الفصل الثاني
منزلة السُنَّة من الدين
إن لسنة رسول الله صل الله عليه وسلم
مكانتها بالنسبة إلى القرآن الكريم، ومكانتها بالنسبة إلى التشريع الإسلامي، فهي
المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن من حيث القوة لا من أصول الدين، وركن في بنائه
القويم، يجب إتباعها وتحرم مخالفتها، على ذلك تضافرت الآيات، وأجمع المسلمون على
وجه لا يدع مجالاً للشك.
مصدر السنة النبوية:
لا يخفى على أحد علاقة السنة بالقرآن
الكريم، فالقرآن الكريم وحي الله تعالى إلى رسوله محمد باللفظ والمعنى، والسنة وحي
الله تعالى إلى الرسول صل الله عليه وسلم بالمعنى أغلبها أو إقرار الله تعالى لما
صدر من الرسول باجتهاد من قول أو فعل([1]).
فالقرآن والسنة مصدرهما واحد وكلاهما
وحي، قال تعالى : }وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى3 إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى4{
[النجم: 3ـ4]. وعن المقدام بن معد يكرب الكندي،
قال – قال رسول الله صل الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا
يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه
وما وجدتم فيه من حرام فحرموه([2]))
وفي رواية: (إلا وإن ما حرم رسول الله، مثل ما حرم الله)([3]).
الوحي وأقسامه:
الوحي: "إعلام بخفاء"، لأن
الإعلام العادي أن يقول إنسان لإنسان خبراً ما، أو يقرأ الإنسان الخبر، أما
الإعلام بخفاء فاسمه وحي، والوحي يقتضي "موحياً" – وهو الله تعالى – و
"موحى إليه" – وهو رسول الله – و "موحي به" – وهو القرآن
الكريم([4])،
وكذلك السنة.
إذن الموحى به ينقسم إلى وحي متلو،
ووحي غير متلو. والوحي المتلو معروف، وهو القرآن، وله خصائص، ويفارق السنة في أمور
كثيرة نجملها في هذا الجدول.
القرآن
الكريم
|
السنة
النبوية
|
1) نقل إلينا بطريق التواتر.
|
1) منها المتواتر ومنها غير المتواتر
وفيها الصحيح والضعيف.
|
2) معجز بلفظه ومعناه.
|
2) غير معجز باللفظ.
|
3) نزل باللفظ والمعني.
|
3) نزلت بالمعنى دون اللفظ.
|
4) متعبد بتلاوته.
|
4) غير متعبد بتلاوتها.
|
5) يحرم على المحدث مسه.
|
5) لا يحرم على المحدث مسها.
|
6) متعبد للصلاة به.
|
6) لا يصلي بها.
|
7) مسمى بالقرآن.
|
7) يسمى العلم أو السنة أو الحديث.
|
8) لا يجوز روايته بالمعنى
|
8) تجوز روايتها بالمعنى (عند من يرى
ذلك) من العلماء بشروط منها أن يكون عارفاً بالمعاني والألفاظ.
|
9) جميع آياته نزل بها جبريل في
اليقظة.
|
الحكمة في أن ما أوحي إلى الرسول منه
ما نزل باللفظ، ومنه ما نزل بالمعنى:
من آثار رحمة الله تعالى أن جعل شريعة
محمد – من دون الشرائع السابقة – شريعة باقية خالدة إلى أن يرث الله الأرض ومن
عليها، فأنزل القرآن وحياً يُتلى إلى قيام الساعة، محفوظاً من التبديل والتغيير
وأنزل على نبيه الكريم – إلى جانب القرآن – نوعاً آخر من الوحي، وهو السنة، أنزلها
عليه بالمعنى، وجعل اللفظ إليه في الأعم والأغلب، إيذاناً بأن في الأمر سعة للأمة،
وتخفيفاً عليها، وأن المقصود هو مضمونها لا ألفاظها.
فأجاز الرواية بالمعنى عدد من
المحدثين والعلماء، كابن الصلاح([6])
وابن
العربي، والماوردي([7])،
وغيرهم ولم يجزه آخرون كمالك بن أنس، والقاضي عياض([8])،
وغيرهما من المحدثين.
والدليل على إجازة الرواية بالمعنى،
هو أن سفراء النبي إلى الملوك والأمراء، قد نقلوا أقواله بالمعنى إلى لغات أولئك
الملوك والأمراء، حيث إن ترجمة أقواله إلى لغة أخرى لا تكون إلا براويتها بالمعنى،
ويستحيل ترجمتها باللفظ، فيجوز لصحابته ومن بعدهم أن يبلغوها عنه باللفظ النبوي،
وهو الأولى والأحوط، ويجوز لهم أن يبلغوها عنه بعبارات ينشئونها تفي بالمعنى
المقصود، ولا يكون ذلك إلا للماهر في لغة العرب حتى لا ينشأ عن الرواية بالمعنى
خلل يذهب بالغرض المقصود من الحديث، وفي ذلك من الخطر ما فيه، فإن السنة تبيان
للقرآن العزيز، ووحي من رب العالمين، وثاني مصادر التشريع، فالخطأ فيها أثره جسيم
وخطره عظيم، ولذلك يقول: (من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)([9]).
وإنك لتلمس آثار رحمة الله وحكمته في
أن جعل الوحي على قسمين قسم لا تجوز روايته بالمعنى بل لابد فيه من التزام الألفاظ
المنزلة، وهو القرآن الكريم، وقسم تجوز روايته بالمعنى لمن يستطيع ذلك، وهو السنة
النبوية المطهرة وفي ذلك صون للشريعة وتخفيف عن الأمة ولو كان الوحي كله من قبيل
القرآن الكريم في التزام أدائه بلفظه، لشق الأمر وعظم الخطب، ولما استطاع الناس أن
يقوموا بحمل هذه الأمانة الإلهية.
ولو كان الوحي كله من قبيل السنة في
جواز الرواية بالمعنى، لكان فيه مجال للريب، ومثار للشك ومغمز للطاعنين، ومنفذ
للملحدين، إذ يقولون: لا نأمن خطأ الرواة في أداء الشريعة، ولا نثق بقول نقله
العقائد والأحكام والآداب، ولكن الله جلت – حكمته – صان الشريعة بالقرآن، ورفع
الإصر([10])
عن الأمة بتجويز رواية السنة بالمعنى، لئلا يكون للناس على الله حجة.
السنة النبوية مُبينة للقرآن الكريم:
جاء القرآن الكريم بالأصول العامة ولم
يتعرض للتفاصيل والجزئيات ولم يفرع عليها إلا بالقدر الذي يتفق مع تلك الأصول،
ويكون ثابتاً بثبوتها.
وتكفلت السنة النبوية ببيان القرآن
الكريم، فلولا السُنة لظلت بعض آيات القرآن الكريم نصوصاً يعجز البشر عن فهم
معانيها، وفهم المراد منها، واستنباط أحكام وشريعة الإسلام منها بتفاصيلها
المختلفة. فقد جاء بيان كيفية الصلاة ومواقيتها في قوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ
الصَّلاَةَ}
[البقرة – 43]. وفي حديث مالك بن الحويرث حين وفد هو وبعض قومه على رسول الله وأقاموا عنده عشرين ليلة يتعلمون منه أمور دينهم، ومنها الصلاة فقد قال لهم: (وصلوا كما رأيتموني أصلي، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم([11])).
[البقرة – 43]. وفي حديث مالك بن الحويرث حين وفد هو وبعض قومه على رسول الله وأقاموا عنده عشرين ليلة يتعلمون منه أمور دينهم، ومنها الصلاة فقد قال لهم: (وصلوا كما رأيتموني أصلي، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم([11])).
وقد جاءت نصوص القرآن تذكر صراحة أن
الله تعالى أنزل القرآن وأنزل السنة تبياناً له، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ
الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ
يَتَفَكَّرُونَ} [النحل
– 44]،
وقال تعالى: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ
الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل – 64]، وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ
الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر – 7].
وقد ثبت عن عبد الله بن مسعود رضي
الله عنه قال: (لعن الله الواشمات([12]) والمستوشمات والنامصات والمتنمصات([13])، والمتفلجات([14]) للحُسن، المُغيرات خلق الله. قال:
فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب، وكانت تقرأ القرآن، فأتته، فقالت:
ما حديث بلغني عنك، إنك لعنت الواشمات والمتوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحُسن،
المُغيرات خلق الله. فقال عبد الله: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله، وهو في كتاب
الله. فقالت المرأة: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف([15])، فما وجدته. فقال: لئن كنت قرأتيه
لقد وجدتيه، قال الله عز وجل: }وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ
وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا{ .فقالت المرأة: فأني أرى
شيئاً من هذا على امرأتك الآن، قال: اذهبي فانظري، قال فدخلت على امرأة عبد الله
فلم تر شيئاً، فجاءت إليه فقالت: ما رأيت شيئا، فقال: أما لو كان ذلك لم نجامعها([16])،([17]).
وعلى هذا فكل أمر أو نهي من رسول الله
مرده في الحقيقة إلى الله عز وجل.
وجوب طاعة الرسول صل الله عليه وسلم:
كان الصحابة – رضوان الله عليهم –
يعتبرون قول الرسول وفعله وتقريره حكماً شرعياً، ولا يختلف في ذلك واحد منهم، ولا
يجيز أحدهم لنفسه أن يخالف القرآن، وتمثل ذلك في قول عبد الله بن مسعود للمرأة:
(لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه. قال الله عز وجل {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ
فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا{).
القرآن يثبت أن طاعة الرسول طاعة لله،
وجمع الطاعتين في آية واحدة قال تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ
اللّهَ} [النساء
– 80].
وحذر الله تعالى من مخالفة الرسول،
وأقسم سبحانه بنفي الإيمان عمن يرفض حكم الرسول صل الله عليه وسلم، بل على المسلمين
الاقتـداء به والانقياد له فـي جميع ما أمر ونهي. قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ
يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ
فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيم}([18])
[النساء – 65].
وقال سبحانه: }فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن
تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور – 63].
ولا غرابة بعد ذلك أن نجد أن الله
تبارك وتعالى دعا الذين يدعون أنهم يحبون الله أن يعبروا عن حبهم له بطاعة رسوله
وإتباع سنته، فإن هم فعلوا ذلك أحبهم الله وأحبهم رسوله، وفازوا بمغفرة الله
ورضوانه([19])،
قال سبحانه: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ
اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران – 31].
وهكذا تبين لنا أن السنة مصدرها
الوحي، وأنه لا يمكن الاستغناء عنها إلا بالاستغناء عن القرآن نفسه.
أوجه بيان السنة للقرآن:
إن القرآن الكريم دل على وجوب العمل
بالسنة، فكل عمل جاءت به السنة يعد عملاً بالقرآن، فالكتاب مجمل والسنة مفصلة
موضحة، فإذا كانت السنة مبينة للقرآن، وإذا كان القرآن دل على كل ما في السنة
إجمالاً وتفصيلاً أخذاً بقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ
تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ} [النحل
– 89].
فعلى أي وجه تم ذلك؟ مع أننا نرى أحكاماً كثيرة لم ترد في القرآن.
نقول - وبالله التوفيق – إن البيان
متعدد الأوجه، منها:
1- توضيح معاني القرآن:
أنزل الله تعالى القرآن هداية للناس
في أمور دينهم ودنياهم، ووكل إلى نبيه أن يبلغ القرآن بقوله وبفعله، فالسنة مفسرة
للقرآن الكريم، موضحة مراد الله تعالى من أوامر وأحكام، مثل قوله تعالى: {وَلا
يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً} [الحجرات
– 12]،
فقد أخرج مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله قال: (أتدرون ما الغيبة؟ قالوا الله
ورسوله أعلم قال: ذكرك أخاك بما يكره. قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقوله؟ قال:
إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته)([20])،([21]).
وكما وضحت السنة معاني ألفاظ القرآن
بينت الأحكام التي وردت فيه ومنها قوله – جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا
طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق – 1]، فقد أخرج الشيخان من رواية عبد الله
بن عمر – رضي الله عنهما – أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله فسأل عمر بن
الخطاب رسول الله عن ذلك فقال رسول الله (مُرهُ فليُراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر
ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي
أمر الله أن تُطلق لها النساء)([22]).
2- تفصيل مجمله:
تفصيل مجمل القرآن جاء في الأحاديث
التي فيها تفصيل الصلاة، على اختلاف مواقيتها وركعاتها وسنتها ومبطلاتها، والصلوات
المفروضة والمسنونة والنافلة، وغيرها من أحكام الزكاة والصيام والحج، والذبائح
والأنكحة والبيوع والجنايات، وغيرها مما جاء مفصلاً لما أجمل في القرآن.
3- تخصيص عامه:
وتخصيص العام في القرآن الكريم كما في
الأحاديث التي خصصت الأحكام العامة، مثل نصيب كل وارث في الميراث من أصحاب الحقوق
الذين نصت عليهم الآيات، قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ
لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء – 11].
فالقاعدة العامة أن المسلم الذي يتوفى
يرثه أقرباؤه كل بنسبة حقه الذي بينه القرآن الكريم، لكن السنة جاءت بتخصيص هذه
القاعدة بالنسبة للأنبياء، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (لا نورث، ما تركنا صدقة)([23])،([24]).
كما خصصت الوارث بغير القاتل، فقال صل الله عليه وسلم: (ليس لقاتل ميراث([25])).
4- تقييد مطلقة:
جاءت بعض الأحكام في القرآن مُطلقة
دون تحديد أو تعيين، وتكفلت السنة ببيان القيود والشروط اللازمة لتنفيذ هذه
الأحكام، مثال ذلك: حد السرقة، قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ
فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا} [المائدة – 38].
ولإقامة هذا الحد نحتاج إلى معرفة أمرين:
الأول: ما هو المقدار الذي إذا أخذه
السارق تقطع يده؟
والأمر الثاني: ما حد القطع؟ أي من
أين تقطع اليد من الكتف أو المرفق أو الرسغ؟
أما
الأمر الثاني، فقد أجابت عليه السنة الفعلية، إذا كانوا يقطعون من مفصل الكفَّ.
كما
بينت السنة الفعلية حالات أخرى تشبه السرقة، مثل الذي يسرق ليأكل في زمن المجاعة،
ويسرق قدر ما يسد جوعه، ولا يزيد عن حاجته، كما حدث في عام الرمادة أو عام الجوع([27]).
فهذه الحالة من باب درء الحد بالشبهة، وفي هذا الباب صور أخرى، كالمرأة التي تأخذ
من مال زوجها دون علمه أو إذنه لتأكل هي وعيالها، فقد جاءت هند بنت عتبة إلى النبي
صل الله عليه وسلم فقالت: (يا رسول الله إن أبا سفيان رجل مسيك([28]) فهل عليَّ حرج أن أطعمهم من الذي له
عيالنا؟ فقال: لا حرج عليك أن تطعميهم بالمعروف([29])).
ومثال
آخر: الضيف الذي لا يجد ما يأكل، فعن عقبة بن عامر أنه قال: قلنا للنبي إنك تبعثنا
فننزل بقوم لا يقروننا([30])،
فما ترى؟ فقال لنا (إن نزلتم بقوم فأُمِرَ لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا، فإن لم
يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف([31])).
ومن
هذا الباب أيضاً حين يأكل الرجل من مال ابنه دون إذنه فهذا لا تقطع يده، فالابن من
كسب الأب، ويدل عليه ما أخرجه ابن ماجه من حديث جابر بن عبد الله أن رجلاً قال: يا
رسول الله، إن لي مالاً وولداً وإن أبي يريد أن يجتاح مالي([32])،
فقال: (أنت ومالك لأبيك([33])).
وغيرها
من حالات استثنيت من إيقاع الحد عليها لشبهة حقها في المال المأخوذ منه.
5- تأكيد ما ورد في القرآن:
وكما
جاءت السنة النبوية مبينة للقرآن الكريم في الأمور الأربعة السابقة تأتي أيضاً
موافقة لما جاء فيه، فتكون حينئذ واردة مورد التأكيد ومثال ذلك قوله صل الله عليه
وسلم: (اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة
الله) يوافق قول الله تعالى: }وعاشروهن بالمعروف{.
[النساء – 19].
6- التفريع على الأصول:
القرآن
الكريم دستور الإسلام، فهو يذكر القواعد الكلية والأصول العامة، ويترك للسنة تطبيق
هذه القواعد الكلية على الأمور الفرعية، وأوجه نشاطات الناس المختلفة والمتجددة
التي تنطبق عليها هذه القواعد الكلية. فقد جاء في القرآن الكريم تحريم أخذ أموال
زوج أو زوجة أو ابن أو أب أو أخ أو أخت أو صديق أو من أموال الدولة، فهذه القاعدة
– تحريم أخذ مال الغير بغير حق – ترد في مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن
تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} [النساء -29]([34]).
فنجد
السنة النبوية قد فرعت على هذه القاعدة قواعد فرعية، منها تحريم بيع الثمار قبل
نضجها، ومثال ذلك ما أخرجه الشيخان عن ابن عمر- رضي الله عنهما – أن رسول الله (نهى
عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحها، نهي البائع والمبتاع)([35]).
ونهى
عن بيع الملامسة والمنابذة، فقد أخرج البخاري عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله (نهى
عن المنابذة ـ وهي طرح الرجل ثوبه بالبيع إلى رجل قبل أن يقلبه أو ينظر إليه –
ونهى عن الملامسة والملامسة لمس الثوب لا ينظر إليه)([36]).
وغيرها من بيوع تحتمل الظلم والغرر
للبائع أو المشتري، لذلك حرم الرسول هذه البيوع و أمثالها.
استقلال السنة بالتشريع:
فضلاً
عما سبق، نجد أن السنة النبوية قد أتت بأحكام وتشريعات كثيرة لم ترد في القرآن، في
العبادات أو المعاملات، أو شئون الأسرة، وغيرها من أمور حياتية، فقد ينص القرآن
على حل شيء وحرمة شيء آخر ـ ويكون هناك شيء ثالث لم ينص على حكمه، وهو آخذ من كل
منهما بطرف، فيكون ثمة مجال للاجتهاد في إلحاقه بأحدهما، فيعطيه النبي حكم أحدهما،
وحينئذ يتبين أنه كان مشمولاته. والأمثلة على ذلك كثيرة منها:
أ) أحل الله الطيبات، وحرم الخبائث، وبقيت هناك
أشياء لا يدري هل هي من الطيبات أم من الخبائث، فبين رسول الله أنها ملحقة
بأحدهما، فنهى عن أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، ونهى عن أكل
الحمر([37])
الأهلية؛ كما ألحق الضب والحباري والأرانب وأشباهها بالطيبات.([38]).
ب)
أحل الله صيد البحر فيما أحل الطيبات،
وحرم الميتة فيما حرم من الخبائث، فدارت ميتة البحر بين الطرفين، وأشكل حكمها حتى
يبين لنا رسول الله حكمها، فقال عن البحر: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته)([39]).
ت)
ومنه نصيب البنتين في الميراث. قال
تعالى: }فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ
اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا
النِّصْفُ{ [النساء - 11]،
وبقيت البنتان مسكوتاً عنهما، فنقل في السنة حكمها وهو إلحاقهما بما فوق البنتين([40]).
فقد جاء رجل إلى أبي موسى الأشعري
ولسمان بن ربيعة، فسألهما عن: ابنة، وابنة ابن، وأخت لأب وأم، فقالا: لابنته
النصف، وللأخت من الأم والأب النصف، ولم يورثا ابنة الابن شيئاً، وآت ابن مسعود
فإنه سيتابعنا، فأتاه الرجل فسأله وأخبره بقولهما، فقال: لقد ضللت إذاً وما أنا من
المهتدين، ولكن سأقضي فيها بقضاء النبي: لابنته النصف، ولابنة الابن سهم تكملة
الثلثين، وما بقى فللأخت من الأب والأم([41]).
فاعتبر بنت الابن مع البنت من الصلب كأختين، وأعطاهما الثلثين.
وهناك أحكام شرعية استقلت بها السنة
دون القرآن، كالأحاديث التي حرمت الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، وأحكام
الشفعة، ورجم الزاني المحصن، وتغريب الزاني البكر، وإرث الجدة، وزكاة الفطر، وغير
ذلك مما استقلت السنة بتشريعه.
هذا، وقد اتفق العلماء قديماً وحديثاً
على أن سنة رسول الله من قول أو فعل تقرير، من مصادر التشريع الإسلامي، والتي لا
غنى عنها في معرفة الحلال والحرام([42]).