الاثنين، 17 أكتوبر 2016

صفحات مشرقة من تاريخ السنة - الفصل السادس



الفصل السادس
الرحلة في طلب الحديث

العلم سعي وكسب وجهاد، وهو من أجل الأعمال التي ترضي ربنا جل وعلا، وكلما أزداد الإنسان علماً امتلأت جوانبه إيماناً وطاعة وخشية، وطلب العلم نوع من أنواع العبادة، يتقرب به العبد إلى ربه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً، سهل الله له به طريقاً إلى الجنة)([1]).
وعلم الحديث من أشرف العلوم وأجلَّها، وهو عماد الدين، إذ ترتكز عليه بقية العلوم الشرعية، فالسيرة تعتمد على الروايات، والفقه يعتمد على الروايات، وكذلك التجويد والعقيدة والتفسير وكل العلوم الشرعية ترتكز على الرواية، والرواية هي الحديث، إذ لا غنى عنها في فهم العلوم السابقة، وإثبات ما فيها من حوادث ومعان وأحكام أو نفيها.

العلم يؤتى ولا يأتي:
لا شك أن الرحلة إلى العلماء، والتقاء طلاب العلم ببعضهم، طريق عظيم في تنقيح العلوم، وتثقيف العقول، وتصحيح المفاهيم.
وقد كانت الرحلة في طلب العلم سمة العلماء من قديم الزمان، فمهما بلغ الإنسان من مكانة أو سيادة أو غني إلا أن ذلك لا يمنع من طلب العلم، واحتمال المشاق في سبيل الحصول عليه، ولا تحول الجبال ولا البحار دونه، وأوضح مثال على ذلك رحلة سيدنا موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ إلى الخضر ليتعلم منه.
فقد أخرج البخاري عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه تمارى هو والحر بن قيس ابن حصن الفزاري في صاحب موسى. قال ابن عباس: هو خضر. فمر بهما أبي بن كعب، فدعاه ابن عباس فقال: إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل موسى السبيل إلى لقيه، هل سمعت النبي يذكر شأنه؟ قال : نعم سمعت رسول الله يقول: (بينما موسى في ملاءٍ من بني إسرائيل، جاءه رجل فقال: هل تعلم أحداً أعلم منك؟ قال موسى: لا. فأوحى الله عز وجل إلى موسى: بلى، عبدنا خضر. فسأل موسى السبيل إليه، فجعل الله له الحوت آية، وقيل له، إذا فقدت الحوت فارجع فإنك ستلقاه. وكان يتبع أثر الحوت في البحر فقال لموسى لفتاه: {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف – 63]. قال موسى: {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً} [الكهف – 64]. فوجدا خضراً فكان من شأنهما الذي قص الله عز وجل في كتابه)([2]).
قال الحافظ ابن حجر: هذا الباب معقود للترغيب في احتمال المشقة في طلب العلم، ولأن موسى لم يمنعه بلوغه من السيادة المحل الأعلى من طلب العلم وركوب البر والبحر لأجله([3]). وفيه أيضاً ما كان عليه الصحابة من الحرص على تحصيل السنن النبوية([4]).

الرحلة في عهد النبي:
بعد الهجرة أصبحت المدينة المنورة مركز الدولة الإسلامية، وقاعدة انطلاق الدعوة، فضلاً عن كونها المركز العلمي الوحيد في العالم بأسره حينها، وكانت الرحلة في طلب العلم قائمة في عقد الرسول، للتعرف على تعاليم الدين الجديدة ولسماع القرآن الكريم، وللبحث عن الحكم فيما يعرض من حوادث وقضايا، فيأتون إلى المدينة، ويمكثون عند رسول الله الأيام والليالي يعلمهم، ويوجههم، ويزودهم بالزادين الروحي والمادي، ثم ينصرفون إلى أقوامهم وأهليهم يبلغونهم الإسلام وتعاليمه وأحكامه، كوفد ضمام بن ثعلبة، ووفد عبد القيس، ووفد بني حنيفة وطيء، وغيرهم. هذا بالنسبة للوفود.
أما على المستوى الفردي، فما إن تنزل نازلة بأحدهم حتى يمتطي دابته ويهرع إلى النبي، ولا يحول بينه وبين طلب العلم جبال ولا وديان، أو أخطار مما يكمن له في الليل أو النهار، كعقبة بن الحارث الذي كان قد تزوج ابنة لأبي إهاب بن عزيز، فأتته امرأة، فقالت: إني قد أرضعت عقبة والتي تزوج، فقال لها عقبة: ما أعلم أنك أرضعتني ولا أخبرتني، فركب إلى رسول الله فسأله، فقال رسول الله: "كيف وقد قيل؟" ففارقها عقبة ونكحت زوجا غيره([5]).

رحلة الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ في طلب العلم:
لم يكن الصحابة على درجة واحدة في حفظ الحديث وجمع السنة، بل كانوا مختلفين اختلافا كبيراً، فقد حدث النبي قوماً بما لم يحدث به آخرين، ووقع من الحوادث أمام قوم ما لم يطلع عليه آخرون.
ولما اتسعت الفتوح بعد وفاته، تفرق الصحابة في البلدان ينشرون الحديث ويرونه، ولتفاوتهم في الرواية قلة وكثرة، نشطت الرحلة وشاع أمرها بينهم، ولما كانت الفتوح لبلدان مختلفة صارت الأقضية والحوادث مختلفة ومتنوعة ومتجددة، فأبرز الصحابة ما عندهم من أحكام رسول الله وقضاياه وقضايا الخلفاء، فكان طبيعياً أن يترتب على ذلك شيوع رواية الحديث.
وبدأت الأنظار تتجه إلى صحابة رسول الله إما لقدم صحبتهم كعبد الله بن مسعود، أو لملازمتهم خدمته كأنس بن مالك، أو لإحاطتهم بأحواله الداخلية كعائشة، أو لعنايته بحديثه كعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن عمر، وأبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين.
وكان الصحابة رضي الله عنهم يقطعون المسافات الطويلة، غير عابئين بخطورة الطريق ووعورته من جبال ووديان أو صحارى وصخور ورمال، ومن ذئاب وأسود وهوام أو قطاع طرق، أو حر وبرد، بين شمس حارقة أو ظلمة حالكة، فضلاً عن البعد عن الأهل والأوطان، وكل ذلك في سبيل سماع حديث من صحابي سمعه من رسول الله، كما حدث مع جابر بن عبد الله رضي الله عنه، فقد قال مرة وهو يحدث عن نفسه: بلغني حديث عن رجل سمعه من رسول الله: فاشتريت بعيراً ثم شددت عليه رحلي، فسرت إليه شهراً حتى قدمت عليه الشام، فإذا عبد الله بن أنيس، فقلت للبواب: قل له: جابر على الباب. فقال: ابن عبد الله؟ قلت: نعم. فخرج يطأ ثوبه فاعتقنني واعتنقته، فقلت: حديثاً بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله في القصاص، فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسمعه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يحشر الناس يوم القيامة ـ أو قال العباد ـ عراة غرل([6]) بُهماً. قلنا: وما بُهماً؟ قال: ليس معهم شيء ..." الحديث([7]).
رغم أن الصحابي الجليل جابر بن عبد الله يعد من المكثرين في الحديث عن رسول الله، إلا أنه استعظم أن يفوته بعض الحديث، فيرحل إلى الشام على بُعد الشقة بينها وبين المدينة، ويشتري لهذه الغاية دابة ليركبه([8]).
وكذا فعل أبو أيوب الأنصاري فقد ركب إلى عقبة بن عامر في مصر، فقال له: إني سائلك عن أمر لم يبق ممن حضر مع رسول الله إلا أنا وأنت، كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من ستر مؤمناً في الدنيا على عورة، سترة الله عز وجل يوم القيامة). فرجع إلى المدينة، فما حل رحله يحدث هذا الحديث([9]).
لقد خشي أبو أيوب أن يكون نسي من حديث ستر المؤمن شيئاً، فأحب أن يتأكد من ذلك ويتثبت من صحة ما يحفظه عن رسول الله، فرحل من المدينة إلى مصر في سبيل ذلك، زيادة على ذلك أنه لم يحل رحله، ولم يسترح في أي مكان، فبمجرد سماعه للحديث عاد من فوره إلى المدينة، وحدث بهذا الحديث.

رحلة التابعين في طلب العلم:
نشطت الرحلات في طلب الحديث بين التابعين وأتباعهم، حتى كان أحدهم يخرج من بلده وما يخرجه إلا حديث عند صحابي يريد أن يسمعه منه، لأنه سمعه من رسول الله، فقد كان أبو العالية يقول: كنا نسمع الرواية عن أصحاب رسول الله بالبصرة، فلم نرض حتى ركبنا إلى المدينة فسمعناها من أفواههم([10]).
وقد كان الصحابة الكرام يشجعون التابعين على طلب العلم وعلى الرحلة من أجله، ومن ذلك ما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أنه قال لو علم أحدًا أعلم بكتاب الله تعالى مني تبلغه الإبل، لأتيته([11]).
فالصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ رحبوا بطلاب العلم، وحببوا إليهم الرحلة فيه، فهانت عليهم الدنيا حتى قال الشعبي: لو أن رجلاً سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن ليسمع كلمة ما رأيت أن سفره ضاع([12]).
وقال سعيد بن المسيب: إن كنت لأسير في طلب الحديث الواحد مسيرة الأيام والليالي([13]).
وهذا شعبة بن الحجاج الذي يعد أمير المؤمنين في الحديث، وهو أول من فتش عن الرجال بالعراق، وانتقى الأسانيد، حكى قصة بحثه عن حديث تنقل من أجله بين البصرة، والكوفة، ومكة، والمدينة، ثم عاد إلى الكوفة ثانية، وهذه الحكاية يرويها لنا أبو يحي محمد بن سعيد العطار، عن نصر بن حماد الوراق، قال: كنا قعوداً على باب شعبة نتذاكر، قلت: حدثنا إسرائيل عن أبي إسحق عن عبد الله بن عطاء عن عقبة بن عامر، قال: كنا نتناوب رعاية الإبل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئت ذات يوم والنبي صلى الله عليه وسلم جالساً وحوله أصحابه، فسمعته يقول: (من توضأ فأحسن الوضوء ثم دخل مسجداً فصلى ركعتين واستغفر الله، غفر الله له)([14]).
قلت: بخ بخ. قال: فجذبني رجل من خلفي، فالتفت فإذا هو عمر بن الخطاب، فقال: الذين قال قبل أحسن. قال: (من شهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، قيل له: ادخل من أي أبواب الجنة شئت)([15]). قال: فخرج إلى شعبة فلطمني ثم دخل، ثم خرج، فقال: ما له قعد يبكي؟ فقال له إدريس: إنك أسأت إليه. فقال: أما تنظر ما يحدث عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الله بن عطاء عن عقبة؟ أنا قلت لأبي إسحاق من حدثك؟ قال: حدثني عبد الله بن عطاء عن عقبة؟ قلت: سمع عبد الله بن عطاء من عقبة؟ قال: فغضب ـ ومسعر ابن كدام ـ حاضر، فقال أغضب الشيخ. فقال مسعر: عبد الله بن عطاء بمكة. فرحلت إلى مكة لم أرد الحج أردت الحديث، فلقيت عبد الله بن عطاء، فسألته، فقال: سعد بن إبراهيم حدثني، فقال لي مالك بن أنس: سعد في المدينة لم يحج العام، فرحلت إلى المدينة، فقلت سعداً، فقال: الحديث من عندكم، زياد بن مخراق حدثني. قال شعبة: فقلت: أيش هذا الحديث؟ بينما هو كوفي إذا صار مدنياً إذ رجع إلى البصرة، فلقيت زياد بن مخراق فسألته. فقال: ليس هو من بابتك. قلت: حدثني به، قال: لا تريده. قلت: حدثني به. قال: حدثني شهر بن حوشب عن أبي ريحانة عن عقبة. قال شعبة: فلما ذكر شهراً قلت: دمر هذا الحديث، لو صح لي مثل هذا الحديث كان أحب إلى من أهلي ومالي ومن الناس أجمعين([16]).
وهكذا كان التابعون يقطعون المسافات ويسافرون الأيام والليالي لسماع حديث أو التأكد من حديث وضبطه، أو للالتقاء بصحابي وملازمته للأخذ عنه، لأن الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ انتشروا في البلدان، فانتشرت الأحاديث في الأمصار تبعاً لتفرقهم واستقرارهم في تلك البلدان، فترتب على ذلك أن من أراد أن يجمع حديث الرسول صلى الله عليه وسلم فعليه أن ينتقل من بلد إلى آخر وراء الصحابة الذين سمعوا منه ورأوه وأخذوا الأحكام عنه.
ولم تنقطع الرحلة إلى العلماء بعد ذلك، إذ رحل أتباع التابعين بحثاً عن التابعين للأخذ عنهم وملازمتهم في سبيل المذاكرة والعرض على الشيوخ، وإذا تتبعنا تراجم المحدثين من التابعين وأتباعهم، وجدنا المؤرخين لحياتهم يقولون في الرجل منهم مثلاً: فلان بن فلان المكي، ثم الكوفي، ثم الشامي، أو المدني، ثم البصري، ثم المصري، إيذاناً منهم بأن هذا الراوي كان رحالة في طلب الحديث والعلم، كحجاج بن إبراهيم الأزرق أبي محمد البغدادي سكن طرسوس ومصر([17]).

أثر الرحلة في نشر السنة:
كان لرحلات العلماء أثر بعيد في انتشار السنة والمحافظة عليها، وجمعها وتمحيصها، والتثبت فيها.
كما كان للرحلات العلمية أثر عظيم في عصر التدوين حتى عُدَّ من يكتب الحديث في بلده ولا يرحل في طلبه بعيداً عن طريق الرشاد، فقد قال يحي بن معين: أربعة لا يؤنس منهم رشد: حارس الدرب، ومنادي القاضي، وابن المحدث، ورجل يكتب في بلده، ولا يرحل في طلب الحديث([18]).
وأخبار العلماء ورحلاتهم كثيرة يضيق المقام بذكرها، بل هي تفوق الحصر. ونحن لا نشك في أن الحديث النبوي قد انتشر جنباً إلى جنب مع القرآن الكريم، ووصل إلى الأقاليم الإسلامية الجديدة، ولم يكن مقصوراً على مكة والمدنية.
وهكذا تعاون العلماء في الأمصار المختلفة على حفظ السنة، ورحل بعضهم إلى بعض، وتلقى بعضهم عن بعض، والطائفة السابقة من الآثار تكشف لنا أمثلة من الجهود الجبارة التي قام بها أسلافنا حيال جمع الحديث، ويتضح فيها شدة عنايتهم بسنة رسول الله، وحرصهم على جمعها، وكيف هانت عليهم الدنيا، وصغرت أمامهم العظائم والأهوال في سبيل تلقي سنة رسول الله والمحافظة عليها، فلم تصلنا في مصنفات وكتب، مرتبة على الأسانيد ومجموعة على الأبواب إلا بعد أن خدمها الصحابة والتابعون وأتباعهم من العلماء، ومن بعدهم، ووقفوا حياتهم على تعلمها وتعليمها، فكانوا حقا واحة نلوذ بها كلما أعيانا الجهد، وأضنانا المسير في رحلة طلب العلم.


([1]) أخرجه مسلم في كتاب "الذكر والدعاء"، ح 3 ـ (2699 ) جزء منه.

([2]) أخرجه البخاري في كتاب "العلم"، باب "الخروج في طلب العلم"، ح 78. ومسلم في كتاب "الفضائل"، ح 174 ـ (2380) نحوه.
([3]) فتح الباري، 1/168ـ 169.
([4]) فتح الباري، 1/175.

([5]) أخرجه البخاري في كتاب "العلم"، باب "الرحلة في المسألة النازلة وتعليم أهله"، ح 88.

([6]) الغرل: الذكر غير المختون. أنظر "النهاية" و "اللسان" و "الهادي".
([7]) أخرجه أحمد في "المسند"، 3/495.
([8]) الحديث والمحدثون، 111.
([9]) أخرجه أحمد في "المسند"، 4/159.

([10]) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، 2/224. و الكفاية في علم الرواية، 443.
([11]) الكفاية في علم الرواية، 442.
([12]) جامع بيان العلم وفضله، 144.
([13]) الكفاية في علم الرواية، 442. و جامع بيان العلم وفضله،  113 نحوه. و الجامع لأخلاق الراوي، 2/226 نحوه.
([14]) أخرجه أحمد
([15]) أخرجه أحمد في "المسند"، 5/313 ـ 314 وهما حديثان مدرجان في بعضهما مع حذف جزء من كل منهما من رواية عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
([16]) الكفاية في علم الرواية، 439 ـ 440.

([17]) تهذيب التهذيب، 1/440. ومن يتصفح الكتاب يجد الكثير من الأمثلة.
([18]) الجامع لأخلاق الراوي، 2/225.

صفحات مشرقة من تاريخ السنة - الفصل الخامس



الفصل الخامس
مدارس الحديث

اتسعت الدولة الإسلامية بعد وفاة النبي أتساعاً عظيماً على يد أصحابه، تحقيقاً لوعد الله الذي لا يتخلف: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً}
[النور – 55]، فقد تم فتح الشام والعراق ومصر وفارس وغيرها على أيديهم، رضوان الله عليهم.
فكان أثر هذه الفتوح أن دخل كثير من أهلها الإسلام، وتعطشت نفوسهم إلى تعلم أحكامه، فكان لزاماً على خلفاء المسلمين أن يبعثوا إليهم من يعلمهم من أصحاب رسول الله أحكام دينهم، لأنهم حملة هذا الدين بعد الني صلى الله عليه وسلم.
وبنزول الصحابة في تلك البلدان المختلفة، أصبحت الأقاليم والأمصار الإسلامية مراكز إشعاع علمي، ومعاهد لتعليم القرآن والحديث، إذ كان يقبل عليهم طلاب العلم فيغترفون من بحارهم الفياضة، ويحفظون عنهم ما حفظوه عن رسول الله، حتى تخرج على أيديهم في كل قطر طبقة من التابعين، كانوا فيما بعد حماة السنة ورواة الحديث، وكانت المساجد في الغالب هي دور العلم ومعاهد الحديث([1]).
ويجدر بنا أن نذكر لمحة موجزة عن أهم تلك المراكز العلمية.
 المدينــة المنــورة:
كانت المدينة المنورة مهاجر الرسول وأصحابه، وبها حدّث النبي أكثر حديثه، لأن أكثر التشريع كان فيها، وكانت المواطن الأول للصحابة ومركز الخلافة الراشدة. وكذلك نرى في المدينة الصحابة الذين رسخوا في العلم، وكانت لهم مكانة عظيمة في الحديث، وقد أشتهر منهم: أبو هريرة، وأم المؤمنين عائشة، وعبد الله بن عمرو، وتخرج على يد هؤلاء كبار التابعين كسعيد بن المسبب، وعروة بن الزبير، وسالم بن عبد الله وغيرهم.
مكـــة المكرمـــة:
لما فتح النبي مكة خلف بها معاذ بن جبل يعلم أهلها الحلال والحرام، ويفقههم في الدين، ويقرئهم القرآن الكريم، ثم تزعم دار الحديث بمكة عبد الله بن عباس، وتخرج على أيدي الصحابة تابعون أجلاء، من أشهرهم: مجاهد بن جبر، وعكرمة مولى ابن عباس، وعطاء ابن أبي رباح وغيرهم.
وقد تميزت دار الحديث بمكة المكرمة عن غيرها من المدارس العلمية بالمؤتمر العلمي السنوي: وهو موسم الحج، حيث يلتقي فيه حملة العلم وطلبته من كل الأقطار الإسلامية، يحملون معهم الكثير من العلم النبوي.
الكوفــة:
كانت الكوفة والبصرة قاعدتي الفتح الإسلامي في خراسان، وفارس، والهند، لذلك نزلها عدد كبير جداً من الصحابة، من أشهرهم: على بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وسعد بن أبي وقاس، وسعيد ابن زيد وغيرهم كثير.
وقد كان لعبد الله بن مسعود أثر كبير في نشوء هذا المركز العلمي، وتميزه، وذلك لطول مكثه ـ رضي الله عنه ـ في الكوفة، ولطول باعه في العلم، فعقد هو وباقي الصحابة مجالس العلم وحلقاته، علموا وفقهوا طلبة العلم، فتخرج على أيديهم كثير من العلماء: من أشهرهم عامر بن شرحبيل الشعبي، وإبراهيم النخعي، والأسود النخعي، وعبيدة السلماني، وغيرهم.
البصـــرة:
نزل البصرة العديد من الصحابة، منهم أنس بن مالك، وكان إمامها في الحديث، وأبو موسى الأشعري، وعبدالله بن عباس ـ وكان والياً عليها من قبل علي لفترة قصيرة ـ وأشهر من تخرج من هذه المدرسة الحسن البصري، ومحمد بن سيرين، وأيوب السختياني، وقتادة بن دعامة السدوسي وغيرهم. وكان لهذه المدرسة حركة علمية لا تخفي على أحد، استمرت زمناً طويلاً.
الشـــام:
لما فتح المسلمون الشام في عهد عمر بن الخطاب دخل كثير من أهلها في الإسلام، فاحتاج أهلها إلى من يعلمهم القرآن وفقه الدين، فأرسل عمر إليهم معاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، وأبا الدرداء الذين توزعوا في بلاد الشام، ثم أرسل إليهم عبد الرحمن بن غُنْم، ولم يكن التعليم قاصراً على هؤلاء، فقد تواجد غيرهم من الصحابة في الشام كبلال بن رباح.
وقد تخرج على أيدي هؤلاء الصحابة في تلك المدرسة الكبيرة كبار علماء الشام من التابعين، كأبي إدريس الخولاني، وقبيصة بن ذؤيب، ومكحول بن أبي مسلم الشامي، ورجاء بن حيوة، وغيرهم. وقد تضاعف نشاط الحركة العلمية في هذه المدرسة أيام الخلافة الأموية.
مصــــر:
فتح المسلمون مصر في عهد عمر بن الخطاب، وولَّى عليها عمرو ابن العاص، ومن أبرز علمائه عبد الله بن عمرو بن العاص، الذي كان من المكثرين في الرواية عن رسول الله ، فقد كان يدون الحديث بين يديه.
كما نزل مصر من الصحابة عقبة بن عامر الجهني، وخارجة بن حذافة، وعبد الله بن الحارث بن جزء، وتخرج على أيدي هؤلاء: يزيد ابن أبي حبيب، وأبو الخير مرثد بن عبد الله اليزني وغيرهم.
كما أن مدارس الحديث تتابعت في الانتشار والازدهار في باقي الديار الإسلامية، كاليمن، والمغرب، والأندلس، وخراسان، وغيرها من بلاد الإسلام.


([1]) الحديث والمحدثون، 100 ـ 101.