الأحد، 26 فبراير 2017

حديث نبوي شريف - من صور التكافل في الإسلام



بسم الله الرحمن الرحيم

الحديث الثاني
من صور التكافل في الإسلام
تمهيد:
يَبْتلي الله المسلمين أحياناً ببلاء، يُنقِص من الأنفس والأموال، أو يُدمَّر الديار، فتعرَى الأجسام، وتجوع البطون، ويبكي الصغار، ويألم الكبار، وترنوا العيون إلى أخوة الإسلام، وتمتدُّ الأيدي، تطلب العون والغوث.
وفي الحديث التالي صورة رائعة لما ينبغي أن يكون عليه المسلمين في مثل هذه الأحوال أفراداً وشعوباً وحكومات.  
الحــديث:
روي مسلم في صحيحه عن (جرير بن عبدالله)([1]) قال: كُنَّا عِنْد رُسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في صدر النهار، قال: فَجاءَه قومٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجتَابِي النِّمار أو القباءِ، مُتَقَلّدِي السُّيُوفِ، عامَّتُهم مِنْ مُضَر، بَلْ كلُّهم مِنْ مُضَرَ.  فَتَمَعَّر وَجْهُ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لِمَا رَأي بِهِمْ مِنْ الفَاقَةِ، فَدَخَل، ثُمَّ خَرجَ، فَأَمَر بِلالاً فَأَذَّنَ، وأَقام، فَصَلَّى، ثمَّ خَطَبَ، فَقَالَ:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)([2])  
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)([3]) 
"تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِه، مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ ثوْبِهِ، مِنْ صَاع بُرِّهِ، مِنْ صَاع تَمْره، حتى قال: "ولَوْ بشقِّ تَمْرةِ".  
قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ ِمنَ الأنْصارِ بِصُرَّةٍ، كَادَت كَفٌهُ تَعْجَزُ عَنْها، بَلْ قَدْ عَجَزَتْ. قالَ: ثم َتتابَع الناسُ، حَتى رَأيْتُ كَوْميَنِ، مِنْ طَعامِ وَثيابِ، حتى رَأيْتُ وَجْهُ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يَتَهلَّلُ كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ.
فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَنَّ في الإسْلامِ سُنَّة حَسَنَةً فَلَهُ أجْرهَا، وَأجْر مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ أنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورهمْ شَيءٌ. ومن سَنَّ في الإسْلام سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُها وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُص مِنْ أَوْزَارِهِمْ َشْيٌء".
غريب الحديث:
صَدْر النهار: أوله.  
مجتابي النمار: أي لابسي النِّمار، يُقال: اجتبتُ القميص، إذا دَخلتُ فيه وكلُّ شَيءٍ قُطِعَ وسَطُه فَهْوَ مَجُوب. والنمار: جمع نَمِرة، وهي ثياب مِنْ صوف مخططة، يشبهُ لَوْنُها لَوْنَ النَّمِر، لما فيها من السواد والبياض.
تمعَّر وجهه: تغيَّر من الكآبة لسوء حالهم.  
الفاقة: الفقر والحاجة.
تَصَدَّقَ: ليتصدقْ. لًفْظهُ لفظ الخبر، ومعناه الأمر. ذُكر بصورة الإخبار مبالغةً في الحثِّ على الصدقة.
كَوْمين: الكَوْمُ في الأصل المكان المرتفع كالرابية.
كأنهُ مُذْهبه: المُذْهَبُ هو الشيء المُمَوَّه بالذهب، شبه وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمذهبة في إشراقه وحُسنه.
السنة الحسنة: السنةُ في اللغة الطريقة، وكل من ابتدأ أمراً، عمل به قوم من بعده، قيل: هو سنَّة فإن كان خيراً كان سنة حسنة، وإن كان شراً كان سنة سيئة.


الإيضاح والبيان:
1- وافدون فقراء:
كانت المدينة في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - مصدَر إشعاع للهدى والعلم، كما كانت واحة ظليلة يَفئ إليها الظامئون إلى الهدى، فيجدون ما أملُوا، ويفئ إليها المصابون المِعْوِزون فيجدون الرحمة والعون، على حين كانت الجزيرة العربية كالصحراء القاحلة بالنسبة لتلك الواحة الظليلة، وكانت تعج بالظلم والفساد. فهذا وفد من مُضر، ألجأته الحاجة والفقر إلى أن يقصد المدينة، يطلبُ طعاماً، يسدُّ به جوعة البطون، ولباساً يواري الأجسام، ونعالاً تقيهم الرمضاء، وعِثاَر الطريق.
 لقد بلغ بهم البؤس مبلغاً جعل وجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتمَعَّر من الألم فيذهب إشراقه وصفاؤه، ولم يُطِق النظر إليهم، فدخَل منزلَه، وكأنه يبحث عن شيء يواسيهم به. فلما لم يجد خرج، وطلب من المؤذن أن يؤذن للصلاة.
2- دعوة إلى البذل والإنفاق:
أدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - صلاة الظهر([4]) ثمَّ وقف خطيباً، يدعو المسلمين إلى الصدقة والبذل والتكافل. وقد افتتح خطبته بآيتين من كتاب الله تناسبان المقام: فهما تأمران بالتقوى، وتذكّران بالأصل الواحد، والرب الواحد، وفيهما حثُّ على العمل ليوم الجزاء والنشور.
والتقوى: فِعْلُ ما أمر الله به، وَترْك ما نهى الله عنه، طمعاً في جنته، وخوفا مِن ناره، فالصدقة ـ على ذلك ـ من التقوى.
وفي التذكير بالأصل الواحد، وبالربَّ الواحد ـ تذكير بالأخوَّة في الإنسانية، وفي العقيدة الإسلامية، والتي تضمُّهم، وتعطف قلوبهم على إخوانهم. وفي تعليق القلوب بيوم النشور ـ حض على البذل والسخاء، لأنه من أعظم ما ينجي في ذلك اليوم.
ثمَّ حثَّهم الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - على الإنفاق مما يملكون من دنانير أو دراهم أو ثياب أو طعام، كثيراً كان المتصدَّق به أو قليلاً، فإن القليل إلى القليل كثير، والمؤمن إنما يعطي رغبة فيما عند الله، والله يجزي على مقدار الذرة: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ)([5])، لذا قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - "ولو بنصف تمرة".
3- سبَّاق كريم:
انطلق أحد الصحابة إثر تلك الخطبة إلى منزله مسرعاً، وعاد بِصُرَّة من فضَّة([6]) يُجَرْجِرُهَا لثقلها. وقد أثر هذا العمل في نفوس الصحابة، فدفعهم إلى البذل والعطاء، وقدَّم كلُّ واحدٍ شيئاً مما يملك. فاجتمع عند الرسول - صلى الله عليه وسلم - كومان كبيران من مختلف الأطعمة، والملبوسات، والنقود.
 وقدْ سَرَّ عملهم هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن فيه مبادرة إلى طاعة الله، وتنفيذاً لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإعانة لإخوانهم، ولذا تَبدَّى سرورُه على قسمات وجهه، فعاد منيراً مشُرِقاً، تبْرق أساريُره، كأنه مُذْهبة.
4- آثار أعمال البشر في ميزان الله:
هذا الصحابي الجليل المبادر بالصدقة، المؤثر في الآخرين بعمله، نال أجر صدقته، ومثل أجور من تابعه في فعله. وتلك قاعدة هذا الدين: أن من يعمل أو يبتدئُ مشروعاً، يتابعه فيه الناس، فإن له مثل أجورهم، إن كان العمل نافعاً صالحاً وعليه مثل أوزارهم وآثامهم، وإن كان العمل سيئا، من غير أن ينقص ذلك من أجر العاملين أو إثمهم.
ومثل هؤلاء الذين تابعهم الناس في أعمالهم، أولئك الذين يَدْعُونَ النَّاس إلى الخير أو الشر، فيستجيب النَّاس لهم، يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم : "مَنْ دَعَا إلى هُدىّ كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مَثلُ مَنْ تِبعَه، لا يَنْقُصُ ذلك مِنْ أَجُورِهِمْ شَيئاً، وَمَنْ دَعَا إلىَّ ضَلالَةٍ كَانَ عَليْهِ مِنَ الإِثْمِ مَثلُ آثامِ مَنْ تَبِعه، لَا يَنْقصُ ذلك من آثامهمْ شَيئاً"([7]). ويقول: "مَنْ دَلَّ عَلى خَيْر فَلَهُ مَثلُ أْجْرِ فَاعِله"([8]).
وهذا الذي بيَّنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - جاء به القرآن الكريم: (لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ)([9]).
ولا تعارُضَ بَينَ هذه النصوص وبين قوله تعالى: (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)([10])، لأن رؤساء الضلال، ودعاة الباطل، وفاعلي السوء ـ تحملوا وزرين: وزْرَ إضلالهم لأنفسهم، ووزرَ إضلال غيرهم، إما بدعوتهم إلى الضلال، وإما بتأثير عملهم في غيرهم.
5- بين السنة والبدعة:
حذَّرَ الرَسُول - صلى الله عليه وسلم - ورهَّب في حديثه، من السنة السيئة. والبدعةُ سنَّةُ سيئة، إذ هي اختراع واستحداث في دين الله لِعبَادةٍ أوْ قُرْبةٍ، لم يشرعها الله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ، فهي اتهام لهذا الدين الكامل التام بالنقص، وتشريع لأمر لم يأذن به الله، وفتحُ باب الابتداع في دين الله يجعل دينَ الله لعبَة في يَدِ أصحاب الأهواء، يزيدون فيه، وينقصون منه بأهوائهم.
 ومن أمثلة الابتداع في الدين: كل عيد غير عيد الفطر والأضحى، ورفع المؤذن صوته بالصلاة على الرسول - صلى الله عليه وسلم - عقب الأذان. أما الصلاة عليه بدون رفعٍ للصوت فسنَّة مستحبَّة.
والابتداع في دين الله كلٌه ضلال، لقوله - صلى الله عليه وسلم: "كلُّ بدْعَةٍ ضَلاًلة وكلُّ ضَلاًلةٍ في النار"([11]). أمَّا الابتداع في أمور الدنيا، فمنه المحمود إذا حقَّق خيراً وصلاحاً للبشرية: كالابتداع في وسائل النقل من طائرات وسيارات، ومن المذموم كالابتداع في وسائل الإجرام وأدواته، والتفنن في مظاهر الإغراء بالشهوات والمفاسد.
فقه الحديث وتوجيهه:
1-   المسلمون أمة واحدة متكافلة متراحمة، يعين قويُّها ضعيفاً، وغنيُّها فقيرها.
2-   المسلم الحقُّ من يحثُّ على إغاثة الفقراء والمحتاجين.
3-   من واجب الحاكم المسلم السعي لسدَّ حاجة المعوزين من المسلمين، اقتداء بموقف الرسول - صلى الله عليه وسلم .
4-   للحاكم المسلم العادل ـ في حدود ما شرعه الله ـ صلاحيَّات واسعة من أجل تحقيق مبدأ التكافل.
5-   الصدقة باب من أبواب الخير، تُقرَّب العبد من ربه، ولو كان المتصدَّق به قليلاً.
6-   في الحديث ترهيب من فعل الشرَّ، وترغيب في فعل الخير، لأن فاعل الخير أو الشر الذي يتبعه الناس، ينال مثل وزرهم أو أجرهم.
7-   على المؤمن أن يكون إماما وقدوة في كل عملٍ خيرٍ بنَّاء.
8-   استحباب إنشاء المشروعات الخيَّرة، وتجنب إقامة المشروعات السيئة.
9-   الترهيب من الابتداع في الدين، فالمسلم متَّبع لا مبتدع.
10-   جواز قيام الحكومة الإسلامية بجمع أموال النفقات، لتوصيلها لمن يستحقها بعد التحقق من حاجته.
*****



المناقشة:
1-   لماذا تغَّير وجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما رأى المُضريَّين؟
2-   شرع الإسلام سبلا للقضاء على الحاجة والفقر: اذكر ثلاثاً منها، موضحا السبل التي اختارها الرسول - صلى الله عليه وسلم  ـ لسد حاجة الوافدين الفقراء.
3-   بم توحي هذه التعبيرات؟ ولماذا؟
مجتابي النمار ـ فدخل ثم خرج فأمر بلالا ـ تصدق (بصيغة الماضي) ـ ولو بشق تمرة ـ تهلل وجه الرسول - صلى الله عليه وسلم  ـ كأنه مذهبة.
4-   خطب الرسول - صلى الله عليه وسلم - في المسلمين عقب الصلاة. فما حكم هذا التوقيت؟
5-   لم اختار الرسول - صلى الله عليه وسلم - الآيتين المذكورتين في نص الحديث في مطلع خطبته؟
6-   "علم الله محيط وشامل"، كيف تستنتج هذا من الحديث؟
7-   عرف البدعة ومثل لها، مع توضيح خطرها. وبيان متى تكون محمودة.
8-   في الحديث حث على السبق إلى المشروعات النافعة، وتحذير من المشروعات السيئة. اشرح ذلك موضحا شرحك بالأمثلة.
*****



([1]) هو (جرير بن عبدالله) من قبيلة بحيلة. كان مُقدماً في قبيلته، أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ذي الخاصة (وثن من أوثان الجاهلية)، وكان ممن أبلى بلاء حسناً في معركة القادسية، توفي سنة 41هـ.
([2]) سورة النساء – الآية 1 .
([3]) سورة الحشر – الآية 18 .
([4]) كونها صلاة الظهر ثابت في صحيح مسلم.
([5]) سورة الزلزلة – الآية 8 .
([6]) كونها من فضة ثابت في إحدى الروايات في صحيح مسلم.
([7]) رواه مسلم وأبو داود والترمذي.
([8]) رواه البخاري ومسلم، واللفظ لمسلم.
([9]) سورة النحل – الآية 25 .
([10]) سورة الأنعام – الآية 164 وسورة الإسراء – الآية 15 وسورة فاطر – الآية 18 . 
([11]) رواه أبو داود والنسائي والترمذي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق