في
الفاتحة.
قوله تعالى: {ذَلِكَ} «ذلك»
تعليل. {بِأَنّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ} أي يكذّبون {بِآيَاتِ اللّهِ} أي بكتابه
ومعجزات أنبيائه كعيسى ويحيى وزكريا ومحمد عليهم السلام. {وَيَقْتُلُونَ
النّبِيّينَ} معطوف على «يكفرون». ورُوِيَ عن الحسن «يُقَتّلون» وعنه أيضاً
كالجماعة. وقرأ نافع «النّبِيئين» بالهمز حيث وقع في القرآن إلا في موضعين: في
سورة الأحزاب: {إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنّبِيّ إِنْ أَرَادَ} (الأحزاب: 50).
{لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النّبِيّ إِلاّ} (الأحزاب: 53) فإنه قرأ بلا مدّ ولا
همز. وإنما ترك همز هذين لاجتماع همزتين مكسورتين. وتَرَك الهمزَ في جميع ذلك
الباقون. فأمّا من همز فهو عنده من أنبأ إذا أخبر واسم فاعله مُنْبِئ. ويجمع نبيء
أنبياء, وقد جاء في جمع نبيّ نُباء قال العباس بن مِرْدَاس السّلَمي يمدح النبيّ
صلى الله عليه وسلم:
يا خَاتَم النّبَآءِ إنك مُرْسَلٌ بالحق كلّ هُدَى السبيلِ هُدَاكَا
هذا معنى قراءة الهمز. واختلف
القائلون بترك الهمز فمنهم من اشتق اشتقاق من همز, ثم سهّل الهمز. ومنهم من قال:
هو مشتق من نَبَا يَنْبُو إذا ظهر. فالنبيّ من النبوة وهو الارتفاع فمنزلة النبيّ
رفيعة. والنبيّ بترك الهمز أيضاً الطريق, فسُمّيَ الرسول نَبِياّ لاهتداء الخلق به
كالطريق قال الشاعر:
لأصبح رَتْماً دُقاق الحَصَى مكانَ النّبِيّ من الكاثِبِ
رتَمْت الشيء: كسرته يقال:
رتم أنفه ورثمه, بالتاء والثاء جميعاً. والرتم أيضاً المرتوم أي المكسور. والكاثب
اسم جبل. فالأنبياء لنا كالسّبُل في الأرض. ويروى أن رجلاً قال للنبيّ صلى الله
عليه وسلم: السلام عليك يا نبيء الله وهمز. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لستُ
بنبيء الله ـ وهمز ـ ولكني نبيّ الله» ولم يهمز. قال أبو عليّ: ضُعّف سند هذا
الحديث ومما يقوّي ضعفه أنه عليه السلام قد أنشده المادح:
يا خاتَمَ النّبَآء ... ولم يُؤْثَر في
ذلك إنكار
قوله تعالى: {بِغَيْرِ
الْحَقّ} تعظيم للشّنْعة والذّنب الذي أتوه.
فإن قيل: هذا دليل على أنه قد
يصح أن يُقتلوا بالحق ومعلوم أن الأنبياء معصومون من أن يصدر منهم ما يُقتلون به.
قيل له: ليس كذلك وإنما خرج هذا مخرج الصفة لقتلهم أنه ظُلم وليس بحق فكان هذا
تعظيماً للشّنعة عليهم ومعلوم أنه لا يُقتل نبيّ بحق, ولكن يُقتل على الحق فصرّح
قوله: {بِغَيْرِ الْحَقّ} عن شُنعة الذنب ووضوحه ولم يأت نبيّ قط بشيء يوجب قتله.
فإن قيل: كيف جاز أن يخلّي
بين الكافرين وقتل الأنبياء؟ قيل: ذلك كرامة لهم وزيادة في منازلهم كمثل من يُقتل
في سبيل الله من المؤمنين, وليس ذلك بُخذلان لهم. قال ابن عباس والحسن: لم يُقتل
نبيّ قط من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال, وكلّ مَن أمر بقتال نُصِر.
قوله تعالى: {ذَلِكَ بِمَا
عَصَواْ وّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} «ذلك» ردّ على الأوّل وتأكيد للإشارة إليه.
والباء في «بما» باء السبب. قال الأخفش: أي بعصيانهم. والعصيان: خلاف الطاعة.
واعتصتِ النّواةُ إذا اشتدّت. والاعتداء: تجاوز الحدّ في كل شيء وعُرِف في الظلم والمعاصي.
قوله تعالى:
{إِنّ
الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ هَادُواْ وَالنّصَارَىَ وَالصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ
بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ
رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}
فيه ثماني مسائل:
الأولى:
قوله تعالى: {إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ} أي صدّقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم. وقال
سُفيان: المراد المنافقون. كأنه قال: الذين آمنوا في ظاهر أمرهم فلذلك قَرَنهم
باليهود والنصارى والصابئين, ثم بيّن حكم من آمن بالله واليوم الاَخر من جميعهم.
الثانية:
قوله تعالى: {وَالّذِينَ هَادُواْ} معناه صاروا يهوداً نُسِبوا إلى يهوذا وهو أكبر
ولد يعقوب عليه السلام فقلبت العرب الذال دالاً لأن الأعجمية إذا عُرّبت غُيّرت عن
لفظها. وقيل: سُمّوا بذلك لتوبتهم عن عبادة العجل. هاد: تاب. والهائد: التائب قال
الشاعر:
إني امرؤ من حُبّه هائِدُ
أي تائب. وفي التنزيل: {إِنّا
هُدْنَـآ إِلَيْكَ} (الأعراف: 156) أي تُبْنَا. وهاد القوم يهودون هَوْداً وهيادة
إذا تابوا. وقال ابن عرفة: {هُدْنَـآ إِلَيْكَ} أي سكنّا إلى أمرك. والهوادة
السكون والموادعة. قال: ومنه قوله تعالى: {إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ
هَادُواْ}. وقرأ أبو السّمّال: «هادَوْا» بفتح الدال.
الثالثة:
قوله تعالى: {وَالنّصَارَىَ} جمع, واحده نَصْرَانيّ. وقيل: نَصْرَان بإسقاط الياء وهذا
قول سيبويه. والأنثى نصرانة كندمان وندمانة. وهو نكرة يعرّف بالألف واللام قال
الشاعر:
صدّتْ كما صدّ عما لا يَحِلّ له ساقِي نَصَارَى قُبيل الفِصْحِ صُوّامِ
فوصفه بالنكرة. وقال الخليل:
واحد النصارى نَصْريّ كَمْهرِيّ ومهَارَى. وأنشد سيبويه شاهداً على قوله:
تراه إذا دار العِشَا مُتَحَنّفاً ويُضْحى لديه وهو نَصْرانُ شامِس
وأنشد:
فكلتاهما خَرّتْ وأسجد رأسُها كما أسجدتْ نَصرانةٌ لم تَحَنّفِ
يقال: أسجد إذا مال. ولكن لا
يستعمل نَصران ونَصرانة إلا بياءي النسب لأنهم قالوا: رجل نصرانيّ وامرأة نصرانية.
ونَصْره: جعله نَصرانيّا. وفي الحديث: «فأبواه يُهَوّدانِهِ أو يُنْصّرَانِهِ».
وقال عليه السلام: «لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يَهُوديّ ولا نَصرانيّ ثم لم يؤمن
بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار». وقد جاءت جموع على غير ما يستعمل واحدها وقياسه
النصرانيون. ثم قيل: سُمّوا بذلك لقرية تسمّى «ناصِرة» كان ينزلها عيسى عليه
السلام فنُسِب إليها فقيل: عيسى الناصريّ فلما نُسب أصحابه إليه قيل النصارى قاله
ابن عباس وقتادة. وقال الجوهري: ونصران قرية بالشام يُنسب إليها النصارى, ويقال
ناصرة. وقيل: سُمّوا لذلك لنُصرة بعضهم بعضاً قال الشاعر:
لما رأيتُ نَبَطاً أنصاراً شَمّرت عن ركبتيَ الإزارا
كنتُ لهم من النصارى جارا
وقيل: سُمّوا بذلك لقوله:
{مَنْ أَنصَارِيَ إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللّهِ}
(آل عمران: 52 والصف: 14).
الرابعة:
قوله تعالى: {وَالصّابِئِينَ} جمع صابئ, وقيل: صابٍ ولذلك اختلفوا في همزه, وهمزه
الجمهور إلا نافعاً. فمن همزه جعله من صَبأتِ النّجوم إذا طلعت, وَصَبَأتْ
ثَنِيّةُ الغلامِ إذا خرجت. ومن لم يهمز جعله من صبا يصبو إذا مال. فالصابئ في
اللغة: من خرج ومال من دين إلى دين ولهذا كانت العرب تقول لمن أسلم قد صبأ.
فالصابئون قد خرجوا من دين أهل الكتاب.
الخامسة:
لا خلاف في أن اليهود والنصارى أهل كتاب ولأجل كتابهم جاز نكاحُ نسائهم وأكلُ
طعامهم ـ على ما يأتي بيانه في المائدة ـ وضَرْبُ الجِزْية عليهم على ما يأتي في
سورة «براءة» إن شاء الله. واخْتُلف في الصابئين فقال السّدّي: هم فرقة من أهل
الكتاب, وقاله إسحَق بن رَاهَوَيْه.
قال ابن المنذر وقال إسحَق: لا بأس بذبائح الصابئين لأنهم طائفة من أهل الكتاب.
وقال أبو حنيفة: لا بأس بذبائحهم ومناكحة نسائهم. وقال الخليل: هم قوم يُشْبه
دينُهم دين النصارى, إلا أن قبلتهم نحو مهبّ الجنوب يزعمون أنهم على دين نوح عليه
السلام. وقال مجاهد والحسن وابن أبي نَجِيح: هم قوم تركّب دينهم بين اليهودية
والمجوسيّة, لا تؤكل ذبائحهم. ابن عباس: ولا تنكح نساؤهم. وقال الحسن أيضاً
وقتادة: هم قوم يعبدون الملائكة ويصلّون إلى القِبلة ويقرأون الزّبور ويصلّون
الخمس رآهم زياد بن أبي سفيان فأراد وضع الجزية عنهم حين عرف أنهم يعبدون
الملائكة. والذي تحصّل من مذهبهم ـ فيما ذكره بعض علمائنا ـ أنهم مُوَحّدون
معتقِدون تأثير النجوم وأنها فعالة لهذا أفتى أبو سعيد الإصْطَخْرِيّ القادرَ
بالله بكفرهم حين سأله عنهم.
السادسة:
قوله تعالى: {مَنْ آمَنَ} أي صدّق. و «مَن» في قوله: «مَنْ آمَنَ» في موضع نصب بدل
من {الّذِينَ}. والفاء في قوله «فَلَهُمْ» داخلة بسبب الإبهام الذي في «مَن». و
{أَجْرُهُمْ} ابتداء وخبر في موضع خبر إنّ. ويحسن أن يكون {مَنْ} في موضع رفع
بالابتداء, ومعناها الشرط. و {آمَنَ} في موضع جزم بالشرط, والفاء الجواب. و
{فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} خبر «من», والجملة كلها خبر {إِنّ} والعائد على {الّذِينَ}
محذوف تقديره من آمن منهم بالله. وفي الإيمان بالله واليوم الاَخر اندراج الإيمان
بالرسل والكتب والبعث.
السابعة:
إن قال قائل: لِم جُمِع الضمير في قوله تعالى: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} و«آمن» لفظ
مفرد ليس بجمع, وإنما كان يستقيم لو قال: له أجره. فالجواب أنّ «مَن» يقع على
الواحد والتثنية والجمع, فجائز أن يرجع الضمير مفرداً ومثنىً ومجموعاً قال الله
تعالى: {وَمِنْهُمْ مّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} (يونس: 42) على المعنى. وقال:
{وَمِنْهُمْ مّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} (الأنعام: 25 ومحمد: 16) على اللفظ. وقال
الشاعر:
ألِمّا بسَلْمَى عنكما إنْ عَرَضْتُمَا وقُولاَ لها عُوجِي على مَن تَخَلّفُوا
وقال الفرزدق:
تعالَ فإنْ عاهدتَني لا تخونني نكن مثلَ مَن يا ذئبُ يصطحبانِ
فحمل على المعنى, ولو حمل على
اللفظ لقال: يصطحب, وتخلّف. وقال تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ
يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ} (النساء: 13) فحمل على اللفظ. ثم قال: {خَالِدِينَ} فحمل على
المعنى ولو راعى اللفظ لقال: خالداً فيها. وإذا جرى ما بعد «مَن» على اللفظ فجائز
أن يخالف به بعدُ على المعنى كما في هذه الآية. وإذا جرى ما بعدها على المعنى لم
يجز أن يخالف به بعدُ على اللفظ لأن الإلباس يدخل في الكلام. وقد مضى الكلام في
قوله تعالى: {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}. والحمد لله.
الثامنة:
رُوِيَ عن ابن عباس أن قوله: {إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ هَادُواْ} الآية.
منسوخ بقوله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ
مِنْهُ} (آل عمران: 85) الآية. وقال غيره: ليست بمنسوخة. وهي فيمن ثبت على إيمانه
من المؤمنين بالنبيّ عليه السلام.
قوله تعالى:
{وَإِذْ
أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطّورَ خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم
بِقُوّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ * ثُمّ تَوَلّيْتُمْ مّن
بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُم مّنَ
الْخَاسِرِينَ}
قوله تعالى: {وَإِذْ
أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطّورَ} هذه الآية تفسّر معنى
قوله. تعالى: {وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنّهُ ظُلّةٌ} (الأعراف:
171). قال أبو عبيدة: المعنى زعزعناه فاستخرجناه من مكانه. قال: وكل شيء قلعته
فرمَيْتَ به فقد نتقته. وقيل: نتقناه رفعناه. قال ابن الأعرابيّ. الناتقُ الرافعُ,
والناتقُ الباسطُ, والناتقُ الفاتقُ. وامرأة ناتق ومِنتاق: كثيرة الولد. وقال
القُتَبِيّ: اُخذ ذلك مِن نَتْق السّقَاء, وهو نفضه حتى تُقتلع الزّبْدة منه. قال
وقوله: {وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنّهُ ظُلّةٌ} (الأعراف: 171)
قال: قُلع من أصله.
واختلف في الطور فقيل: الطور
اسم للجبل الذي كلّم الله عليه موسى عليه السلام وأنزل عليه فيه التوراة دون غيره رواه
ابن جريج عن ابن عباس. وروى الضحاك عنه أن الطور ما أنْبتَ من الجبال خاصة دون ما
لم ينبِت. وقال مجاهد وقتادة: أي جبل كان. إلا أن مجاهداً قال: هو اسم لكل جبل بالسريانية وقاله أبو
العالية. وقد مضى الكلام هل وقع في القرآن ألفاظ مفردة غير معرّبة من غير كلام
العرب في مقدمة الكتاب. والحمد لله. وزعم البكري أنه سُمّيَ بطور بن إسماعيل عليه
السلام. والله تعالى أعلم.
القول في سبب رفع الطور وذلك
أن موسى عليه السلام لما جاء بني إسرائيل من عند الله بالألواح فيها التوراة قال
لهم: خذوها والتزِموها. فقالوا: لا! إلا أن يكلّمنا الله بها كما كلّمك. فصعِقوا
ثم اُحْيُوا. فقال لهم: خذوها. فقالوا لا. فأمر الله الملائكة فاقتلعت جبلا من
جبال فلسطين طوله فرسخ في مثله وكذلك كان عسكرهم فجُعل عليهم مثل الظّلة, واُتُوا
ببحرِ من خَلْفِهم, ونار من أقبَل وجوههم, وقيل لهم: خذوها وعليكم الميثاق ألا
تضيّعوها, وإلا سقط عليكم الجبل. فسجدوا توبةً لله وأخذوا التوراة بالميثاق. قال
الطبري عن بعض العلماء: لو أخذوها أوّل مرة لم يكن عليهم ميثاق. وكان سجودهم على
شِقّ لأنهم كانوا يرقبون الجبل خوفاً فلما رحمهم الله قالوا: لا سجدة أفضل من سجدة
تقبّلها الله ورَحِم بها عباده, فأمَرّوا سجودَهم على شِق واحد. قال ابن عطية:
والذي لا يصح سواه أن الله تعالى اخترع وقت سجودهم الإيمان (في قلوبهم) لا أنهم
آمنوا كرهاً وقلوبهم غير مطمئنة بذلك.
قوله تعالى: {خُذُواْ} أي
فقلنا خذوا فحذف. {مَآ آتَيْنَاكُم} أعطيناكم. {بِقُوّةٍ} أي بِجد واجتهاد قاله
ابن عباس وقتادة والسدّي. وقيل: بنيّةٍ وإخلاص. مجاهد: القوّة العمل بما فيه.
وقيل: بقوّة, بكثرة درس. {وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ} أي تدبّروه واحفظوا أوامره
ووعيده, ولا تنسوه ولا تضيّعوه.
قلت: هذا هو المقصود من
الكُتب, العملُ بمقتضاها لا تلاوتها باللسان وترتيلها فإن ذلك نَبْذٌ لها على ما
قاله الشعبي وابن عُيَيْنة وسيأتي قولهما عند قوله تعالى: {نَبَذَ فَرِيقٌ مّنَ
الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} (البقرة: 101). وقد روى النسائي عن أبي سعيد
الخُدْرِيّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ مِن شرّ الناس رجلاً فاسقاً
يقرأ القرآن لا يَرْعَوِي إلى شيء منه». فبّين صلى الله عليه وسلم أن المقصود
العمل كما بيّنا. وقال مالك: قد يقرأ القرآنَ مَن لا خير فيه. فما لزم إذاً مَن
قبلنا واُخذ عليهم لازمٌ لنا وواجبٌ علينا. قال الله تعالى: {وَاتّبِعُـوَاْ
أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رّبّكُـمْ} (الزمر: 55). فاُمِرنا باتّباع
كتابه والعمل بمقتضاه لكن تركنا ذلك, كما تركت اليهود والنصارى, وبقيت أشخاص الكتب
والمصاحف لا تفيد شيئاً لغلبة الجهل وطلب الرياسة واتباع الأهواء. روى الترمذيّ عن
جُبَيْر بن نُفَيْر عن أبي الدّرداء قال: «كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم, فشخص
ببصره إلى السماء ثم قال: «هذا أوانٌ يُختلس فيه العلمُ من الناس حتى لا يقدرِوا
منه على شيء». فقال زياد بن لَبِيد الأنصاريّ: كيف يُختلس منا وقد قرأنا القرآن!
فوالله لَنقْرَأنه ولنُقرِئنّه نساءنا وأبناءنا. فقال: «ثَكِلَتْك أمّك يا زياد أن
كنتُ لأعُدّك من فقهاء المدينة هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا
تُغني عنهم» وذكر الحديث, وسيأتي. وخرّجه النسائي من حديث جُبير بن نُفير أيضاً عن
عَوف بن مالك الأشجعيّ من طريق صحيحة, وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لزياد:
«ثَكِلَتْك اُمّك يا زياد هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى». وفي
المُوَطَأ عن عبد اللّه بن مسعود قال لإنسان: «إنك في زمانٍ كثيرٍ فقهاؤه, قليلٍ
قُرّاؤه, تُحفظ فيه حدودُ القرآن وتُضَيّع حروفه, قليل مَن يسأل, كثيرٍ مَن
يُعطِي, يطيلون الصلاة ويُقْصِرون فيه الخطبة, يبدأون فيه أعمالهم قبل أهوائهم.
وسيأتي على الناس زمان قليلٌ فقهاؤه, كثيرٌ قراؤه, تُحفظ فيه حروف القرآن, وتُضيّع
حدوده كثيرٌ من يسأل, قليلٌ من يعطى, يطيلون فيه الخطبة, ويقصِرون الصلاة, يبدأون
فيه أهواءهم قبل أعمالهم». وهذه نصوص تدل على ما ذكرنا. وقد قال يحيى: سألت ابن
نافع عن قوله: يبدأون أهواءهم قبل أعمالهم؟ قال يقول: يتبعون أهواءهم ويتركون
العمل بالذي افترض عليهم. وتقدّم القول في معنى قوله: {لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ}. فلا
معنى لإعادته.
وقوله تعالى: {ثُمّ
تَوَلّيْتُمْ} تولّى تفعّل, وأصله الإعراض والإدبار عن الشيء بالجسم ثم استعمل في الإعراض
عن الأوامر والأديان والمعتقدات إتساعاً ومجازاً. وقوله: {مّن بَعْدِ ذَلِكَ} أي
من بعد البرهان وهو أخذ الميثاق ورفع الجبل. وقوله: {فَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ} «فضلُ» مرفوع
بالابتداء عند سيبويه والخبر محذوف لا يجوز إظهاره لأن العرب استغنت عن إظهاره إلا
أنهم إذا أرادوا إظهاره جاءوا بأنّ, فإذا جاءوا بها لم يحذفوا الخبر. والتقدير
فلولا فضل الله تدارككم. {وَرَحْمَتُهُ} عطف على «فضل» أي لطفه وإمهاله.
{لَكُنْتُم} جواب «لولا». {مّنَ الْخَاسِرِينَ} خبر كنتم. والخسران: النقصان وقد
تقدّم. وقيل: فضله قبول التوبة, و «رحمته» العفو. والفضل: الزيادة على ما وجب.
والإفضال: فعل ما لم يجب. قال ابن فارس في المُجْمَل: الفضل الزيادة والخير,
والإفضال: الإحسان.
قوله تعالى:
{وَلَقَدْ
عَلِمْتُمُ الّذِينَ اعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي السّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ
قِرَدَةً خَاسِئِينَ}
فيه سبع مسائل:
الأولى:
قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الّذِينَ اعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي السّبْتِ}
«علمتم» معناه عرفتم أعيانهم. وقيل: علمتم أحكامهم. والفرق بينهما أن المعرفة
متوجّهة إلى ذات المُسَمّى. والعلم متوجّه إلى أحوال المسمّى. فإذا قلت: عرفت
زيداً فالمراد شخصه. وإذا قلت: علمت زيداً فالمراد به العلم بأحواله من فضل ونقص.
فعلى الأوّل يتعدّى الفعل إلى مفعول واحد, وهو قول سيبويه: {عَلِمْتُمُ} بمعنى
عرفتم. وعلى الثاني إلى مفعولين. وحكى الأخفش: ولقد علمت زيداً ولم أكن أعلمه. وفي
التنزيل: {لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ} (الأنفال: 60). كل هذا بمعنى
المعرفة فاعلم. {الّذِينَ اعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي السّبْتِ} صلة «الذين».
والاعتداء. التجاوز, وقد تقدّم.
الثانية:
روى النّسائي عن صفوان بن عسّال قال: «قال يهوديّ لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا
النبيّ. فقال له صاحبه: لا تقل نبيّ لو سمعك! كان له أربع أعين. فأتيا رسول الله
صلى الله عليه وسلم وسألاه عن تسع آيات بينات فقال لهم: «لا تشركوا بالله شيئاً
ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق ولا تمشُوا ببريء
إلى سلطان ولا تَسْحَرُوا ولا تأكلوا الربا ولا تَقْذِفُوا المُحْصَنة ولا
تُوَلّوا يوم الزّحف وعليكم خاصّةً يهودُ ألاّ تعدوا في السبت». فقبّلوا يديه
ورجليه وقالوا: نشهد أنك نبيّ. قال: «فما يمنعكم أن تتبعوني»!. قالوا: إن داود دعا
بألاّ يزال من ذُرّيته نبيّ, وإنا نخاف إن اتبعناك أن تقتلنا يهود» وخرّجه
الترمذيّ وقال: حديث حسن صحيح. وسيأتي لفظه في سورة «سبحان» إن شاء الله تعالى.
الثالثة:
{فِي السّبْتِ} معناه في يوم السبت ويحتمل أن يريد في حكم السبت. والأوّل قول
الحسن وأنهم أخذوا فيه الحِيتان على جهة الاستحلال. وروى أشهب عن مالك قال: زعم
ابن رُومان أنهم كانوا يأخذ الرجل منهم خَيْطاً ويضع فيه وَهْقَة وألقاها في ذَنَب
الحوت, وفي الطرف الاَخر من الخيط وَتِد وتركه كذلك إلى الأحد ثم تطرّق الناس حين
رأوا مَن صَنَع لا يُبتلَى, حتى كثر صيد الحوت ومُشِيَ به في الأسواق, وأعلن
الفَسَقة بصيده. فقامت فرقة فنهت وجاهرت بالنّهي واعتزلت. ويقال: إن الناهين
قالوا: لا نساكنكم فقسموا القرية بجدار. فأصبح الناهون ذات يوم في مجالسهم ولم
يخرج من المعتدين أحد فقالوا: إنّ للناس لشأنا فعلَوْا على الجدار فنظروا فإذا هم
قِردة ففتحوا الباب ودخلوا عليهم, فعرفت القردة أنسابها من الإنس, ولا يعرف الإنس
أنسابهم من القِردة فجعلت القردة تأتي نسيبها من الإنس فتَشُمّ ثيابه وتبكي فيقول:
ألم نَنْهَكم! فتقول برأسها نعم. قال قتادة: صار الشبان قِردة, والشيوخ خنازير فما
نجا إلا الذين نَهَوْا وهلك سائرهم. وسيأتي في «الأعراف» قول من قال: إنهم كانوا
ثلاث فرق. وهو أصح من قول من قال: إنهم لم يفترقوا إلا فرقتين. والله أعلم.
والسّبْت مأخوذ من السّبْت
وهو القطع فقيل: إن الأشياء فيه سَبَتت وتمّت خِلْقتها. وقيل: هو مأخوذ من
السّبُوت الذي هو الراحة والدعة.
واختلف العلماء في الممسوخ هل
يَنْسُل على قولين. قال الزجاج: قال قوم يجوز أن تكون هذه القِردة منهم. واختاره
القاضي أبو بكر بن العربي. وقال الجمهور: الممسوخ لا يَنْسُل وإن القردة والخنازير
وغيرهما كانت قبل ذلك والذين مسخهم الله قد هلكوا ولم يبق لهم نسل لأنه قد أصابهم
السّخط والعذاب, فلم يكن لهم قرار في الدنيا بعد ثلاثة أيام. قال ابن عباس: لم يعش
مَسْخٌ قطّ فوق ثلاثة أيام, ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل. قال ابن عطية: وروي. «عن
النبيّ صلى الله عليه وسلم وثبت أن الممسوخ لا ينسل ولا يأكل ولا يشرب ولا يعيش
أكثر من ثلاثة أيام».
قلت: هذا هو الصحيح من
القولين. وأما ما احتج به ابن العربي وغيره على صحة القول الأوّل من قوله صلى الله
عليه وسلم: «فُقِدتْ أمّةٌ من بني إسرائيل لا يُدْرَى ما فعلت ولا أراها إلا الفأر
ألاَ ترونها إذا وُضِع لها ألبانُ الإبل لم تشربه وإذا وُضِع لها ألبانُ الشاء
شربته». رواه أبو هريرة أخرجه مسلم, وبحديث الضّبّ رواه مسلم أيضاً عن أبي سعيد
وجابر قال جابر: «اُتِيَ النبيّ صلى الله عليه وسلم بضبّ فأبى أن يأكل منه وقال:
«لا أدري لعله من القرون التي مُسختْ» فمتأوّل على ما يأتي. قال ابن العربي: وفي
البخاري عن عمرو بن مَيْمُون أنه قال: «رأيت في الجاهلية قِردة قد زَنَت فرجموها
فرجمتها معهم» ثبت في بعض نسخ البخاري وسقط في بعضها, وثبت في نص الحديث «قد زنت»
وسقط هذا اللفظ عند بعضهم. قال ابن العربي: فإن قيل: وكأن البهائم بقيت فيهم معارف
الشرائع حتى ورثوها خَلفاً عن سلف إلى زمان عمرو؟ قلنا: نعم كذلك كان لأن اليهود
غيّروا الرجم فأراد الله أن يقيمه في مُسُوخهم حتى يكون أبلغ في الحجة على ما
أنكروه من ذلك وغيّروه, حتى تشهد عليهم كتبهم وأحبارهم ومسوخهم, حتى يعلموا أن
الله يعلم ما يُسِرّون وما يُعلنون, ويُحصي ما يُبدّلون وما يغيّرون, ويُقيم عليهم
الحجة من حيث لا يشعرون, وينصر نبيّه عليه السلام وهم لا يُنصرون.
قلت: هذا كلامه في الأحكام,
ولا حجة في شيء منه. وأمّا ما ذكره من قصة عمرو فذكر الحميدي في جمع الصحيحين: حكى
أبو مسعود الدمشقي أن لعمرو بن ميمون الأوْديّ في الصحيحين حكايةً من رواية حُصين
عنه قال: رأيت في الجاهلية قردة اجتمع عليها قردة فرجموها فرجمتها معهم. كذا حكى
أبو مسعود ولم يذكر في أي موضع أخرجه البخاريّ من كتابه فبحثنا عن ذلك فوجدناه في
بعض النسخ لا في كلها فذكر في كتاب أيام الجاهلية. وليس في رواية النعيميّ عن
الفَرَبْرِيّ أصلاً شيء من هذا الخبر في القِردة ولعلها من المُقْحَمات في كتاب
البخاري. والذي قال البخاريّ في التاريخ الكبير: قال لي نُعيم بن حمّاد أخبرنا
هُشَيم عن أبي بَلْج وحُصين عن عمرو بن مَيمون قال: رأيت في الجاهلية قِردة اجتمع
عليها قرود فرجموها فرجمتها معهم. وليس فيه «قد زنت». فإن صحت هذه الرواية فإنما
أخرجها البخاريّ دلالة على أن عمرو بن ميمون قد أدرك الجاهلية ولم يُبال بظنّه
الذي ظنّه في الجاهلية. وذكر أبو عمر في الاستيعاب عمرو بن ميمون وأن كنيته أبو
عبد اللّه «معدود في كبار التابعين من الكوفيين, وهو الذي رأى الرجم في الجاهلية
من القردة إن صح ذلك لأنّ رواته مجهولون. وقد ذكره البخاريّ عن نُعيم عن هُشَيم عن
حُصين عن عمرو بن ميمون الأوْدِيّ مختصراً قال: رأيت في الجاهلية قردة زنت فرجموها
ـ يعني القردة ـ فرجمتها معهم. ورواه عباد بن العوّام عن حُصين كما رواه هُشيم
مختصراً. وأما القصة بطولها فإنها تدور على عبد الملك بن مسلم عن عيسى بن حِطّان وليسا
ممن يُحتّج بهما. وهذا عند جماعة أهل العلم منكر إضافة الزنى إلى غير مكلّف,
وإقامة الحدود في البهائم. ولو صح لكانوا من الجن لأن العبادات في الإنس والجن دون
غيرهما». وأمّا قوله عليه السلام في حديث أبي هريرة: «ولا أراها إلا الفأر» وفي
الضب: «لا أدري لعله من القرون التي مُسِخت» وما كان مثله, فإنما كان ظناً وخوفاً
لأن يكون الضب والفأر وغيرهما مما مُسخ, وكان هذا حَدْساً منه صلى الله عليه وسلم قبل
أن يُوحَى إليه أن الله لم يجعل للمسخ نسلاً فلما أوحى إليه بذلك زال عنه ذلك
التخوّف, وعلم أن الضبّ والفأر ليسا مما مُسِخ وعند ذلك أخبرنا بقوله صلى الله
عليه وسلم لمن سأله عن القردة والخنازير: هي مما مسخ؟ فقال: «إنّ الله لم يُهلكْ
قوماً أو يعذّب قوماً فيجعل لهم نسلاً وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك». وهذا
نص صريح صحيح رواه عبد اللّه بن مسعود أخرجه مسلم في كتاب القَدَر. وثبتت النصوص
بأكل الضب بحضرته وعلى مائدته ولم يُنكر فدلّ على صحة ما ذكرنا. وبالله توفيقنا.
ورُوِي عن مجاهد في تفسير هذه الآية أنه إنما مُسِختْ قلوبُهم فقط, ورُدّت أفهامهم
كأفهام القِردة. ولم يقله غيره من المفسرين فيما أعلم. والله أعلم.
قوله تعالى: {فَقُلْنَا
لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً} «قردة» خبر كان. {خَاسِئِينَ} نعت, وإن شئت جعلته خبراً
ثانياً لكان, أو حالاً من الضمير في «كونوا». ومعناه مبعَدين. يقال: خَسَأته
فَخَسأ وخَسِىء وانخسأ أي أبعده فبَعُدَ. وقوله تعالى: {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ
البَصَرُ خَاسِئاً} (الملك: 4) أي مبعَداً. وقوله: {اخْسَئُواْ فِيهَا} (المؤمنون:
108) أي تباعدوا تباعد سخط. قال الكسائي: خَسَأ الرجل خُسُوءاً, وخَسَأته خَسْأً.
ويكون الخاسئ بمعنى الصاغر القَمِئ. يقال: قَمُؤَ الرجل قماء وقماءة صار قميئاً,
وهو الصاغر الذليل. وأقمأته: صغّرته وذلّلته, فهو قمئ على فعيل.
قوله تعالى:
{فَجَعَلْنَاهَا
نَكَالاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لّلْمُتّقِينَ}
قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا
نَكَالاً} نصب على المفعول الثاني. وفي المجعول نكالاً أقاويل قيل: العقوبة. وقيل:
القرية إذ معنى الكلام يقتضيها. وقيل: الأمّة التي مُسِخت. وقيل: الحِيتان وفيه
بُعْدٌ. والنّكال: الزجر والعقاب. والنّكْل والأنكال: القيود. وسُمّيت القيود أنكالاً
لأنها يُنْكل بها أي يمنع. ويقال للجام الثقيل: نَكْل ونِكْل لأن الدابة تُمنع به.
ونَكَل عن الأمر يَنْكُل, ونَكِل يَنْكَل إذا امتنع. والتّنكيل: إصابة الأعداء
بعقوبة تُنَكّل مَن وراءهم أي تُجَبّنهم. وقال الأزهري: النكال العقوبة. ابن
دُرَيْد: والمَنْكَل: الشيء الذي يُنَكّل بالإنسان قال:
فارمِ على أقفائهم بمَنْكَل
قوله: {لّمَا بَيْنَ
يَدَيْهَا} قال ابن عباس والسّدّي: لِمَا بين يدي المَسْخة ما قبلها من ذنوب
القوم. {وَمَا خَلْفَهَا} لمن يعمل بعدها مثل تلك الذنوب. قال الفرّاء: جُعلت
المسخة نكالاً لما مضى من الذنوب ولمَا يُعمل بعدها ليخافوا المسخ بذنوبهم. قال
ابن عطية: وهذا قول جيّد, والضميران للعقوبة. وروى الحكم عن مجاهد عن ابن عباس:
لمن حضر معهم ولمن يأتي بعدهم. واختاره النحاس قال: وهو أشبه بالمعنى, والله أعلم.
وعن ابن عباس أيضاً: {لّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} من القُرَى. وقال
قتادة: {لّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا} من ذنوبهم, «وما خلفها» من صيد الحيتان.
قوله تعالى: {وَمَوْعِظَةً
لّلْمُتّقِينَ} عطف على نكال, ووَزْنُهَا مَفْعِلة من الاتعاظ والانزجار. والوعظ:
التخويف. والعِظَة الاسم. قال الخليل: الوَعْظ التّذكير بالخير فيما يَرِقّ له
القلب. قال الماوَرْدِيّ: وخصّ المتقين وإن كانت موعظة للعالمين لتفرّدهم بها عن
الكافرين المعاندين. قال ابن عطية: واللفظ يعمّ كل مُتّقٍ من كل أمّة. وقال
الزجاج: {وَمَوْعِظَةً لّلْمُتّقِينَ} لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن ينتهكوا مِن
حُرَم الله جلّ وعَزّ ما نهاهم عنه, فيصيبهم ما أصاب أصحاب السبت إذ انتهكوا حُرَم
الله في سَبْتهم.
قوله تعالى:
{وَإِذْ
قَالَ مُوسَىَ لِقَوْمِهِ إِنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً
قَالُوَاْ أَتَتّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ
الْجَاهِلِينَ}
قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ
مُوسَىَ لِقَوْمِهِ إِنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً} فيه أربع
مسائل:
الأولى:
قوله تعالى: {إِنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ} حُكي عن أبي عمرو أنه قرأ {يَأْمُرُكُمْ}
بالسكون, وحذف الضمة من الراء لثقلها. قال أبو العباس المبرد: لا يجوز هذا لأن
الراء حرف الإعراب, وإنما الصحيح عن أبي عمرو أنه كان يختلس الحركة. {أَنْ
تَذْبَحُواْ} في موضع نصب بـ «ـيأمركم» أي بأن تذبحوا. {بَقَرَةً} نصب بـ
«ـتذبحوا». وقد تقدّم معنى الذبح, فلا معنى لإعادته.
الثانية:
قوله تعالى: {إِنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً} مقدّم في
التلاوة, وقوله: «قَتَلْتُمْ نَفْساً» مقدّم في المعنى على جميع ما ابتدأ به من
شأن البقرة. ويجوز أن يكون قوله: «قتلتم» في النزول مقدّماً, والأمر بالذبح
مؤخراً. ويجوز أن يكون ترتيب نزولها على حسب تلاوتها فكأن الله أمرهم بذبح البقرة
حتى ذبحوها ثم وقع ما وقع من أمر القتل, فاُمروا أن يضربوه ببعضها ويكون (وإذ
قتلتم) مقدّماً في المعنى على القول الأوّل حسب ما ذكرنا, لأن الواو لا توجب
الترتيب. ونظيره في التنزيل في قصة نوح بعد ذكر الطّوفان وانقضائه في قوله:
{حَتّىَ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التّنّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلّ
زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} إلى قوله: {إِلاّ قَلِيلٌ} (هود: 40). فذكر إهلاكَ من هلك
منهم ثم عطف عليه بقوله: {وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا
وَمُرْسَاهَا} (هود: 41). فذكر الركوب متأخراً في الخطاب ومعلومٌ أن ركوبهم كان
قبل الهلاك. وكذلك قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَنْزَلَ عَلَىَ عَبْدِهِ
الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لّهُ عِوَجَا قَيّماً} (الكهف: 1). وتقديره: أنزل على
عبده الكتاب قَيّماً ولم يجعل له عوجا ومثله في القرآن كثير.
الثالثة:
لا خلاف بين العلماء أن الذّبح أوْلى في الغنم, والنحر أوْلى في الإبل, والتخيّر
في البقر. وقيل: الذبح أوْلى لأنه الذي ذكره الله, ولقُرب المنحرَ من المذبح. قال
ابن المنذر: لا أعلم أحداً حَرّم أكل ما نُحر مما يُذبح, أو ذُبح مما يُنحر. وكره
مالك ذلك. وقد يكره المرء الشيء ولا يحرّمه. وسيأتي في سورة «المائدة» أحكام الذبح
والذابح وشرائطهما عند قوله تعالى: {إلاّ مَا ذَكّيْتُمْ} مستوفىً إن شاء الله
تعالى. قال الماوردي: وإنما أمروا ـ والله أعلم ـ بذبح بقرة دون غيرها لأنها من
جنس ما عبدوه من العجل ليهوّن عندهم ما كان يرونه من تعظيمه, وليعلم بإجابتهم ما
كان في نفوسهم من عبادته. وهذا المعنى علّة في ذبح البقرة, وليس بعلة في جواب
السائل ولكن المعنى فيه أن يحيا القتيل بقتل حيّ, فيكون أظهر لقدرته في اختراع
الأشياء من أضدادها.
الرابعة:
قوله تعالى: {بَقَرَةً} البقرة اسم للأنثى, والثّور اسم للذكر مثل ناقة وجمل,
وامرأة ورجل. وقيل: البقرة واحد البقر الأنثى والذكر سواء. وأصله من قولك: بقَرَ
بطنه أي شقه فالبقرة تشقّ الأرض بالحرث وتثيره. ومنه الباقر لأبي جعفر محمد بن علي
زين العابدين لأنه بَقَر العلم وعرف أصله, أي شقّه. والبَقِيرة: ثوب يُشقّ فتلقيه
المرأة في عنقها من غير كُمّين. وفي حديث ابن عباس في شأن الهُدهد «فبقر الأرض».
قال شَمِر: بَقَر نَظَر موضع الماء, فرأى الماء تحت الأرض. قال الأزهريّ: البقر
اسم للجنس وجمعه باقر. ابن عرفة: يقال بقير وباقر وبَيْقور. وقرأ عكرمة وابن يَعمر
«إن الباقر». والثّور: واحد الثيران. والثّور: السيّد من الرجال. والثّور القطعة
من الأقِطِ. والثّور: الطّحْلُب. وثَوْر: جبل. وثَوْر: قبيلة من العرب. وفي
الحديث: «ووقت العشاء ما لم يغب ثَور الشّفق» يعني انتشاره يقال: ثار يثور ثوراً
وثوراناً إذا انتشر في الأفق. وفي الحديث: «من أراد العلم فَلْيُثَوّر القرآن».
قال شَمِر: تثوير القرآن قراءته ومفاتشة العلماء به.
قوله تعالى: {قَالُوَاْ
أَتَتّخِذُنَا هُزُواً} هذا جواب منهم لموسى عليه السلام لما قال لهم: {إِنّ
اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً} وذلك أنهم وجدوا قتيلاً بين
أظهرهم ـ قيل: اسمه عاميل ـ واشتبه أمر قاتله عليهم, ووقع بينهم خلاف فقالوا:
نقتتل ورسول الله بين أظهرنا
فأتَوْه وسألوه البيان ـ وذلك قبل نزول القَسَامة في التوراة, فسألوا موسى أن يدعو
الله ـ فسأل موسى عليه السلام ربه فأمرهم بذبح بقرة فلما سمعوا ذلك من موسى وليس
في ظاهره جواب عما سألوه عنه واحتكموا فيه عنده قالوا: أتتخذنا هزؤاً؟ والهزء:
اللّعب والسّخرية وقد تقدّم. وقرأ الجحدَرِي «أيتخذنا» بالياء أي قال ذلك بعضهم
لبعض فأجابهم موسى عليه السلام بقوله: {أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ
الْجَاهِلِينَ} لأن الخروج عن جواب السائل المسترشد إلى الهزء جهل فاستعاذ منه
عليه السلام لأنها صفة تنتفي عن الأنبياء. والجهل نقيض العلم. فاستعاذ من الجهل,
كما جهلوا في قولهم: أتتخذنا هزؤاً لمن يخبرهم عن الله تعالى, وظاهر هذا القول يدلّ
على فساد اعتقاد مَن قاله. ولا يصحّ إيمان مَن قال لنبيّ قد ظهرت معجزته, ـ وقال:
إن الله يأمرك بكذا ـ: أتتّخذنا هُزُؤاً؟ ولو قال ذلك اليوم أحد عن بعض أقوال
النبيّ صلى الله عليه وسلم لوجب تكفيره. وذهب قوم إلى أن ذلك منهم على جهة غلظ
الطبع والجفاء والمعصية على نحو ما قال القائل للنبيّ صلى الله عليه وسلم في قسمة
غنائم حُنَين: ان هذه لَقِسمةٌ ما أريد بها وجه الله. وكما قال له الاَخر: اعدل يا
محمد. وفي هذا كلّه أدلّ دليل على قبح الجهل, وأنه مفسد للدّين.
قوله تعالى: {هُزُواً} مفعول
ثان, ويجوز تخفيف الهمزة تجعلها بين الواو والهمزة. وجَعَلَها حَفْص واواً مفتوحة,
لأنها همزة مفتوحة قبلها ضمة فهي تجري على البدل كقوله: «السفهاء ولكن». ويجوز حذف
الضمة من الزاي كما تحذفها من عَضُد, فتقول: هزْؤاً, كما قرأ أهل الكوفة وكذلك
{وَلَمْ يَكُنْ لّهُ كُفُواً أَحَدٌ} (الإخلاص: 4). وحكى الأخفش عن عيسى بن عمر أن
كل اسم على ثلاثة أحرف أوّله مضموم ففيه لغتان: التخفيف والتثقيل نحو العسر واليسر
والهزء. ومثله ما كان من الجمع على فُعْل ككُتُب وكُتْب, ورُسُل ورُسْل, وعُوُن
وعُوْن. وأما قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} (الزخرف: 15)
فليس مثل هزء وكفء لأنه على فُعْل من الأصل. على ما يأتي في موضعه إن شاء الله
تعالى.
مسألة:
في الآية دليل على منع الاستهزاء بدين الله ودين المسلمين ومن يجب تعظيمه, وأن ذلك
جهل وصاحبه مستحقّ للوعيد. وليس المُزاح من الاستهزاء بسبيل ألاَ ترى أن النبيّ
صلى الله عليه وسلم كان يمزح والأئمة بعده. قال ابن خُوَيْزِ مَنْداد: وقد بلغنا
أن رجلاً تقدّم إلى عبيد اللّه بن الحسن وهو قاضي الكوفة فمازحه عبيد الله فقال:
جُبّتُك هذه من صوف نعجة أو صوف كَبْش؟ فقال له: لا تجهل أيها القاضي! فقال له عبيد
الله: وأين وجدت المزاح جهلاً! فتلاَ عليه هذه الآية فأعرض عنه عبيد اللّه لأنه
رآه جاهلاً لا يعرف المزح من الاستهزاء, وليس أحدهما من الاَخر بسبيل.
قوله تعالى:
{قَالُواْ
ادْعُ لَنَا رَبّكَ يُبَيّنَ لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنّهُ يَقُولُ إِنّهَا
بَقَرَةٌ لاّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا
تُؤْمَرونَ}
قوله تعالى: {قَالُواْ ادْعُ
لَنَا رَبّكَ} هذا تعنيت منهم وقلّة طواعية ولو امتثلوا الأمر وذبحوا أيّ بقرة
كانت لحصل المقصود, لكنهم شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم قاله ابن عباس وأبو
العالية وغيرهما. ونحو ذلك روى الحسن البصريّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. ولغة
بني عامر «ادِع» وقد تقدم. و {يُبَيّنَ} مجزوم على جواب الأمر. {مَا هِيَ} ابتداء
وخبر. وماهِيّة الشيء: حقيقته وذاته التي هو عليها.
قوله تعالى: {قَالَ إِنّهُ
يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ لاّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} في هذا
دليل على جواز النسخ قبل وقت الفعل لأنه لما أمر ببقرة اقتضى أيّ بقرة كانت, فلما
زاد في الصفة نسخ الحكم الأوّل بغيره كما لو قال: في ثلاثين من الإبل بنتُ مَخَاض, ثم نَسَخه بابنة لَبُون أو
حقّة. وكذلك ها هنا لما عيّن الصفة صار ذلك نسخاً للحكم المتقدّم. والفارض:
المُسِنّة. وقد فَرَضَت تَفْرِض فروضاً أي أسَنّت. ويقال للشيء القديم فارض قال
الراجز:
شَيّبَ أصداغِي فرأسِي أبيضُ مَحاملٌ فيها
رجال فُرّضُ
يعني هَرْمَي قال آخر:
لَعَمرُك قد أعطيتَ جارك فارضاً تُساق إليه ما تقوم على رِجْلِ
أي قديماً وقال آخر:
يا رُبّ ذي ضِغْن عليّ فارِض له قُروء
كقُروء الحائِض
أي قديم. و {لاّ فَارِضٌ} رفع
على الصفة لبقرة. {وَلاَ بِكْرٌ} عطف. وقيل: {لاّ فَارِضٌ} خبر مبتدأ مضمر أي لا
هي فارض وكذا «لا ذلول», وكذلك «لاَ تَسْقِي الْحَرْثَ» وكذلك «مُسَلّمَةٌ»
فاعلمه. وقيل: الفارض التي قد ولدت بطوناً كثيرة فيتّسع جَوْفها لذلك لأن معنى الفارض في اللغة الواسع قاله بعض
المتأخرين. والبِكر: الصغيرة التي لم تحمل. وحكى القُتَبِيّ أنها التي ولدت.
والبكر: الأوّل من الأولاد قال:
يا بِكْرِ بِكْرَينِ ويا خِلْبَ الكَبِدْ أصبحتَ
مِنّي كذراع مِن عَضُدْ
والبِكْرُ أيضاً في إناث
البهائم وبني آدم: ما لم يَفْتَحِلْه الفحل وهي مكسورة الباء. وبفتحها الفَتِيّ من
الإبل. والعَوَان: النّصَف التي قد ولدت بطناً أو بطنين وهي أقوى ما تكون من البقر
وأحسنه, بخلاف الخيل قال الشاعر يصف فرساً:
كُمَيْت بَهِيم اللّوْنِ ليس بفارضٍ ولا بِعَوان ذاتِ لَوْن مُخَصّفِ
فرس أخْصَف: إذا ارتفع
البَلَق من بطنه إلى جنبه. وقال مجاهد: العَوَان من البقر هي التي قد ولدت مَرّة
بعد مَرّة. وحكاه أهل اللغة. ويقال: إن العَوَان النّخلةُ الطويلة وهي فيما زعموا
لغة يمانية. وحَرْبٌ عَوَانٌ: إذا كان قبلها حَرْب بِكرٌ قال زُهير:
إذا لَقِحتْ حربٌ عَوانٌ مُضِرّةٌ ضَروسٌ تُهِرّ الناسَ أنيابُها عُصْلُ
أي لا هي صغيرة ولا هي
مُسِنّة أي هو عَوان, وجمعها «عُوْنٌ» بضم العين وسكون الواو وسُمع «عُونُ» بضم
الواو كرُسل. وقد تقدم. وحكى الفَرّاء من العوان عَونَت تَعْويناً.
قوله تعالى: {فَافْعَلُواْ
مَا تُؤْمَرونَ} تجديد للأمر وتأكيد وتنبيه على ترك التعنّت فما تركوه. وهذا يدل
على أن مقتضى الأمر الوجوب كما تقوله الفقهاء وهو الصحيح على ما هو مذكور في أصول
الفقه, وعلى أن الأمر على الفَوْر وهو مذهب أكثر الفقهاء أيضاً. ويدلّ على صحة ذلك
أنه تعالى استقصرهم حين لم يبادروا إلى فعل ما أمِروا به فقال: {فَذَبَحُوهَا
وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ}. وقيل: لا, بل على التراخي لأنه لم يَعنّفهم على
التأخير والمراجعة في الخطاب. قاله ابن خُوَيْزِ مَنْدَاد.
قوله تعالى:
{قَالُواْ
ادْعُ لَنَا رَبّكَ يُبَيّن لّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنّهُ يَقُولُ إِنّهَا
بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِـعٌ لّوْنُهَا تَسُرّ النّاظِرِينَ}
قوله تعالى: {قَالُواْ ادْعُ
لَنَا رَبّكَ يُبَيّن لّنَا مَا لَوْنُهَا} «ما» استفهام مبتدأة, و «لونها» الخبر.
ويجوز نصب (لونها) بـ (ـيبيّن), وتكون «ما» زائدة. واللون واحد الألوان, وهو هيئة
كالسواد والبياض والحمرة. واللّوْن: النّوع. وفلان مُتَلَوّن: إذا كان لا يثبت على
خلق واحد وحال واحد قال:
كلّ يوم تتلوّنْ غير هذا بك أجْمَلْ
ولَوّن البُسْرُ تلويناً: إذا
بدا فيه أثر النّضْج. واللّوْن: الدّقَل, وهو ضرب من النخل. قال الأخفش: هو جماعة,
واحدها لِينة.
قوله: {صَفْرَاءُ} جمهور
المفسرين أنها صفراء اللون, من الصّفرة المعروفة. قال مكيّ عن بعضهم: حتى القَرْن
والظّلْف. وقال الحسن وابن جُبير: كانت صفراء القرن والظّلْف فقط. وعن الحسن
أيضاً: «صفراء» معناه سوداء قال الشاعر:
تلك خَيْلِي منه وتلك رِكابِي هنّ صُفْرٌ أولادُها كالزّبِيبِ
قلت: والأوّل أصح لأنه الظاهر
وهذا شاذّ لا يُستعمل مجازاً إلا في الإبل قال الله تعالى: {كَأَنّهُ جِمَالَةٌ
صُفْرٌ} (المرسلات: 33) وذلك أن السّود من الإبل سوادها صُفرة. ولو أراد السواد
لما أكّده بالفُقُوع, وذلك نَعْتٌ مختصّ بالصّفرة, وليس بوصف السواد بذلك تقول
العرب: أسودُ حالِكٌ وحَلَكُوك وحُلْكُوك, ودَجُوجِيّ وغِرْبيب, وأحمرُ قانئ,
وأبيضُ ناصعٌ, ولَهِقٌ ولِهَاق ويَقِق, وأخضرُ ناضرٌ, وأصفرُ فاقِعٌ هكذا نصّ
نَقَلة اللغة عن العرب. قال الكسائي: يقال فَقَع لَوْنُهَا يَفْقَع فُقوعاً إذا
خَلَصت صُفْرته. والإفقاع: سوء الحال. وفواقع الدهر بوائقه. وفَقّع بأصابعه إذا
صوّت ومنه حديث ابن عباس: نهى عن التفقيع في الصلاة وهي الفرقعة, وهي غمز الأصابع
حتى تُنْقِض. ولم ينصرف «صفراء» في معرفة ولا نكرة لأن فيها ألف التأنيث وهي
ملازمة فخالفت الهاء لأن ما فيه الهاء ينصرف في النكرة كفاطمةٍ وعائشةٍ.
قوله تعالى: {فَاقِـعٌ
لّوْنُهَا} يريد خالصاً لونها لا لَوْن فيها سوى لون جلدها. {تَسُرّ النّاظِرِينَ}
قال وهب: كأن شُعَاع الشمس يخرج من جلدها ولهذا قال ابن عباس: الصفرة تسرّ النفس.
وحضّ على لباس النّعال الصّفر حكاه عنه النقاش. وقال على ابن أبي طالب رضي الله
عنه: من لبس نعلي جلد أصفرَ قلّ هَمّه لأن الله تعالى يقول: {صَفْرَاءُ فَاقِـعٌ
لّوْنُهَا تَسُرّ النّاظِرِينَ} حكاه عنه الثعلبي. ونَهَى ابن الزبير ومحمد بن أبي
كثير عن لباس النعال السود لأنها تُهِمّ. ومعنى «تسرّ» تُعجِب. وقال أبو العالية:
معناه في سَمْتِها ومنظرها فهي ذاتُ وصفين, والله أعلم.
قوله تعالى:
{قَالُواْ
ادْعُ لَنَا رَبّكَ يُبَيّن لّنَا مَا هِيَ إِنّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا
وَإِنّآ إِن شَآءَ اللّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ
لاّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلّمَةٌ لاّ شِيَةَ
فِيهَا قَالُواْ الاَنَ جِئْتَ بِالْحَقّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ}.
قوله تعالى: {إِنّ البَقَرَ
تَشَابَهَ عَلَيْنَا} سألوا سؤالاً رابعاً, ولم يمتثلوا الأمر بعد البيان. وذكر
البقر لأنه بمعنى الجمع, ولذلك قال: {إِنّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} فذكّره
للفظ تذكير البقر. قال قُطْرُب: جمع البقرة باقر وباقور وبقر. وقال الأصمعي:
الباقر جمع باقرة, قال: ويجمع بقر على باقورة حكاه النحاس. وقال الزجاج: المعنى إن
جنس البقر. وقرأ الحسن فيما ذكر النحاس, والأعرج فيما ذكر الثعلبي (إن البقر
تَشّابه) بالتاء وشدّ الشين جعله فعلا مستقبلاً وأنّثه. والأصل تتشابه, ثم أدغم
التاء في الشين. وقرأ مجاهد «تَشّبّه» كقراءتهما, إلا أنه بغير ألف. وفي مصحف أبي
«تشّابهت» بتشديد الشين. قال أبو حاتم: وهو غلط لأن التاء في هذا الباب لا تُدغم
إلا في المضارعة. وقرأ يحيى بن يَعمر «إن الباقر يشابه» جعله فعلاً مستقبلاً,
وذكّر البقر وأدغم. ويجوز {إِنّ البَقَرَ تَشَابَهَ} بتخفيف الشين وضم الهاء وحكاها
الثّعلبي عن الحسن. النحاس: ولا يجوز {يَشَابه} بتخفيف الشين والياء, وإنما جاز في
التاء لأن الأصل تتشابه فحذفت لاجتماع التائين. والبقر والباقر والبَيْقور
والبَقِير لغاتٌ بمعنىً, والعرب تذكّره وتؤنّثه, وإلى ذلك ترجع معاني القراءات في
«تشابه». وقيل: إنما قالوا: {إِنّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} لأن وجوه البقر
تتشابه ومنه حديث حُذيفة بن اليَمان عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه ذكر
«فِتْناً كقِطَع الليل تأتي كوجوه البقر». يريد أنها يشبه بعضها بعضاً. ووجوه
البقر تتشابه, ولذلك قالت بنو إسرائيل: إن البقر تشابه علينا.
قوله تعالى: {وَإِنّآ إِن
شَآءَ اللّهُ لَمُهْتَدُونَ} استثناء منهم وفي استثنائهم في هذا السؤال الأخير
إنابةٌ مّا وانقياد, ودليل ندم على عدم موافقة الأمر. وروى عن النبيّ صلى الله
عليه وسلم أنه قال: «لو ما استثنوا ما اهتدوا إليها أبداً». وتقدير الكلام وإنا
لمهتدون إن شاء الله. فقدّم على ذكر الاهتداء اهتماماً به. و{شاء} في موضع جزم
بالشرط, وجوابه عند سيبويه الجملة {إن} وما عمِلت فيه. وعند أبي العباس المبرّد
محذوف.
قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ
كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ
بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاّ يُبْصِرُونَ}
قوله تعالى: {قَالَ إِنّهُ
يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ لاّ ذَلُولٌ} قرأ الجمهور «لا ذلولٌ» بالرفع على الصفة
لبقرة. قال الأخفش: {لاّ ذَلُولٌ} نعته ولا يجوز نصبه. وقرأ أبو عبد الرحمن
السّلَمِي {لاّ ذَلُولٌ} بالنصب على النفي والخبر مضمر. ويجوز لا هي ذلول, لا هي
تسقي الحرث, هي مُسَلّمة. ومعنى {لاّ ذَلُولٌ} لم يذلّلها العمل يقال: بقرة مذلّلة
بيّنة الذّل (بكسر الذال). ورجل ذليل بيّن الذّلّ (بضم الذال). أي هي بقرة صعبة
غير رَيّضة لم تذلّل بالعمل.
قوله تعالى: {تُثِيرُ
الأرْضَ} «تُثير» في موضع رفع على الصفة للبقرة أي هي بقرة لا ذَلُولٌ مُثيرة. قال
الحسن: وكانت تلك البقرة وحْشِيّة, ولهذا وصفها الله تعالى بأنها لا تثير الأرض
ولا تسقي الحرث, أي لا يُسْنَى بها لَسقْي الزرع ولا يُسقى عليها. والوقف ها هنا حسن. وقال قول: (تثير) فعل مستأنف,
والمعنى إيجاب الحرث لها, وأنها كانت تحرث ولا تسقي. والوقف على هذا التأويل (لا
ذلول). والقول الأوّل أصح لوجهين: أحدهما: ما ذكره النحاس عن عليّ بن سليمان أنه
قال: لا يجوز أن يكون «تثير» مستأنفاً لأن بعده (ولا تسقي الحرث), فلو كان
مستأنفاً لما جمع بين الواو و«لا». الثاني: أنها لو كانت تثير الأرض لكانت الإثارة
قد ذلّلتها, والله تعالى قد نفى عنها الذّل بقوله: (لا ذلول).
قلت: ويحتمل أن تكون «تثير
الأرْضَ» في غير العمل مرحاً ونشاطاً كما قال امرؤ القيس:
يُهِيل ويُذرِي تُرْبَه ويُثيره إثارةَ نَبّاث الهواجرِ مُخْمِسِ
فعلى هذا يكون «تثير»
مستأنفاً, «ولا تسقي» معطوف عليه فتأمله. وإثارة الأرض: تحريكها وبحثها ومنه
الحديث: «أثِيروا القرآن فإنه عِلْم الأوّلين والاَخرين» وفي رواية أخرى: «من أراد
العلم فَلْيُثَوّر القرآن» وقد تقدّم. وفي التنزيل: {وَأَثَارُواْ الأرْضَ} (الروم:
9) أي قَلبوها للزراعة. والحرث: ما حُرِث وزُرِع. وسيأتي.
مسألة:
في هذه الآية أدل دليل على حصر الحيوان بصفاته, وإذا ضُبط بالصفة وحُصر بها جاز
السّلَم فيه. وبه قال مالك وأصحابه والأوزاعيّ واللّيث والشافعيّ. وكذلك كل ما
يُضبط بالصفة لوصف الله تعالى البقرة في كتابه وصفاً يقوم مقام التعيين وقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: «لا تصف المرأةُ المرأةَ لزوجها حتى كأنه ينظر إليها».
أخرجه مسلم. فجعل النبيّ صلى الله عليه وسلم الصّفة تقوم مقام الرؤية, وجعل صلى
الله عليه وسلم دِيَة الخطأ في ذِمّة من أوجبها عليه دَيْناً إلى أجل ولم يجعلها
على الحلول. وهو يرد قول الكوفيين أبي حنيفة وأصحابه والثورِيّ والحسن بن صالح حيث
قالوا: لا يجوز السّلَم في الحيوان. ورُوِيَ عن ابن مسعود وحُذيفة وعبد الرحمن بن
سَمُرة لأن الحيوان لا يوقف على حقيقة صفته من مشي وحركة, وكل ذلك يزيد في ثمنه
ويرفع من قيمته. وسيأتي حكم السّلَم وشروطه في آخر السورة في آية الدّيْن, إن شاء الله
تعالى.
قوله تعالى: {مُسَلّمَةٌ} أي
هي مُسَلّمة. ويجوز أن يكون وصفاً أي أنها بقرة مُسَلّمة من العَرَج وسائر العيوب قاله
قتادة وأبو العالية. ولا يقال: مُسَلّمة من العمل لنفي الله العمل عنها. وقال
الحسن: يعني سليمة القوائم لا أثر فيها للعمل.
قوله تعالى: {لاّ شِيَةَ
فِيهَا} أي ليس فيها لَوْن يخالف معظم لونها, وهي صفراء كلها لا بياض فيها ولا
حمرة ولا سواد كما قال: {فَاقِـعٌ لّوْنُهَا}. وأصل «شِيَة» وَشِي, حُذفت الواو
كما حذفت من يشي, والأصل يوشي ونظيره الزّنَة والعِدَة والصّلَة. والشّيَة مأخوذة
من وَشْيْ الثوب إذا نُسج على لونين مختلفين. وثَوْرَ مُوَشّى: في وجهه وقوائمه
سواد. قال ابن عرفة: الشّيَة اللّون. ولا يقال لمن نمّ: واشٍ, حتى يُغَيّر الكلام ويُلَوّنه
فيجعله ضروبا ويزّين منه ما شاء. والوَشْيُ: الكثرة. ووَشَى بنو فلان: كثروا.
ويقال: فَرَسٌ أبلقُ, وكَبْشٌ أخْرَجُ, وتَيس أبْرَقُ, وغرابٌ أبْقَعُ, وثور
أشْيَهُ. كل ذلك بمعنى البُلْقَة هكذا نصّ أهل اللغة.
وهذه الأوصاف في البقرة سببها
أنهم شدّدوا فشدّد الله عليهم, ودِين الله يُسْرٌ, والتعمّق في سؤال الأنبياء
وغيرهم من العلماء مذموم, نسأل الله العافية. وروي في قصص هذه البقرة روايات
تلخيصها: أن رجلاً من بني إسرائيل وُلد له ابن, وكانت له عجلة فأرسلها في غَيْضَة
وقال: اللّهُمّ إني أستودعك هذه العجلة لهذا الصبي. ومات الرجل, فلما كبر الصبي
قالت له أمّه ـ وكان بَراّ بها ـ: إن أباك استودع الله عجلة لك فاذهب فخذها فذهب فلما
رأته البقرة جاءت إليه حتى أخذ بقرنيها ـ وكانت مستوحِشة ـ فجعل يقودها نحو أمّه فلقيَه
بنو إسرائيل ووجدوا بقرة على الصفة التي أمِروا بها فسامُوه فاشتطّ عليهم. وكان
قيمتها على ما رُوي عن عكرمة ثلاثة دنانير, فأتَوْا به موسى عليه السلام وقالوا:
إن هذا اشتطّ علينا فقال لهم: أرْضُوه في مِلكه, فاشتروْها منه بوزنها مَرّة قاله
عَبيدة. السّدّيّ: بوزنها عشر مرات. وقيل: بملء مَسْكِها دنانير. وذكر مَكّيّ: أن
هذه البقرة نزلت من السماء ولم تكن من بقر الأرض. فالله أعلم.
قوله تعالى: {قَالُواْ الاَنَ
جِئْتَ بِالْحَقّ} أي بيّنت الحق قاله قتادة. وحكى الأخفش: «قالوا الاَن» قطع ألفَ
الوصل كما يقال: يا الله. وحكى وجهاً آخر «قالوا لاَنَ» بإثبات الواو. نظيره قراءة
أهل المدينة وأبي عمرو «عاداً لُولي». وقرأ الكوفيون «قالوا الاَن» بالهمز. وقراءة
أهل المدينة «قالُ لاَن» بتخفيف الهمز مع حذف الواو لالتقاء الساكنين. قال الزجاج:
«الاَن» مبنيّ على الفتح لمخالفته سائر ما فيه الألف واللام لأن الألف واللام
دخلتا لغير عهد تقول: أنت إلى الاَن هنا فالمعنى إلى هذا الوقت. فبُنِيت كما
بُنِيَ هذا, وفُتحت النون لالتقاء الساكنين. وهو عبارة عما بين الماضي والمستقبل.
قوله تعالى: {وَمَا كَادُواْ
يَفْعَلُونَ} أجاز سيبويه: كاد أن يفعل تشبيهاً بعسى. وقد تقدّم أوّل السورة. وهذا
إخبار عن تثبيطهم في ذبحها وقلّة مبادرتهم إلى أمر الله. وقال القُرَظيّ محمد بن
كعب: لغلاء ثمنها. وقيل: خوفاً من الفضيحة على أنفسهم في معرفة القاتل منهم قاله
وهب بن مُنَبّه.
قوله تعالى:
{وَإِذْ
قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مّا كُنْتُمْ
تَكْتُمُونَ}
قوله تعالى: {وَإِذْ
قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مّا كُنْتُمْ
تَكْتُمُونَ} هذا الكلام مقدّم على أوّل القصة, التقدير: وإذ قتلتم نفساً
فادّارأتم فيها: فقال موسى: إن الله يأمركم بكذا. وهذا كقوله: {الْحَمْدُ لِلّهِ
الّذِي أَنْزَلَ عَلَىَ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لّهُ عِوَجَا}
{قَيّماً} (الكهف: 1) أي أنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ قَيّماً وَلَمْ
يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً ومثله كثير, وقد بيّناه أوّل القصة.
وفي سبب قتله قولان: أحدهما:
لابنة له حسناء أحب أن يتزوجها ابنُ عَمّها فمنعه عَمّه فقتله وحمله من قريته إلى
قرية أخرى فألقاه هناك. وقيل: ألقاه بين قريتين. الثاني: قتله طلباً لميراثه, فإنه
كان فقيراً وادّعى قتله على بعض الأسباط. قال عِكرمة: كان لبني إسرائيل مسجد له
اثنا عشر باباً لكل باب قوم يدخلون منه, فوجدوا قتيلاً في سِبط من الأسباط, فادّعى
هؤلاء على هؤلاء, وادّعى هؤلاء على هؤلاء, ثم أتوا موسى يختصمون إليه فقال: {إِنّ
اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً} الآية. ومعنى {فَادّارَأْتُمْ}:
اختلفتم وتنازعتم قاله مجاهد. وأصله تدارأتم ثم أدغمت التاء في الدال ولا يجوز
الابتداء بالمدغم لأنه ساكن فزيد ألف الوصل. {وَاللّهُ مُخْرِجٌ} ابتداء وخبر.
{مّا كُنْتُمْ} في موضع نصب بـ «مُخْرِج» ويجوز حذف التنوين على الإضافة.
{تَكْتُمُونَ} جملة في موضع خبر كان, والعائد محذوف التقدير تكتمونه.
وعلى القول بأنه قتله طلباً
لميراثه لم يَرِث قاتلُ عمدٍ من حينئذ قاله عَبِيدة السّلْمانِيّ. قال ابن عباس:
قَتل هذا الرجلُ عمّه ليرثه. قال ابن عطية: وبمثله جاء شرعنا. وحكى مالك رحمة الله
في «مُوَطّئه» أن قصة اُحَيْحَة بن الجُلاَح في عَمّه هي كانت سبب ألا يَرِث قاتلٌ ثم ثبّت ذلك الإسلام كما ثّبت
كثيراً من نوازل الجاهلية. ولا خلاف بين العلماء أنه لا يَرِث قاتلُ العمدِ من
الدّية ولا من المال, إلا فرقة شذّت عن الجمهور كلهم أهل بدع. ويرِث قاتل الخطأ من
المال ولا يرث من الدّية في قول مالك والأوزاعي وأبي ثور والشافعي لأنه لا يُتّهم
على أنه قتله ليرثه ويأخذ ماله. وقال سفيان الثّوْرِيّ وأبو حنيفة وأصحابه,
والشافعي في قول له آخر: لا يرث القاتل عمداً ولا خطأً شيئاً من المال ولا من
الدّية. وهو قول شُريح وطاوس والشّعْبيّ والنّخَعِيّ. ورواه الشّعْبِيّ عن عمر
وعليّ وزيد قالوا: لا يرِث القاتل عمداً ولا خطأً شيئاً. وروي عن مجاهد القولان
جميعاً. وقالت طائفة من البصريين: يَرِث قاتل الخطأ من الدّية ومن المال جميعاً حكاه
أبو عمر. وقول مالك أصح, على ما يأتي بيانه في آية المواريث إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى:
{فَقُلْنَا
اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَىَ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ
لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ}
قوله تعالى: {فَقُلْنَا
اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} قيل: باللسان لأنه آلة الكلام. وقيل: بعَجْب الذّنَب إذ
فيه يُرّكب خَلْق الإنسان. وقيل: بالفخذ. وقيل: بعظم من عظامها والمقطوع به عضو من
أعضائها فلما ضُرِب به حَيِيَ وأخبر بقاتله ثم عاد ميتاً كما كان.
مسألة:
استدل مالك رحمه الله في رواية ابن وهب وابن القاسم على صحة القول بالقَسَامة بقول
المقتول: دمي عند فلان, أو فلانُ قتلني. ومنعه الشافعي وجمهور العلماء, قالوا: وهو
الصحيح لأن قول المقتول: دمي عند فلان, أو فلان قتلني, خبر يحتمل الصدق والكذب.
ولا خلاف أن دم المدّعَى عليه
معصوم ممنوع إباحته إلا بيقين, ولا يقين مع الاحتمال فبطل اعتبار قول المقتول دمي
عند فلان. وأما قتيل بني إسرائيل فكانت معجزة وأخبر تعالى أنه يحييه, وذلك يتضمّن
الإخبارَ بقاتله خبراً جزماً لا يدخله احتمال فافترقا. قال ابن العربيّ: المعجزة
كانت في إحيائه فلما صار حيّا كان كلامه كسائر كلام الناس كلهم في القبول والرد.
وهذا فَنّ دقيق من العلم لم يتفطّن له إلا مالك, وليس في القرآن أنه إذا أخبر وجب
صدقه, فلعله أمرهم بالقسامة معه. واستبعد ذلك البخاريّ والشافعيّ وجماعة من
العلماء فقالوا: كيف يُقبل قوله في الدّم وهو لا يقبل قوله في درهم.
مسألة:
اختلف العلماء في الحُكْم بالقَسامة فرُوِيَ عن سالم وأبي قِلاَبة وعمر بن عبد
العزيز والحكم بن عُيَيْة التّوَقّف في الحُكم بها. وإليه مال البخاري لأنه أتى
بحديث القَسامة في غير موضعه. وقال الجمهور: الحُكْم بالقسامة ثابت عن النبيّ صلى
الله عليه وسلم, ثم اختلفوا في كيفيّة الحُكم بها فقالت طائفة: يبدأ فيها المدّعون
بالأيمان فإن حَلفوا استحقّوا, وإن نَكَلُوا حلَف المدّعَى عليهم خمسين يميناً
وبَرَاُوا. هذا قول أهل المدينة واللّيث والشافعي وأحمد وأبي ثور. وهو مقتضى حديث
حُوَيّصَة ومُحَيّصة, خرّجه الأئمة مالك وغيره. وذهبت طائفة إلى أنه يبدأ بالأيمان
المدّعَى عليهم فيحلفون ويبرأون. رُوِيَ هذا عن عمر بن الخطاب والشّعْبِي
والنّخَعِي, وبه قال الثّوْرِي والكوفيّون واحتجّوا بحديث سعيد بن عبيد عن بُشير
بن يسار وفيه: فبدأ بالأيمان المدّعَى عليهم وهم اليهود. وبما رواه أبو داود عن
الزّهْرِي عن أبي سَلَمة بن عبد الرحمن عن رجال من الأنصار (أن النبيّ صلى الله
عليه وسلم قال لليهود وبدأ بهم: «أيحلف منكم خمسون رجلاً». فأبوا فقال للأنصار:
«استحقّوا» فقالوا: نحلف على الغيب يا رسول الله! فجعلها رسول الله صلى الله عليه
وسلم دِيّةً على يهود لأنه وُجد بين أظهرهم). وبقوله عليه السلام: «ولكن اليمين
على المدّعَى عليه» فعُيّنُوا. قالوا: وهذا هو الأصل المقطوع به في الدعاوى الذي
نَبّه الشرع على حكمته بقوله عليه السلام: «لو يُعْطَى الناسُ بدعواهم لادّعى ناس
دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدّعى عليه». رَدّ عليهم أهل المقالة الأولى
فقالوا: حديث سعيد بن عُبيد. في تبدية اليهود وَهَم عند أهل الحديث, وقد أخرجه
النسائي وقال: ولم يتابع سعيد في هذه الرواية فيما أعلم, وقد أسند حديث بُشير عن
سهل. «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بدأ بالمدّعين يحيى بنُ سعيد وابنُ عُيينة
وحمّاد بن زيد وعبدُ الوهاب الثّقَفيّ وعيسى بنُ حماد وبشرُ بن المفضّل فهؤلاء
سبعة» وإن كان أرسله مالك فقد وصله جماعة الحفاظ, وهو أصح من حديث سعيد بن عُبيد.
قال أبو محمد الأصيلي: فلا يجوز أن يعترض بخبر واحد على خبر جماعة, مع أن سعيد بن
عُبيد قال في حديثه: فَوَاده رسول الله صلى الله عليه وسلم مائةً من إبل الصدقة والصدقةُ
لا تعطَى في الدّيات ولا يُصالح بها عن غير أهلها, وحديث أبي داود مرسل فلا تعارض
به الأحاديث الصحاح المتصلة, وأجابوا عن التمسك بالأصل بأن هذا الحكم أصل بنفسه
لحُرْمة الدماء. قال لابن المنذر. ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل
البيّنة على المدّعِي واليمينَ على المدّعَى عليه, والحُكْم بظاهر ذلك يجب, إلا أن
يخصّ الله في كتابه أو على لسانه نبيّه صلى الله عليه وسلم حكماً في شيء من
الأشياء فيُستثنى من جملة هذا الخبر. فما دلّ عليه الكتاب إلزام القاذف حدّ
المقذوف إذا لم يكن معه أربعة شهداء يشهدون له على صدق ما رمى به المقذوف. وخصّ
مَن رمى زوجته بأن أسقط عنه الحدّ إذا شهد أربع شهادات. ومما خصّته السّنّة حكم
النبيّ صلى الله عليه وسلم بالقَسَامة. وقد روى ابن جُريج عن عطاء عن أبي هريرة أن
النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «البيّنةُ على مَن ادّعى واليمينُ على مَن أنكر
إلاّ في القَسَامة». خرّجه الدّارَقُطنِيّ. وقد احتج مالك لهذه المسألة في
مُوَطّئه بما فيه كفاية فتأمّله هناك.
مسألة:
واختلفوا أيضاً في وجوب القَوَد بالقسامة فأوجبت طائفة القَوَد بها وهو قول مالك
واللّيث وأحمد وأبي ثَوْر لقوله عليه السلام لحُوَيّصة ومُحَيّصة وعبد الرحمن:
«أتحلفون وتستحقون دمَ صاحبِكم». وروى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه.
«أن النبيّ صلى الله عليه وسلم
قتل رجلاً بالقَسَامة من بني نضر بن مالك». قال الدّارَقُطْنِي: نسخة عمرو بن شعيب
عن أبيه عن جدّه صحيحة وكذلك أبو عمر بن عبد البر يصحّح حديث عمرو بن شعيب ويحتج
به. وقال البخاري: رأيت عليّ بن المدِيني وأحمد بن حنبل والحُمَيْدِي وإسحَق بن
رَاهْوَيْه يحتجّون به قاله الدارقطني في السنن. وقالت طائفة: لا قَوَد بالقسامة,
وإنما توجب الدّية. رُوي هذا عن عمر وابن عباس وهو قول النّخَعي والحسن, وإليه ذهب
الثّوْري والكوفيون والشافعي وإسحَق, واحتجوا بما رواه مالك عن ابن أبي ليلى بن
عبد اللّه عن سهل بن أبي حَثْمة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قوله للأنصار: «إما
أن يَدُوا صاحبَكم وإما أن يؤذنوا بحرب». قالوا: وهذا يدل على الدّية لا على
القَوَد قالوا: ومعنى قوله عليه السلام: «وتستحقّون دَمَ صاحبِكم» دية دمِ قتيلِكم
لأن اليهود ليسوا بأصحاب لهم ومن استحق دية صاحبه فقد استحق دمه لأن الدّية قد
تؤخذ في العمد فيكون ذلك استحقاقاً للدم.
مسألة:
الموجب للقسامة اللّوْثُ ولا بُدّ منه. واللّوْثُ: أمارة تغلب على الظن صدق مدّعي
القتل كشهادة العدل الواحد على رؤية القتل, أو يرى المقتول يَتَشَحّط في دمه,
والمتّهم نحوه أو قُرْبه عليه آثار القتل. وقد اختلف في الّلْوث والقول به فقال
مالك: هو قول المقتول دمي عند فلان. والشاهد العدل لوث. كذا في رواية ابن القاسم
عنه. وروى أشهب عن مالك أنه يُقسم مع الشاهد غير العدل ومع المرأة. وروى ابن وهب
أن شهادة النساء لَوث. وذكر محمد عن ابن القاسم أن شهادة المرأتين لَوث دون شهادة
المرأة الواحدة. قال القاضي أبو بكر بن العربي: اختلف في اللّوث اختلافاً كثيراً مشهور
المذهب أنه الشاهد العدل. وقال محمد: هو أحبّ إليّ. قال: وأخذ به ابن القاسم وابن
عبد الحكم. ورُوِي عن عبد الملك بن مروان: أن المجروح أو المضروب إذا قال دمي عند
فلان ومات كانت القَسَامة. وبه قال مالك واللّيث بن سعد. واحتج مالك بقتيل بني
إسرائيل أنه قال: قتلني فلان. وقال الشافعيّ: اللّوْث الشاهد العدل, أو يأتي بيّنة
وإن لم يكونوا عدولاً. وأوْجب الثورِيّ والكوفيون القسامة بوجود القتيل فقط,
واستغنوا عن مراعاة قول المقتول وعن الشاهد, قالوا: إذا وُجد قتيل في مَحلّة قومٍ
وبه أثرٌ حلف أهل ذلك الموضع أنهم لم يقتلوه ويكون عَقْلُه عليهم وإذا لم يكن به
أثر لم يكن على العاقلة شيء إلا أن تقوم البيّنة على واحد. وقال سفيان: وهذا مما
اُجمع عليه عندنا وهو قول ضعيف خالفوا فيه أهل العلم, ولا سلف لهم فيه, وهو مخالف
للقرآن والسّنة ولأن فيه إلزامَ العاقلة مالاً بغير بيّنة ثبتت عليهم ولا إقرارٍ
منهم. وذهب مالك والشافعيّ إلى أن القتيلُ إذا وجُد في مَحلّة قومٍ أنه هَدَر, لا
يؤخذ به أقرب الناس داراً لأن القتيل قد يُقتل ثم يُلقى على باب قوم ليلطخوا به فلا
يؤاخذ بمثل ذلك حتى تكون الأسباب التي شرطوها في وجوب القسامة. وقد قال عمر بن عبد
العزيز: هذا مما يؤخر فيه القضاء حتى يقضي الله فيه يوم القيامة.
مسألة:
قال القاسم بن مسعدة قلت للنّسائي: لا يقول مالك بالقسامة إلا باللّوْث, فلم
أوْرَد حديث القسامة ولا لَوث فيه؟ قال النسائي: أنزل مالك العداوة التي كانت
بينهم وبين اليهود بمنزلة اللوث, وأنزل اللّوث أو قول الميت بمنزلة العداوة. قال
ابن أبي زيد: وأصل هذا في قصة بني إسرائيل حين أحيا الله الذي ضُرب ببعض البقرة
فقال: قتلني فلان وبأن العداوة لَوْث. قال الشافعي: ولا نرى قول المقتول لوثاً كما
تقدّم. قال الشافعي: إذا كان بين قوم وقوم عداوة ظاهرة كالعداوة التي كانت بين
الأنصار واليهود, ووجد قتيل في أحد الفريقين ولا يخالطهم غيرهم وَجَبت القسامة
فيه.
مسألة:
واختلفوا في القتيل يوجد في المحلة التي أكراها أربابها فقال أصحاب الرأي: هو على
أهل الخِطّة وليس على السكان شيء, فإن باعوا دُورهم ثم وُجد قتيل فالدّيَةُ على
المشتري وليس على السكان شيء, وإن كان أرباب الدّور غُيّباً وقد أكروا دُورهم
فالقسامة والدية على أرباب الدور الغُيّب وليس على السكان الذي وُجد القتيل بين
أظهرهم شيء.
ثم رجع يعقوب من بينهم عن هذا
القول فقال: القسامة والدّية على السكان في الدّور. وحكى هذا القول عن ابن أبي
ليلى, واحتج بأن أهل خَيْبَر كانوا عُمّالاً سُكّاناً يعملون فوُجِد القتيل فيهم.
قال الثوري ونحن نقول: هو على أصحاب الأصل, يعني أهل الدور. وقال أحمد: القول قول
ابن أبي ليلى في القسامة لا في الدية. وقال الشافعي: وذلك كله سواء, ولا عَقْل ولا
قَوَد إلا ببيّنة تقوم, أو ما يوجب القسامة فيُقسم الأولياء. قال ابن المنذر: وهذا
أصح.
مسألة:
ولا يحلف في القسامة أقلّ من خمسين يميناً لقوله عليه السلام في حديث حُوَيصة
ومُحَيّصة: «يُقسم خمسين منكم على رجل منهم». فإن كان المستحقّون خمسين حلف كل
واحد منهم يميناً واحدة, فإن كانوا أقل من ذلك أو نَكَل منهم من لا يجوز عفوه
رُدّت الايمان عليهم بحسب عددهم. ولا يحلف
في العمد أقل من اثنين من الرجال, لا يحلف فيه الواحد من الرجال ولا النساء, يحلف
الأولياء ومن يستعين بهم الأولياء من العَصَبة خمسين يميناً. هذا مذهب مالك
واللّيث والثّوْري والأوزاعيّ وأحمد وداود. وروى مُطَرّف عن مالك أنه لا يحلف مالك
واللّيث والثّوْري والأوزاعيّ وأحمد وداود. وروى مُطَرّف عن مالك أنه لا يحلف مع
المدّعَى عليه أحدٌ ويحلف هم أنفُسهم ـ كما لو كانوا واحداً فأكثر ـ خمسين يميناً
يبرئون بها أنفسهم وهو قول الشافعي. قال الشافعي: لا يُقسم إلا وارث, كان القتل
عمداً أو خطأ. ولا يحلف على مال ويستحقه إلا من له الملك لنفسه أو من جعل الله له
الملك من الورثة والورثةُ يُقسمون على قدر مواريثهم. وبه قال أبو ثَوْر واختاره
ابن المنذر وهو الصحيح لأن من لم يدّع عليه لم يكن له سبب يتوجّه عليه فيه يمين.
ثم مقصود هذه الأيمان البراءة من الدعوى ومن لم يدّع عليه برئ. وقال مالك في
الخطأ: يحلف فيها الواحد من الرجال والنساء, فمهما كملت خمسين يميناً من واحد أو
أكثر استحق الحالف ميراثه, ومَن نَكَل لم يستحق شيئاً فإن جاء من غاب حلف من
الأيمان ما كان يجب عليه لو حضر بحسب ميراثه. هذا قول مالك المشهور عنه وقد رُوِيَ
عنه أنه لا يرى في الخطأ قسامة.
وتتميم مسائل القسامة وفروعها
وأحكامها مذكور في كتب الفقه والخلاف, وفيما ذكرناه كفاية, والله الموفق.
مسألة:
في قصة البقرة هذه دليل على أن شَرْع مَن قبلنا شَرْعٌ لنا وقال به طوائف من
المتكلمين وقومٌ من الفقهاء, واختاره الكرخي ونصّ عليه ابن بُكير القاضي من
علمائنا, وقال القاضي أبو محمد عبد الوهاب: هو الذي تقتضيه أصول مالك ومَنازعه في
كتبه, وإليه مال الشافعي, وقد قال الله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (الأنعام: 90)
على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: {كَذَلِكَ
يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَىَ} أي كما أحْيَا هذا بعد موته كذلك يحيي الله كل من
مات. فالكاف في موضع نصب, لأنه نعت لمصدر محذوف. {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} أي
علاماته وقدرته. {لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ} كي تعقلوا. وقد تقدّم. أي تمتنعون من
عصيانه. وَقلتُ نفسي عن كذا أي منعتها منه. والمعاقل: الحصون.
وقوله تعالى:
{ثُمّ
قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدّ قَسْوَةً
وَإِنّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ وَإِنّ مِنْهَا
لَمَا يَشّقّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ
خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ}.
قوله تعالى: {ثُمّ قَسَتْ
قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذَلِكَ} القسوة: الصلابة والشدّة واليُبْس. وهي عبارة عن
خلوّها من الإنابة والإذعان لآيات الله تعالى. قال أبو العالية وقتادة وغيرهما:
المراد قلوب جميع بني إسرائيل. وقال ابن عباس: المراد قلوب ورثة القتيل لأنهم حين
حَيِيَ وأخبر بقاتله وعاد إلى موته أنكروا قتله, وقالوا: كَذَب بعد ما رأوا هذه الآية
العظمى فلم يكونوا قط أعمى قلوباً, ولا أشدّ تكذيباً لنبيّهم منهم عند ذلك, لكن
نفذ حكم الله بقتله. روى الترمذي عن عبد اللّه بن عمر قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: «لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة
للقلب وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي». وفي مسند البزار عن أنس قال قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: «أربعة من الشقاء جمود العين وقساء القلب وطول الأمل
والحرص على الدنيا».
قوله تعالى: {فَهِيَ
كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدّ قَسْوَةً} «أو» قيل: هي بمعنى الواو, كما قال: {آثِماً
أَوْ كَفُوراً} (الإنسان: 24). {عُذْراً أَوْ نُذْراً} (المرسلات: 6) وقال الشاعر:
نال الخلافة أو كانت له قدرا
أي وكانت. وقيل: هي بمعنى بل كقوله
تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَىَ مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} (الصافات: 147)
المعنى بل يزيدون. وقال الشاعر:
بَدتْ مِثل قَرْن الشمس في رَوْنق الضحى وصورتِها
أو أنت في العين أملح
أي بل أنت. وقيل: معناها
الإبهام على المخاطب ومنه قول أبي الأسود الدّؤَلِيّ:
أحبّ محمداً حبّا شديداً وعبّاساً وحمزة
أو علِيّا
فإن يك حبّهم رشداً أصِبْه ولستُ بمخطئ إن
كان غيّا
ولم يشك أبو الأسود أن حبهم
رشد ظاهر, وإنما قصد الإبهام. وقد قيل لأبي الأسود حين قال ذلك: شككت! قال: كلا ثم
استشهد بقوله تعالى: {وَإِنّآ أَوْ إِيّاكُمْ لَعَلَىَ هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ
مّبِينٍ} (سبأ: 24) وقال: أو كان شاكّا من أخبر بهذا! وقيل: معناها التخيير, أي
شبهوها بالحجارة تصيبوا, أو بأشد من الحجارة تصيبوا وهذا كقول القائل: جالس الحسن
أو ابن سيرين, وتعلّم الفقه أو الحديث أو النحو. وقيل: بل هي على بابها من الشك,
ومعناها عندكم أيها المخاطبون وفي نظركم أن لو شاهدتم قسوتها لشككتم: أهي كالحجارة
أو أشدّ من الحجارة؟ وقد قيل هذا المعنى في قوله تعالى: {إِلَىَ مِئَةِ أَلْفٍ
أَوْ يَزِيدُونَ} (الصافات: 147). وقالت فرقة: إنما أراد الله تعالى أن فيهم مَن
قلبه كالحجر, وفيهم من قلبه أشدّ من الحجر. فالمعنى: هم فرقتان.
قوله تعالى: {أَوْ أَشَدّ}
«أشدّ» مرفوع بالعطف على موضع الكاف في قوله «كالحِجَارَة» لأن المعنى فهي مثل
الحجارة أو أشدّ. ويجوز أو «أشدّ» عطف على الحجارة. و {قَسْوَةً} نصب على التمييز.
وقرأ أبو حَيْوَةَ «قساوة» والمعنى واحد.
قوله تعالى: {وَإِنّ مِنَ
الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ وَإِنّ مِنْهَا لَمَا يَشّقّقُ
فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ} قد تقدّم معنى الانفجار. ويشقّق أصله يتشقّق, أدغمت
التاء في الشين, وهذه عبارة عن العيون التي لم تَعْظُم حتى تكون أنهاراً, أو عن
الحجارة التي تتشقّق وإن لم يجر ماء منفسح. وقرأ ابن مُصَرّف «ينشقق» بالنون, وقرأ
«لمّا يتفجر» «لمّا يتشقّق» بتشديد «لما» في الموضعين. وهي قراءة غير متّجهة. وقرأ
مالك بن دينار «ينفجِر» بالنون وكسر الجيم. قال قتادة: عذر الحجارة ولم يعذِر شقيّ
بني آدم. قال أبو حاتم: يجوز لما تتفجر بالتاء, ولا يجوز لما تتشقق بالتاء لأنه
إذا قال تتفجر أنّثه بتأنيث الأنهار وهذا لا يكون في تشقق. قال النحاس: يجوز ما
أنكره على المعنى لأن المعنى وإن منها لحجارةً تتشقق وأما يشقق فمحمول على لفظ ما.
والشّق واحد الشّقوق فهو في الأصل مصدر, تقول: بيد فلان ورجليه شقوق, ولا تقل: شقاق
إنما الشّقاق داء يكون بالدواب, وهو تشقّق يصيب أرساغها وربما ارتفع إلى وظيفها عن
يعقوب. والشّق: الصبح. و «ما» في قوله: {لَمَا يَتَفَجّرُ} في موضع نصب لأنها اسم
إنّ واللام للتأكيد. «منه» على لفظ ما, ويجوز منها على المعنى {وَإِنّ مِنْهَا
لَمَا يَشّقّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ}. وقرأ قتادة «وإنْ» في الموضعين,
مخففة من الثقيلة.
قوله تعالى: {وَإِنّ مِنْهَا
لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ} يقول: إنّ من الحجارة ما هو أنفع من قلوبكم لخروج
الماء منها وتردّيها. قال مجاهد: ما تردّى حجر من رأس جبل, ولا تفجّر نهر من حجر,
ولا خرج منه ماء إلا من خشية الله نزل بذلك القرآن الكريم. ومثله عن ابن جُرَيج.
وقال بعض المتكلمين في قوله: {وَإِنّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ
اللّهِ}: البَرَد الهابط من السحاب. وقيل: لفظة الهبوط مجاز وذلك أن الحجارة لما
كانت القلوب تعتبر بخلقها, وتخشع بالنظر إليها, أضيف تواضع الناظر إليها كما قالت
العرب: ناقة تاجرة أي تبعث من يراها على شرائها. وحكى الطبريّ عن فرقة أن الخشية
للحجارة مستعارة كما استعيرت الإرادة للجدار في قوله: {يُرِيدُ أَن يَنقَضّ} (الكهف:
77), وكما قال زيد الخيل:
لما أتى خبر الزبير تواضعت سورُ المدينة والجبالُ لخُشّعُ
وذكر ابن بحر أن الضمير في
قوله تعالى: {وَإِنّ مِنْهَا} راجع إلى القلوب لا إلى الحجارة أي من القلوب لما
يخضع من خشية الله.
قلت: كل ما قيل يحتمله اللفظ,
والأوّل صحيح فإنه لا يمتنع أن يعطى بعض الجمادات المعرفة فيعقل, كالذي. «رُوِيَ
عن الجِذع الذي كان يستند إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب, فلما تحوّل
عنه حنّ» وثبت عنه أنه قال: «إن حجراً كان يسلّم عليّ في الجاهلية إني لأعرفه
الاَن». وكما روي (أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «قال لي ثَبِير اهبط فإني أخاف
أن يقتلوك على ظهري فيعذبني الله». فناداه حراء: إليّ يا رسول الله). وفي التنزيل:
{إِنّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ} (الأحزاب:
72) الآية. وقال: {لَوْ أَنزَلْنَا هَـَذَا الْقُرْآنَ عَلَىَ جَبَلٍ لّرَأَيْتَهُ
خَاشِعاً مّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَةِ اللّهِ} (الحشر: 21) يعني تذلّلاً وخضوعاً,
وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة «سبحان» إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: {وَمَا اللّهُ
بِغَافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ} «بغافل» في موضع نصب على لغة أهل الحجاز, وعلى لغة
تميم في موضع رفع. والياء توكيد. {عَمّا تَعْمَلُونَ} أي عن عملكم حتى لا يغادر
صغيرة ولا كبيرة إلا يحصيها عليكم {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرّةٍ خَيْراً
يَرَهُ وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرّةٍ شَرّاً يَرَهُ} (الزلزلة: 7 ـ 8). ولا
تحتاج «ما» إلى عائد إلا أن يجعلها بمعنى الذي فيحذف العائد لطول الاسم أي عن الذي
تعملونه. وقرأ ابن كَثير {يعملون} بالياء والمخاطبة على هذا لمحمد عليه السلام.
=============================
ويليه "الرُبع": الخامس بمشيئة
الرحمن