الفصل الرابع
تدوين السنة
معنى التدوين:
اشتهر بين عامة الناس من غير ذوي
التتبع والاستقصاء أن الحديث - أو ما يطلق عليه علماء الحديث لفظ (العلم) - ظل
أكثر من مئة سنة يتناقله العلماء حفظاً دون أن يكتبوه، واستمر هذا الظن أكثر من
خمسة قرون متتابعة وهو يزداد توسعاً ويضطرد بقوة، وسبب هذا الظن خطأ في تأويل ما
ورد عن المحدثين في تدوين الحديث وتصنيفه.
فقد ذكر أولئك العلماء أن أول من دون
العلمَ ابن شهاب الزهري المتوفى في سنة 124هـ، وذكـروا أول مـن صنف الكتب فإذا هم
جميعاً ممـن عاش بعد سنة (143هـ)، ولم يعط المؤرخون وأصحاب الموسوعات هذه الأقوال
حقها من التحقيق العميق، والتفهم الجلي لدقيق تعبيرها، بل رووها بشكل يوهم بأن أول
من كتب الحديث ابن شهاب، وأن أول من وضع الكتب أتى بعده، وبالتالي ثبت في أذهان
العامة وغير ذوي الاختصاص والتتبع أن الحديث لم يكتب في عصر الصحابة والتابعين،
إلا فيما ندر، والنادر لا حكم له، ومن أين لهم أن يضبطوا معنى التدوين والتصنيف حق
الضبط، فيعرفوا أن التدوين هو: (تقييد المتفرق المشتت وجمعه في كتاب، فيضم الشمل،
ويحفظ من الضياع، وأنه أوسع من التقييد بمعناه المحدد، ثم أن يعرفوا أن التصنيف
أدق من التدوين، فهو ترتيب ما دوّن في فصول محددة وأبواب مميزة)؟!
فكان أن استقر رأيهم على أن الحديث لم
يكتب إلا بعد عصر التابعين أي حين شرع العلماء في تدوينه ومن ثم تصنيفه.
وبعد أن أدرك العلماء خطر التناقض بين
النهي عن الكتابة والإذن بها، أكبوا على إزالته بتفسير الأحاديث المتناقضة في ظاهر
معناه([1]).
لماذا لم تدون السنة في عهد الرسول؟
لقد لقي القرآن الكريم من عناية
الرسول والصحابة ما جعله محفوظاً في الصدور، ومكتوباً في الرقاع والسعف وغيرها،
حتى إذا توفي الرسول كان القرآن محفوظاً مرتباً، لا ينقصه إلا جمعه في مصحف واحد.
أما السنة، فلم يكن شأنها كذلك - رغم
أنها كانت المصدر الثاني للتشريع في عهد الرسول - ولعل مرجع ذلك أن الرسول عاش بين
الصحابة ثلاثاً وعشرين سنة، فكان تدوين كلماته وأعماله ومعاملاته تدويناً محفوظاً
في الصحف والرقاع، من العسر بمكان، كما يحتاج ذلك إلى تفرغ كثير من الصحابة لهذا
العمل الشاق. ومن المعلوم أن النبي أمي بعث في أمة أمية، فكان الكاتبون قلة في
حياة الرسول وما دام القرآن هو المصدر الأساسي الأول للتشريع، وهو المقروء المتعبد
بتلاوته المتلو في الصلاة، ثم إن النبي هو الذي كان يأمرهم بكتابة القرآن الكريم،
فليتوفر هؤلاء الكتاب على كتابته دون غيره من السنة، حتى يؤدوه لمن بعدهم محرراً
مضبوطاً تاماً، لم ينقص منه حرف واحد ولم يزد.
أضف إلى ذلك أن العرب ـ لأميتهم ـ
كانوا يعتمدون على ذاكرتهم وحدها فيما يودون حفظه واستظهاره، فالتوفر على حفظ
القرآن مع نزوله منجماً على آيات وسور صغيرة ميسور لهم، وأدعى إلى استذكاره وحفظه فلو
دونت السنة كما دون القرآن - وهي واسعة كثيرة النواحي، شاملة لأعمال الرسول التشريعية
وأقواله، بل وتقريراته منذ بدْء رسالته إلى أن لحق بربه - للزم انكبابهم على حفظ
السنة مع حفظ القرآن، وهذا فيه من الحرج ما فيه، عدا خوف اختلاط بعض أقوال النبي الموجزة
الحكيمة بالقرآن سهواً من غير عمد، وكل ذلك خطر على كتاب الله يفتح باب الشك
لأعداء الإسلام.
النهي عن كتابة الحديث:
أخرج الأمام مسلم عن أبي سعيد الخدري
أن رسول الله قال: (لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا
حرج، ومن كذب علي - قال همام([2]) أحسبه قال - متعمداً،
فليتبوأ مقعده من النار)([3]).
الإذن بكتابة السنة:
لما تتابع الوحي وكثر ما نزل من
القرآن، وكان مضى العهد المكي وصدر من عهد المدني وأمن اللبس بين القرآن في نفوس
وعقول العرب، وميزت أذواقهم بين أسلوب القرآن وأسلوب غيره، وأصبح أقل الناس شأناً
يميز بين القرآن وبين أفصح كلام العرب بمجرد سماعه، كل ذلك كان من دواعي اطمئنان
الرسول على القرآن، فأذن لعدد من الصحابة بكتابة السنة.
وليس بين نهيه - عليه الصلاة والسلام
- عن كتابة السنة ثم إذنه بها أي تناقض أو تعارض، إذا فهمنا النهي على أنه نهي عن
التدوين الرسمي، كما كان يدون القرآن بأمر من الرسول وذلك لما عرف عن النبي من
بلاغة وفصاحة تسمو على فصاحة الخطباء وبلاغة الشعراء فقد أوتي جوامع الكلم([4])،
وأما الإذن فهو سماح بتدوين نصوص الذين يكتبون السنة لأنفسهم.
وكان الإذن بعد ذلك في تدوين السنة،
لأنها موسوعة الإسلام، وفيها تفاصيل خاصة بتشريعاته، وآدابه، وتفسير القرآن، وكان
الإذن في تدوينها للحفاظ عليها من الضياع بموت حفاظها، وللحفاظ عليها من التحريف
باختلاط موضوعات الوضاعين وكتبهم([5]).
وفيما يلي شواهد لإذن الرسول في كتابة
وجمع السنة.
أ) صحيفة أبي شاة:
روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي
هريرة رضي الله عنه أنه لما فتح الله على رسول الله مكة قام في الناس فحمد الله
وأثنى عليه، ثم قال (إن الله حبس عن مكة الفيل ...) وذكر حديثاً طويلاً، جاء في آخره:
(فقام أبو شاه - رجل من أهل اليمن - فقال: اكتبوا لي يا رسول الله، فقال رسول الله:
(اكتبوا لأبي شاه)([6]).
ب) صحيفة
عبد الله بن عمرو بن العاص:
أخرج
البخاري وغيره عن أبي هريرة أنه قال (ما من أصحاب النبي أحد أكثر حديثاً عنه مني،
إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فأنه كان يكتب ولا أكتب)([7]).
وهذا
الخبر الذي رواه أبو هريرة يدل على أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان يكتب السنة
في عهد الرسول ورسول الله يقره على ذلك.
وقد
روى الأئمة أحمد بن حنبل، والدارمي، وأبو داود حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أنه
قال: (كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله أريد حفظه، فنهتني قريش، وقالوا: أتكتب
كل شيء تسمعه ورسول الله بشر يتكلم في الغضب والرضا؟! فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك
لرسول الله فأومأ بأصبعه إلى فيه، فقال: أكتب فو الذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا
حق)([8]).
والصحف
التي كتبها عبد الله بن عمرو عن الرسول جمعها وسماها الصحيفة الصادقة، وكان رضي
الله عنه يحدث منها، وله تلاميذ كثيرون منهم: وهب بن منبه، وقد روى عن عبد الله بن
عمرو قوله: (ما يرغبني في الحياة إلا الصادقة والوهط، فأما الصادقة فصحيفة كتبتها
من رسول الله، وأما الوهط فأرض تصدق بها عمرو بن العاص كان يقوم عليها)([9]).
ج)
صحيفة أمير المؤمنين علي رضي الله عنه:
أخرج
البخاري عن أبي جحيفة أنه قال: (قلت لعلي بن أبي طالب: هل عندكم كتاب؟ قال لا إلا
كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذا الصحيفة. قال: قلت: فما في هذه
الصحيفة؟ قال: العقل([10])،
وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر)([11]).
وعن زيد بن شريك التيمي قال: (خطبنا
علي بن أبي طالب فقال: من زعم أن عندنا شيئاً نقرؤه إلا كتاب الله وهذه الصحيفة –
قال: وصحيفة معلقة في قراب سيفه - فقد كذب، فيها أسنان الإبل وأشياء من الجراحات،
وفيها: قال النبي: المدينة حرم ما بين عير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثاً، أو آوى
محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة
صرفاً ولا عدلاً، وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، ومن ادعى إلى غير أبيه، أو
انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه
يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً)([12]).
كما أخرج الإمام مسلم عن عامر بن
واثلة أنه قال: (سئل علي: أخصكم رسول الله بشيء؟ فقال: ما خصنا رسول الله بشيء لم
يعم به الناس كافة، إلا ما كان في قراب سيفي هذا. قال: فأخرج صحيفة مكتوب فيها
(لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من سرق منار الأرض([13])، ولعن الله من
لعن والده، ولعن الله من آوى محدث)([14]).
ومما يستأنس به ما رواه التابعون عن
الصحابة من إذن بالكتابة، كقول عمر بن الخطاب وأنس بن مالك لبنيهم (قيدوا العلم
بالكتاب)([15]).
أمر الرسول بالكتابة:
وإذا كان الرسول قد أذن لبعض الصحابة
بكتابة السنة، فإنه قد أثر عنه أنه أمر بكتابة أشياء غير قليلة من السنن في
مناسبات مختلفة، نورد بعضاً منها:
العهود
والمواثيق:
كتب عدة معاهدات ومواثيق، منها ما
كتبه في أول هجرته إلى المدينة بين المهاجرين والأنصار، وعاهد اليهود، ومنها أيضاً
صلح الحديبية بينه والمسلمون معه، وبين أهل مكة من المشركين، ومنها صلح خيبر،
معاهدة أهل الحدود بين الحجاز والشام لما ذهب إلى تبوك.
كتبه إلى الملوك والأمراء:
أرسل كتباً إلى كسرى، وقيصر، وهرقل،
والنجاشي، والي أمراء العرب يدعوهم إلى الإسلام، وكتبه هذه نموذج يحتذى من سنته في
مثل هذه الأغراض.
أحكام الزكاة والديات والفروض
(الميراث):
أخرج مسلم عن جابر بن عبد الله أنه
قال: (كتب النبي على كل بطن عقوله([16])،
ثم كتب أنه لا يحل لمسلم أن يتوالى مولى رجل مسلم بغير إذنه، ثم أخبرت أنه لعن في
صحيفته من فعل ذلك)([17]).
وأخرج الإمام أحمد في مسنده أن عمر بن
الخطاب ـ رضي الله عنه قال: ما أرى الدية إلا للعصبة، لأنهم يعقلون عنه، فهل سمع
أحد منكم من رسول الله في ذلك شيئاً؟ فقال الضحاك بن سفيان الكلابي ـ وكان استعمله
رسول الله على الأعراب ـ : كتب إلى رسول الله : (أن أورث امرأة أشيم الضبابي من
دية زوجها). فرجع عمر عن قوله([19]).
وأخرج البخاري عن ابن عباس أنه قال: (لما
أشتد بالنبي وجعه، قال: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده، قال: عمر إن
النبي غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا. فاختلفوا، وكثر اللغط. قال: قوموا عني،
ولا ينبغي عندي التنازع)([20]).
وبناء على ما تقدم، فالقول في أمر
تدوين السنة: إنه يتلخص في ظاهرتين:
أ. النهي عن تدوينها أول الأمر، حماية للقرآن من
التحريف باختلاط السنة وغيرها به، وتوفيراً لجهود المسلمين على الاشتغال بالقرآن
الكريم أكثر من غيره.
ب. الإذن بتدوينها بعد أن تحقق الغرض الأول،
ولتحقيق أغراض أخرى هامة، منها نشر العلم، وتفقيه المسلمين من أبناء القبائل
والبلاد البعيدة في دينهم، ولصيانتها من الضياع بالنسيان أو موت الحُفَاظ، وحفظها
صحيحة من التحريف([22]).
وفي
آخر المطاف يتأكد لنا أن الوقت الذي ازداد فيه نشاط العلماء في الجمع والتدوين، لم
يكن هو مبدأ زمن التدوين. وإنما بدأت كتابة الحديث منذ عهد النبي بصورة خاصة، وغير
رسمية، فالسنة النبوية لم تبق مهملة طيلة القرن الأول إلى عهد عمر بن عبد العزيز،
وإنما كانت تكتب كتابات فردية في عهد الرسول والصحابة والتابعين، وحفظت في
الكراريس والصحف بجانب حفظها في الصدور. وكانت تلك الصحف والمجاميع تحتوى على
العدد الأكبر من الأحاديث التي دونت في القرن الثالث.
ويقول الأستاذ أبو الحسن الندوي، في
كتابه رجال الفكر والدعوة: إذا اجتمعت هذه الصحف والمجاميع وما احتوت عليه من
الأحاديث، كونت العدد الأكبر من الأحاديث التي جمعت في الجوامع والمسانيد والسنن
في القرن الثالث، وهكذا يتحقق أن المجموع الأكبر من الأحاديث سبق تدوينه وتسجيله
من غير نظام وترتيب في عهد الرسول وفي عصر الصحابة رضي الله عنهم.
وقد شاع في الناس ـ حتى المثقفين
والمؤلفين ـ أن الحديث كتب ودون في القرن الثاني، وما نشأ هذا الغلط إلا من
طريقتين:
الأولى: أن عامة المؤرخين يقتصرون على ذكر
مدوني الحديث في القرن الثاني، ولا يعتنون بذكر هذه الصف والمجاميع التي كتبت في
القرن الأول، لأن عامتها قد فقدت وضاعت، مع أنها اندمجت وذابت في المؤلفات
المتأخرة.
الثانية: أن المحدثين يذكرون عدد الأحاديث
الضخم الهائل الذي لا يتصور أن يكون قد جاء في هذه المجاميع الصغيرة التي كتبت من
القرن الأول([23]).
ويقول العلامة مناظر أحسن الكيلاني،
متفقاً مع الندوي في كتابه (تدوين الحديث): وقد يتعجب الإنسان من ضخامة عدد
الأحاديث المروية، فيقال: إن أحمد بن حنبل كان يحفظ أكثر من سبعمائة ألف حديث،
وكذلك يقال عن أبي زرعه، ويروى عن الإمام البخاري أنه كان يحفظ مائتي ألف حديث من
الأحاديث الضعيفة، ومائة ألف من الأحاديث الصحيحة. ويروى عن مسلم أنه قال: جمعت
كتابي من ثلاثمائة ألف حديث، ولا يعرف كثير من المتعلمين فضلاً عن العامة أن الذي
يكون هذا العدد الضخم هو كثرة المتابعات والشواهد التي عني بها المحدثون([24]).
حفظ الصحابة للسنة بعد وفاة النبي:
وجد الصحابة الضرورة تلح عليهم لحفظ
السنة، فأكبوا على دراستها والسؤال عنها، والبحث عن الحديث عند حفاظه، فهذا ابن
عباس يطلب الحديث من الصحابة، ويتحمل في سبيل ذلك العناء والمشقة، ليسمع الحديث
ممن سمع من رسول الله مباشرة، زيادة في التثبت من الرواية، فقد روى عكرمة عن ابن
عباس أنه قال: "لما قبض رسول الله، قال لرجل من الأنصار: هَلُمَّ فلنسأل
أصحاب رسول الله فإنهم اليوم كثير. قال: واعجبا لك يا ابن عباس! أترى الناس يفترون
إليك وفي الناس من أصحاب رسول الله من فيهم؟ قال: فترك ذاك، وأقبلت أنا أسأل أصحاب
رسول الله عن الحديث، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتي بابه وهو قائل، فأتوسد
ردائي على بابه، تسفي([25])
على الريح من التراب، فيخرج فيقول: يا ابن عم رسول الله، ما جاء بك؟! ألا أرسلت
إلى فآتيك؟ فأقول: أنا أحق أن آتيك، فأسأله عن الحديث، قال: فعاش ذلك الرجل
الأنصاري حتى رآني وقد اجتمع الناس حولي يسألوني، فيقول: هذا الفتى كان أعقل
مني"([26]).
ولم يكتف الصحابة بدراسة الحديث فيما
بينهم، بل حثوا على طلبه وحفظه، وحضوا التابعين على مجالسة أهل العلم والأخذ عنهم.
ومن هذا ما روي عن عمر رضي الله عنه
أنه قال: (تعلموا الفرائض واللحن([27])
والسنن، كما تتعلمون القرآن)([28]).
العلة في كراهة كتابة الحديث:
لقد كان اهتمام الصحابة والتابعين
بالسنة المطهرة كبيراً، وحرصهم على الحديث النبوي شديداً، وأولوها من العناية ما
تستحق، إلا أنهم لم يسووا بينها، وبين القرآن في الكتابة، خوف الانكباب عليها
ودراستها والتهاون أو إغفال حفظ القرآن، ويدل على ذلك ما رواه عروة بن الزبير عن
عمر بن الخطاب أنه أراد أن يكتب السنن، فاستشار في ذلك أصحاب رسول الله، فأشاروا
عليه بكتبها، فطفق([29])
عمر يستخير الله فيها شهراً، ثم أصبح يوماً وقد عزم الله له، فقال: (إني كنت أردت
أن أكتب السنن، وإني ذكرت قوماً قبلكم كتبوا كتبا فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله
تعالى، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء أبداً. فترك كتابة السنن)([30]).
وقال سُليم بن أسود: كنت أنا وعبد الله
بن مرداس، فرأينا صحيفة فيها قصص وقرآن مع رجل من النخع، قال: فواعدنا المسجد.
قال: فقال عبد الله بن مرداس: اشتر صحفاً بدرهم، إنا لقعود في المسجد ننتظر
صاحبنا، إذا رجل فقال: أجيبوا عبد الله يدعوكم، قال فتقوضت الحلقة([31])،
فانتهينا إلى عبد الله بن مسعود، فإذا الصحيفة في يده، فقال: (إن أحسن الهدي هدي
محمد، وإن أحسن الحديث كتاب الله، وإن شر الأمور محدثاتها، وإنكم ستحدثون ويحدث
لكم، فإذا رأيتم محدثة، فعليكم بالهدي الأول، فإنما أهلك أهل الكتابين قبلكم مثل
هذه الصحيفة وأشباهها، وتوارثوها قرناً بعد قرن، حتى جعلوا كتاب الله خلف ظهورهم
كأنهم لا يعلمون، فأنشد الله رجلاً عَلِمَ مكان صحيفة، إلا أتاني، فوالله لو
علمتها بدير هند([32])
لانتقلت إليه([33]))([34]).
وقد علق الخطيب البغدادي على الروايتين
السابقتين، فقال: فقد ثبت أن كراهة من كره الكتاب من الصدر الأول، إنما هي لئلا
يضاهى بكتاب الله تعالى غيره، أو يشتغل عن القرآن بسواه، ونهى عن الكتب القديمة أن
تتخذ، لأنه لا يعرف حقها من باطلها وصحيحها من فاسدها، مع أن القرآن كفى منها وصار
مهيمناً عليها، ونهى عن كتب العلم في صدر الإسلام لقلة الفقهاء في ذلك الوقت،
المميزين بين الوحي وغيره، ولأن أكثر الأعراب لم يكونوا فقهوا في الدين، ولا
جالسوا العلماء العارفين، فلم يؤمن أن يُلحقوا ما يجدونه من الصحف بالقرآن
ويعتقدوا أن ما اشتملت عليه كلام الرحمن([35]).
وأخرج
الدارمي عن حصين بن مرة الهمداني قال: جاء أبو قرة الكندي بكتاب من الشام فحمله،
فدفعه إلى عبد الله بن مسعود، فنظر فيه، فدعا بطست ثم دعا بماء فمرسه فيه، وقال:
(إنما أهلك من كان قبلكم بإتباعهم لكتب وتركهم كتابهم). قال حصين: فقال مرة: أما
إنه لو كان من القرآن أو السنة لم يمحه، ولكن كان من كتب أهل الكتاب)([36]).
كتابة الحديث ثم محوه:
وكان
غير واحد من السلف يستعين على حفظ الحديث بأن يكتبه ويدرسه من كتابه، فإذا أتقنه
محا الكتاب، خوفاً من أن يتكل القلب عليه، فيؤدي ذلك إلى نقصان الحفظ وترك العناية
بالمحفوظ.
وقال
عروة بن الزبير: كتبت الحديث ثم محوته، فوددت أني فديته بمالي وولدي وأني لم أمحه.
نرى
هنا أن عروة محا الحديث من كتابه للمعنى الذي ذكرناه من كراهة الاتكال عليه، فما
علت سنة وتغير حفظه ندم على محوه إياه، وتمنى أنه كان لم يمحه ليرجع إلى كتابه عند
تناقص أحواله، واضطراب حفظه([37]).
ومن
أسباب كراهة كتابة الحديث خوف صيران العلم إلى غير أهله. وكان غير واحد من
المتقدمين إذا حضرته الوفاة أتلف كتبه، أو أوصى بإتلافها، خوفاً من أن تصير إلى من
ليس من أهل، فلا يعرف أحكامها، ويحمل جميع ما فيها على ظاهره، وربما زاد فيها
ونقص، فيكون ذلك منسوباً إلى كاتبها في الأصل. وكانوا يرون أن بني إسرائيل إنما
ضلوا بكتب ورثوها([38]).
وأخرج
الدارمي عن نعمان بن قيس أن عبيدة دعا بكتبه فمحاها عند الموت، وقال: إني أخاف أن
يليها قوم فلا يضعونها مواضعها([39]).
كما
أخرج عن الأوزاعي قوله: ما زال هذا العلم عزيزاً يتلقاه الرجال حتى وقع في الصحف،
فحمله ـ أو دخل فيه ـ غير أهله([40]).
التدوين الرسمي للسنة:
في
الصفحات السابقة عرفنا أن الصحابة دونوا السنة بصفة فردية أو شخصية، ومبكراً قبل
أن يؤمر بتدوينها تدويناً رسمياً.
واستمر
حال السنة بين المتورعين عن الكتابة، وبين المجيزين لذلك حتى انتشر الإسلام واتسعت
الفتوحات وتفرق الصحابة في الأقطار، وكاد القرن الأول أن ينتهي والسُنة موكولة إلى
حفظ الصحابة والتابعين، إلا قلة ممن كان يكتب الحديث كما مر.
ومرور
هذا الزمن كفيل بأن يذهب بكثير من حملة الحديث من الصحابة والتابعين، ويهيئ لأهل
الأهواء كالخوارج والروافض والقدرية أن يتلاعبوا بالسنة. كما نشأ جيل قليل الضبط
ضعيف الحفظ بسبب اختلاط العرب بالأعاجم في البلدان المختلفة، فدعت الحاجة إلى
تدوين الحديث النبوي. وقد تهيأ للتابعين من كتابة الحديث والسنن ما لم يتهيأ
لغيرهم، فأكثروا من التقييد والكتابة، وشاعت الكتابة بينهم، ولم ينكرها واحد منهم.
ولعل
السبب في التوسع في الكتابة وانتشارها بينهم، تلهف المسلمين في الأمصار إلى معرفة
آداب وشرائع الإسلام، وإعجابهم بأصحاب رسول الله، ورغبة الكثير من التابعين في
موافقة الصحابة والأخذ عنهم. فضلاَ عن ظهور الوضع والكذب على رسول الله من أنصار
الفرق والمذاهب الذين ظهروا بعد مقتل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه مما أثار
حفيظة طلاب السنة من التابعين على سماعها من الصحابة وإثباتها مدونة، ليدرؤوا عنها
الزيف والتحريف، واقتنعوا بضرورة تدوين السنة لحفظ دين الله.
التدوين الرسمي الأول:
في
نهاية القرن الأول الهجري أفضت الخلافة إلى الإمام العادل الشاب الورع عمر بن عبد العزيز،
رحمه الله والذي هداه الله إلى جمع السنة وتدوينها مخافة أن يضيع منها شيء، فكتب إلى
بعض علماء الأمصار وولاته، يأمرهم بجمع الأحاديث، فكتب إلى أبي بكر بن عمرو ابن
حزم ـ عامله وقاضيه على المدينة: (أنظر على ما كان من حديث رسول الله فاكتبه، فإني
خفت دروس([41])
العلم وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولتفشوا العلم،
ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرا)([42]).
ونقل
ابن حجر عن أبي نعيم في تاريخ أصبهان هذه القصة بلفظ: كتب عمر بن عبد العزيز إلى
الآفاق: (أنظروا حديث رسول الله فاجمعوه)([43]).
مما
يدل على أنه كتب إلى ما كان تحت ولايته من الأمصار، وليس إلى المدينة فقط، وبهذا
توجهت الدولة الإسلامية إلى تدوين السنة رسمياً بعد أن كان تدوينها شخصياً، ويبدوا
أن أبا بكر بن عمرو بن حزم لم يستوعب كل ما عند أهل المدينة من أحاديث، فكتب ما
عند القاسم بن عبد الرحمن بن أبي بكر، وعمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية فقط.
وقام
ابن شهاب الزهري بجمع كل ما توفر لديه من أحاديث وسنن، فقد كان علماً خفاقاً من
أعلام السنة في عصره، وكان عمر بن عبد العزيز ينصح جلساءه أن يذهبوا إليه، لأنه لم
يبق على وجه الأرض أحد أعلم بالسنة تدويناً رسمياً ترعاه الدولة، وتحث عليه، وتجند
له قواها وعلماءها.
وبهذا
انتقلت حماسة تدوين السنة إلى علماء الأمة الأفذاذ، فتنافسوا في جمعها صافية من
منابعها وطرقها ورجالها الأمناء.
منهج العلماء في تدوين السنة في القرن
الثاني:
كان
للعلماء طريقتهم في التدوين ـ ومن قبلهم الزهري ـ وهي أنهم جمعوا الأحاديث التي
تدور في موضوع واحد في مؤلف خاص، فوضعوا لكل باب من أبواب العلم مؤلفاً قائماً به،
كالصلاة، والزكاة، والصوم، والطلاق، وهكذا. وكان عمل الزهري بمثابة حجر الأساس
لتدوين السنة في كتب خاصة، وتابعه بعده الأئمة والعلماء في المدن الإسلامية، مثل
مكة والمدينة والبصرة والشام وغيرها، من حواضر العالم الإسلامي في ذلك الوقت، ومن
أشهر من دون الحديث في ذلك الوقت: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، ومحمد بن إسحق
في مكة، ومالك بن أنس في المدينة، وسعيد بن أبي عروبة، وحماد بن سلمة في البصرة،
وسفيان الثوري في الكوفة، والأوزاعي في الشام، ومعمر بن راشد في اليمن، وعبد الله
بن وهب في مصر، وغيرهم كثير.
وقد قام هؤلاء بجمع أحاديث كل باب من
العلم على حدة في مؤلف واحد، لكنهم مزجوا الأحاديث النبوية بأقوال الصحابة
والتابعين وفتاويهم. ونسج على هذا المنوال بقية أهل عصرهم.
التدوين
الرسمي الثاني:
كان هذا التدوين أيام الدولة العباسية
بأمر من الخليقة أبي جعفر المنصور، حين اطلع على كتاب الإمام مالك بن أنس ـ رحمه
الله ـ وكان قد عكف على تأليفه أربعين عاماً ـ فطلب منه أن يكتب كتاباً يوطئ للناس
سنة رسول الله .
ويعتبر موطأ مالك من أقدار الآثار
الباقية من جهود العلماء المباركة في تدوين السنة، وقد تميز بتبويب الأحاديث حسب
الموضوعات، مع أقوال الصحابة ومأثورات التابعين واجتهاده الفقهي في بعض المسائل،
والنص على أهل المدينة في بعض الأبواب.
وفتح الله على باقي العلماء، فلم
يدخروا وسعاً في خدمة السنة، وأخلصوا النية لله، وعزموا على حفظ السنة، وتنقيتها
مما أدخل عليها، ونقلها بأمانة إلى المسلمين على مر العصور.
تدوين السنة في القرن الثالث:
وجاء القرن الثالث فازدهر فيه تدوين
السنة وتنوعت المؤلفات فيها، ففي القرنين الأول والثاني كان الاهتمام بالسنة
تدويناً وجمعاً فقط، أما في القرن الثالث فقد تناول العلماء السنة من جهتي الجمع
(التدوين) والتصنيف على طريقة المسانيد([44])،
والجوامع([45])،
والسنن([46]).
وتابع علماء القرن الثالث الجهود
المباركة للعلماء السابقين، وانتهجوا نهجاً مخالفاً بعض الشيء في حفظ السنة،
فأفردوها عن أقوال الصحابة والتابعين وأفعالهم وفتاويهم وتفسيراتهم، والتزموا
شروطاً وضعوها لأنفسهم، مع اهتمام بارز بالرواة والروايات.
وكان الداعي لهذه الطرق هو أن تكون
عوناً للفقهاء، وتسهيلاً لهم في الوقوف على الأحاديث التي يستنبطون منها أحكامهم،
أو يستدلون بها، أو يجتهدون على ضوئها.
ونخرج من هذا الفصل بحقيقة هامة، وهي
أن الحديث الشريف كان ميراث المسلمين، وخبرة أجيال، ومواثيق حضارة إنسانية، وأصول
علوم جامعة، وكان ذخيرة ونوراً وعلماً وحياة لمن يأتي بعدهم.
وأنه لقي عناية وحفظاً
واهتماماً عظيماً من أبناء ذلك العصر، الذين تولوا نقله بأمانة وإخلاص إلى الجيل الذي
تلاهم، ثم أدت الأجيال المتعاقبة هذه الأمانة حتى وصلت إلينا في أمهات الكتب
الصحيحة([47]).