الاثنين، 17 أكتوبر 2016

صفحات مشرقة من تاريخ السنة - الفصل الرابع



الفصل الرابع
تدوين السنة

معنى التدوين:
اشتهر بين عامة الناس من غير ذوي التتبع والاستقصاء أن الحديث - أو ما يطلق عليه علماء الحديث لفظ (العلم) - ظل أكثر من مئة سنة يتناقله العلماء حفظاً دون أن يكتبوه، واستمر هذا الظن أكثر من خمسة قرون متتابعة وهو يزداد توسعاً ويضطرد بقوة، وسبب هذا الظن خطأ في تأويل ما ورد عن المحدثين في تدوين الحديث وتصنيفه.
فقد ذكر أولئك العلماء أن أول من دون العلمَ ابن شهاب الزهري المتوفى في سنة 124هـ، وذكـروا أول مـن صنف الكتب فإذا هم جميعاً ممـن عاش بعد سنة (143هـ)، ولم يعط المؤرخون وأصحاب الموسوعات هذه الأقوال حقها من التحقيق العميق، والتفهم الجلي لدقيق تعبيرها، بل رووها بشكل يوهم بأن أول من كتب الحديث ابن شهاب، وأن أول من وضع الكتب أتى بعده، وبالتالي ثبت في أذهان العامة وغير ذوي الاختصاص والتتبع أن الحديث لم يكتب في عصر الصحابة والتابعين، إلا فيما ندر، والنادر لا حكم له، ومن أين لهم أن يضبطوا معنى التدوين والتصنيف حق الضبط، فيعرفوا أن التدوين هو: (تقييد المتفرق المشتت وجمعه في كتاب، فيضم الشمل، ويحفظ من الضياع، وأنه أوسع من التقييد بمعناه المحدد، ثم أن يعرفوا أن التصنيف أدق من التدوين، فهو ترتيب ما دوّن في فصول محددة وأبواب مميزة)؟!
فكان أن استقر رأيهم على أن الحديث لم يكتب إلا بعد عصر التابعين أي حين شرع العلماء في تدوينه ومن ثم تصنيفه.
وبعد أن أدرك العلماء خطر التناقض بين النهي عن الكتابة والإذن بها، أكبوا على إزالته بتفسير الأحاديث المتناقضة في ظاهر معناه([1]).

لماذا لم تدون السنة في عهد الرسول؟
لقد لقي القرآن الكريم من عناية الرسول والصحابة ما جعله محفوظاً في الصدور، ومكتوباً في الرقاع والسعف وغيرها، حتى إذا توفي الرسول كان القرآن محفوظاً مرتباً، لا ينقصه إلا جمعه في مصحف واحد.
أما السنة، فلم يكن شأنها كذلك - رغم أنها كانت المصدر الثاني للتشريع في عهد الرسول - ولعل مرجع ذلك أن الرسول عاش بين الصحابة ثلاثاً وعشرين سنة، فكان تدوين كلماته وأعماله ومعاملاته تدويناً محفوظاً في الصحف والرقاع، من العسر بمكان، كما يحتاج ذلك إلى تفرغ كثير من الصحابة لهذا العمل الشاق. ومن المعلوم أن النبي أمي بعث في أمة أمية، فكان الكاتبون قلة في حياة الرسول وما دام القرآن هو المصدر الأساسي الأول للتشريع، وهو المقروء المتعبد بتلاوته المتلو في الصلاة، ثم إن النبي هو الذي كان يأمرهم بكتابة القرآن الكريم، فليتوفر هؤلاء الكتاب على كتابته دون غيره من السنة، حتى يؤدوه لمن بعدهم محرراً مضبوطاً تاماً، لم ينقص منه حرف واحد ولم يزد.
أضف إلى ذلك أن العرب ـ لأميتهم ـ كانوا يعتمدون على ذاكرتهم وحدها فيما يودون حفظه واستظهاره، فالتوفر على حفظ القرآن مع نزوله منجماً على آيات وسور صغيرة ميسور لهم، وأدعى إلى استذكاره وحفظه فلو دونت السنة كما دون القرآن - وهي واسعة كثيرة النواحي، شاملة لأعمال الرسول التشريعية وأقواله، بل وتقريراته منذ بدْء رسالته إلى أن لحق بربه - للزم انكبابهم على حفظ السنة مع حفظ القرآن، وهذا فيه من الحرج ما فيه، عدا خوف اختلاط بعض أقوال النبي الموجزة الحكيمة بالقرآن سهواً من غير عمد، وكل ذلك خطر على كتاب الله يفتح باب الشك لأعداء الإسلام.

النهي عن كتابة الحديث:
أخرج الأمام مسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله قال: (لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب علي - قال همام([2]) أحسبه قال - متعمداً، فليتبوأ مقعده من النار)([3]).
الإذن بكتابة السنة:
لما تتابع الوحي وكثر ما نزل من القرآن، وكان مضى العهد المكي وصدر من عهد المدني وأمن اللبس بين القرآن في نفوس وعقول العرب، وميزت أذواقهم بين أسلوب القرآن وأسلوب غيره، وأصبح أقل الناس شأناً يميز بين القرآن وبين أفصح كلام العرب بمجرد سماعه، كل ذلك كان من دواعي اطمئنان الرسول على القرآن، فأذن لعدد من الصحابة بكتابة السنة.
وليس بين نهيه - عليه الصلاة والسلام - عن كتابة السنة ثم إذنه بها أي تناقض أو تعارض، إذا فهمنا النهي على أنه نهي عن التدوين الرسمي، كما كان يدون القرآن بأمر من الرسول وذلك لما عرف عن النبي من بلاغة وفصاحة تسمو على فصاحة الخطباء وبلاغة الشعراء فقد أوتي جوامع الكلم([4])، وأما الإذن فهو سماح بتدوين نصوص الذين يكتبون السنة لأنفسهم.
وكان الإذن بعد ذلك في تدوين السنة، لأنها موسوعة الإسلام، وفيها تفاصيل خاصة بتشريعاته، وآدابه، وتفسير القرآن، وكان الإذن في تدوينها للحفاظ عليها من الضياع بموت حفاظها، وللحفاظ عليها من التحريف باختلاط موضوعات الوضاعين وكتبهم([5]).
وفيما يلي شواهد لإذن الرسول في كتابة وجمع السنة.
أ) صحيفة أبي شاة:
روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه لما فتح الله على رسول الله مكة قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال (إن الله حبس عن مكة الفيل ...) وذكر حديثاً طويلاً، جاء في آخره: (فقام أبو شاه - رجل من أهل اليمن - فقال: اكتبوا لي يا رسول الله، فقال رسول الله: (اكتبوا لأبي شاه)([6]).
ب) صحيفة عبد الله بن عمرو بن العاص:
أخرج البخاري وغيره عن أبي هريرة أنه قال (ما من أصحاب النبي أحد أكثر حديثاً عنه مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فأنه كان يكتب ولا أكتب)([7]).
وهذا الخبر الذي رواه أبو هريرة يدل على أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان يكتب السنة في عهد الرسول ورسول الله يقره على ذلك.
وقد روى الأئمة أحمد بن حنبل، والدارمي، وأبو داود حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: (كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله أريد حفظه، فنهتني قريش، وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه ورسول الله بشر يتكلم في الغضب والرضا؟! فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله فأومأ بأصبعه إلى فيه، فقال: أكتب فو الذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق)([8]).
والصحف التي كتبها عبد الله بن عمرو عن الرسول جمعها وسماها الصحيفة الصادقة، وكان رضي الله عنه يحدث منها، وله تلاميذ كثيرون منهم: وهب بن منبه، وقد روى عن عبد الله بن عمرو قوله: (ما يرغبني في الحياة إلا الصادقة والوهط، فأما الصادقة فصحيفة كتبتها من رسول الله، وأما الوهط فأرض تصدق بها عمرو بن العاص كان يقوم عليها)([9]).

ج) صحيفة أمير المؤمنين علي رضي الله عنه:
أخرج البخاري عن أبي جحيفة أنه قال: (قلت لعلي بن أبي طالب: هل عندكم كتاب؟ قال لا إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذا الصحيفة. قال: قلت: فما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل([10])، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر)([11]).
وعن زيد بن شريك التيمي قال: (خطبنا علي بن أبي طالب فقال: من زعم أن عندنا شيئاً نقرؤه إلا كتاب الله وهذه الصحيفة – قال: وصحيفة معلقة في قراب سيفه - فقد كذب، فيها أسنان الإبل وأشياء من الجراحات، وفيها: قال النبي: المدينة حرم ما بين عير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثاً، أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً، وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، ومن ادعى إلى غير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً)([12]).
كما أخرج الإمام مسلم عن عامر بن واثلة أنه قال: (سئل علي: أخصكم رسول الله بشيء؟ فقال: ما خصنا رسول الله بشيء لم يعم به الناس كافة، إلا ما كان في قراب سيفي هذا. قال: فأخرج صحيفة مكتوب فيها (لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من سرق منار الأرض([13])، ولعن الله من لعن والده، ولعن الله من آوى محدث)([14]).
ومما يستأنس به ما رواه التابعون عن الصحابة من إذن بالكتابة، كقول عمر بن الخطاب وأنس بن مالك لبنيهم (قيدوا العلم بالكتاب)([15]).
أمر الرسول بالكتابة:
وإذا كان الرسول قد أذن لبعض الصحابة بكتابة السنة، فإنه قد أثر عنه أنه أمر بكتابة أشياء غير قليلة من السنن في مناسبات مختلفة، نورد بعضاً منها:
العهود والمواثيق:
كتب عدة معاهدات ومواثيق، منها ما كتبه في أول هجرته إلى المدينة بين المهاجرين والأنصار، وعاهد اليهود، ومنها أيضاً صلح الحديبية بينه والمسلمون معه، وبين أهل مكة من المشركين، ومنها صلح خيبر، معاهدة أهل الحدود بين الحجاز والشام لما ذهب إلى تبوك.
كتبه إلى الملوك والأمراء:
أرسل كتباً إلى كسرى، وقيصر، وهرقل، والنجاشي، والي أمراء العرب يدعوهم إلى الإسلام، وكتبه هذه نموذج يحتذى من سنته في مثل هذه الأغراض.
أحكام الزكاة والديات والفروض (الميراث):
أخرج مسلم عن جابر بن عبد الله أنه قال: (كتب النبي على كل بطن عقوله([16])، ثم كتب أنه لا يحل لمسلم أن يتوالى مولى رجل مسلم بغير إذنه، ثم أخبرت أنه لعن في صحيفته من فعل ذلك)([17]).
كما كتب لصاحب طلحة بن عبد الله ـ وهو رجل من الأعراب ـ كتابا أن لا يتعدى عليه أحد من صدقاته([18]).
وأخرج الإمام أحمد في مسنده أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه قال: ما أرى الدية إلا للعصبة، لأنهم يعقلون عنه، فهل سمع أحد منكم من رسول الله في ذلك شيئاً؟ فقال الضحاك بن سفيان الكلابي ـ وكان استعمله رسول الله على الأعراب ـ : كتب إلى رسول الله : (أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها). فرجع عمر عن قوله([19]).
وأخرج البخاري عن ابن عباس أنه قال: (لما أشتد بالنبي وجعه، قال: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده، قال: عمر إن النبي غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا. فاختلفوا، وكثر اللغط. قال: قوموا عني، ولا ينبغي عندي التنازع)([20]).
وكتب رسول الله كتاب الصدقات والديات والفرائض، والسنن لعمرو بن حزم وغيره([21]).
وبناء على ما تقدم، فالقول في أمر تدوين السنة: إنه يتلخص في ظاهرتين:
أ‌.       النهي عن تدوينها أول الأمر، حماية للقرآن من التحريف باختلاط السنة وغيرها به، وتوفيراً لجهود المسلمين على الاشتغال بالقرآن الكريم أكثر من غيره.
ب‌.  الإذن بتدوينها بعد أن تحقق الغرض الأول، ولتحقيق أغراض أخرى هامة، منها نشر العلم، وتفقيه المسلمين من أبناء القبائل والبلاد البعيدة في دينهم، ولصيانتها من الضياع بالنسيان أو موت الحُفَاظ، وحفظها صحيحة من التحريف([22]).
وفي آخر المطاف يتأكد لنا أن الوقت الذي ازداد فيه نشاط العلماء في الجمع والتدوين، لم يكن هو مبدأ زمن التدوين. وإنما بدأت كتابة الحديث منذ عهد النبي بصورة خاصة، وغير رسمية، فالسنة النبوية لم تبق مهملة طيلة القرن الأول إلى عهد عمر بن عبد العزيز، وإنما كانت تكتب كتابات فردية في عهد الرسول والصحابة والتابعين، وحفظت في الكراريس والصحف بجانب حفظها في الصدور. وكانت تلك الصحف والمجاميع تحتوى على العدد الأكبر من الأحاديث التي دونت في القرن الثالث.
ويقول الأستاذ أبو الحسن الندوي، في كتابه رجال الفكر والدعوة: إذا اجتمعت هذه الصحف والمجاميع وما احتوت عليه من الأحاديث، كونت العدد الأكبر من الأحاديث التي جمعت في الجوامع والمسانيد والسنن في القرن الثالث، وهكذا يتحقق أن المجموع الأكبر من الأحاديث سبق تدوينه وتسجيله من غير نظام وترتيب في عهد الرسول وفي عصر الصحابة رضي الله عنهم.
وقد شاع في الناس ـ حتى المثقفين والمؤلفين ـ أن الحديث كتب ودون في القرن الثاني، وما نشأ هذا الغلط إلا من طريقتين:
الأولى: أن عامة المؤرخين يقتصرون على ذكر مدوني الحديث في القرن الثاني، ولا يعتنون بذكر هذه الصف والمجاميع التي كتبت في القرن الأول، لأن عامتها قد فقدت وضاعت، مع أنها اندمجت وذابت في المؤلفات المتأخرة.
الثانية: أن المحدثين يذكرون عدد الأحاديث الضخم الهائل الذي لا يتصور أن يكون قد جاء في هذه المجاميع الصغيرة التي كتبت من القرن الأول([23]).
ويقول العلامة مناظر أحسن الكيلاني، متفقاً مع الندوي في كتابه (تدوين الحديث): وقد يتعجب الإنسان من ضخامة عدد الأحاديث المروية، فيقال: إن أحمد بن حنبل كان يحفظ أكثر من سبعمائة ألف حديث، وكذلك يقال عن أبي زرعه، ويروى عن الإمام البخاري أنه كان يحفظ مائتي ألف حديث من الأحاديث الضعيفة، ومائة ألف من الأحاديث الصحيحة. ويروى عن مسلم أنه قال: جمعت كتابي من ثلاثمائة ألف حديث، ولا يعرف كثير من المتعلمين فضلاً عن العامة أن الذي يكون هذا العدد الضخم هو كثرة المتابعات والشواهد التي عني بها المحدثون([24]).

حفظ الصحابة للسنة بعد وفاة النبي:
وجد الصحابة الضرورة تلح عليهم لحفظ السنة، فأكبوا على دراستها والسؤال عنها، والبحث عن الحديث عند حفاظه، فهذا ابن عباس يطلب الحديث من الصحابة، ويتحمل في سبيل ذلك العناء والمشقة، ليسمع الحديث ممن سمع من رسول الله مباشرة، زيادة في التثبت من الرواية، فقد روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال: "لما قبض رسول الله، قال لرجل من الأنصار: هَلُمَّ فلنسأل أصحاب رسول الله فإنهم اليوم كثير. قال: واعجبا لك يا ابن عباس! أترى الناس يفترون إليك وفي الناس من أصحاب رسول الله من فيهم؟ قال: فترك ذاك، وأقبلت أنا أسأل أصحاب رسول الله عن الحديث، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتي بابه وهو قائل، فأتوسد ردائي على بابه، تسفي([25]) على الريح من التراب، فيخرج فيقول: يا ابن عم رسول الله، ما جاء بك؟! ألا أرسلت إلى فآتيك؟ فأقول: أنا أحق أن آتيك، فأسأله عن الحديث، قال: فعاش ذلك الرجل الأنصاري حتى رآني وقد اجتمع الناس حولي يسألوني، فيقول: هذا الفتى كان أعقل مني"([26]).
ولم يكتف الصحابة بدراسة الحديث فيما بينهم، بل حثوا على طلبه وحفظه، وحضوا التابعين على مجالسة أهل العلم والأخذ عنهم.
ومن هذا ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (تعلموا الفرائض واللحن([27]) والسنن، كما تتعلمون القرآن)([28]).

العلة في كراهة كتابة الحديث:
لقد كان اهتمام الصحابة والتابعين بالسنة المطهرة كبيراً، وحرصهم على الحديث النبوي شديداً، وأولوها من العناية ما تستحق، إلا أنهم لم يسووا بينها، وبين القرآن في الكتابة، خوف الانكباب عليها ودراستها والتهاون أو إغفال حفظ القرآن، ويدل على ذلك ما رواه عروة بن الزبير عن عمر بن الخطاب أنه أراد أن يكتب السنن، فاستشار في ذلك أصحاب رسول الله، فأشاروا عليه بكتبها، فطفق([29]) عمر يستخير الله فيها شهراً، ثم أصبح يوماً وقد عزم الله له، فقال: (إني كنت أردت أن أكتب السنن، وإني ذكرت قوماً قبلكم كتبوا كتبا فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله تعالى، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء أبداً. فترك كتابة السنن)([30]).
وقال سُليم بن أسود: كنت أنا وعبد الله بن مرداس، فرأينا صحيفة فيها قصص وقرآن مع رجل من النخع، قال: فواعدنا المسجد. قال: فقال عبد الله بن مرداس: اشتر صحفاً بدرهم، إنا لقعود في المسجد ننتظر صاحبنا، إذا رجل فقال: أجيبوا عبد الله يدعوكم، قال فتقوضت الحلقة([31])، فانتهينا إلى عبد الله بن مسعود، فإذا الصحيفة في يده، فقال: (إن أحسن الهدي هدي محمد، وإن أحسن الحديث كتاب الله، وإن شر الأمور محدثاتها، وإنكم ستحدثون ويحدث لكم، فإذا رأيتم محدثة، فعليكم بالهدي الأول، فإنما أهلك أهل الكتابين قبلكم مثل هذه الصحيفة وأشباهها، وتوارثوها قرناً بعد قرن، حتى جعلوا كتاب الله خلف ظهورهم كأنهم لا يعلمون، فأنشد الله رجلاً عَلِمَ مكان صحيفة، إلا أتاني، فوالله لو علمتها بدير هند([32]) لانتقلت إليه([33]))([34]).
وقد علق الخطيب البغدادي على الروايتين السابقتين، فقال: فقد ثبت أن كراهة من كره الكتاب من الصدر الأول، إنما هي لئلا يضاهى بكتاب الله تعالى غيره، أو يشتغل عن القرآن بسواه، ونهى عن الكتب القديمة أن تتخذ، لأنه لا يعرف حقها من باطلها وصحيحها من فاسدها، مع أن القرآن كفى منها وصار مهيمناً عليها، ونهى عن كتب العلم في صدر الإسلام لقلة الفقهاء في ذلك الوقت، المميزين بين الوحي وغيره، ولأن أكثر الأعراب لم يكونوا فقهوا في الدين، ولا جالسوا العلماء العارفين، فلم يؤمن أن يُلحقوا ما يجدونه من الصحف بالقرآن ويعتقدوا أن ما اشتملت عليه كلام الرحمن([35]).
وأخرج الدارمي عن حصين بن مرة الهمداني قال: جاء أبو قرة الكندي بكتاب من الشام فحمله، فدفعه إلى عبد الله بن مسعود، فنظر فيه، فدعا بطست ثم دعا بماء فمرسه فيه، وقال: (إنما أهلك من كان قبلكم بإتباعهم لكتب وتركهم كتابهم). قال حصين: فقال مرة: أما إنه لو كان من القرآن أو السنة لم يمحه، ولكن كان من كتب أهل الكتاب)([36]).

كتابة الحديث ثم محوه:
وكان غير واحد من السلف يستعين على حفظ الحديث بأن يكتبه ويدرسه من كتابه، فإذا أتقنه محا الكتاب، خوفاً من أن يتكل القلب عليه، فيؤدي ذلك إلى نقصان الحفظ وترك العناية بالمحفوظ.
وقال عروة بن الزبير: كتبت الحديث ثم محوته، فوددت أني فديته بمالي وولدي وأني لم أمحه.
نرى هنا أن عروة محا الحديث من كتابه للمعنى الذي ذكرناه من كراهة الاتكال عليه، فما علت سنة وتغير حفظه ندم على محوه إياه، وتمنى أنه كان لم يمحه ليرجع إلى كتابه عند تناقص أحواله، واضطراب حفظه([37]).
ومن أسباب كراهة كتابة الحديث خوف صيران العلم إلى غير أهله. وكان غير واحد من المتقدمين إذا حضرته الوفاة أتلف كتبه، أو أوصى بإتلافها، خوفاً من أن تصير إلى من ليس من أهل، فلا يعرف أحكامها، ويحمل جميع ما فيها على ظاهره، وربما زاد فيها ونقص، فيكون ذلك منسوباً إلى كاتبها في الأصل. وكانوا يرون أن بني إسرائيل إنما ضلوا بكتب ورثوها([38]).
وأخرج الدارمي عن نعمان بن قيس أن عبيدة دعا بكتبه فمحاها عند الموت، وقال: إني أخاف أن يليها قوم فلا يضعونها مواضعها([39]).
كما أخرج عن الأوزاعي قوله: ما زال هذا العلم عزيزاً يتلقاه الرجال حتى وقع في الصحف، فحمله ـ أو دخل فيه ـ غير أهله([40]).

التدوين الرسمي للسنة:
في الصفحات السابقة عرفنا أن الصحابة دونوا السنة بصفة فردية أو شخصية، ومبكراً قبل أن يؤمر بتدوينها تدويناً رسمياً.
واستمر حال السنة بين المتورعين عن الكتابة، وبين المجيزين لذلك حتى انتشر الإسلام واتسعت الفتوحات وتفرق الصحابة في الأقطار، وكاد القرن الأول أن ينتهي والسُنة موكولة إلى حفظ الصحابة والتابعين، إلا قلة ممن كان يكتب الحديث كما مر.
ومرور هذا الزمن كفيل بأن يذهب بكثير من حملة الحديث من الصحابة والتابعين، ويهيئ لأهل الأهواء كالخوارج والروافض والقدرية أن يتلاعبوا بالسنة. كما نشأ جيل قليل الضبط ضعيف الحفظ بسبب اختلاط العرب بالأعاجم في البلدان المختلفة، فدعت الحاجة إلى تدوين الحديث النبوي. وقد تهيأ للتابعين من كتابة الحديث والسنن ما لم يتهيأ لغيرهم، فأكثروا من التقييد والكتابة، وشاعت الكتابة بينهم، ولم ينكرها واحد منهم.
ولعل السبب في التوسع في الكتابة وانتشارها بينهم، تلهف المسلمين في الأمصار إلى معرفة آداب وشرائع الإسلام، وإعجابهم بأصحاب رسول الله، ورغبة الكثير من التابعين في موافقة الصحابة والأخذ عنهم. فضلاَ عن ظهور الوضع والكذب على رسول الله من أنصار الفرق والمذاهب الذين ظهروا بعد مقتل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه مما أثار حفيظة طلاب السنة من التابعين على سماعها من الصحابة وإثباتها مدونة، ليدرؤوا عنها الزيف والتحريف، واقتنعوا بضرورة تدوين السنة لحفظ دين الله.

التدوين الرسمي الأول:
في نهاية القرن الأول الهجري أفضت الخلافة إلى الإمام العادل الشاب الورع عمر بن عبد العزيز، رحمه الله والذي هداه الله إلى جمع السنة وتدوينها مخافة أن يضيع منها شيء، فكتب إلى بعض علماء الأمصار وولاته، يأمرهم بجمع الأحاديث، فكتب إلى أبي بكر بن عمرو ابن حزم ـ عامله وقاضيه على المدينة: (أنظر على ما كان من حديث رسول الله فاكتبه، فإني خفت دروس([41]) العلم وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولتفشوا العلم، ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرا)([42]).
ونقل ابن حجر عن أبي نعيم في تاريخ أصبهان هذه القصة بلفظ: كتب عمر بن عبد العزيز إلى الآفاق: (أنظروا حديث رسول الله فاجمعوه)([43]).
مما يدل على أنه كتب إلى ما كان تحت ولايته من الأمصار، وليس إلى المدينة فقط، وبهذا توجهت الدولة الإسلامية إلى تدوين السنة رسمياً بعد أن كان تدوينها شخصياً، ويبدوا أن أبا بكر بن عمرو بن حزم لم يستوعب كل ما عند أهل المدينة من أحاديث، فكتب ما عند القاسم بن عبد الرحمن بن أبي بكر، وعمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية فقط.
وقام ابن شهاب الزهري بجمع كل ما توفر لديه من أحاديث وسنن، فقد كان علماً خفاقاً من أعلام السنة في عصره، وكان عمر بن عبد العزيز ينصح جلساءه أن يذهبوا إليه، لأنه لم يبق على وجه الأرض أحد أعلم بالسنة تدويناً رسمياً ترعاه الدولة، وتحث عليه، وتجند له قواها وعلماءها.
وبهذا انتقلت حماسة تدوين السنة إلى علماء الأمة الأفذاذ، فتنافسوا في جمعها صافية من منابعها وطرقها ورجالها الأمناء.

منهج العلماء في تدوين السنة في القرن الثاني:
كان للعلماء طريقتهم في التدوين ـ ومن قبلهم الزهري ـ وهي أنهم جمعوا الأحاديث التي تدور في موضوع واحد في مؤلف خاص، فوضعوا لكل باب من أبواب العلم مؤلفاً قائماً به، كالصلاة، والزكاة، والصوم، والطلاق، وهكذا. وكان عمل الزهري بمثابة حجر الأساس لتدوين السنة في كتب خاصة، وتابعه بعده الأئمة والعلماء في المدن الإسلامية، مثل مكة والمدينة والبصرة والشام وغيرها، من حواضر العالم الإسلامي في ذلك الوقت، ومن أشهر من دون الحديث في ذلك الوقت: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، ومحمد بن إسحق في مكة، ومالك بن أنس في المدينة، وسعيد بن أبي عروبة، وحماد بن سلمة في البصرة، وسفيان الثوري في الكوفة، والأوزاعي في الشام، ومعمر بن راشد في اليمن، وعبد الله بن وهب في مصر، وغيرهم كثير.
وقد قام هؤلاء بجمع أحاديث كل باب من العلم على حدة في مؤلف واحد، لكنهم مزجوا الأحاديث النبوية بأقوال الصحابة والتابعين وفتاويهم. ونسج على هذا المنوال بقية أهل عصرهم.

التدوين الرسمي الثاني:
كان هذا التدوين أيام الدولة العباسية بأمر من الخليقة أبي جعفر المنصور، حين اطلع على كتاب الإمام مالك بن أنس ـ رحمه الله ـ وكان قد عكف على تأليفه أربعين عاماً ـ فطلب منه أن يكتب كتاباً يوطئ للناس سنة رسول الله .
ويعتبر موطأ مالك من أقدار الآثار الباقية من جهود العلماء المباركة في تدوين السنة، وقد تميز بتبويب الأحاديث حسب الموضوعات، مع أقوال الصحابة ومأثورات التابعين واجتهاده الفقهي في بعض المسائل، والنص على أهل المدينة في بعض الأبواب.
وفتح الله على باقي العلماء، فلم يدخروا وسعاً في خدمة السنة، وأخلصوا النية لله، وعزموا على حفظ السنة، وتنقيتها مما أدخل عليها، ونقلها بأمانة إلى المسلمين على مر العصور.

تدوين السنة في القرن الثالث:
وجاء القرن الثالث فازدهر فيه تدوين السنة وتنوعت المؤلفات فيها، ففي القرنين الأول والثاني كان الاهتمام بالسنة تدويناً وجمعاً فقط، أما في القرن الثالث فقد تناول العلماء السنة من جهتي الجمع (التدوين) والتصنيف على طريقة المسانيد([44])، والجوامع([45])، والسنن([46]).
وتابع علماء القرن الثالث الجهود المباركة للعلماء السابقين، وانتهجوا نهجاً مخالفاً بعض الشيء في حفظ السنة، فأفردوها عن أقوال الصحابة والتابعين وأفعالهم وفتاويهم وتفسيراتهم، والتزموا شروطاً وضعوها لأنفسهم، مع اهتمام بارز بالرواة والروايات.
وكان الداعي لهذه الطرق هو أن تكون عوناً للفقهاء، وتسهيلاً لهم في الوقوف على الأحاديث التي يستنبطون منها أحكامهم، أو يستدلون بها، أو يجتهدون على ضوئها.
ونخرج من هذا الفصل بحقيقة هامة، وهي أن الحديث الشريف كان ميراث المسلمين، وخبرة أجيال، ومواثيق حضارة إنسانية، وأصول علوم جامعة، وكان ذخيرة ونوراً وعلماً وحياة لمن يأتي بعدهم.
وأنه لقي عناية وحفظاً واهتماماً عظيماً من أبناء ذلك العصر، الذين تولوا نقله بأمانة وإخلاص إلى الجيل الذي تلاهم، ثم أدت الأجيال المتعاقبة هذه الأمانة حتى وصلت إلينا في أمهات الكتب الصحيحة([47]).


([1]) تصدير كتاب "تقييد العلم"، للخطيب البغدادي: 5 (بتصريف).
([2]) همام أحد رجال الإسناد الذين رووا الحديث.
([3]) أخرجه مسلم في كتاب "الزهد والرقاق": باب "التثبيت في الحديث وحكم كتابة العلم"، ح 72 ـ (3004).
([4]) أخرجه مسلم في كتاب "المساجد ومواضع الصلاة"، الأحاديث 7، 8 ـ ( 523).
([5]) دراسات في السنة النبوية: 58ـ 59 ( بتصريف).
([6]) أخرجه البخاري في كتاب "اللقطة"، باب "كيف تعرف لقطة أهل مكة، ح 2434. وله أطراف، مسلم في كتاب "الحج"، ح 447 (1355).
([7]) أخرجه البخاري في كتاب "العلم"، ح 113.
([8]) أخرجه أبو داود في كتاب "العلم"، باب "في كتابة العلم"، ح 3646.  وأحمد في "المسند"، 2/162.  والدارمي في "المقدمة"، باب "من رخص في كتابة العلم"، ح 490.
([9]) أخرجه الدارمي في "المقدمة"، باب "من رخص في كتابة العلم"، ح 502.
([10]) العقل: الديات. فتح الباري: 1/205.
([11]) أخرجه البخاري في كتاب "العلم"، باب "كتابة العلم"، ح 111.
([12]) أخرجه مسلم في كتاب "العتق"، ح 20 ـ (1370).
([13]) منار الأرض: علامات حدودها. صحيح مسلم بشرح النووي، 13/120.
([14]) أخرجه مسلم في كتاب "الأضاحي"، ح 45 ـ (978).
([15]) قول عمر أخرجه الدرامي في "المقدمة"، باب "من رخص في كتابة العلم"، ح  503.  وقول أنس أخرجه الحاكم في "المستدرك"، كتاب "العلم" 1/106.
([16]) عقوله: دياته.
([17]) أخرجه مسلم في كتاب "العتق"، ح 17 ـ ( 1507).
([18]) مسند أحمد، 1/452.
([19]) مسند أحمد، 3/163. 
([20]) أخرجه البخاري في كتاب "العلم"، باب "كتابة العلم"، ح 114. ومسلم في كتاب "الوصية" ـ 20/1637 نحوه.
([21]) جامع بيان العلم وفضله 1/86.
([22]) دراسات في السنة النبوية: 62.

([23]) نقلاً عن السنة النبوية وعلومها. د. أحمد عمر هاشم: 55- 56 ( بتصريف).
([24]) نقلاً عن كتاب السنة النبوية وعلومها. د. أحمد عمر هاشم 55 – 56 ( بتصريف ).
([25]) تسفي الريح: تحمل التراب الناعم وتبدده.  أنظر "النهاية" و "اللسان" و "الهادي".
([26]) أخرجه الخطيب البغدادي في "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع"، 1/158ـ 159.
([27]) اللحن: أي اللغة، لغة العرب ومعانيها وإعرابها. لسان العرب.
([28]) أخرجه الدرامي في كتاب "الفرائض"، باب "تعليم الفرائض"، ح 2743.
([29]) طفق: أخذ في العمل ومضى به وواصل. أنظر "النهاية" و "اللسان" و "الهادي".
([30]) "تقييد العلم"، للخطيب البغدادي، 49.
([31]) تقوضت الحلقة: نقضت وتفرق الجالسون فيها. أنظر: "النهاية" و "اللسان" و "الهادي".
([32]) موضع قرية في العراق.
([33]) يريد إتلافها.
([34]) "تقييد العلم"، للخطيب البغدادي، 55.
([35]) "تقييد العلم"، للخطيب البغدادي، 58.
([36]) أخرجه الدارمي في "المقدمة"، باب "من لم ير كتابة الحديث"، ح 483.
([37]) "تقييد العلم"، للخطيب البغدادي، 58.
([38]) "تقييد العلم"، للخطيب البغدادي، 61.
([39]) أخرجه الدارمي في "المقدمة"، باب "من لم ير كتابة الحديث"، ح 471.
([40]) أخرجه الدارمي في "المقدمة"، باب "من لم ير كتابة الحديث"، ح 473.
([41]) خفاء الشيء وضياعه. "لسان العرب".
([42]) ذكره البخاري في كتاب "العلم"، باب "كيف يقبض العلم"، فتح الباري، 1/194.
([43]) فتح الباري، 1/194 ـ 195.
([44]) "المسانيد" هي الكتب الحديثية التي رتبها مؤلفوها على ما رواه كل صحابي على حدة، بغض النظر عن موضوع الحديث. أصول التخريج، 40.
([45]) "الجوامع" هي الكتب التي اشتملت على جميع أنواع الحديث في العقائد والفقه والرقاق والآداب والتفسير والمناقب وغيرها. أصول التخريج، 110.
([46]) "السنن" هي الكتب المرتبة على الأبواب الفقهية. أصول التخريج، 131.
([47]) السنة قبل التدوين، 62.

صفحات مشرقة من تاريخ السنة - الفصل الثالث



الفصل الثالث
حفظ السُّنَّة قبل التدوين

حالة العرب قبل الإسلام والاستعداد الفطري للحفظ:
كانت الحقبة التي سبقت بعثة النبي حقبة حائرة ضالة، وحالة نقص في كل عقيدة، فتشوفت النفوس إلى من ينتشلها من ظلمات الحيرة، وينقذها من أحضان الجهل والوحشية والفوضى في العلاقات والمعاملات والعبادات، فكان من رحمة الله بهم أن بعث فيهم رسولاً منهم، يعرفونه حق المعرفة فالتف حوله الصحابة يتلقون منه السنة مع القرآن الكريم، ويشاركون في تطبيق ما يتعلمونه منه ويحفظونه، لأنه يتعلق بعقائدهم، وعباداتهم، ومناسكهم، وبيوعهم، ومعاملاتهم، وفي أحوالهم الشخصية، وفي آدابهم وكل مظاهر حياتهم.
وقد أشتهر العرب بصفات طيبة وخصال محمودة كثيرة، كالمروءة والكرم والوفاء بالعهد، ونجد الملهوف، إلى جانب سعة حافظتهم التي كانت سجلاً لتاريخهم، وأشعارهم وأنسابهم، ما لم يتوفر في أمة أخرى.
ولسنا هنا بصدد تعداد الخصال أو الحديث عنها، إنما الذي يعنينا هنا بعض هذه الخصال، التي كان لها دور في حفظ السنة وتدوينها، مثل: الصدق، والأمانة، وصفاء الذهن، ونشاط الذاكرة، وقوة ملكة الحفظ إجادة ضبط الألفاظ في الأداء.
فكان الصحابة – رضوان الله عليهم – صادقين في حبهم للرسول والإيمان بما جاء به، مخلصي الدين لله، أمناء في حفظ القرآن والسنة، ضباطي أدائهما كما تلقوهما من النبي .
وكان حبهم للنبي يفوق حبهم لآبائهم وأبنائهم، بعد أن رأوا فيه النور والرحمة التي انتشلتهم من ظلمات الجهل والحيرة والظلم، هذا الحب حول جميع قواهم الفطرية وفضائلهم الخلقية للمحافظة على الإسلام ونشرة، فبذلوا نفوسهم للذود عن حياض الإسلام، وفَدَوا الرسول بأرواحهم وأموالهم، وأقبلوا على ما جاءهم به من القرآن يحفظونه، وعلى ما حدث به من السنة، فجمعوه في صدروهم وطبقوه في جميع أحوالهم.

الدعوة إلى التعلم والتعليم:
لقد نزل الوحي على رسول الله أول ما نزل بآيات تأمر الإنسان بالتعلم وتطالبه بالقراءة، قال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق – 1].
كما حض على سؤال العلماء فقال: }فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ{ [النحل – 43].
وأوجب نشر العلم وبيان أحكامه فقال: }وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ{ [آل عمران – 187]. فامتثل الرسول للأمر الإلهي، وبين منزلة العلم، فقال: (من يرد الله به خيراً يفقهه بالدين)([1]).
وحث طالب العلم الشرعي الذي يحتاجه كل مسلم ليقيم أمور دينه، وحض صحابته على تفهم أمور دينهم، وأمرهم أن يسألوا عما يجهلونه، أن الغاية من العلم أن ينتفع به أصحابه وينفعوا به غيرهم، فلا فائدة من علم مكتوب أو فقه محبوس في صدور العلماء، لا ينال الناس منه شيئاً، لذلك أمر بنشر العلم وحرم كتمانه، فقال: (نضر الله أمرأً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه)([2]). والحديث مشهور وطرقة كثيرة، وبألفاظ متقاربة.
ولم يترك رسول الله طريقة من طرق التبليغ والإعلام في ذلك العصر إلا واستعملها في سبيل تبليغ الإسلام، كيف لا وهـــو الناهي عن كتمان العلم قال: (من سئل عن علم فكتمه أُلجم بلجام من نار يوم القيامة)([3]).
وقد بين عليه الصلاة والسلام – منزلة معلم الناس الخير، وحث على احترام العلماء، وبين فضلهم فقال: (العلماء ورثة الأنبياء)([4]).
منهجه في التعليم:
في بداية الدعوة اتخذ الرسول دار الأرقم مقراً له ولأصحابه، يلتفون حوله، يتذاكرون كتاب الله، وذلك حين كانت الدعوة سرية، ثم أصبح منزله في مكة معهد المسلمين الذي يتلقون فيه القرآن الكريم، وبعد الهجرة أصبح المسجد هو المكان المعهود للعلم إلى جانب العبادة.
إضافة إلى ذلك، كان للنبي مجالسه العلمية الكثيرة التي يتخول أصحابه بالموعظة، كما كان يخاطب الحاضرين بما يدركونه فيفهم البدوي الجافي بما يناسب جفاءه وقسوته، ويفهم الحضري بما يلائم حياته وبيئته، وكان يراعي تفاوت المدارك والقدرات، ويخاطب القوم بلغتهم ولهجتهم وإذا تكلم تكلم ثلاثاً لكي يفهم عنه، وكان كلامه فصلاً يحفظه السامع.
وكان إذا سئل عما لا يعلم يسكت منتظراً الوحي من الله بذلك، وربما طرح المسألة على أصحابه ليختبر ما عندهم من العلم، وليشحذ أذهانهم للفهم. وكان إذا سئل عن مسألة أجاب، عنها وأفاض في مسائل أخرى مناسبة للمقام، أولها صلة بالجواب، فيفيد السائل والحاضرين.

كيف تلقى الصحابة العلم الشرعي:
كان الصحابة - رضوان الله عليهم - يتعلمون من النبي القرآن الكريم آيات معدودات يفهمون معناها، ويتعلمون فقهها ويطبقونه على أنفسهم ثم يحفظون غيرها، وفي ذلك يقول أبو عبدالرحمن السلمي: (حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن كعثمان بن عفان وعبدالله بن مسعود وغيرهما – أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي عشرة آيات لم يتجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل. قالوا فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً)([5]).
وكان بعض يقيم عند الرسول يتعلم أحكام الإسلام وعباداته، ثم يعود إلى أهله وقومه يعلمهم ويفقههم، ومن هذا ما أخرجه البخاري عن مالك بن الحويرث، أنه قال: (أتينا إلى النبي ونحن شبية([6]) متقاربون، فأقمنا عنده عشرين يوماً وليلة، وكان رسول الله رحيماً رفيقاً، فلما ظن أنا قد اشتهينا أهلنا – أو قد اشتقنا – سألنا عمن تركنا بعدنا؟ فأخبرناه. قال: أرجعوا إلى أهليكم، فأقيموا فيهم، وعلموهم، وَمُرُوُهُمْ، وذكر أشياء أحفظها أو لا أحفظها، وصلوا كما رأيتموني أصلي، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم)([7]).

حرص الصحابة على تلقي العلم ومُدارسته:
كان الصحابة - رضوان الله عليهم - يحرصون على حضور مجالس رسول الله حرصاً شديداً إلى جانب قيامهم بأعمالهم المعاشية، إذ لم يكن الصحابة سواء في حضور مجالسه العلمية، فكان منهم من يلازمه ولا يتخلف عنه في الحضر ولا في السفر، كأبي بكر وأبي هريرة - رضي الله عنهما - ومنهم من كان يتخلف عنه في بعض الأوقات لقضاء مصالحه، أو الخروج في سرية، فإذا حضروا سألوا وطلبوا ما فاتهم سماعة من أقرانهم.
وأحياناً كان الصحابة يتناوبون الحضور إلى تلك المجالس إذا ما تعذر حضورهم، فيتفق اثنان على تناوب الحضور إلى تلك المجالس، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد قال: (كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد، وهي من عوالي المدينة وكنا نتناوب النزول على رسول الله، ينزل يوماً وأنزل يوماً فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك ...)([8]).
ويقول البراء بن عازب الأوسي رضي الله عنه (ما كل حديث سمعناه من رسول الله، كان يحدثنا أصحابنا، وكنا مشتغلين في رعاية الإبل، وأصحاب رسول الله كانوا يطلبون ما يفوتهم سماعه من رسول الله فيسمعونه من أٌقرانهم، وممن هو أحفظ منهم، وكانوا يشددون على من يسمعون منه)([9]).
وقال أبو هريرة رضي الله عنه (جزأت الليل ثلاث أجزاء: ثلثاً أصلي وثلثاً أنام وثلثاً أذاكر فيه حديث رسول الله)([10]).
وقال أنس بن مالك رضي الله عنه (كنا نكون عند النبي فنسمع منه الحديث، فإذا قمنا تذاكرناه فيما بيننا حتى نحفظه)([11]).

تعليم النساء:
لم تكن مجالسه قاصرة على الرجال بل كان الكثير من النساء يحضرن المسجد، ويستمعن إلى حديثه الشريف، كما كن يخرجن جميعهن - إلى صلاة العيد فالنبي كان - بعد أن يلقي خطبته في الصفوف الأمامية للرجال - ينتقل إلى صفوف النساء يتحدث إليهن ويعلمنهن.
ولم يكن ذلك كافياً فقد حرص النساء على سماع حديث رسول الله كبيراً، فجاءه وفد منهن يطلبن منه أن يخصص لهن يوماً يعلمهن فيه دون الرجال، فاستجاب لهن، ومن ذلك ما أخرجه البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قـال: (قالت النساء للنبي: غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوماً من نفسك، فوعدهن يوماً لقيهن فيه، فوعظهن وأمرهن فكان فيما قال لهن: ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من ولدها إلا كان لها حجاباً من النار. فقالت امرأة: واثنين؟ فقال: واثنين)([12]).
ولم تكتف المرأة بهذه المجالس العلمية، لأن الأمور التي كانت تطرأ عليها متجددة وملحة، وبعضها لا يحتمل الانتظار إلى اليوم المخصص لهن، فكانت المرأة - أحياناً - تأتي منزل رسول الله لتسأل فتحصل على الإجابة دون أن يحول الحياء بينها وبين طلب العلم.
أما من كانت يغلب عليها الحياء، فكانت تجعل إحدى أمهات المؤمنين وسيطاً بينها وبين رسول الله ، تستوضح لها عن جواب سؤالها.

خلاصة:
طالما أنه لم يكن في أصحاب النبي من يحسن الكتابة إلا نفر قليل، فكان اعتمادهم في تلقي الحديث عنه هو استعدادهم للحفظ فلا شك أن الصحابة كانوا يستظهرون آيات القرآن ويتدارسونها فيما بينهم، في بيوتهم وحوانيتهم([13])، في المدينة وفي البيداء([14])، ليثبتوا ما سمعوا من رسول الله وهو الحديث، فحفظ حديث رسول الله كان متمشياً جنباً إلى جنب مع حفظ القرآن الكريم. ومن الأيام الأولى لظهور الإسلام، كان المسلمون قلة يجتمعون في دار الأرقم بن عبد مناف، مما يثبت أن المسلمين كانوا يتلقون تعاليم الإسلام، ويقرؤون القرآن في بيوتهم، ويتفقهون في الدين، ويحفظون السنة، وإن كان نصيب كل صحابي منهم يختلف عن نصيب الآخر، فمنهم المُكثِر، ومنهم المُقل، ومنهم المتوسط.
وهكذا كان الصحابة رضي الله عنهم يتلقون الحديث عن النبي إما بطريق المشافهة، وإما بطريق المشاهدة لأفعاله وتقريراته، وإما بطريق السماع ممن سمع منه أو شاهد أفعاله وتقريراته، لأنهم لم يكونوا جميعاً يحضرون كل مجالسه.


([1]) أخرجه البخاري في كتاب "العلم"، باب "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين" ـ ح 71.  ومسلم في كتاب "الزكاة" ـ ح 98 ـ ( 1037) نحوه.
([2]) أخرجه أبو داود في كتاب "العلم"، باب "الحث على طلب العلم"، ح 3641. والترمذي في كتاب "العلم"، باب "ما جاء في فضل الفقه على العبادة"، ح 2687. وابن ماجه في المقدمة، باب "فضل العلماء والحث على طلب العلم"، ح 223.
([3]) أخرجه أحمد في "المسند": 2/263.
([4]) أخرجه أبو داود في كتاب "العلم"، باب "الحث على طلب العلم"، ح 3641. والترمذي في كتاب "العلم"، باب "ما جاء في فضل الفقه على العبادة"، ح 2687. وابن ماجه في المقدمة، باب "فضل العلماء والحث على طلب العلم"، ح 223.
([5]) السنة قبل التدوين: 58.
([6]) شبية: جمع شاب. فتح الباري: 2/170.
([7]) أخرجه البخاري في كتاب "الأذان"، باب "الأذان للمسافر"، ح 631.  ومسلم في كتاب "المساجد"، و "مواضع الصلاة"، ح 92 ـ ( 674).
([8]) أخرجه البخاري في كتاب "العلم"، باب "التناوب في العلم"، ح 89.
([9]) السنة قبل التدوين: 58 ـ 59.
([10]) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: 2/ 464.
([11]) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: 1/236.
([12]) أخرجه البخاري في كتاب "العلم باب هل يجعل للنساء يوماً على حدة في العلم"، ح 101. ومسلم في كتاب "البر والصلة والآداب"، ح 152 - ( 2633) بنحوه.
([13]) الحانوت: الدكان للتجارة. أنظر "الهادي" و "المعجم الوجيز".
([14]) البيداء: الصحراء.