الاثنين، 23 مايو 2016

تفسير القرآن – الجامع لأحكام القرآن – للقرطبي – تفسير سورة البقرة – "الرُبع": الخامس .




قوله تعالى:
{أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمّ يُحَرّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ} هذا استفهام فيه معنى الإنكار, كأنه أيأسهم من إيمان هذه الفرقة من اليهود أي إن كفروا فلهم سابقة في ذلك. والخطاب لأصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم. وذلك أن الأنصار كان لهم حرص على إسلام اليهود للحلف والجِوار الذي كان بينهم. وقيل: الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة عن ابن عباس. أي لا تحزن على تكذيبهم إياك, وأخبره أنهم من أهل السوء الذين مضوا. و«أنْ» في موضع نصب, أي في أن يؤمنوا نصب بأن, ولذلك حذفت منه النون.
يقال: طَمِع فيه طَمَعاً وَطَماعِيَة ـ مخفف ـ فهو طَمِعٌ على وزن فَعِل. وأطمعه فيه غيره. ويقال في التعجب: طَمُع الرجل ـ بضم الميم ـ أي صار كثير الطمع. والطمع: رِزق الجُنْد يقال: أمرَ لهم الأمير بأطماعهم أي بأرزاقهم. وامرأة مِطماع: تُطمِع ولا تُمَكّن.
الثانية: قوله تعالى: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مّنْهُمْ} الفريق اسم جمع لا واحد له من لفظه, وجمعه في أدنى العدد أفرقة, وفي الكثير أفرقاء. {يَسْمَعُونَ} في موضع نصب خبر «كان». ويجوز أن يكون الخبر «مِنْهم», ويكون {يَسْمَعُونَ} نعتاً لفريق وفيه بُعْدٌ. {كَلاَمَ اللّهِ} قراءة الجماعة. وقرأ الأعمش «كَلِمَ اللّهِ» على جمع كلمة. قال سيبويه: وأعلم أن ناساً من ربيعة يقولون «مِنْهِم» بكسر الهاء إتباعاً لكسر الميم ولم يكن المسكّن حاجزاً حصينا عنده. «كلام الله» مفعول بـ «يسمعون». والمراد السبعون الذين اختارهم موسى عليه السلام فسمعوا كلام الله فلم يمتثلوا أمره, وحرّفوا القول في إخبارهم لقومهم. هذا قول الربيع وابن إسحَق وفي هذا القول ضعف. ومن قال: إن السبعين سمعوا ما سمع موسى فقد أخطأ, وأذهب بفضيلة موسى واختصاصه بالتكليم. وقد قال السّدّي وغيره: لم يطيقوا سماعه, واختلطت أذهانهم ورغِبوا أن يكون موسى يسمع ويعيده لهم فلما فرغوا وخرجوا بدّلت طائفة منهم ما سمعت من كلام الله على لسان نبيهم موسى عليه السلام كما قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّىَ يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ}.
فإن قيل: فقد روى الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عباس أن قوم موسى سألوا موسى أن يسأل ربه أن يسمعهم كلامه, فسمعوا صوتاً كصوت الشّبّور: «إني أنا الله لا إلَه إلا أنا الحيّ القيوم أخرجتكم من مصر بيد رفيعة وذراع شديدة».
قلت: هذا حديث باطل لا يصح, رواه ابن مَرْوان عن الكلبيّ وكلاهما ضعيف لا يحتج به, وإنما الكلام شيء خُصّ به موسى من بين جميع ولد آدم فإن كان كلّم قومه أيضاً حتى أسمعهم كلامه فما فَضْلُ موسى عليهم وقد قال وقوله الحق: {إِنّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ}. وهذا واضح.
الثالثة: واختلف الناس بماذا عرف موسى كلام الله ولم يكن سمع قبل ذلك خطابه فمنهم من قال: إنه سمع كلاماً ليس بحروف وأصوات, وليس فيه تقطيع ولا نفس فحينئذ علم أن ذلك ليس هو كلام البشر وإنما هو كلام رب العالمين. وقال آخرون: إنه لمّا سمع كلاماً لا من جهة, وكلامُ البشر يُسمع من جهة من الجهات الستّ علم أنه ليس من كلام البشر. وقيل: إنه صار جسده كله مسامع حتى سمع بها ذلك الكلام فعلم أنه كلام الله. وقيل فيه: إن المعجزة دلّت على أن ما سمعه هو كلام الله وذلك أنه قيل له: ألق عصاك, فألقاها فصارت ثعباناً فكان ذلك علامة له على صدق الحال, وأن الذي يقول له: {إِنّيَ أَنَاْ رَبّكَ} هو الله جلّ وعز. وقيل: إنه قد كان أضمر في نفسه شيئاً لا يقف عليه إلا علام الغيوب, فأخبره الله تعالى في خطابه بذلك الضمير فعلم أن الذي يخاطبه هو الله جل وعز. وسيأتي في سورة «القصص» بيان معنى قوله تعالى: {نُودِيَ مِن شَاطِئِ الْوَادِي الأيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشّجَرَةِ} إن شاء الله تعالى.
الرابعة: قوله تعالى: {ثُمّ يُحَرّفُونَهُ} قال مجاهد والسّدّى: هم علماء اليهود الذين يحرّفون التوراة فيجعلون الحرام حلالاً والحلال حراماً اتباعاً لأهوائهم. {مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} أي عرفوه وعلموه. وهذا توبيخ لهم أي إن هؤلاء اليهود قد سلفت لآبائهم أفاعيل سوء وعناد, فهؤلاء على ذلك السّنن, فكيف تطمعون في إيمانهم!.
ودلّ هذا الكلام أيضاً على أن العالم بالحق المعاند فيه بعيد من الرشد لأنه علم الوعد والوعيد ولم ينهه ذلك عن عناده.

قوله تعالى:
{وَإِذَا لَقُواْ الّذِينَ آمَنُواْ قَالُوَاْ آمَنّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُوَاْ أَتُحَدّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}.
قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُواْ الّذِينَ آمَنُواْ قَالُوَاْ آمَنّا} هذا في المنافقين. وأصل «لقوا» لقِيُوا وقد تقدم. {يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُوَاْ} الآية في اليهود, وذلك أن ناساً منهم أسلموا ثم نافقوا, فكانوا يحدّثون المؤمنين من العرب بما عُذّب به آباؤهم فقالت لهم اليهود: {أتحدثونهم بما فتح الله عليكم} أي حكم الله عليكم من العذاب, ليقولوا نحن أكرم على الله منكم, عن ابن عباس والسّدّي. وقيل: «إن عليّا لما نازل قُرَيظة يوم خَيْبر سَمع سبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فانصرف إليه وقال: يا رسول الله, لا تبلغ إليهم, وعرّض له فقال: «أظنك سمعت شتمي منهم لو رأوني لكفّوا عن ذلك» ونهض إليهم, فلما رأوه أمسكوا, فقال لهم: «أنقضتم العهد يا إخوة القردة والخنازير أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته» فقالوا: ما كنت جاهلاً يا محمد فلا تجهل علينا, من حدّثك بهذا؟ ما خرج هذا الخبر إلا من عندنا! روي هذا المعنى عن مجاهد.
قوله تعالى: {وَإِذَا خَلاَ} الأصل في «خلا» خَلَوَ, قُلبت الواو ألفاً لتحرّكها وانفتاح ما قبلها وتقدّم معنى (خلا) في أوّل السورة. ومعنى (فَتَحَ) حَكَم. والفتح عند العرب: القضاء والحُكم ومنه قوله تعالى: {رَبّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} أي الحاكمين. والفَتّاح: القاضي بلغة اليمن يقال: بيني وبينك الفَتّاح قيل ذلك لأنه ينصر المظلوم على الظالم. والفتح: النصر ومنه قوله: {يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الّذِينَ كَفَرُواْ}, وقوله: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ} ويكون بمعنى الفرق بين الشيئين.
قوله تعالى: {لِيُحَآجّوكُم} نصب بلام كيّ, وإن شئت بإضمار أنْ, وعلامة النصب حذف النون. قال يونس: وناس من العرب يفتحون لام كي. قال الأخفش: لأن الفتح الأصل. قال خلف الأحمر: هي لغة بني العنبر. ومعنى {لِيُحَآجّوكُم} ليعيّروكم, ويقولوا نحن أكرم على الله منكم. وقيل: المعنى ليحتجوا عليكم بقولكم يقولون كفرتم به بعد أن وقفتم على صدقه. وقيل: إن الرجل من اليهود كان يلقي صديقه من المسلمين فيقول له: تمسّك بدين محمد فإنه نبيّ حقّا. {عِندَ رَبّكُمْ} قيل في الاَخرة كما قال: {ثُمّ إِنّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبّكُمْ تَخْتَصِمُونَ}. وقيل: عند ذكر ربكم. وقيل: (عند) بمعنى «في» أي ليحاجّوكم به في ربكم فيكونوا أحق به منكم لظهور الحجة عليكم روي عن الحسن. والحجة: الكلام المستقيم على الإطلاق ومن ذلك مَحَجّةُ الطريق. وحاجبتُ فلاناً فحججته, أي غلبته بالحجة ومنه الحديث: «فحجّ آدمُ موسى». {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} قيل: هو من قول الأحبار للأتباع. وقيل: هو خطاب من الله تعالى للمؤمنين أي أفلا تعقلون أن بني إسرائيل لا يؤمنون وهم بهذه الأحوال ثم وبّخهم توبيخاً يُتْلَى فقال: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} الآية. فهو استفهام معناه التوبيخ والتقريع. وقرأ الجمهور {تَعْقِلُونَ} بالياء, وابن مُحَيْصِن بالتاء خطاباً للمؤمنين. والذي أسَرّوه كفرهم, والذي أعلنوه الجَحْدُ به.

قوله تعالى:
{وَمِنْهُمْ أُمّيّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاّ أَمَانِيّ وَإِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنّونَ}
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمّيّونَ} أي من اليهود. وقيل: من اليهود والمنافقين أميون أي من لا يكتب ولا يقرأ, واحدهم اُمّيّ, منسوب إلى الأمّة الأُميّة التي هي على أصل ولادة أمهاتها لم تتعلم الكتابة ولا قراءتها ومنه قوله عليه السلام: «إنّا اُمّة أميّة لا نكتب ولا نحسب» الحديث. وقد قيل لهم إنهم أمّيّون لأنهم لم يصدّقوا بأمّ الكتاب عن ابن عباس. وقال أبو عبيدة: إنما قيل لهم أميّون لنزول الكتاب عليهم, كأنهم نُسبوا إلى أمّ الكتاب الكتاب فكأنه قال: ومنهم أهل الكتاب لا يعلمون الكتاب. عكرمة والضحاك: هم نصارى العرب. وقيل: هم قوم من أهل الكتاب رُفع كتابهم لذنوب ارتكبوها فصاروا أمّيّين. عليّ رضي الله عنه: هم المجوس.
قلت: والقول الأوّل أظهر, والله أعلم.
الثانية: قوله تعالى: {لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ} «إلاّ» ها هنا بمعنى لكن, فهو استثناء منقطع كقوله تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاّ اتّبَاعَ الظّنّ} وقال النابغة:
حلفتُ يميناً غير ذي مَثْنَوِيةٍ  ولا عِلْمَ إلاّ حُسْنَ ظنٍ بصاحِب
وقرأ أبو جعفر وشيبة والأعرج «إلاّ أمانِيَ» خفيفة الياء حَذفوا إحدى الياءين استخفافاً. قال أبو حاتم: كل ما جاء من هذا النحو واحده مشدّد, فلك فيه التشديد والتخفيف مثل أثافي وأغاني وأماني, ونحوه. وقال الأخفش: هذا كما يقال في جمع مفتاح: مفاتيح ومفاتح, وهي ياء الجمع. قال النحاس: الحذف في المعتل أكثر كما قال الشاعر:
وهل يَرجع التسليمَ أو يكشفُ العَمَى  ثلاثُ الأثفي والرّسومُ البلاقع
والأماني جمع أمنِيّة وهي التلاوة وأصلها أمْنُويَة على وزن اُفعولة, فأدغمت الواو في الياء فانكسرت النون من أجل الياء فصارت اُمنية ومنه قوله تعالى: {إِلاّ إِذَا تَمَنّىَ أَلْقَى الشّيْطَانُ فِيَ أُمْنِيّتِهِ} أي إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته. وقال كعب بن مالك:
تمنّى كتابَ الله أوّلَ ليلهِ  وآخِرَه لاقَى حِمَامَ المقادر
وقال آخر:
تمنّى كتابَ الله آخِر لَيْلِه  تَمَنّى داودَ الزّبُورَ على رِسْلِ
والأماني أيضاً الأكاذيب ومنه قول عثمان رضي الله عنه: ما تمنّيت منذ أسلمت أي ما كذبت. وقول بعض العرب لابن دَأْب وهو يحدّث: أهذا شيء رَوَيْتَه أم شيء تمنّيته؟ أي افتعلَته. وبهذا المعنى فسّر ابن عباس ومجاهد (أمانيّ) في الآية. ولأمانيّ أيضاً ما يتمنّاه الإنسان ويشتهيه. قال قتادة: «إلا أمانيّ» يعني أنهم يَتَمَنّوْن على الله ما ليس لهم. وقيل: الأماني التقدير يقال: مَنَى له أي قدّر قاله الجوهري, وحكاه ابن بحر, وأنشد قول الشاعر:
لا تأمنَنّ وإن أمسيتَ في حَرَمٍ  حتى تُلاقِي ما يَمْنِي لك المانِي
أي يقدّر لك المقدّر.
الثالثة: قوله تعالى: {وَإِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنّونَ} «إنْ» بمعنى ما النافية كما قال تعالى: {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلاّ فِي غُرُورٍ }. و(يَظُنّون) يكذبون ويحدثون لأنهم لا علم لهم بصحة ما يتلون, وإنما هم مقلّدون لأحبارهم فيما يقرأون به.
قال أبو بكر الأنباري: وقد حدّثنا أحمد بن يحيى النحوي أن العرب تجعل الظنّ عِلْماً وشكّا وكذباً, وقال: إذا قامت براهين العلم فكانت أكثر من براهين الشك فالظنّ يقين, وإذا اعتدلت براهين اليقين وبراهين الشك فالظنّ شك, وإذا زادت براهين الشك على براهين اليقين فالظن كذب قال الله عز وجل: {وَإِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنّونَ} أراد إلا يكذبون.
الرابعة: قال علماؤنا رحمة الله عليهم: نَعتَ الله تعالى أحبارهم بأنهم يبدّلون ويحرّفون فقال وقوله الحق: {فَوَيْلٌ لّلّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} الآية. وذلك أنه لما درس الأمر فيهم, وساءت رعيّة علمائهم, وأقبلوا على الدنيا حِرْصاً وطمعاً, طلبوا أشياء تصرف وجوه الناس إليهم, فأحدثوا في شريعتهم وبدّلوها, وألحقوا ذلك بالتوراة, وقالوا لسفهائهم: هذا من عند الله ليقبلوها عنهم فتتأكد رياستهم وينالوا به حطام الدنيا وأوساخها. وكان مما أحدثوا فيه أن قالوا: ليس علينا في الاُمّيين سبيل وهم العرب, أي ما أخذنا من أموالهم فهو حِلّ لنا. وكان مما أحدثوا فيه أن قالوا: لا يضرّنا ذنب, فنحن أحبّاؤه وأبناؤه تعالى الله عن ذلك! وإنما كان في التوراة «يا أحباري ويا أبناء رسلي» فغيّروه وكتبوا «يا أحبّائي ويا أبنائي» فأنزل الله تكذيبهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنّصَارَىَ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللّهِ وَأَحِبّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذّبُكُم بِذُنُوبِكُم}. فقالت: لن يعذّبنا الله, وإن عذّبنا فأربعين يوماً مقدار أيام العجل فأنزل الله تعالى: {وَقَالُواْ لَن تَمَسّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاماً مّعْدُودَةً قُلْ أَتّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْداً}. قال ابن مِقْسم: يعني توحيداً, بدليل قوله تعالى: {إِلاّ مَنِ اتّخَذَ عِندَ الرّحْمَـَنِ عَهْداً} يعني لا إلَه إلا الله {فَلَنْ يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}. ثم أكذبهم فقال: {بَلَىَ مَن كَسَبَ سَيّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـَئَتُهُ فَأُوْلَـَئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }. فبيّن تعالى أن الخلود في النار والجنة إنما هو بحسب الكفر والإيمان لا بما قالوه.

قوله تعالى:
{فَوَيْلٌ لّلّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمّ يَقُولُونَ هَـَذَا مِنْ عِنْدِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لّهُمْ مّمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لّهُمْ مّمّا يَكْسِبُونَ}
فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله: {فَوَيْلٌ} اختُلِف في الوَيْل ما هو فروى عثمان بن عفّان عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه جبل من نار. وروى أبو سعيد الخُدْرِي. أن الويل وادٍ في جهنم بين جبلين يهوي فيه الهاوي أربعين خريفاً. وروي سفيان وعطاء بن يَسار: أن الويل في هذه الآية وادٍ يجري بفناء جهنم من صديد أهل النار. وقيل: صهريج في جهنم. وحكى الزّهراوي عن آخرين: أنه باب من أبواب جهنم. وعن ابن عباس: الويل المشقة من العذاب. وقال الخليل: الويل شدّة الشر. الأصمعي: الويلُ تفجّعٌ, والوَيْحُ ترحّمٌ. سيبويه: وَيْلٌ لمن وقع في الهَلَكة, ووَيْحٌ زجرٌ لمن أشرف على الهَلَكة. ابن عرفة: الويل الحزن يقال: تَوَيّل الرجل اذا دعا بالويل وإنما يقال ذلك عند الحزن والمكروه ومنه قوله: {فَوَيْلٌ لّلّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ}. وقيل: أصله الهَلَكة, وكل من وقع في هَلَكة دعا بالويل ومنه قوله تعالى: {يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَـَذَا الْكِتَابِ}. وهي الوَيْل والوَيْلة, وهما الهَلَكة, والجمع الويلات قال:
له الوَيْل إن أمْسَى ولا أمّ هاشم
 وقال أيضاً:
فقالت لك الوَيْلات إنك مُرْجلِي
وارتفع «وَيْلٌ» بالابتداء, وجاز الابتداء به وإن كان نكرة لأن فيه معنى الدعاء. قال الأخفش: ويجوز النصب على إضمار فعل أي ألزمهم الله وَيْلاً. وقال الفَرّاء: الأصل في الويل «وَيْ» أي حُزْن كما تقول: وَيْ لفلان أي حُزْن له, فوصلته العرب باللام وقدّروها منه فأعربوها. والأحسن فيه إذا فُصل عن الإضافة الرفع لأنه يقتضي الوقوع. ويصحّ النصب على معنى الدعاء كما ذكرنا.
قال الخليل: ولم يُسمع على بنائه إلا وَيْح ووَيْس وَويْه ووَيْك ووَيْل ووَيْب وكله يتقارب في المعنى. وقد فرّق بينها قوم وهي مصادر لم تنطق العرب منها بفعل. قال الجَرْمِيّ: ومما ينتصب انتصاب المصادر وَيْلَه وعَوْلَه ووَيْحه ووَيْسَه فإذا أدخلت اللام رفعت فقلت: وَيْلٌ له, ووَيْح له.
الثانية: قوله تعالى: {لّلّذِينَ يَكْتُبُونَ} الكتابة معروفة. وأوّل من كتب بالقلم وخطّ به إدريس عليه السلام وجاء ذلك في حديث أبي ذَرّ, خرّجه الاَجُرّي وغيره. وقد قيل: إن آدم عليه السلام أعطى الخط فصار وراثة في ولده.
الثالثة: قوله تعالى: {بِأَيْدِيهِمْ} تأكيد, فإنه قد عُلم أن الكَتْب لا يكون إلا باليد فهو مثل قوله: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مّا يَلْبِسُونَ}, وقوله: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم} . وقيل: فائدة {بِأَيْدِيهِمْ} بيان لجُرْمهم وإثبات لمجاهرتهم, فإن مَن تولّى الفعل أشدّ مواقعة ممن لم يتوَلّه وإن كان رأياً له. وقال ابن السّراج: {بِأَيْدِيهِمْ} كناية عن أنهم من تلقائهم دون أن ينزل عليهم, وإن لم تكن حقيقة في كَتْبِ أيديهم.
الرابعة: في هذه الآية والتي قبلها التحذير من التبديل والتغيير والزيادة في الشرع, فكل من بدّل وغيّر أو ابتدع في دين الله ما ليس منه ولا يجوز فيه فهو داخل تحت هذا الوعيد الشديد, والعذاب الأليم وقد حذّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمّته لما قد علم ما يكون في آخر الزمان فقال: «ألاَ إنّ مَن قبلكم مِن أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين مِلّة وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة» الحديث, وسيأتي. فحذّرهم أن يُحدِثوا من تلقاء أنفسهم في الدّين خلاف كتاب الله أو سنته أو سنة أصحابه فيُضِلّوا به الناس وقد وقع ما حدّره وشاع, وكثر وذاع فإنا لله وإنّا إليه راجعون.
الخامسة: قوله تعالى: {لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} وصف الله تعالى ما يأخذونه بالقِلة إمّا لفنائه وعدم ثباته, وإمّا لكونه حراماً لأن الحرام لا بركة فيه ولا يربو عند الله. قال ابن إسحَق والكلبي: كانت صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابهم رَبْعة أسمر فجعلوه آدم سَبْطاً طويلاً, وقالوا لأصحابهم وأتباعهم: انظروا إلى صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم الذي يُبعث في آخر الزمان ليس يشبهه نعت هذا. وكانت للأحبار والعلماء رياسة ومكاسب فخافوا إن بيّنُوا أن تذهب مآكلهم ورياستهم فمِن ثَمّ غيّروا.
ثم قال تعالى: {فَوَيْلٌ لّهُمْ مّمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لّهُمْ مّمّا يَكْسِبُونَ} قيل من المآكل. وقيل من المعاصي. وكرّر الويل تغليظاً لفعلهم.

قوله تعالى:
{وَقَالُواْ لَن تَمَسّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاماً مّعْدُودَةً قُلْ أَتّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَقَالُواْ} يعني اليهود. {لَن تَمَسّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاماً مّعْدُودَةً} اختلف في سبب نزولها فقيل: «إن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لليهود: «مَنْ أهل النار». قالوا: نحن, ثم تخْلُفونا أنتم. فقال: «كذبتم لقد علمتم أنّا لا نخلفكم» فنزلت هذه الآية قاله ابن زيد. وقال عكرمة عن ابن عباس: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود تقول: إنما هذه الدنيا سبعة آلاف, وإنما يعذّب الناس في النار لكل ألف سنة من أيام الدنيا يوم واحد في النار من أيام الاَخرة, وإنما هي سبعة أيام فأنزل الله الآية وهذا قول مجاهد. وقالت طائفة: قالت اليهود إن في التوراة أن جهنم مسيرة أربعين سنة, وأنهم يقطعون في كل يوم سنة حتى يكملوها وتذهب جهنم. ورواه الضحاك عن ابن عباس. وعن ابن عباس: زعم اليهود أنهم وجدوا في التوراة مكتوباً أن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم. وقالوا: إنما نعذّب حتى ننتهي إلى شجرة الزقوم فتذهب جهنم وتهلك. وعن ابن عباس أيضاً وقتادة: أن اليهود قالت إن الله أقسم أن يدخلهم النار أربعين يوما عدد عبادتهم العجل فأكذبهم الله, كما تقدّم.
الثانية: في هذه الآية رَدّ على أبي حنيفة وأصحابه حيث استدلوا بقوله عليه السلام: «دَعِي الصلاة أيامَ أقرائك» في أن مدة الحيض ما يُسمّى أيام الحيض, وأقلها ثلاثة وأكثرها عشرة قالوا: لأن ما دون الثلاثة يسمّى يوماً ويومين, وما زاد على العشرة يقال فيه أحد عشر يوماً ولا يقال فيه أيام وإنما يقال أيام من الثلاثة إلى العشرة قال الله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي الْحَجّ}, {تَمَتّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيّامٍ} , {سَخّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيّامٍ حُسُوماً}.
فيقال لهم: فقد قال الله تعالى في الصوم: {أَيّاماً مّعْدُودَاتٍ} يعني جميع الشهر وقال: {لَن تَمَسّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاماً مّعْدُودَاتٍ} يعني أربعين يوماً. وأيضاً فإذا أضيفت الأيام إلى عارض لم يُرَد به تحديد العدد بل يقال: أيامُ مَشْيِك وسَفرِك وإقامتك, وإن كان ثلاثين وعشرين وما شئت من العدد ولعله أراد ما كان معتاداً لها, والعادة ستّ أو سبع فخرّج الكلام عليه, والله أعلم.
الثالثة: قوله تعالى: {قُلْ أَتّخَذْتُمْ} تقدّم القول في «اتخذ» فلا معنى لإعادته. {عِندَ اللّهِ عَهْداً} أي أسلفتم عملاً صالحاً فآمنتم وأطعتم فتستوجبون بذلك الخروج من النار! أو هل عرفتم ذلك بوَحْيِهِ الذي عهده إليكم {فَلَنْ يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} توبيخ وتقريع.

قوله تعالى:
{بَلَىَ مَن كَسَبَ سَيّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـَئَتُهُ فَأُوْلَـَئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ أُولَـَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {بَلَىَ} أي ليس الأمر كما ذكرتم. قال سيبويه: ليس «بلى» و «نعم» اسمين. وإنما هما حرفان مثل «بل» وغيره وهي رَدّ لقولهم: لن تمسّنا النار. وقال الكوفيون: أصلها بل التي للإضراب عن الأوّل, زيدت عليها الياء ليحسن الوقف, وضُمّنت الياء معنى الإيجاب والإنعام. فـ «بَلْ» تدلّ على رَدّ الجَحْد, والياء تدلّ على الإيجاب لما بعدُ. قالوا: ولو قال قائل: ألم تأخذ ديناراً؟ فقلت: نعم لكان المعنى لا, لم آخذ لأنك حقّقت النفي وما بعده. فإذا قلت: بلى صار المعنى قد أخذت. قال الفراء: إذا قال الرجل لصاحبه: مالك عليّ شيء فقال الاَخر: نعم كان ذلك تصديقاً لأن لا شيء له عليه ولو قال: بلى, كان ردّاً لقوله وتقديره: بلى لي عليك. وفي التنزيل {أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَىَ} ولو قالوا نعم لكفروا.
الثانية: قوله تعالى: {سَيّئَةً} السيئة الشّرك. قال ابن جُريج قلت لعطاء: «مَن كَسب سيئة»؟ قال: الشّرك وتلا {وَمَن جَاءَ بِالسّيّئَةِ فَكُبّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النّارِ}. وكذا قال الحسن وقتادة, قالا: والخطيئة الكبيرة.
الثالثة: لما قال تعالى: {بَلَىَ مَن كَسَبَ سَيّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـَئَتُهُ} دلّ على أن المعلّق على شرطين لا يتم بأقلهما ومثله قوله تعالى: {إِنّ الّذِينَ قَالُواْ رَبّنَا اللّهُ ثُمّ اسْتَقَامُواْ}, وقوله عليه السلام لسُفيان بن عبد اللّه الثّقَفِي وقد قال له: يا رسول الله, قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك. قال: «قل آمنت بالله ثم استقم». رواه مسلم. وقد مضى القول في هذا المعنى وما للعلماء فيه عند قوله تعالى لاَدم وحواء: {وَلاَ تَقْرَبَا هَـَذِهِ الشّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظّالِمِينَ }. وقرأ نافع «خطيئاته» بالجمع, الباقون بالإفراد والمعنى الكثرة, مثل قوله تعالى: {وَإِن تَعُدّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا}.

قوله تعالى:
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيَ إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَىَ وَالْيَتَامَىَ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ وَآتُواْ الزّكَاةَ ثُمّ تَوَلّيْتُمْ إِلاّ قَلِيلاً مّنْكُمْ وَأَنْتُمْ مّعْرِضُونَ}.
فيه عشر مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيَ إِسْرَائِيلَ} تقدّم الكلام في بيان هذه الألفاظ. واختلف في الميثاق هنا فقال مَكي: هو الميثاق الذي اُخذ عليهم حين أخرجوا من صلب آدم كالذرّ. وقيل: هو ميثاق أخذ عليهم وهم عقلاء في حياتهم على ألسنة أنبيائهم وهو قوله: {لاَ تَعْبُدُونَ إلاّ اللّهَ} وعبادةُ الله إثبات توحيدِه, وتصديقُ رُسُلِه, والعملُ بما أنزل في كتبه.
الثانية: قوله تعالى: {لاَ تَعْبُدُونَ} قال سيبويه: «لا تعبدون» متعلّق بقَسَم والمعنى وإذا استخلفناهم والله لا تعبدون وأجازه المبرّد والكسائي والفرّاء. وقرأ أبيّ وابن مسعود «لا تعبدوا» على النَهي, ولهذا وصل الكلام بالأمر فقال: «وقوموا, وقولوا, وأقِيموا, وآتوا». وقيل: هو في موضع الحال أي أخذنا ميثاقهم موحّدين, أو غير معاندين قاله قُطْرب والمبرّد أيضاً. وهذا إنما يَتجه على قراءة ابن كثير وحمزة والكسائي «يعبدون» بالياء من أسفل. وقال الفرّاء والزجاج وجماعة: المعنى أخذنا ميثاقهم بألا يعبدوا إلا الله, وبأن يحسنوا للوالدين, وبألا يَسفكوا الدماء ثم حذفت أنْ والباء فارتفع الفعل لزوالهما, كقوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللّهِ تَأْمُرُونّيَ}. قال المبرّد: هذا خطأ لأن كل ما اضمر في العربية فهو يعمل عمله مظهراً تقول: وبلدٍ قطعت أي رُبّ بلد.
قلت: ليس هذا بخطأ, بل هما وجهان صحيحان, وعليهما أنشد سيبويه:
ألاَ أيّها ذا الزّاجرِي أحْضرُ الْوَغَى  وأنْ أشهدَ اللّذاتِ هل أنت مُخْلِدِي
بالنصب والرفع فالنصب على إضمار أن, والرفع على حذفها.
الثالثة: قوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} أي وأمرناهم بالوالدين إحسانا. وقَرَن الله عز وجل في هذه الآية حق الوالدين بالتوحيد, لأن النّشأة الأولى من عند الله, والنّشء الثاني ـ وهو التربية ـ من جهة الوالدين ولهذا قَرَن تعالى الشكر لهما بشكره فقال: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ}. والإحسان إلى الوالدين: معاشرتهما بالمعروف, والتواضعُ لهما, وامتثال أمرهما, والدعاءُ بالمغفرة بعد مماتهما, وصلةُ أهلِ ودّهما على ما يأتي بيانه مفصّلاً في «الإسراء» إن شاء الله تعالى.
الرابعة: قوله تعالى: {وَذِي الْقُرْبَىَ} عطف ذي القربى على الوالدين. والقُرْبَى: بمعنى القرابة, وهو مصدر كالرّجْعَى والعُقْبَى أي وأمرناهم بالإحسان إلى القرابات بصلة أرحامهم. وسيأتي بيان هذا مفصّلاً في سورة «القتال» إن شاء الله تعالى.
الخامسة: قوله تعالى: {وَالْيَتَامَىَ} اليتامى عطف أيضاً, وهو جمع يتيم مثل نَدَامَى جمع نَدِيم. واليُتْم في بني آدم بفقد الأب, وفي البهائم بفقد الأم. وحكى الماورديّ أن اليتيم يقال في بني آدم في فقد الأم والأوّل المعروف. وأصله الانفراد يقال: صبيّ يتيم, أي منفرد من أبيه. وبيت يتيم: أي ليس قبله ولا بعده شيء من الشّعْر. ودُرّة يتيمة: ليس لها نظير. وقيل: أصله الإبطاء فسُمّيَ به اليتيم لأن البِرّ يبطئ عنه. ويقال: يَتُمَ يَيْتُم يُتْماً مثل عَظُم يَعْظُم. وَيتِم يَيْتَم يُتْماً ويَتماً مثل سَمِع يَسْمع ذكر الوجهين الفرّاء. وقد أيتمه الله. ويدلّ هذا على الرأفة باليتيم والحضّ على كفالته وحفظ ماله على ما يأتي بيانه في «النساء». وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كافِل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة». وأشار مالك بالسبابة والوسطى رواه أبو هريرة أخرجه مسلم. وخرّج الإمام الحافظ أبو محمد عبد الغني بن سعيد من حديث الحسن بن دينار أبي سعيد البصريّ وهو الحسن بن واصل قال حدّثنا الأسود بن عبد الرحمن عن هِصّان عن أبي موسى الأشعري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ما قَعدَ يتيم مع قوم على قَصْعتهم فَيَقْرَب قَصْعتهم الشيطان». وخرّج أيضاً من حديث حسين بن قيس وهو أبو علي الرّحبي عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن ضَمّ يتيماً من بين مسلمين إلى طعامه وشرابه حتى يُغْنِيَه الله عز وجل غُفرت له ذنوبه الْبتّةَ إلاّ أن يعمل عملاً لا يُغفر ومن أذهب الله كريمتيه فصبَر واحتسب غُفرت له ذنوبه ـ قالوا: وما كريمتاه؟ قال: ـ عيناه ومن كان له ثلاث بنات أو ثلاث أخوات فأنفق عليهن وأحسن إليهن حتى يَبِنّ أو يمتن غُفرت له ذنوبه الْبَتّةَ إلا أن يعمل عملا لا يُغفر» فناداه رجل من الأعراب ممن هاجر فقال: يا رسول الله أو اثنتين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أو اثنتين». فكان ابن عباس إذا حدّث بهذا الحديث قال: هذا والله من غرائب الحديث وغُرَرِه.
السادسة: السبّابة من الأصابع هي التي تلي الإبهام, وكانت في الجاهلية تدعى بالسبابة لأنهم كانوا يَسّبون بها فلما جاء الله بالإسلام كرهوا هذا الاسم فسمّوْها المشيرة لأنهم كانوا يشيرون بها إلى الله في التوحيد. وتُسمّى أيضاً بالسبّاحة, جاء تسميتها بذلك في حديث وائل بن حُجْر وغيره ولكن اللغة سارت بما كانت تعرفه في الجاهلية فغلبت. وروي عن أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المشيرة منها كانت أطول من الوسطى, ثم الوسطى أقصر منها, ثم البنصر أقصر من الوسطى. روى يزيد بن هارون قال: أخبرنا عبد اللّه بن يزيد بن مِقْسم الطائفيّ قال حدّثتني عمتي سارة بنت مِقْسَم أنها سمعت ميمونة بنت كَرْدَم قالت: خرجتُ في حجّة حجّها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته وسأله أبي عن أشياء فلقد رأيتني أتعجّب وأنا جارية من طول أصبعه التي تلي الإبهام على سائر أصابعه. فقوله عليه السلام: «أنا وهو كهاتين في الجنة», وقوله في الحديث الاَخر: «اُحشَر أنا وأبو بكر وعمر يوم القيامة هكذا» وأشار بأصابعه الثلاث فإنما أراد ذكر المنازل والإشراف على الخلق فقال: نحشر هكذا ونحن مشرفون, وكذا كافل اليتيم تكون منزلته رفيعة. فمن لم يعرف شأن أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم حمل تأويل الحديث على الانضمام والاقتراب بعضهم من بعض في محل القربة. وهذا معنى بعيد لأن منازل الرسل والنبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين مراتب متباينة, ومنازل مختلفة.
السابعة: قوله تعالى: {وَالْمَسَاكِينِ} «المساكين» عطف أيضاً أي وأمرناهم بالإحسان إلى المساكين, وهم الذين أسكنتهم الحاجة وأذلتهم. وهذا يتضمّن الحضّ على الصدقة والمؤاساة وتفقّد أحوال المساكين والضعفاء. روى مسلم عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «السّاعِي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله ـ وأحسِبه قال ـ وكالقائم لا يَفْتُرُ وكالصائم لا يُفْطِر». قال ابن المنذر: وكان طاوس يرى السعي على الأخوات أفضل من الجهاد في سبيل الله.
الثامنة: قوله تعالى: {وَقُولُواْ لِلنّاسِ حُسْناً} «حُسْناً» نصب على المصدر على المعنى لأن المعنى ليَحْسُن قولُكم. وقيل: التقدير وقولوا للناس قولاً ذا حُسْن فهو مصدر لا على المعنى. وقرأ حمزة والكسائي «حَسَناً» بفتح الحاء والسين. قال الأخفش: هما بمعنىً واحد مثل البُخْل والبَخَل, والرّشْد والرّشَد. وحكى الأخفش: «حُسْنَى» بغين تنوين على فُعْلى. قال النحاس: «وهذا لا يجوز في العربية, لا يقال من هذا شيء إلا بالألف واللام, نحو الفُضْلَى والكُبْرَى والحُسْنَى هذا قول سيبويه. وقرأ عيسى بن عمر «حُسُناً» بضمتين مثل الحُلُم». قال ابن عباس: المعنى قولوا لهم لا إلَه إلا الله ومُرُوهم بها. ابن جُريج: قولوا للناس صدقاً في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ولا تغيّروا نعته. سُفيان الثّوْرِي: مُروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر. أبو العالية: قولوا لهم الطيّب من القول, وجازوهم بأحسن ما تحبون أن تجازوا به. وهذا كله حض على مكارم الأخلاق فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس لَيناً ووجهه منبسطاً طَلْقاً مع البَرّ والفاجر, والسّني والمبتدع, من غير مداهنة, ومن غير أن يتكلم معه بكلام يظن أنه يُرضي مذهبه لأن الله تعالى قال لموسى وهارون: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لّيّناً} . فالقائل ليس بأفضل من موسى وهارون والفاجر ليس بأخبث من فرعون, وقد أمرهما الله تعالى باللين معه. وقال طلحة بن عمر: قلت لعطاء إنك رجل يجتمع عندك ناس ذوو أهواء مختلفة, وأنا رجل فيّ حِدّة فأقول لهم بعض القول الغليظ فقال: لا تفعل! يقول الله تعالى: {وَقُولُواْ لِلنّاسِ حُسْناً} . فدخل في هذه الآية اليهود والنصارى فكيف بالحنيفيّ. وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة: «لا تكوني فحّاشة فإن الفحش لو كان رجلاً لكان رجل سوء». وقيل: أراد بالناس محمداً صلى الله عليه وسلم كقوله: {أَمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلَىَ مَآ آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ}. فكأنه قال: قولوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم حُسْناً. وحكى المهدَوِيّ عن قتادة أن قوله: {وَقُولُواْ لِلنّاسِ حُسْناً} منسوخ بآية السيف. وحكاه أبو نصر عبد الرحيم عن ابن عباس. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في الابتداء ثم نسختها آية السيف. قال ابن عطية: وهذا يدلّ على أن هذه الأمة خوطبت بمثل هذا اللفظ في صدر الإسلام وأما الخبر عن بني إسرائيل وما اُمِروا به فلا نسخ فيه, والله أعلم.
التاسعة: قوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ وَآتُواْ الزّكَاةَ} تقدّم القول فيه. والخطاب لبني إسرائيل. قال ابن عطية: وزكاتهم هي التي كانوا يضعونها فتنزل النار على ما يُتَقَبّل ولا تنزل على ما لم يُتقبّل, ولم تكن كزكاة أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
قلت: وهذا يحتاج إلى نقل, كما ثبت ذلك في الغنائم. وقد روى عن ابن عباس أنه قال: الزكاة التي أمِروا بها طاعةُ الله والإخلاصُ.
العاشرة: قوله تعالى: {ثُمّ تَوَلّيْتُمْ} الخطاب لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم وأسند إليهم تولّي أسلافهم إذ هم كلهم بتلك السبيل في إعراضهم عن الحق مثلهم كما قال ـ شِنْشِنة أعرفها من أخْزَم ـ {إِلاّ قَلِيلاً} كعبد اللّه بن سَلاَم وأصحابه. و «قليلاً» نصب على الاستثناء والمستثنى عند سيبويه منصوب لأنه مشبه بالمفعول. وقال محمد بن يزيد: هو مفعول على الحقيقة المعنى استثنيت قليلاً. {وَأَنْتُمْ مّعْرِضُونَ} ابتداء وخبر. والإعراض والتولّي بمعنىً واحد, مخالَف بينهما في اللفظ. وقيل: التولّي بالجسم, والإعراض بالقلب. قال المهدوِيّ: {وَأَنْتُمْ مّعْرِضُونَ} حال لأن التوليّ فيه دلالة على الإعراض.

قوله تعالى:
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءِكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مّن دِيَارِكُمْ ثُمّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ}
فيه مسألتان:
الأولى: قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ} تقدّم القول فيه. {لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءِكُمْ} المراد بنو إسرائيل ودخل فيه بالمعنى مَن بعدهم. «لا تسفكون» مثل «لاَ تَعْبُدُون» في الإعراب. وقرأ طلحة بن مُصَرّف وشعيب بن أبي حمزة بضم الفاء, وهي لغة وأبو نهيك «تُسَفّكون» بضم التاء وتشديد الفاء وفتح السين. والسّفْك: الصّب. وقد تقدّم. {وَلاَ تُخْرِجُونَ} معطوف. {أَنْفُسَكُمْ} النفس مأخوذة من النّفَاسة, فنفس الإنسان أشرف ما فيه. والدار: المنزل الذي فيه أبنية المقام بخلاف منزل الارتحال. وقال الخليل: كل موضع حَلّه قوم فهو دار لهم وإن لم تكن فيه أبنية. وقيل: سُمّيت داراً لدورها على سكانها كما سُمّيَ الحائط حائطاً لإحاطته على ما يحويه. و{أَقْرَرْتُمْ} من الإقرار أي بهذا الميثاق الذي اُخِذ عليكم وعلى أوائلكم. {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} من الشهادة أي شهداء بقلوبكم على هذا. وقيل: الشهادة بمعنى الحضور أي تحضرون سفك دمائكم, وإخراج أنفسكم من دياركم.
الثانية: فإن قيل: وهل يَسفِك أحد دمه ويُخرج نفسه من داره؟ قيل له: لما كانت ملّتهم واحدة وأمرهم واحد وكانوا في الأمم كالشخص الواحد جعل قتل بعضهم بعضاً وإخراج بعضهم بعضاً قتلاً لأنفسهم ونَفياً لها. وقيل: المراد القصاص أي لا يَقتل أحد فيُقتل قصاصاً, فكأنه سفك دمه. وكذلك لا يزني ولا يرتدّ, فإن ذلك يبيح الدم. ولا يُفْسِد فيُنْفَى, فيكون قد أخرج نفسه من دياره. وهذا تأويل فيه بُعْدٌ وإن كان صحيح المعنى.
وإنما كان الأمر أن الله تعالى قد أخذ على بني إسرائيل في التوراة ميثاقاً ألاّ يقتل بعضهم بعضاً ولا يَنفيه ولا يسترقّه, ولا يدعه يسرق إلى غير ذلك من الطاعات.
قلت: وهذا كله محرّم علينا, وقد وقع ذلك كله بالفتن فينا فإنا لله وإنا إليه راجعون! وفي التنزيل: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} وسيأتي. قال ابن خُوَيْزِ منداد: وقد يجوز أن يراد به الظاهر, لا يقتل الإنسان نفسه, ولا يخرج من داره سفهاً كما تقتل الهند أنفسها. أو يقتل الإنسان نفسه من جَهد وبلاء يصيبه, أو يَهيم في الصحراء ولا يأوي البيوت جهلاً في ديانته وسفهاً في حِلمه فهو عموم في جميع ذلك. وقد روي أن عثمان بن مَظْعُون بايع في عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فعزموا أن يلبسوا المسوح, وأن يَهيموا في الصحراء ولا يأوُوا البيوت, ولا يأكلوا اللحم ولا يغشوا النساء فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم فجاء إلى دار عثمان بن مظعون فلم يجده, فقال لامرأته: «ما حديثٌ بلغني عن عثمان»؟ وكَرهت أن تُفشي سِرّ زوجها, وأن تكذِب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله, إن كان قد بلغك شيء فهو كما بلغك فقال: «قولي لعثمان أخلاف لسُنتي أم على غير مِلّتي إني أصلّي وأنام وأصوم واُفطِر وأغْشَى النساء وآوي البيوت وآكل اللحم فمن رَغِب عن سُنتي فليس مني» فرجع عثمان وأصحابه عما كانوا عليه.

قوله تعالى:
{ثُمّ أَنْتُمْ هَـَؤُلآءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مّنْكُمْ مّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَىَ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدّونَ إِلَىَ أَشَدّ الّعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ * أُولَـَئِكَ الّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلاَ يُخَفّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ}
قوله تعالى: {ثُمّ أَنْتُمْ هَـَؤُلآءِ} «أنتم» في موضع رفع بالابتداء, ولا يعرب لأنه مضمَر. وضُمت التاء من «أنتم» لأنها كانت مفتوحة إذا خاطبت واحداً مذكّراً, ومكسورة إذا خاطبت واحدة مؤنثة فلما ثنّيت أو جمعت لم يبق إلا الضمة. {هَـَؤُلآءِ} قال القُتَبِيّ: التقدير يا هؤلاء. قال النحاس: هذا خطأ على قول سيبويه, ولا يجوز هذا أقبل. وقال الزجاج: هؤلاء بمعنى الذين. و {تَقْتُلُونَ} داخل في الصلة أي ثم أنتم الذين تقتلون. وقيل: «هؤلاء» رفع بالابتداء, و «أنتم» خبر مقدم, و «تقتلون» حال من أولاء. وقيل: «هؤلاء» نصب بإضمار أعني. وقرأ الزّهْرِيّ «تُقَتّلون» بضم التاء مشدّداً, وكذلك {فَلِمَ تُقَتّلُونَ أنْبِيَاءَ اللّهِ}. وهذه الآية خطاب للمواجهين لا يحتمل ردّه إلى الأسلاف. نزلت في بني قَيْنُقاع وقُرَيظة والنّضِير من اليهود وكانت بنو قَيْنُقاع أعداء قُريظة, وكانت الأوْس حلفاء بني قَيْنُقاع, والخَزْرج حلفاء بني قُريظة. والنّضير والأوس والخزرج إخوان, وقريظة والنضير أيضاً إخوان, ثم افترقوا فكانوا يقتتلون, ثم يرتفع الحرب فيفدون أساراهم فعيّرهم الله بذلك فقال: «وَإنْ يأْتُوكُمْ اُسَارَى تُفَادُوهُمْ».
قوله تعالى: {تَظَاهَرُونَ} معنى «تظاهرون» تتعاونون, مشتقّ من الظّهر لأن بعضهم يقوّي بعضاً فيكون له كالظهر ومنه قول الشاعر:
تظاهرتُم أسْتاه بيتٍ تجّمعت  على واحد لا زِلْتُمُ قِرْنَ واحدِ
والإثم: الفعل الذي يستحق عليه صاحبه الذم. والعدوان: الإفراط في الظلم والتجاوز فيه. وقرأ أهل المدينة وأهل مكة «تَظّاهرون» بالتشديد, يُدغمون التاء في الظاء لقربها منها والأصل تتظاهرون. وقرأ الكوفيون «تَظَاهرون» مخفّفاً, حذفوا التاء الثانية لدلالة الأولى عليها وكذا «وَإنْ تَظَاهَرا عَلَيْهِ». وقرأ قتادة «تَظْهرون عليهم» وكله راجع إلى معنى التعاون ومنه: {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَىَ رَبّهِ ظَهِيراً } وقوله: {وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} فاعلمه.
قوله تعالى: {أُولَـَئِكَ الّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلاَ يُخَفّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ}
فيه ست مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَىَ} شَرْط, وجوابه «تفادوهم» و «اُسارَى» نصب على الحال. قال أبو عبيد وكان أبو عمرو يقول: ما صار في أيديهم فهم الأسارى, وما جاء مستأسِراً فهم الأسْرَى. ولاَ يعرف أهل اللغة ما قال أبو عمرو, إنما هو كما تقول: سَكارى وسَكْرى. وقراءة الجماعة «اُسارى» ما عدا حمزة فإنه قرأ «أسْرَى» على فَعْلَى, جمع أسير بمعنى مأسور والباب ـ في تكسيره إذا كان كذلك ـ فَعْلَى, كما تقول: قتيل وقتلى, وجريح وجرحى. قال أبو حاتم: ولا يجوز أسَارى. وقال الزجاج: يقال أسارى كما يقال سَكارى, وفَعالى هو الأصل, وفُعَالَى داخلة عليها. وحُكي عن محمد بن يزيد قال: يقال أسير واُسراء كظريف وظُرفاء. قال ابن فارس: يقال في جمع أسير أسرى وأسارى وقرئ بهما. وقيل: أسارى (بفتح الهمزة) وليست بالعالية.
الثانية: الأسير مشتق من الإسار, وهو القِدّ الذي يُشدّ به المحمل فسمّيَ أسيراً لأنه يشدّ وثاقه والعرب تقول: قد أسَرَ قَتَبه, أي شدّه ثم سُمّيَ كل أخِيذ أسيراً وإن لم يؤسر وقال الأعشى:
وَقَيّدني الشّعرُ في بَيْتِهِ  كما قَيّد الاَسِراتُ الحِمارا
أي أنا في بيته يريد بذلك بلوغه النهاية فيه. فأمّا الأسْر في قوله عز وجل: {وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} فهو الخَلْق. واُسرة الرجل رهطه لأنه يتقوّى بهم.
الثالثة: قوله تعالى: {تُفَادُوهُمْ} كذا قرأ نافع وحمزة والكسائي. والباقون «تَفْدُوهم» من الفداء. والفداء: طلب الفِدية في الأسير الذي في أيديهم. قال الجوهري: «الفداء إذا كُسِر أوله يُمدّ ويقصر, وإذا فُتح فهو مقصور يقال: قُمْ ـ فدًى لك أبي. ومن العرب من يكسر «فِداءً» بالتنوين إذا جاور لام الجر خاصة فيقول: فِداءٍ لك, لأنه نكرة يريدون به معنى الدعاء. وأنشد الأصمعي للنابغة:
مَهْلاً فِداءٍ لك الأقوامُ كلّهمُ  وما اُثمّرُ من مالٍ ومن وَلَدِ
ويقال: فَداه وفاداه إذا أعطى فِداءه فأنقذه. وفَداه بنفسه, وفدّاه يُفَدّيه إذا قال جعلت فَداك. وتَفَادَوْا أي فَدَى بعضهم بعضاً». والفِدية والفَدَى والفِداء كله بمعنىً واحد. وفاديت نفسي إذا أطلقتها بعد أن دفعت شيئاً, بمعنى فديت ومنه قول العباس للنبيّ صلى الله عليه وسلم: فاديتُ نفسي وفاديتُ عَقِيلاً. وهما فعلان يتعدّيان إلى مفعولين الثاني منهما بحرف الجر تقول: فديت نفسي بمالي وفاديته بمالي قال الشاعر:
قِفِي فادِي أسيرَكَ إن قومي  وقومَك ما أرى لهمُ اجتماعَا
الرابعة: قوله تعالى: {وَهُوَ مُحَرّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} «هو» مبتدأ وهو كناية عن الإخراج, و «مُحَرّمٌ» خبره و «إخراجُهم» بدل من «هو» وإن شئت كان كناية عن الحديث والقصة, الجملة التي بعده خبره أي والأمر محرّم عليكم إخراجهم. فـ «ـإخراجهم» مبتدأ ثان. و «محرم» خبره, والجملة خبر عن «هو» وفي «محرّم» ضمير ما لم يسم فاعله يعود على الإخراج. ويجوز أن يكون «محرمٌ» مبتدأ, و «إخراجهم» مفعول ما لم يُسَمّ فاعله يسدّ مسدّ خبر «محرم», والجملة خبر عن «هو». وزعم الفراء أن «هو» عماد وهذا عند البصريين خطأ لا معنى له لأن العماد لا يكون في أول الكلام. ويُقرأ «وهْوَ» بسكون الهاء لثقل الضمة كما قال الشاعر:
فَهْو لا تَنْمِي رَمّيتُه مالَه لا عُدّ مِن نَفَرِهْ
وكذلك إن جئت باللام وثم وقد تقدم. قال علماؤنا: كان الله تعالى قد أخذ عليهم أربعة عهود: ترك القتل, وترك الإخراج, وترك المظاهرة, وفداء أساراهم فأعرضوا عن كل ما أمِروا به إلا الفداء فوبّخهم الله على ذلك توبيخاً يُتْلَى فقال: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ} وهو التوراة {وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} !!
قلت: ولَعَمْرُ لله لقد أعرضنا نحن عن الجميع بالفتن فتظاهر بعضنا على بعض! ليت بالمسلمين, بل بالكافرين! حتى تركنا إخواننا أذّلاء صاغرين يجري عليهم حكم المشركين فلا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم!.
قال علماؤنا: فداء الأسارى واجب وإن لم يبق درهم واحد. قال ابن خُوَيزِ مَنْداد: تضمّنت الآية وجوب فَكّ الأسرى, وبذلك وردت الاَثار عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه فكّ الأسارى وأمر بفكّهم, وجرى بذلك عمل المسلمين وانعقد به الإجماع. ويجب فك الأسارى من بيت المال, فإن لم يكن فهو فرض على كافة المسلمين ومن قام به منهم أسقط الفرض عن الباقين. وسيأتي.
الخامسة: قوله تعالى: {فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا} ابتداء وخبر. والخِزْيُ الهوان. قال الجوهري: وخَزِيَ ـ بالكسر ـ يَخْزَى خِزْياً إذا ذَلّ وهان. قال ابن السكّيت: وقع في بلية. وأخزاه الله, وخَزِي أيضاً يَخْزَى خِزاية إذا استحيا, فهو خَزْيان. وقوم خَزَايا وامرأة خَزْيا.
السادسة: قوله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدّونَ} «يردون» بالياء قراءة العامة, وقرأ الحسن «تردون» بالتاء على الخطاب. {إِلَىَ أَشَدّ الّعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ} تقدّم القول فيه, وكذلك: {أُولَـَئِكَ الّذِينَ اشْتَرَوُاْ} الآية فلا معنى للإعادة. «يومَ» منصوب بـ «ـيُرَدّون».

قوله تعالى:
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىَ الْكِتَابَ وَقَفّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيّنَاتِ وَأَيّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىَ أَنْفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىَ الْكِتَابَ} يعني التوراة. {وَقَفّيْنَا} أي أتبعنا. والتّقفِية: الإتباع والإرداف مأخوذ من إتباع القَفَا وهو مؤخر العنق. تقول استقفيته إذا جئت من خلفه ومنه سُمّيت قافية الشعر لأنها تتلو سائر الكلام. والقافية: القفا ومنه الحديث: «يَعقِد الشيطان على قافية رأسِ أحدِكم». والقَفِيّ والقَفاوة: ما يدّخر من اللبن وغيره لمن تريد إكرامه. وقفوت الرجل: قذفته بفجور. وفلانٌ قِفْوَتي أي تُهَمَتي. وقِفوتي أي خبرتي. قال ابن دريد كأنه من الأضداد. قال العلماء: وهذه الآية مثل قوله تعالى: {ثُمّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى}. وكل رسول جاء بعد موسى فإنما جاء بإثبات التوراة والأمر بلزومها إلى عيسى عليه السلام. ويقال: رُسُل ورُسْل لغتان الأولى لغة الحجاز, والثانية لغة تميم وسواء كان مُضافاً أو غير مضاف. وكان أبو عمرو يخفف إذا أضاف إلى حرفين, ويُثَقّل إذا أضاف إلى حرف واحد.
قوله تعالى: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيّنَاتِ} أي الحجج والدّلالات وهي التي ذكرها الله في «آل عمران» و «المائدة» قاله ابن عباس. {وَأَيّدْنَاهُ} أي قويناه. وقرأ مجاهد وابن مُحَيْصِن «ايدناه» بالمدّ, وهما لغتان. {بِرُوحِ الْقُدُسِ} روى أبو مالك وأبو صالح عن ابن عباس ومَعْمر عن قتادة قالا: جبريل عليه السلام. وقال حسان:
وجبريلٌ رسولُ الله فِينا  ورُوحُ القُدْس ليس به خَفاءُ
قال النحاس: وسُميَ جبريل روحا وأضيف إلى القدس لأنه كان بتكوين الله عز وجل له رُوحاً من غير ولادة والد ولده وكذلك سُمّيَ عيسى رُوحاً لهذا. وروى غالب بن عبد اللّه عن مجاهد قال: القدس هو الله عز وجل. وكذا قال الحسن: القدس هو الله, وروحه جبريل. وروى أبو روق عن الضحاك عن ابن عباس: «بِروحِ القُدُسِ» قال: هو الاسم الذي كان يحيي به عيسى الموتى وقاله سعيد بن جبير وعبيد بن عمير, وهو اسم الله الأعظم. وقيل: المراد الإنجيل سمّاه روحاً كما سمى الله القرآن روحاً في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا}. والأوّل أظهر, والله تعالى أعلم. والقدس: الطهارة. وقد تقدّم.
قوله تعالى: {أَفَكُلّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىَ أَنْفُسُكُمْ} أي بما لا يوافقها ويلائمها وحُذفت الهاء لطول الاسم أي بما لا تهواه. {اسْتَكْبَرْتُمْ} عن إجابته احتقاراً للرسل, واستبعاداً للرسالة. وأصل الهوى الميل إلى الشيء ويجمع أهواء, كما جاء في التنزيل, ولا يجمع أهوية على أنهم قد قالوا في نَدًى أندِية قال الشاعر:
في ليلةٍ من جُمادَى ذاتِ أنْدِيةٍ لا يُبصِر الكلبُ في ظَلْمائها الطّنُبَا
قال الجوهري: وهو شاذ. وسُمّيَ الهَوَى هَوًى لأنه يهوِي بصاحبه إلى النار ولذلك لا يستعمل في الغالب إلا فيما ليس بحق وفيما لا خير فيه وهذه الآية من ذلك. وقد يستعمل في الحق, ومنه قول عمر رضي الله عنه في أسارى بَدْر: فَهوِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يَهْوَ ما قلت. وقالت عائشة للنبيّ صلى الله عليه وسلم في صحيح الحديث: "والله ما أرَى ربّك إلاّ يُسارِع في هواك". أخرجهما مسلم.
قوله تعالى: {فَفَرِيقاً كَذّبْتُمْ} «ففريقاً» منصوب بـ «كذبتم», وكذا «وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ» فكان ممن كذبوه عيسى ومحمد عليهما السلام, وممن قتلوه يحيى وزكريا عليهما السلام, على ما يأتي بيانه في «سبحان» إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى:
{وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مّا يُؤْمِنُونَ}
قوله تعالى: {وَقَالُواْ} يعني اليهود «قُلُوبُنَا غُلْفٌ» بسكون اللام جمع أغلف أي عليها أغطية. وهو مثل قوله: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِيَ أَكِنّةٍ مِمّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} أي في أوْعية. قال مجاهد: {غُلْفٌ} عليها غشاوة. وقال عكرمة: عليها طابع. وحكى أهل اللغة غَلّفت السيف جعلت له غلافاً فَقَلْبٌ أغلف, أي مستور عن الفهم والتمييز. وقرأ ابن عباس والأعرج وابن مُحَيْصِن «غُلُف» بضم اللام. قال ابن عباس: أي قلوبنا ممتلئة علماً لا تحتاج إلى علم محمد صلى الله عليه وسلم ولا غيره. وقيل: هو جمع غِلاف مثل خِمار وخُمُر أي قلوبنا أوعية للعلم فما بالها لا تفهم عنك وقد وَعَينا علما كثيراً! وقيل: المعنى فكيف يعزب عنها علم محمد صلى الله عليه وسلم. فردّ الله تعالى عليهم بقوله: {بَل لّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مّا يُؤْمِنُونَ} ثم بيّن أن السبب في نفورهم عن الإيمان إنما هو أنهم لُعِنوا بما تقدّم من كفرهم واجترائهم وهذا هو الجزاء على الذنب بأعظم منه. وأصل اللّعن في كلام العرب الطّرد والإبعاد. ويقال للذئب: لعين. وللرجل الطريد: لعين وقال الشماخ:
ذَعَرْتُ به القَطا ونَفَيْتُ عنه  مَقامَ الذّئب كالرجل اللّعينِ
ووجه الكلام: مقام الذئب اللعين كالرجل فالمعنى أبعدهم الله من رحمته. وقيل: من توفيقه وهدايته. وقيل: من كل خير وهذا عام. «فقليلاً» نعت لمصدر محذوف تقديره فإيماناً قليلاً ما يؤمِنون. وقال مَعْمَر: المعنى لا يؤمنون إلا بقليل مما في أيديهم ويكفرون بأكثره ويكون «قليلاً» منصوب بنزع حرف الصفة. و «ما» صلة أي فقليلاً يؤمنون. وقال الواقدي: معناه لا يؤمنون قليلاً ولا كثيراً كما تقول: ما أقلّ ما يفعل كذا أي لا يفعله الْبَتّة. وقال الكسائي: تقول العرب مَررْنا بأرضٍ قلّ ما تنبت الكُرّاث والبصل أي لا تنبت شيئاً.

قوله تعالى:
{وَلَمّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدّقٌ لّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمّا جَاءَهُمْ مّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}
قوله تعالى: {وَلَمّا جَاءَهُمْ} يعني اليهود. {كِتَابٌ} يعني القرآن. «مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُصَدّقٌ» نعت لكتاب ويجوز في غير القرآن نصبه على الحال وكذلك هو في مصحف اُبَيّ بالنصب فيما رُوِيَ. {لّمَا مَعَهُمْ} يعني التوراة والإنجيل يخبرهم بما فيهما. {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ} أي يستنصرون. والاستفتاح الاستنصار. استفتحت: استنصرت. وفي الحديث: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يستفتح بصعاليك المهاجرين أي يستنصر بدعائهم وصلاتهم. ومنه {لّلّذِينَ آمَنُواْ الّذِينَ قَالُوَاْ إِنّا نَصَارَىَ ذَلِكَ بِأَنّ مِنْهُمْ}. والنصر: فتح شيء مغلق فهو يرجع إلى قولهم فتحت الباب. وروى النسائي عن أبي سعد الخدري أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنما نصر الله هذه الأمة بضعفائها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم».
وروى النسائي أيضاً عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أبْغُونِي الضعيف فإنكم إنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم». قال ابن عباس: كانت يهود خَيْبر تقاتل غَطَفان فلما التقوا هزمت يهود, فعادت يهود بهذا الدعاء وقالوا: إنا نسألك بحق النبيّ الاُميّ الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلا تنصرنا عليهم. قال: فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان فلما بُعث النبيّ صلى الله عليه وسلم كفروا فأنزل الله تعالى: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الّذِينَ كَفَرُواْ} أي بك يا محمد, إلى قوله: {فَلَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}.
قوله تعالى: {وَلَمّا جَاءَهُمْ} جواب «لَمّا» الفاءُ وما بعدها في قوله: {فَلَمّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا} في قول الفَرّاء وجواب «لمّا» الثانية «كفروا». وقال الأخفش سعيد: جواب «لما» محذوف لعلم السامع وقاله الزجاج. وقال المبرد: جواب «لما» في قوله: «كفروا», وأعيدت «لما» الثانية لطول الكلام. ويفيد ذلك تقرير الذنب وتأكيداً له.

قوله تعالى:
{بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ اللّهُ بَغْياً أَن يُنَزّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىَ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَىَ غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مّهِينٌ}
قوله تعالى: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ} بئس في كلام العرب مستوفية للذّم كما أن «نعم» مستوفية للمدح. وفي كل واحدة منها أربع لغات: بِئْس بَئْس بَئِسَ بِئِسَ. نِعْم نَعْم نَعِم نِعِم. ومذهب سيبويه أن «ما» فاعلة بئس, ولا تدخل إلا على أسماء الأجناس والنكرات. وكذا نِعم, فتقول نِعم الرّجلُ زيدٌ, ونعم رجلاً زيدٌ فإذا كان معها اسم بغير ألف ولام فهو نصب أبداً فإذا كان فيه ألف ولام فهو رفع أبداً ونصب رجل على التمييز. وفي نعم مضمر على شريطة التفسير وزيد مرفوع على وجهين: على خبر ابتداء محذوف كأنه قيل مَن الممدوح؟ قلت هو زيد, والاَخر على الابتداء وما قبله خبره. وأجاز أبو عليّ أن تليها «ما» موصولة وغير موصولة من حيث كانت مبهمة تقع على الكثرة ولا تخصّ واحداً بعينه والتقدير عند سيبويه: بئس الشيء اشتروا به أنفسهم أن يكفروا. فـ «أن يكفروا» في موضع رفع بالابتداء وخبره فيما قبله كقولك: بئس الرجل زيد, و«ما» على هذا القول موصولة. وقال الأخفش: «ما» في موضع نصب على التمييز كقولك: بئس رجلاً زيدٌ, فالتقدير بئس شيئاً أن يكفروا. فـ «اشتروْا به أنفسهم» على هذا القول صفة «ما». وقال الفراء: «بئسما» بجملته شيء واحد رُكّب كحبّذا. وفي هذا القول اعتراض لأنه يبقى فعل بلا فاعل. وقال الكسائي: «ما» و «اشتروا» بمنزلة اسم واحد قائم بنفسه والتقدير بئس اشتراؤهم أن يكفروا. وهذا مردود, فإن نِعم وبئس لا يدخلان على اسم معيّن مُعرّف والشراء قد تعرّف بإضافته إلى الضمير. قال النحاس: وأبين هذه الأقوال قول الأخفش وسيبويه. قال الفراء والكسائي: «أن يكفروا» إن شئت كانت «أن» في موضع خفض رَدّا على الهاء في به. قال الفراء: أي اشتروا أنفسهم بأن يكفروا بما أنزل الله. فاشترى بمعنى باع وبمعنى ابتاع والمعنى: بئس الشيء الذي اختاروا لأنفسهم حيث استبدلوا الباطل بالحق, والكفر بالإيمان.
قوله تعالى: {بَغْياً} معناه حسداً قاله قتادة والسّدّى, وهو مفعول من أجله, وهو على الحقيقة مصدر. الأصمعيّ: وهو مأخوذ من قولهم: قد بَغَى الجرح إذا فسد. وقيل: أصله الطلب, ولذلك سُمّيت الزانية بَغِيّا. {أَن يُنَزّلُ اللّهُ} في موضع نصب أي لأن ينزّل, أي لأجل إنزال الله الفضل على نبيّه صلى الله عليه وسلم. وقرأ ابن كَثير وأبو عمرو ويعقوب وابن مُحَيْصِن «أن يُنْزِل» مخفّفاً, وكذلك سائر ما في القرآن, إلا «وَمَا نُنَزّلُه» في «الحجر», وفي «الأنعام» «عَلَى أنْ يُنَزّلَ آيةً».
قوله تعالى: {فَبَآءُو} أي رجعوا وأكثر ما يقال في الشر وقد تقدّم. {بِغَضَبٍ عَلَىَ غَضَبٍ} تقدّم معنى غضب الله عليهم, وهو عقابه فقيل: الغضب الأوّل لعبادتهم العجل, والثاني لكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم, قاله ابن عباس. وقال عكرمة: لأنهم كفروا بعيسى ثم كفروا بمحمد يعني اليهود. وروى سعيد عن قتادة: الأوّل لكفرهم بالإنجيل, والثاني لكفرهم بالقرآن. وقال قوم: المراد التأييد وشدّة الحال عليهم, لا أنه أراد غضبين مُعَلّلين بمعصيتين. و {مّهِينٌ} مأخوذ من الهوان, وهو ما اقتضى الخلود في النار دائماً بخلاف خلود العصاة من المسلمين فإن ذلك تمحيص لهم وتطهير, كرجم الزاني وقطع يد السارق, على ما يأتي بيانه في سورة «النساء» من حديث أبي سعيد الخدريّ, إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ وَهُوَ الْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنْتُمْ مّؤْمِنِينَ}.
قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ} أي صدّقوا {بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ} يعني القرآن {قَالُواْ نُؤْمِنُ} أي نصدّق {بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا} يعني التوراة. {وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ} أي بما سواه عن الفرّاء. وقتادة: بما بعده وهو قول أبي عُبيدة, والمعنى واحد. قال الجوهري: وراء بمعنى خلف وقد تكون بمعنى قدّام. وهي من الأضداد قال الله تعالى: {وَكَانَ وَرَآءَهُم مّلِكٌ} أي أمامهم وتصغيرها وُرَيّئَة (بالهاء) وهي شاذّة. وانتصب «وراءه» على الظرف. قال الأخفش: يقال لَقِيته من وراءُ فترفعه على الغاية إذا كان غير مضاف تجعله اسما وهو غير متمكّن كقولك: مِن قبلُ ومِن بعدُ وأنشد:
إذا أنا لم اُومَن عليكَ ولم يكن  لقاؤكَ إلا مِن وراءُ وراءُ
قلت: ومنه قول إبراهيم عليه السلام في حديث الشفاعة: «إنما كنتُ خليلاً مِن وراءَ وراءَ». والوراء: ولد الولد أيضاً.
قوله تعالى: {وَهُوَ الْحَقّ} ابتداء وخبر. {مُصَدّقاً} حال مؤكّدة عند سيبويه. {لّمَا مَعَهُمْ} ما في موضع خفض باللام, و «معهم» صلتها, و«معهم» نصب بالاستقرار ومن أسكن جعله حرفاً.
قوله تعالى: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللّهِ مِن قَبْلُ} رَدّ من الله تعالى عليهم في قولهم إنهم آمنوا بما أنزل عليهم, وتكذيبٌ منه لهم وتوبيخ المعنى: فكيف قتلتم وقد نَهيتم عن ذلك! فالخطاب لمن حضر محمداً صلى الله عليه وسلم والمراد أسلافهم. وإنما توجّه الخطاب لأبنائهم لأنهم كانوا يتولّون أولئك الذين قتلوا, كما قال: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنّبِيّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} فإذا تولّوهم فهم بمنزلتهم. وقيل: لأنهم رَضُوا فعلهم فنُسب ذلك إليهم. وجاء «تقتلون» بلفظ الاستقبال وهو بمعنى المضيّ لما ارتفع الإشكال بقوله: «مِنْ قَبْلُ». وإذا لم يشكِل فجائز أن يأتي الماضي بمعنى المستقبل, والمستقبل بمعنى الماضي, قال الحُطَيئة:
شَهِد الحُطَيئةُ يوم يلقَى رَبّه  أن الوليد أحقّ بالعذر
شهد بمعنى يشهد. {إِن كُنْتُمْ مّؤْمِنِينَ} أي إن كنتم معتقدين الإيمان فلِم رضيتم بقتل الأنبياء! وقيل: «إنْ» بمعنى ما, وأصل «لِم» لِما, حذفت الألف فرقاً بين الاستفهام والخبر ولا ينبغي أن يوقف عليه لأنه إن وقف عليه بلا هاء كان لحناً, وإن وقف عليه بالهاء زيد في السواد.

=============================

ويليه "الرُبع": السادس، بمشيئة الرحمن


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق